وإذا كان هذا هكذا فقد كانت وطنية صاحب الترجمة وطنية صريحة، لا تريد غشا، ولا تطلب أن يحكم لها الناس بالعصمة من الخطأ، وبالبراءة من الزلل؛ لأنها ليست من القداسة في شيء، ولا من النبوة، وإنما هي تستهدي بوحي وجدانها، وتنطلق مستدلة بقوة عبقريتها، ونقاء ضميرها، فهي تتسع لكل نقد، وترتضي كل مناقشة، ولا تغضب من الملاحظة، وقد وقف صاحب الترجمة في خطبة له، فدعا الناس إلى نقده، وسألهم أن لا يكذبوه إذا مشى في أمر يكرهونه، أو اتخذ سبيلا غير سبيلهم الذي يريدونه، وذلكم دليل على وطنية مستبسلة صادقة، تهب من سمعتها، ومن كرامتها، ومن نفسها ليسر الناس، ويجدوا لديها ما هم ناشدوه.
ثم أنت لا تجد وطنية العظيم بعد هذا كله طالبة الشهرة، تريد من أي عمل تقوم به أن تبلغ مطمح نفسها، وما تصبو إليه، فإن ذلك من ناحية العظمة منقصة ومعاب، والعظمة لا تسقط إلى ما يسف إليه الناس، ولا تطلب في الحياة ما يطلب العاديون من أهل القطيع الإنساني، والشهرة ترمي نفسها عند قدمي العظيم فيركلها بقدمه؛ لأنه يأبى أن يجعلها أساس جهاده، والحجر الأول في بناء مبادئه، وصرح تفكيره ودأبه لصالح الجماعة ومنفعة الكافة، ولئن فعل لركب رأسه، وساقه الولوع بالشهرة إلى المجازفة بنفسه، والمقامرة بمستقبله، والعظمة لا تحب المقامرة، ولا ترضى لنفسها أن تستمد قدرها من ورق اللعب، وإذا استنفر الغرام بالشهرة في فؤاد رجل، استحوذ عليه، فأقدم على ما لا يجسر عليه إلا ذو الجنة، والأحمق المستهتر، وقد أغرت الشهرة قوما كانوا أهل موهبة كبرى، وعقول جبارة، فصدرت عنهم فعال هي مادة الطيش والحماقة كلها، فقد جن نابليون بها جنونا، ففتح نصف العالم في بضع سنين، وخسره في بضع ساعات، وهدم كل شيء في طريقه حتى يبلغ مقعد الإمبراطورية، فلما وضع التاج فوق رأسه، واشتمل بذلك الثوب المزركش الزاهي الألوان، رداء الإمبراطور العظيم، لم يلبث بعد انتهاء حفلة التتويج أن صاح في حجرة ثيابه بوصيفه الذي كان يعينه على خلع أرديته: «هلم اخلع عني هذا الثوب الكريه المقيت.»
تلك كانت صرخة الضمير في أعماق ذلك الرجل؛ إذ أحس أنه قد طلب أمرا لم يكن له أن يطلبه، لولا أن حب الفخار، وطلاب الشهرة، ساقا به إلى الجنون بالسلطان، حتى لقد قال عام 1811 لقائد من قواد بافاريا: «في أعوام ثلاثة سأكون سيد الكون!».
وفي حديث له مع مدام دى ريميزا قال يوما: «لست على مثال أي رجل آخر في العالم، فإن قوانين الأخلاق، ومراعاة الواجبات العامة لا تروق في عيني، ولا تحدث أثرا في نفسي.»، فلما أصبح معتقلا، ضئيل النفس في جزيرة قفر نائية في بهرة الأوقيانوس، عاد يقول: «كان لا بد للإنسان دائما من أن يحدث الناس عن الحرية، والمساواة والعدل، والبعد عن الغرض، ثم لا يمنحهم من ذلك شيئا البتة.»
إن رجلا كهذا خدع شعبا كاملا، وجره إلى الحروب جرا، واستاقه بالهراوة والبندقية لأطماع نفسه، ولكي يسود الكون كله إلها أرضيا له ذهن الجبابرة، وقدم من الطين، لم يفق من نشوة ذلك المجد الزائل الذي أصابه، إلا أسيرا لا خطر له في العالم ولا شأن.
