إن مشكلة اندماج الكثرة الظاهرة في كون واحد، بحيث تكون الروابط بينها ضرورية محتومة، هي مشكلة قديمة قدم الفلسفة؛ فالنظرة العاجلة إلى ما حولنا من أشياء قد توهمنا بأن تلك الأشياء متفرق بعضها عن بعض، وأن لا ضرورة هناك تحتم أن تكون كلها أجزاء من كائن واحد؛ فلئن اتصل الشيء الواحد - كهذا القلم الذي في يدي - بمجموعة قليلة من الأشياء الأخرى، كأن تكون ثمة صلة بينه وبيني، وبينه وبين المنضدة التي أضعه عليها، والدواة التي تمده بمداده وهكذا، فماذا تكون العلاقة بينه وبين سماك يطرح الشبكة عند شاطئ البحر في الصين أو بينه وبين طائر يحلق في سماء البرازيل؟ لكن النظرة الفاحصة قد تبين حقيقة غير هذا الظاهر؛ فارتباط القلم بشخصي يربطه بعالم الفكر، وعالم فكري يضم صورة السماك في الصين وصورة الطائر في البرازيل؛ فالحق أنك إذا ما تعقبت أي شيء في علاقاته بما يجاوره، وما يجاوره بما يجاوره، وهكذا، استحال عليك أن تعلم أين عساك أن تقف حتى يتم لك بناء الكون كله. وهكذا تستطيع أن تبدأ بأي كائن تشاء، وستجد أن علمك به يتوقف على علمك بسواه، وعلمك بهذا يتوقف على علمك بغيره، وهكذا حتى يتم لك العلم بالكون كله إذا أردت لنفسك علما كاملا، وإلا فقصاراك أن تعلم عن ذلك الكائن لا الحق كله، بل أن تعلم عنه بمقدار ما تستطيع أن تري روابطه بغيره من سائر الأشياء.
فلم يسع الفلاسفة إزاء هذه الكثرة الظاهرة من ناحية، وارتباطها بعضها مع بعض من ناحية أخرى، إلا أن يجعلوا من الأمر مسألة تستحق البحث والنظر، بل يجعلونه المسألة الكبرى التي تواجه العقل وتتحداه؛ فهل نعد كل شيء مفرد حقيقة قائمة بذاتها؛ وبذلك نبتره عن سائر الأشياء، أم إن كل شيء مفرد لا يمكن معرفته وهو على حدة؛ وبالتالي فلا مناص من وصله بغيره، ووصل غيره بغيره حتى تنقلب الكثرة الظاهرة وحدة في الحقيقة؟ ولو كان الأمر كذلك لكان علمنا بأي شيء على حدة علما ناقصا، ولكان الحق الكامل مستحيلا إلا لمن استطاع أن يضم كل شيء في الوجود في نسق واحد. بعبارة أخرى فالسؤال هو: هل الموجود الحقيقي واحد رغم كثرته البادية، أم تكون هذه الكثرة البادية هي نفسها الحق؟
وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لم يكن الفلاسفة كلهم على مذهب سواء، بل انقسموا مذاهب: (1) ففريق منهم يجعل الموجود الحقيقي واحدا؛ فإن بدا لحواسنا تعدد فيه كان هذا وهما لا حقيقة. (2) وفريق آخر يري حقيقة الكون في كثرته البادية، حتى إذا ما جاء الإنسان وحاول أن يلتمس بينها رباطا بفكره يجعل منها كونا واحدا كان هذا الرباط الموحد من وهمه هو، ووليد فكره هو، ولا شأن للحقيقة الخارجية به. (3) ولا بأس هنا من ذكر فريق ثالث يحاول - كما حاول ليبنتز مثلا - أن يوفق بين المذهبين السالفين في مذهب واحد، وهو أن يجعل قوام الكون كائنات مستقلة بعضها عن بعض استقلالا يجعل كل كائن منها مكتفيا بذاته، يستمد العلم من جوفه، حتى لو لم يكن في العالم إلا إياه لظل قائما كما هو قائم، لكن هذه الكائنات المستقلة تنصب معا في بناء نسقي واحد؛ لا لأن طبيعتها الداخلية تقتضي أن يكون بينها هذا الائتلاف في بناء واحد، بل لأن الوحدة قد خلعت عليها من خارجها، خلعها عليها الله فوصلها بعضها ببعض من حيث لا تحتم طبائعها هذا الاتصال؛ وبهذا يكون الوجود الحقيقي هو كثرة من كائنات مستقلة، لكنه في الوقت نفسه مساق في وحدة تربطه في نسق واحد.
