نعم قد سبق هيوم فلاسفة آخرون عرفوا أن التفكير الاستنباطي وحده لا يكفي بذاته أن ينبئنا بشيء عن العالم الواقع، وأن سبيل معرفة هذا العالم الواقع هو التمرس بظواهره عن طريق الحواس، لكن فضل هيوم في هذا الصدد هو تطبيق هذا المبدأ في غير ملاينة أو تسامح؛ فلم يفزع - كما فزع «لك» من قبله مثلا - من تطبيق المبدأ على أشياء كالنفس الإنسانية، فهي - كغيرها من الأشياء - إذا لم أخبرها بالحواس فلا سبيل إلى علمي بها؛ وبالتالي فكل حديث عنها هراء، ولا ينجيها أن تقول إن وجودها ينتج منطقيا عن كذا وكذا من المقدمات والمبادئ؛ لأن الاستنباط وحده - كما قلنا - يستحيل أن ينبئ بجديد عن الوجود وكائناته.
وإنا لنقدر هذه اللفتة الجديدة في تاريخ الفلسفة حق قدرها، حين نذكر كم من أعلام الفلاسفة قد أقام بناءه الفلسفي على المنهج الاستنباطي الخالص، فتراه يبدأ بحقيقة أو طائفة من حقائق يزعم أنها واضحة بذاتها، وما دامت كذلك فكل ما ينتج عنها بالاستنباط يكون كذلك واضحا لا يحتمل الشك. ولو وقف هؤلاء الفلاسفة الاستنباطيون عند هذا الحد لما كان على موقفهم غبار؛ لأن شأنهم عندئذ يكون كشأن علماء الرياضة يفرضون مجموعة من المسلمات في أول الأمر ثم يستنبطون منها نظرياتهم، فتكون هذه النظريات صادقة صدق مقدماتها، ما دام استنباطها من تلك المقدمات لم يتعرض للخطأ، لكن علماء الرياضة حين يشيدون بناءهم الرياضي على هذا الطراز لا يزعمون أنه يصور بالضرورة عالم الطبيعة الخارجي، بدليل أنهم يستطيعون أن يغيروا من مجموعة المسلمات الأولية فتتغير بذلك النظريات المستنبطة؛ أي يتغير بذلك البناء الرياضي عما كان عليه في الحالة الأولى، ويكون كل من البناءين صحيحا من الوجهة الرياضية، مع أنه يستحيل أن يصدقا معا على العالم الطبيعي؛ أقول إنه لو سار الفلاسفة الاستنباطيون على غرار العلماء الرياضيين، ففرضوا فروضهم «الواضحة بذاتها» ثم استنتجوا منها نتائجها، دون أن يزعموا أن تلك الفروض أو هذه النتائج مصورة لما يجري في عالم الطبيعة، لما كان لأحد اعتراض على ذلك، ولكان عملهم من قبيل الرياضة الذهنية لا أكثر ولا أقل، لكنهم لا يقنعون بهذا، ويصرون على أن تكون نتائجهم الاستنباطية التي هي من فعل العقل وحده مطابقة للظواهر الطبيعية؛ ومن ثم يقع الخطأ.
كان للمنهج الاستنباطي الخالص بريق يخطف أبصار الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم، وما ظنك بمنهج كل ما يتطلبه من المتعارضين في الرأي أن يتفقوا على صواب حقيقة واحدة أو طائفة قليلة من حقائق؛ فإذا ما تم لهم مثل هذا الاتفاق ضمنوا الاتفاق بعدئذ على تفصيلات البناء الفكري كله؛ لأن هذه التفصيلات كلها إنما جاءت نتائج محتومة لتلك المقدمات الأولى التي تم عليها الاتفاق بادئ ذي بدء. انظر مثلا إلى الجهد الجبار الذي بذله توماس الأكويني (1225-1274م) ليستخلص تفصيلات المذهب الكاثوليكي كلها من عدد قليل جدا من المقدمات، كان يراها قريبة إلى كل عقل سليم، وإذن فلا عقبة هناك تحول دون الاتفاق على صوابها؛ وبالتالي يتم الاتفاق على مجموعة التفصيلات التي تلزم عنها لزوما منطقيا.
3
وقل شيئا كهذا في كثير جدا من فلاسفة اليونان وفلاسفة العصر الوسيط، بل في كثير جدا من فلاسفة العصر الحديث ذاته، الذين حسبوا أنفسهم ثائرين على المنهج الاسكولائي في التفكير، وإذا هم ينهجون النهج نفسه من حيث الجوهر والأساس؛ فهكذا فعل ديكارت حين علق بناءه الفلسفي كله على مسمار واحد، هو نقطة البداية التي زعم أنها «واضحة بذاتها»، وهي تقريره عن نفسه أنه يفكر، ثم جاءت تفصيلات البناء كله نتيجة لازمة عن تلك البداية، ومن هذه التفصيلات ما يصف أجسام الطبيعة المادية الخارجية. وهكذا فعل سبينوزا الذي أغراه القالب الرياضي الاستنباطي إغراء حدا به أن يستخدم هذا القالب كما استخدمه إقليدس بغير تحريف ولا تغيير؛ بغية أن يصل إلى نتائج لها نفس اليقين الذي تتصف بها نظريات إقليدس، فتراه في كتابه «الأخلاق» يبدأ - كما فعل إقليدس تماما - بطائفة من مسلمات، منها ما هو تعريف ومنها ما هو بديهية أو مصادرة، ثم طفق بعد ذلك يستخرج من تلك المسلمات كل ما يمكن استخراجه من نتائج، فإذا كان بين هذه النتائج ما يشير إلى العالم الطبيعي الخارجي، كان معنى ذلك أنه استطاع الحديث عن هذا العالم ناسجا من عقله الخالص، بغير حاجة منه إلى استخراج حواسه في ملاحظات أو تجارب.
