فالمعرفة الإنسانية - عند «رسل» و«وتجنشتين» بصفة خاصة - يمكن تحليلها إلى ذرات أولية، والذرة الواحدة منها هي قضية أولية، يكون موضوعها فردا واحدا لا جماعة من أفراد. وماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح أن يكون موضوعا للقضية الذرية؟ أتصلح لذلك كلمة مثل «إنسان» و«شجرة» وسائر هذه الكلمات الكلية؟ أئذا قلنا - مثلا - «الإنسان كائن عاقل» كان هذا القول ذرة فكرية بسيطة لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها؟ هكذا ظن أرسطو، وما هكذا يظن «رسل» وأتباع مدرسته التحليلية؛ فكلمة «إنسان» عند أرسطو مدرك أولي بسيط من الناحية المنطقية، وأما عند «رسل» وأتباعه فهذه الكلمة وحدها - وإن بدت كلمة واحدة - إلا أنها عبارة بأسرها ضغطت في هذا اللفظ الواحد.
فأنت لو فككت كلمة «إنسان» إلى أجزائها الأولية وجدتها كلمة تحتوي في جوفها كل أفراد البشر، من مضى منهم ومن هم قائمون اليوم ومن سيظهرون في الوجود إلى آخر الدهر، إنها اسم لم يخلق ليكون اسما خاصا لي أو لك كأسمائنا التي سجلت في شهادات ميلادنا لتميز الواحد منا عن بقية الناس؛ وإذن فليست هي بالاسم الجزئي الخاص بفرد واحد، كلا، بل ليست هي بالاسم في حقيقة أمرها، إنها عبارة بأسرها، هي عبارة وصفية في تحليلها، أريد بها أن تصف هذا الفرد أو ذلك بمجموعة معينة من الصفات، أريد بها أن تصف العقاد والمازني وهيكل وطه والحكيم وسائر أفراد البشر، بأن كل واحد منهم فيه طائفة من صفات معينة معلومة تجعله ينتمي إلى فئة من الكائنات خاصة. إن كلمة «إنسان» يستحيل أن يكون لها معنى وحدها، بل لا بد لكي يكمل معناها أن يوجد إلى جوارها اسم آخر - كالعقاد مثلا - بحيث يمكن أن يقال بعد ذلك «العقاد إنسان» فيكمل معنى كلمة إنسان، لكن افرض جدلا أنني خلقت في اللغة هذه الكلمة «إنسان» دون أن يكون في العالم فرد واحد مما عساه أن ينتمي إلى هذه الفئة التي أردت أن أطلق عليها هذه الكلمة؛ إذن فماذا يكون معناها؟ إنها عندئذ تظل معلقة بغير مدلول ولا معنى، حتى يظهر في عالم الوجود فرد يصح أن ينطوي تحتها، وعندئذ فقط يبدأ معناها في الظهور.
ونعود إلى سؤالنا من جديد: ماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح موضوعا لقضية ذرية من النوع الذي يقول عنه «رسل» إنه الوحدات البسيطة الأولية لكل تفكير؟ لقد أوضحنا أن الكلمات الكلية مثل «إنسان» و«شجرة» ليست بهذه البساطة المزعومة؛ لأن الواحدة منها تعود فتنحل إلى مجموعة من الأفراد أو المفردات؛ أفيكون الفرد الواحد إذن صالحا لذلك، كاسم «العقاد» مثلا؟ أئذا قلنا عبارة كهذه «العقاد إنسان»، كنا بذلك قد ضربنا مثلا للقضية الذرية البسيطة؟ كلا، ولا هذه أيضا؛ لأن كلمة «العقاد» هي أيضا لفظة تطلق في الحقيقة على مجموعة كبيرة من المفردات، وهذه المفردات هي الحالات الكثيرة التي يكون عليها العقاد في لحظات حياته المتتابعات؛ فقد تقع عينك على العقاد ألف مرة، وقد تسمعه يتحدت ألف مرة، دون أن يكون المرئي منه أو المسموع هو هو بعينه في حالتين اثنتين من هذه المرات الألف جميعا، لكننا نضم هذه الحالات كلها، وما سبقها وما سيلحق بها، لنطلق عليها اسما واحدا هو اسم «العقاد»؛ وإذن فما هذا الاسم بالبساطة التي ليس بعدها تحليل، وإنما هو اسم يأتي بعده تحليل وتحليل.