ولكل من المذهبين الرئيسيين الأولين، مذهب الوحدة ومذهب التعدد، أقسام فرعية قد تختلف فيما بينها اختلافا بعيدا على الرغم من انضوائها تحت مذهب رئيسي واحد.
فالمذهب الواحدي الذي يجعل الحقيقة الكونية كائنا واحدا مرتبط الأجزاء ارتباطا يجعل منها حقيقة واحدة، قد يذهب به أصحابه إلى واحدية مادية - كما فعل بارمنيدس من فلاسفة اليونان الأقدمين - بمعنى أن يكون العالم في حقيقته كتلة مادية متجانسة، أو قد يذهب به أصحابه إلى واحدية مثالية تترجم الكون كله إلى بناء عقلي فكري بين أجزائه ما بين المقدمات ونتائجها من روابط.
وكذلك مذهب الكثرة قد يذهب به أصحابه إلى تعدد في ذرات مادية يجعلونها وحداته الأولية - كما فعل ديمقريطس مثلا من فلاسفة اليونان - أو هم قد يذهبون به إلى تعدد في ذرات روحانية أو نفسية تكون هي وحداته المستقل بعضها عن بعض، كما هي الحال مع ليبنتز. وهكذا ترى أنصار الكثرة كأنصار الوحدة ينقسمون فريقين؛ أحدهما يجعل الوجود الحقيقي مادة، والآخر يجعله عقلا أو روحا. وبين هذين الفريقين ينشأ فريق ثالث يعترف بالجانبين معا؛ العقل والمادة، وهؤلاء هم الذين يشطرون الحقيقة الكونية شطرين مختلفين؛ فلو كانت تلك الحقيقة الكونية كائنا واحدا، كان هذا الكائن الواحد عقلا من جهة وطبيعة من جهة أخرى؛ ولو كانت تلك الحقيقة الكونية كثرة من كائنات، كانت هذه الكثرة كذلك عقلا من جهة ومادة من جهة أخرى.
فعندما سأل الفلاسفة أنفسهم عن الحقيقة الكونية كم تكون، أجاب فريق منهم بأنها واحدة، ثم انقسم هؤلاء شعبتين؛ فشعبة تجعل تلك الحقيقة الواحدة مادية، وأخرى تجعلها عقلية، وأجاب فريق ثان بأنها كثرة، ثم انقسم هؤلاء أيضا شعبتين؛ فشعبة تجعل تلك الكثرة ذرات مادية، وأخرى تجعلها ذرات روحانية أو نفوسا. ويمكننا النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، فنقول إنه لو سئل الفلاسفة عن الحقيقة الكونية ماذا تكون، أجاب فريق منهم بأنها مادة، وما يسمى فيها بالعقل يمكن ترجمته إلى ظواهر مادية، ثم انقسم هؤلاء جماعتين؛ فجماعة منهما تقول إن تلك الحقيقة المادية ذات كيان واحد، وجماعة أخرى تقول بل هي كيانات كثيرة. وأجاب فريق ثان بأنها عقل، وما يسمى فيها بمادة يمكن ترجمته إلى مدركات عقلية، ثم انقسم هؤلاء أيضا جماعتين؛ فجماعة منهما تقول إن تلك الحقيقة العقلية ذات كيان واحد، وجماعة أخرى تقول بل هي عدة من عقول. وثمة - إلى جانب هذين الفريقين - فريق ثالث يجعل الحقيقة الكونية مادة وعقلا معا، ثم يعود هذا الفريق أيضا فينقسم جماعتين؛ إحداهما تجعل كلا من العقل والمادة مستقلا عن الآخر استقلالا لا سبيل معه إلى التقاء أحد الجانبين بالآخر، والأخرى تجعل العقل والمادة جانبين يؤثر أحدهما في الآخر كما نلاحظ في الإنسان عقلا وجسما كيف يكون لكل من هذين الجانبين أثره على الآخر.
