3
حجر الأساس في المنهج السقراطي هو البحث عن المبادئ الثابتة وراء الظواهر المتغيرة، هو البحث عن الكلي وراء جزئياته، على أساس أن العلم بالمتغيرات ليس من العلم الصحيح في شيء؛ فلكي يكون العلم علما يجب أن يتصف باليقين الذي لا يزعزعه اختلاف الناس ولا اختلاف العصور؛ فإذا ما كان الوصول إلى المبدأ الذي يفسر الظواهر الموضوعة تحت البحث أمرا ميسورا بطريقة مباشرة؛ أعني أنه إذا كانت رؤية الحقائق الثابتة رؤية مباشرة شيئا لا قبل لنا به، فلتكن سبيلنا إليها بادئ ذي بدء استعراض ما يقوله الناس عنها ؛ وبهذا لا نضع أمامنا المبدأ العقلي المنشود، بل الذي نضعه أمامنا للبحث هو «أقوال» و«نظريات» يقولها القائلون تأويلا للظاهرة المراد تأويلها.
هذه الأقوال أو هذه الآراء التي يبديها الناس تأويلا لما يراد تأويله من الظواهر، إنما تكون بطبيعة الحال متضادة متباينة؛ فهذا يفسر الظاهرة على نحو، وذلك يفسرها على نحو آخر، ونحن نريد أن نصل إلى اليقين الثابت من ثنايا هذه الأقوال المختلفة، فنوازن بينها ونعارض بعضها ببعض لعل ذلك يغنينا في بلوغ الحق المنشود عن معاينته معاينة مباشرة، كما يحاول القاضي أن يصل خلال أقوال الشهود المتضاربة إلى الحقيقة التي لم يتح له أن يراها رؤية العين.
وقد أطلق سقراط على هذا المنهج اسم «الديالكتيك». وهي كلمة معناها المحاورة أو المناقشة؛ لأن فيها ما يكون في الحوار من أخذ ورد، وقد لا يتحتم أن يشترك في المحاورة أكثر من شخص واحد؛ إذ الشخص الواحد يستطيع أن يلقي على نفسه السؤال ثم يجيب لنفسه عنه؛ وبهذا تتم فيه وحده عملية التفكير بجانبيها.
وقد شاءت سخرية القدر أن يكون هذا المنهج السقراطي في معارضة الآراء بعضها ببعض تمحيصا للحق الثابت، هو نفسه موضع التهجم من أعدائه؛ فهذه هي نفسها النقطة التي استغلها الكاتب المسرحي المعاصر لسقراط، أرستوفان، في مسرحية «السحاب»؛ وذلك أن بروتاجوراس السوفسطائي كان قد قال قبل سقراط إن لكل أمر وجهين، وإن المتكلم القدير يستطيع أن يعرض الوجه الأضعف عرضا يبديه للسامع كأنه الأقوى. فأخذ أرستوفان هذا القول ونسبه إلى سقراط، ثم هزأ به فوق المسرح، بأن جعل الرذيلة تبدو في يد المتحدث البارع فضيلة والفضيلة رذيلة.
وطريقة السير المنهجي عند سقراط تبدأ بأن يفرض مبدأ على أنه هو الحق، ثم يتخذ من هذا المبدأ المفروض نقطة ابتداء؛ ليرى ماذا عسى أن تكون النتائج التي تستنبط منه، فتكون صحيحة كذلك ما دام المبدأ قد فرض فيه الصواب؛ فالفرض باعتباره فرضا لا يكون هو نفسه موضع بحث ونقاش ما دامت عملية استنباط نتائجه قائمة؛ لكي يكون هو معيار الصواب والخطأ، فما اتفق وإياه واتسق كان صوابا، وما ناقضه وخالفه كان خطأ، ثم يفرض مبدأ آخر ويتعقبه إلى نتائجه ليوازن بعدئذ بين البناءين؛ فلعل الموازنة تنتهي به إلى اليقين - على أن أي مبدأ من هذه المبادئ المفروضة، وإن تكن فوق المناقشة أثناء استنباط نتائجها، إلا أنه يجوز بعد ذلك أن نتناول أحدها بالبحث فنفرض له مبدأ أعم منه يشتمل عليه بين نتائجه؛ وبهذا نكون قد وضعناه في موضعه بالنسبة إلى معارف الإنسان؛ فهو نتيجة لما هو أعم منه ومقدمة لما هو أخص منه، حتى نصل إلى المبدأ الواحد الأعلى الذي ليس فوقه مبدأ أعم منه، والذي تندرج تحته شتى المبادئ كلها، فيفسر لنا الكون بأسره تفسيرا يقينيا لا تفسيرا يقوم على الرأي والظن.
ولعلك تلاحظ أن هذا المنهج السقراطي هو نفسه منهج الرياضة؛ فالرياضة - كما في هندسة إقليدس مثلا - تبدأ من فروض هي المسلمات وهي نقطة الابتداء، ثم تسير بعد ذلك في استنباط ما يمكن استنباطه من نتائج، فتكون هذه النتائج يقينية لأنها تولدت عن مقدمات فرض فيها الصواب. ولو أردت في الهندسة أن تثبت نظرية معينة، فما عليك إلا أن تبحث عما هو أعم منها مما يسبقها من نظريات ومسلمات، حتى تنتهي بمجموعة النظريات إلى مبادئ قليلة تفسرها كلها. وفضل سقراط الأكبر في التفكير الفلسفي هو محاولته أن ينهج في بحث المدركات الأخلاقية نفس المنهج الذي ينهجه عالم الرياضة في نظرياته الهندسية، فكيف أفسر ظاهرة سلوكية معينة في موقف معين؟ أفسرها بالمبدأ العقلي الكامن وراءها. وكيف أفهم هذا المبدأ العقلي نفسه؟ أفهمه بأن أبحث عن المبدأ الذي هو أعم منه ويحتويه، وهكذا حتى يتكامل البناء الخلقي كله مستندا إلى مبادئ معينة لا بد من التسليم بها، كما يتكامل البناء الرياضي على هذه الصورة نفسها.
2
وكان العلم اليقيني - لا الآراء والظنون - هو كذلك الأمل الذي راود أفلاطون كما راود أستاذه سقراط، وكان منهج ذلك هو نفسه منهج هذا، لولا أنه ازداد على يدي أفلاطون دقة وإحكاما.
فكان سقراط قد اكتفى بالمقابلة بين المعرفة الحسية من جهة والمعرفة العقلية من جهة أخرى؛ أي إن الأمر عنده كان ذا طرفين؛ فطرف في الخارج يبدو أمام الحواس ظاهرة بين الظاهرات الجزئية المتغيرة، وطرف في الداخل يكون في العقل مبدأ ثابتا عنه انبثقت تلك الظاهرة التي تبدت للحواس؛ فما تلك الظاهرة بالنسبة للمبدأ العقلي إلا بمثابة المثل التطبيقي الواحد. وكان يمكن أن يتبدى المبدأ في مثل تطبيقي آخر؛ نقول إن سقراط كان قد اكتفى بقسمته الأمر وجهين؛ معرفة حسية من جهة، ومعرفة عقلية من جهة أخرى، كأنما المعرفة الحسية كلها من درجة واحدة في سلم الحق، وكأنما المعرفة العقلية كذلك من درجة واحدة. وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فرق بين الرياضة والفلسفة باعتبارهما عقليين، مع أن المعرفة الفلسفية - عند أفلاطون - من درجة أعلى.
صفحه نامشخص