وأما إذا جعلنا موضوع القضية التي نقولها حالة واحدة من تلك الحالات المتعاقبة للفرد الواحد من الإنسان، كأن أتحدث عن لونه في لحظة معينة، أو صوته في حالة واحدة مما يصح أن أشير إليها بقولي «هذا» لمن أتحدث إليه، فتلك هي القضية الذرية الأولية البسيطة التي لا تحتمل بعد ذلك تحليلا؛ تلك هي الوحدة التي يتألف منها ومن مثيلاتها فكر الإنسان مهما بلغ بعد ذلك من التعقيد والتركيب.
لكني لا أستطيع أن أشير لمن أتحدث إليه بقولي «هذا» مشيرا إلى الحالة الواحدة الفردة التي أجعلها موضوع حديثي ، إلا إذا كانت تلك الحالة مما يمكن أن يتلقاها بإحدى حواسه؛ وبالتالي يستحيل أن يكون لكلامي معنى إلا إذا حللته إلى مفردات أولية، كل مفرد منها قضية ذرية، موضوعها حالة جزئية تدرك بإحدى الحواس.
قارن هذا الأساس المنطقي الجديد بمنطق أرسطو تر الفرق شاسعا بعيدا من حيث الإطار الفكري في كل من الحالتين؛ فالوحدات البسيطة عند أرسطو - وعند العصور الوسطى كلها من بعده، وعند كل من لا يزال يفكر على هذا الغرار - هي القضايا التي موضوعاتها كلمات كلية؛ فإذا سألته عن كلمة كلية مثل «إنسان» ما معناها، راح يحللها لا على أساس مدلولاتها الحسية، بل على أساس مقوماتها العقلية. نعم، لو سألته عن معناها انصرف إلى داخل رأسه لا إلى الدنيا العريضة من حوله، ليرى ماذا يكون داخل رأسه هو من «مفهوم» لتلك الكلمة، حتى لو لم تكن الكلمة دالة أبدا على أي شيء محسوس من أشياء الطبيعة الخارجية، فلا فرق عنده أن تسأله عن معنى «إنسان» أو عن معنى «ملك» أو عن معني «غول»؛ لأنه في شتى هذه الحالات جميعا سينصرف إلى داخل رأسه باحثا عن «مفاهيم» تلك الأسماء، ولا عبرة عنده بعد ذلك أن تكون أو لا تكون؛ هنالك في العالم ملائكة وغيلان كما أن فيه أفرادا هم بنو الإنسان، لا عبرة عنده لشيء من هذا؛ لأن العبرة هي بالمفهوم العقلي للفظ لا بمسمياته الفردية الجزئية التي تدركها هذه الحاسة أو تلك.