2
هكذا يتحدث الفلاسفة عن الكون كله باعتباره موضوعا يصلح للحديث، كما يصلح الفرد الجزئي الواحد موضوعا للحديث سواء بسواء؛ فعندهم أن لا فرق من حيث التكوين المنطقي بين أن أقول «الكون كائن واحد» وبين أن أقول «هذا القلم أسود»، وأول نقلة نحدثها - نحن الوضعيين المنطقيين - في مجال الحديث، هي أن نجعل المذاهب التي أسلفنا ذكرها عن الحقيقة الكونية منصبة على «القضايا» التي يقولها الإنسان عن الكون لا عن الكون نفسه؛ وبهذا يصبح الاختلاف بين المذاهب السالفة اختلافا على القضايا؛ فإذا سئل الفيلسوف المثالي الذي يوحد الكون في حقيقة عقلية واحدة: كم قضية نستطيع بها أن نعبر عن حقيقة الكون؟ أجاب: قضية واحدة ، أتخذ منها مبدأ أولا، ومن هذا المبدأ الأول أستولد النتائج واحدة بعد أخرى، حتى يتكون لي نسق واحد من قضايا، كل قضية فيه متصلة بكل قضية أخرى اتصال المقدمة بنتيجتها أو النتيجة بمقدمتها. ومعنى هذا أن الإنسان يستطيع أن يرتب في عقله هرما من أفكاره، بحيث تزداد الفكرة اتساعا كلما صعدنا من قاعدة الهرم إلى قمته؛ فقمة الهرم في هذه الحالة هي بمثابة المبدأ الأول الذي يراه الفيلسوف المثالي رؤية الحدس المباشر، ثم تأتي الطبقات بعد ذلك متسلسلة حتى ينتهي البناء الفكري كله، فتكون هذه الخبرة العقلية الموحدة هي نفسها الحقيقة الكونية في واقعها الوجودي. ولو كان الأمر كذلك لاستطاع صاحب هذه الخبرة العقلية الموحدة أن يبدأ معرفته للحقيقة الكونية من أي فكرة شاء، يأخذها أينما شاء من البناء، ثم ينزل منها إلى نتائجها ويصعد منها إلى مقدماتها، فإذا هذه الفكرة الواحدة كفيلة أن تطلعه على الحقيقة كلها؛ فالخبرة العقلية المنسقة التي نكونها عن الحقيقة الشاملة، يبلغ بها الاتساق حدا يجعل كل جزء من أجزائها ضروريا للبناء كله، وتغيير أي جزء أو حذفه من شأنه بالضرورة أن يغير من البناء كله أو يهدمه. والأمر في ذلك شبيه بالبناء في علم الهندسة، لا بد فيه أن تتخذ النظريات أوضاعها بالنسبة بعضها إلى بعض، فلا تغيير ولا حذف.
ولو أخذت قضية واحدة تتحدث عن جزئي واحد أو عن نوع معين من الأفراد - هكذا يجري منطق المذهب المثالي الموحد للكون في حقيقة عقلية واحدة - لو أخذت تلك القضية التي تتحدث عن جزء من الكون على حدة، لتحتم ألا تكون معبرة عن حقيقة كاملة؛ لأنها انتزعت في الفراغ بعد أن كانت جزءا من بناء، وبعد أن كانت حقيقتها متوقفة على وضعها من ذلك البناء لا على كيانها المستقل بذاته. ومن هنا عد المثاليون حديثنا عن جزء من الكون حديث أوهام؛ لأنه حديث عن حقائق ناقصة؛ وهل يكون الخيط الواحد تستله من الثوب ثوبا، وهل يكون الحجر الواحد تستخرجه من الجدار جدارا؟ ولو عددت القضية التي تتحدث عن جزء واحد من الكون تعبيرا كاملا عن حقيقة مستقلة كاملة، وقعت - من وجهة نظر المثاليين - في تناقض كالذي أسلفنا لك مثلا منه من الأمثلة الكثيرة التي ساقها برادلي في كتابه «المظهر والحقيقة» (راجع الفقرة الأولى من هذا الفصل)؛ فلو قلت - مثلا - إن الإسكندرية واقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وظننت أنك تقول حقيقة كاملة، كنت عند المثاليين واهما؛ لأنك تنتزع خلية من جسمها الكبير وتحسبها كائنا مستقلا قائما بذاته؛ فأين هو البحر الأبيض المتوسط من الكرة الأرضية، وأين الكرة الأرضية من المجموعة الشمسية، وأين المجموعة الشمسية من سائر الأفلاك؟ ولعلك تدرك الآن كيف يعد المثاليون حديث العلوم الطبيعية حديثا ناقصا، فليس هنالك القانون العلمي الواحد الذي تستطيع أن تقول عنه وهو على حدة إنه حق حقيقة كاملة. وكيف يكون كذلك وهو يختص بجزء واحد من الطبيعة؟ وما لم ندرك علاقته مع سائر القوانين كان إدراكنا ناقصا.
صفحه نامشخص