وقد كان دزرائيلي كذلك رجلا جسورا في طلب الشهرة، وكانت له ذهنية نابوليون عينها، ونفسيته، فكلاهما آثر مقاصده الشخصية على مصلحة أمته، وصبغ الحياة العامة بصبغة طابعه، ولا يزال في بريطانيا إلى اليوم خلق كثير يذهبون إلى أن هذا اليهودي الغريب «دزرائيلي» الذي جلس مجلس الرئاسة في حكومة الإنكليز، لم يكن إلا رجلا أفاكا، مزورا على الناس لونا خداعا من ألوان العظمة، وقد حدث عام 1841 أن السير روبرت بيل ألف وزارته، ولم يجعل لدزرائيلي مكانا فيها، لا حقدا ولا ضغنا، ولا كراهية للرجل، بل كانت العلاقة بين الرجلين على أحب ما يكون بين السياسي والسياسي، ولكن السير روبرت بيل كان رجلا ضعيف الخيال، فلم يخطر بباله أن فتى كهذا حدثا يختلف عن بقية ساسة ذلك العصر في مظهره وخلقه سيكون له في الحياة العامة شأن، وسيروح عاملا سياسيا من أكبر العوامل خطرا ومكانة، ومنعه كذلك من طلبه في وزارته أن رجلا كاللورد دربي قال له غير خائف ولا مؤارب: «لو أن هذا الشرير دخل في الوزارة لما بقيت فيها لحظة واحدة.»
ووقع اليأس من نفس دزرائيلي إذ حيل بينه وبين أن يكون في مقاعد الحكومة؛ فترامى على السير روبرت بيل، وتهالك عليه، متوسلا في لهجة حقيرة ليست خليقة برجل نابغة عظيم النفس، أن يجد له مكانا في الحكومة، ثم كتب إليه بعد ذلك يقول: «إنني أنادي فيك روح العدل، وتلك العظمة النفسانية التي هي من أكبر مزايا شخصيتك أن أنقذني من ذلة لا أستطيع لها احتمالا.»، وأعجب من هذه الضلة التي وقع فيها رجل خطير كهذا ضحية للولوع بالشهرة، والظفر بمكان في الحكومة يظهر منه على أعناق الجماعات، أنه كذب وتنصل قائلا بعد ذلك ببضعة أعوام: «إن أمرا مثل هذا لم يكن، وإنه لم يسأل أحدا في حياته وظيفة، ولا التمس من مخلوق ملتمسا.»
إن الوطنية الصحيحة المتدفقة من نبعة ضمير حي، نقي وثاب، لا تحتفل كل هذا الاحتفال بالشهرة، ولا تستجم لها كل هذا الاستجمام؛ لأنها تعلم أن مجدها سيؤاتيها من حيث لا تبتغيه، وأن الخلود سيقع من نصيبها، وإن لم تسأل عنه، أو تطلبه حيث يوجد، فهي لا تخادع نفسها، ولا تكذب على ضميرها، ولا تحفر الحفر لأقدامها، وإنما هي تسير ركضا إلى مبدئها، وتندفع في سننها الذي اختطته، فإن أصابت الحق أصابت معه الشهرة والمجد، وإن ضل صاحبها وغوى، فحسبه عزاء عن فشله أنه كان المجاهد، ويكفيه سكونا لنفسه، ورضى عن عمله، أنه كان المستوفز الدؤوب المجد.
كذلك كانت وطنية هذا الرجل العظيم الذي نكتب الآن عنه، فهو لم يصل إلى مكانه هذا، على أجنحة الشهرة، وبخوافي الطمع وقوادمه، ولم يمش إلى مقعد الرئاسة من هذه الحكومة بجملة من العرائض، واستمارات الاستخدام، ولم يرفع عن بلاده علم الحماية المهينة، ليصيب شهرة طويلة عريضة، إذ كان منذ نشأته الأولى شابا متقد الذكاء، قوي الشخصية، فكانت الحكومة هي التي تمد إليه يدها، ولم يكن هو ليمد لها من نفسه يدا، وما سأل الحكومة في كل أدوار حياته، وفي كل المناصب التي تقلدها، أن تضعه في هذا المكان، وتحمله من ذاك؛ وتعينه من الوظائف في تلك؛ لأن ذلك ليس من شأنه، ولا من سليقته، ولن يكون النابغة العظيم النفس من متسولة الوظائف، ومتكففة المناصب؛ لأنه يحس من نفسه أنه أكبر من كل مكان يوضع فيه، وأن المناصب إنما تعرض عليه، ولا يعرض نفسه هو عليها عرضا.
وقد يقول أولئك الذين غشيتهم الغاشية: كيف لعمرنا يتقبل هذا الرجل الوزارة، ويتصدى للرئاسة، فهو ليس إلا رجلا طماعا، ووطنيا كاذبا؛ وحكوميا من عبدة الحكومة، فهؤلاء قوم يتكلمون على هوى نفوسهم، فلو أن أعجز الناس، وأضأل القوم روحا، وأخون العشيرة ضميرا سئل أن يترأس، وطلب إليه أن ينشئ طليق الإرادة حكومة جديدة لقلب هذه الأرض ظهرها لبطنها؛ ليظهر من أحقر حظائر هذه الأمة قطيعا ينصبه للوزارة، وأخرج من أقبية الطابق الأرضي في البلاد زمرة من المعاتبة النوكى، يضعهم على دسوت الحكم، ومقاعد الوزراء.
صفحه نامشخص