هنا نضع إصبعنا على النقيضة المشهورة التي لاحظها رسل لأول مرة، وأرسل إلى فريجه يخبره بها، وكان فريجه قد فرغ من طبع كتابه في أصول الحساب، فألفى نفسه إزاء نقيضة عسير حلها، فأضاف حاشية لكتابه يقول فيها: «وا أسفاه! إن علم الحساب يترنح على أساس منهار.» وذلك لأنك إزاء السؤال السالف الذكر، لو قلت إن فئة الفئات التي لا تصلح كل واحدة منها أن تكون عضوا في نفسها، لو قلت إن فئة الفئات هذه هي نفسها تكون عضوا في نفسها، لترتب على ذلك أنها لا تكون، ولو قلت إنها لا تكون عضوا في نفسها، لترتب على ذلك أنها تكون.
ولشرح ذلك نقول: تصور أننا حزمنا الأقلام كلها في مجموعة واحدة، فهذه تكون فئة ليست عضوا في نفسها؛ أي إنها ليست قلما أضيف إلى سائر الأقلام؛ وتصور كذلك أننا حزمنا الملاعق كلها في مجموعة واحدة، فهذه أيضا لا تكون عضوا في نفسها؛ أي إنها لا تكون ملعقة تضاف إلى بقية الملاعق، وهكذا؛ ثم اجمع هذه المجموعات التي لا تكون كل منها عضوا في نفسها، اجمعها في مجموعة كبري واحدة؛ فلو قلت عن هذه المجموعة إنها شبيهة بأعضائها في أنها ليست عضوا في نفسها، كنت في الوقت نفسه بمثابة من يقول إنها إذن - ما دامت شبيهة بأعضائها - لا تكون عضوا في نفسها (كتلك الأعضاء الداخلة فيها)، ولو قلت عن هذه المجموعة الكبرى إنها ليست شبيهة بأعضائها، أي إنها - على خلاف تلك الأعضاء - تكون عضوا في نفسها، لزم أن تكون كأي عضو من أعضائها، والعضو من أعضائها - كما رأيت - فئة لا تكون عضوا في نفسها. وهكذا تري نفسك إزاء التناقض الذي أشرنا إليه، والذي نلخصه في قولنا: إن الفئة الكبرى التي تضم فئات، إذا كانت عضوا في نفسها لم تكن عضوا في نفسها، وإذا لم تكن عضوا في نفسها كانت عضوا في نفسها.
فما مصدر هذا التناقض؟ مصدره نظرتنا - خطأ - إلى الفئات على نفس الأساس الذي ننظر عليه إلى الأفراد الجزئية، وفي هذا كل الخطأ؛ لأنه بينما الاسم المشير إلى فرد جزئي إنما يشير إلى شيء له وجود فعلي، يكون الاسم الدال على فئة غير مشير إلى شيء ذي وجود فعلي. بعبارة أخرى، بينما الاسم الجزئي رمز كامل يكون الاسم الكلي رمزا ناقصا؛ أي إن كل عبارة ورد فيها اسم كلي يمكن ترجمتها إلى عبارة أخرى تساويها معنى، وتتخلص من ذلك الاسم الكلي برمز آخر يشير إلى مجموعة أفراده. ولما كان لفظ «الكون» لفظا يراد به مجموعة من نمط أعلى، بحيث تأتي تحتها مجموعات من نمط أدنى، ثم تأتي تحت هذه المجموعات أفراد جزئية، كان من غير الجائز أن نتحدث عن المجموعة الكبرى بما نتحدث به عن مجموعاتها الصغرى، كما أنه لا يجوز أن نتحدث عن أية مجموعة صغرى بما نتحدث به عن أفرادها.
القاعدة العامة - إذن - هي أنه إذا كانت هنالك فئة مهما يكن نوع مفرداتها، ثم أطلقت على هذه الفئة اسما، فلا يجوز أن تتحدث عن هذا الاسم بما تتحدث به عن مفرداتها؛ وعلى هذا الأساس تزول مفارقة إبمنديز الإقريطي الذي قال عن قومه جميعا إنهم كذابون، فهل نطبق عليه هو نفسه هذا الحكم فيكون كاذبا كسائر أفراد قومه؛ وبذلك يكون قوله ذاك كاذبا؛ وبالتالي يكون بعض أهل إقريطش صادقين؟ أقول إن هذه المفارقة إنما نشأت لأننا نظرنا إلى عنوان القائمة نظرتنا إلى مفرداتها؛ فلو كنا قد جمعنا أقوال أهل إقريطش كلها في قائمة واحدة، ثم قلنا عنها جميعا إنها أقوال كاذبة، لما كان هذا القول الأخير واحدا من تلك الأقوال الكاذبة؛ لأنه من نمط أعلى من نمطها، وما نتحدث به عن نمط أدنى لا يجوز أن نتحدث به هو نفسه عن نمط أعلى؛ فقول إبمنديز الإقريطي قول عام لا يكون عضوا من أعضاء نفسه؛ أي إنه لا يكون هو نفسه أحد الأقوال التي ينطبق عليها حكمه ذاك.