كان التفكير في العصور الوسطى - في أوروبا وفي الشرق الإسلامي على السواء - قائما على أساس من المنطق الأرسطي، وفي اعتقادي أن تجديد التفكير لا يمكن أن يتم على صورة وافية إذا اقتصر التغيير على الطوابق العليا وحدها، بل لا بد من تغيير الأساس، لا بد من إقامة البناء على منطق جديد؛ فإذا كان أرسطو والأرسطيون يكفهم الجولان داخل رءوسهم، فلا مناص لنا نحن الذين نريد التجديد من الخروج إلى حيث العالم المرئي المسموع. كان أرسطو بل وكثير غيره من الفلاسفة الأقدمين يفرقون بين «المعرفة » من جهة و«الظن» من جهة أخرى، وعندهم أن ما تجيء به الحواس «ظن» لا يقين فيه، أما «المعرفة» بمعناها الصحيح فلا بد أن ترتكز إلى يقين، ولكن كيف؟ إن ذلك اليقين المنشود لا يتحقق عند أرسطو وأتباعه وأشباهه إلا إذا كانت الفكرة نتيجة حتمية لمقدمات سبقتها، وهذه المقدمات بدورها لا تكون يقينا إلا إذا كانت نتائج لمقدمات سبقتها، وهكذا دواليك حتى تصل في الطرف الأعلى من بناء المعرفة إلى ما يسمونه المبادئ الأولى. وكيف أعرف هذه المبادئ الأولى؟ تعرفها بالحدس؛ أي بالعيان العقلي المباشر، فلعقلك ما يشبه العين ترى الحقائق العقلية رؤية مباشرة كما هي الحال في العين التي في رأسك، غير أن هذه تدرك محسوسات وتلك تدرك معقولات؛ وعلى ذلك فلا يقين عندهم إلا إذا كانت الحقيقة حدسية - وتلك هي المبادئ الأولى - أو إذا كانت حقيقة أقيم عليها البرهان القياسي الذي يبين من أي المقدمات جاءت. و«المبادئ الأولى» في كلتا الحالتين هي الأساس، أو قل هي المعرفة الأصيلة، ولكن هذه المبادئ الأولى هي نفسها «جواهر» الأشياء في رأي أرسطو، وجوهر الشيء هو نفسه تعريفه عند أرسطو كذلك؛ فما معني ذلك كله؟ معناه أنك إذا أقمت بناءك الفكري على أساس منطق أرسطو، فما عليك إلا أن تعرف الأشياء من حيث جوهرها العقلي، لا من حيث مظهرها الحسي، ومن هذه التعريفات تبني بناءك صاعدا أو هابطا، فلك أن تصعد منها بأن تضمها بعضها إلى بعض فيما هو أعم حتى تصل إلى قمة الوجود في مبدأ واحد، أو أن تهبط منها إلى ما يترتب عليها من نتائج قياسية؛ وبهذا يتاح لك أن تعلم حقائق الكون كله وأنت قابع في عقر صومعتك، لا حاجة بك إلى رؤية أو سمع.
4
كان المنطق الأرسطي تحليلا للفكر العلمي الذي ساد أيام اليونان، وساد بعد أيام اليونان قرونا طويلة شمل العصور الوسطى وما بعدها، حتى طرأ على التفكير العلمي تغير جوهري، استلزم أن يتغير معه المنطق الذي إن هو إلا تحليل للتفكير العلمي.
كان التفكير الذي ساد أيام اليونان رياضيا في صورته ومبناه وإن لم يكن كله رياضيا في مادته وفحواه؛ بمعنى أنه كان دائما يسير من مبدأ مفروض إلى النتائج التي تتولد من ذلك المبدأ. وكان علم الهندسة - ممثلا في هندسة إقليدس - هو خير ما يصور ذلك الضرب من التفكير الذي يبدأ بالمسلمات والبدائه لينتهي منها إلى النظريات التي تستمد يقينها من يقين مقدماتها؛ فإذا ما نهض أرسطو فيلسوف المنطق اليوناني ليرسم طريق السير للفكر الصحيح، كان طبيعيا أن يترسم خطوات التفكير الرياضي، ما دام هذا التفكير الرياضي ينتهي بصاحبه إلى النتائج اليقينية؛ وراح يحلل هذا الضرب من التفكير النموذجي ما وسعه التحليل، حتى خرج على الناس بمنطقه المعروف الذي مؤداه أن الوحدة الأولية لكل تفكير هي «القضية» التي لا بد أن يكون قوامها «موضوعا» نحكم عليه بصفة ما، و«محمولا» يكون هو تلك الصفة التي ننسبها إلى الموضوع؛ فإذا ما ضممنا قضيتين من هاتيك القضايا الحملية بحيث تتوافر فيهما شروط خاصة، أمكن أن نستنتج منهما نتيجة يقينية على نحو ما يحدث في التفكير الرياضي.
صفحه نامشخص