إلى هذا الحد البعيد كان تأثير المنطق الأرسطي في صياغة التفكير الفلسفي على مر العصور؛ إذ انصرف جهد الفيلسوف إلى صب بنائه في قالب استنباطي كما رأيت، مستغنيا عن حواسه في إدراك حقيقة العالم. ولو رجعت إلى المبادئ الأولى التي كان يستند إليها هؤلاء الفلاسفة في تشييد بناءاتهم الفلسفية، والتي زعموا لها الوضوح الذاتي الذي لا يحتمل شكا، وجدت تلك المبادئ مشتملة على ألفاظ كهذه: «نفس»، «روح»، «عقل»، «عنصر»، «تفكير»، «إرادة حرة»، وهكذا. وهي كلها كما ترى ليست أسماء تسمي محسوسات من عالم الأشياء الطبيعية. نعم إنهم كانوا يعرفونها ليستدلوا من تعريفاتهم لها ما يمكن استدلاله من نتائج، فيزعمون الصدق لهذه النتائج ما دامت قد استنبطت من تلك المقدمات، ولكن فاتهم أنهم يدورون في ألفاظ بعد ألفاظ؛ فبالألفاظ التي لا تسمي شيئا كانت البداية، وبالألفاظ التي اشتقوها من تلك البداية كان طريق السير ثم النهاية. ولسنا ننكر في مثل هذا العمل العقلي اتساقا منطقيا؛ فقد يكون السير الاستدلالي على أتمه وأكمله وأضبطه، ولكن أين عسى أن تكون العلاقة بين هذا البناء اللفظي من جهة وبين أمور الطبيعة الواقعة من جهة أخرى؟
ها هنا نعيد من جديد ما جاء هيوم ليؤكده، وهو أن التفكير الاستنباطي وحده، وإن يكن يحدد الروابط بين فكرة وفكرة، إلا أنه لا يجاوز حدود الرأس إلى حيث العالم الواقع؛ فأمور هذا الواقع يستحيل أن تدخل في مجال إدراكنا إلا عن طريق آخر، هو طريق الحواس؛ فالخبرة الحسية وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بالعالم الخارجي؛ وبهذا القول أصبح هيوم في طليعة الرواد إن لم يكن الرائد الأول بحق للفلسفة الوضعية الراهنة، على الرغم من الاختلاف البعيد بين وضعيته ووضعية الحركة الفلسفية المعاصرة؛ إذ بينما جعل اهتمامه الأول تحليل «المعرفة» تحليلا نفسيا لا منطقيا، بمعنى أنه حاول أن يرد «الأفكار» إلى مصادرها الأولى البسيطة، فكانت هذه المصادر عنده هي «الانطباعات» الحسية التي انطبعت بها هذه الحاسة أو تلك، والفكرة التي نحاول ردها إلى مصدرها الحسي فلا نجد لها مثل هذا المصدر تكون عنده فكرة وهمية باطلة؛ أقول إنه بينما جعل مجال بحثه تحليلا نفسيا كأنما هو عالم نفسي يبحث في التفكير الإنساني، ترى الوضعية المعاصرة «منطقية» لا نفسية؛ فالذي تحلله ليس هو «الأفكار» بل «القضايا»، والعناصر البسيطة التي تحاول الارتداد إليها ليست هي «الانطباعات» الحسية الأولية، بل هي القضايا الأولية التي لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها، على أن كل واحدة من هذه القضايا الأولية لا تكون كذلك إلا إذا كان موضوعها خبرة حسية مباشرة، كانطباعة لونية على العين أو ضغطة لمسية على سطح الجلد وهكذا.
2
الوضعية المعاصرة - إذن - ترتد إلى «هيوم» من حيث ارتكازها في نهاية التحليل على الخبرة الحسية المباشرة، وذلك حين يكون الحديث قائما حول ظاهرة من ظواهر العالم الخارجي، لكن ما كل حديث يقوم على الظواهر الطبيعية، بل هنالك ضرب آخر من الحديث يكون موضوعه «لفظة» معينة نتحدث عنها بما يعرفها، كقولنا - مثلا - «الجرو كلب صغير»، فها هنا لا يقتضينا الأمر أن ننظر خارج العبارة نفسها لنعلم إن كانت صادقة أو غير صادقة؛ لأن صدقها قائم في تكوينها نفسه؛ وإذن فهو صدق نقرره لها «قبل» النظر إلى الجراء في عالم الحيوان؛ إذ الأمر أمر لفظة وتعريفها، أو فكرة وتحليلها.
هذه التفرقة المنطقية بين نوعي القضايا؛ القضايا التي يقتضي تحقيق صدقها رجوعا إلى عالم الواقع الخارجي، والقضايا التي لا يقتضي تحقيق صدقها أكثر من مراجعة الكلام نفسه عجزه على صدره، لنرى إن كان العجز تكرارا دقيقا للصدر كله أو بعضه؛ أقول إن هذه التفرقة المنطقية بين نوعي القضايا، والتي هي - كما سنرى في غضون هذا الكتاب - من أهم الركائز التي يرتكز عليها التحليل الحديث، إنما يرجع أكبر الفضل فيها إلى ليبنتز (1646-1716م)، على الرغم من أن الوضعيين المحدثين لم يستخدموا هذه التفرقة لنفس الأغراض التي استخدمها ليبنتز من أجلها، بل على الرغم من أن الوضعيين المعاصرين لم يتفقوا مع ليبنتز على تفسير واحد لها.
صفحه نامشخص