وقل هذا عن مجموعات القضايا؛ فافرض جدلا أنك ستعد قائمة طويلة قوامها قضايا جزئية كل منها تتحدث عن واقعة من وقائع العالم، ثم افرض أنك حكمت على هذه القائمة من القضايا الجزئية حكما ما، كأن تقول مثلا: «إنها جميعا إما أن تكون صادقة في تصويرها للواقع أو كاذبة.» فلا يجوز أن تعود فتقول عن هذه العبارة العامة نفسها إنها كذلك - كالقضايا المشمولة بحكمها - إما صادقة في تصوير الواقع أو كاذبة، ولو فعلت وقعت في نفس الخطأ الذي أشرنا إليه، وهو حكمك على الفئة في مجموعها بما تحكم به على أفرادها، مع أن الفئة لا تكون عضوا في نفسها.
إن وقائع العالم تتركب على درجات تتفاوت تعقدا كلما ارتفعنا معها صعودا؛ فهنالك في الدرجة السفلى جزئيات هي البسائط التي يتركب منها العالم - كائنة ما كانت - وافرض أنها أ، ب، ج؛ ومن هذه البسائط تتركب وقائع بأن يشترك عنصران أو أكثر بعلاقة ما، وتكون هذه الوقائع بسيطة لأنها تنحل إلى بسائط، كأن تكون «أ على يمين ب»، ثم من هذه الوقائع البسيطة تتركب وقائع مركبة، والواقعة المركبة قوامها واقعتان بسيطتان أو أكثر، كأن تكون مثلا «أ» على يمين «ب»، و«ب» على يمين «ج»، وكلها في خط مستقيم واحد، فتكون «أ» على يمين «ج». هكذا تزداد الوقائع في درجة تركيبها، ويقابل ذلك في لغتنا التي نصور بها العالم درجات متفاوتة كذلك؛ فهنالك في الدرجة الدنيا أسماء نسمي بها البسائط الجزئية في عالم الواقع، ثم هنالك قضايا بسيطة نصور بها الوقائع البسيطة، وقضايا مركبة نصور بها الوقائع المركبة وهكذا. ونريد الآن أن نقول إن القول الذي يصلح لدرجة من هذه الدرجات لا يصلح لدرجة أعلى منها، فما تقوله عن أفراد جزئية لا يصح أن تقوله عن قضايا بسيطة، وما تقوله عن قضايا بسيطة لا يصح أن تقوله عن قضايا مركبة، والعكس صحيح أيضا.
فإن جاز لنا أن نصف القضية البسيطة بأنها صادقة أو كاذبة حسب تصويرها أو عدم تصويرها للواقعة التي جاءت تصورها، فلا يصح أن نقول هذا القول نفسه على الأسماء الداخلة في تكوين القضايا، فلا يجوز أن نقول عن اسم ك «العقاد» مثلا إنه صادق أو كاذب؛ فذلك يكون عندئذ كلاما بغير معنى.
وكذلك الحال في أي مجموعة نكونها من درجات تتفاوت علوا؛ فما يصلح من القول في درجة دنيا لا يصلح هو نفسه للدرجة التي هي أعلى منها في سلم التفاوت؛ فتستطيع أن تتصور تجميعنا لفئات الأشياء التي في العالم يتم على نحو يجعل فئة أعم من فئة، فاجمع أفراد الناس في فئة «إنسان»، وأفراد الجياد في فئة «حصان»، ثم اجمع هذه الفئات نفسها في فئة أعلى هي فئة «حيوان»، وهكذا دواليك صعدا؛ تصبح هذه الدرجات المتفاوتة في درجة التعميم «أنماطا»، وما يصلح من القول لنمط أدنى لا يصلح لنمط أعلى؛ أعني أن ما يصلح في مجال القول للأفراد الجزئية لا يصلح هو نفسه لنمط الفئات التي تتكون من تلك الأفراد مباشرة، ثم ما يصلح في مجال القول لهذه الفئات التي من النمط الأول لا يصلح لفئات أعلى منها وأعم، والتي نقول عنها إنها فئات من النمط الثاني، وهكذا.
افرض أن في العالم ثلاثة أشياء، هي أ، ب، ج؛ فمن هذه الأشياء الثلاثة يمكن تكوين ثماني فئات من أفراد؛ أي 2
3
صفحه نامشخص