أجل لقد كانت هذه الكلمة التي فاه بها ذلكم الرجل في رجل كان يمثل دولة الأدب يومذاك لا دولة المدفع والسيف أبلغ من جميع التراجم التي وضعها الكتاب في ذلك الرجل بعد موته، وأعمق من الدلالة على فضله وعظمته من كل ما حشد الكتاب في تحليل شخصيته، وتشريح خلقه، والإسهاب في بيان فضل أدبه على الدنيا، ومتانة تفكيره، وروعة شاعريته.
إن هذا الشيخ الجليل رشدي باشا يستحق من هذه الأمة كل ثناء، ولقد كان وزيرنا الأول أول من أدرك هذا الواجب ، وضرب على نفسه التزام هذا الغرض المقدس، فذكره في مستهل خطابته، ووقف خاشعا أمام ذكر اسمه؛ لأنه وقف أمام عظمة نقية، ووطنية عاقلة، ونفس حر عافت أن ترى نفسها في موقف ذل، وموطن مهانة، ولسنا ننسى ما كان من ذلكم الشيخ الأشيب الوقور، العظيم الروح، إذ انبرى لذلك الإنكليزي الكبير برونيات يوم وصف هذه الشعلة المقدسة التي اضطرمت في كل فؤاد في هذا البلد الناهض، شعلة الوطنية الرهيبة التي أنارت الشرق كله، وأشعت على أهله جميعا؛ فثاروا يطلبون ما ينعم به الطائر على شجره، والوعل في غابه، والوحش في كناسه وعرينه، يوم قال عن هذه الحركة الرائعة: «منها شعلة تطفيها بصقة واحدة»، فيا لعنة السموات لشد ما ثارت حمية هذا الشيخ، وغضبت كرامته، ونفرت عزة نفسه، ونهضت عزته بقومه، فأرسل من قلمه الحار الملتهب بحمية نفسه، وأثر الوطنية التي تغلي مراجلها في حنايا أضلاعه، تلك المذكرة البليغة المستفيضة المخلصة الوفية الخالدة، فراح يفند فيها دعوى الرجل، وفساد نظره، ويبين له مكان مصر في نظر أهلها، وحقها في نظر الغرباء عنها، أولئك الذين نعموا فيها بخفض العيش، وخرجوا منها بالثراء العريض، وملأوا جيوبهم من أموالها، وخزنوا الثروات الطائلة من ثروتها؛ فلم يبق رجل في هذا البلد لم يصفق لتلك النفثة الرائعة، ولم يهتف لتلك الكلمة المتقدة، ولم يطرب لوطنية الشيخ؛ ويعجب بصراحة الوزير، وجرأة الوطني الشهم الباسل.
ولقد ظلت صحيفة هذا الرجل العظيم نقية طوال ماضيه، وهي اليوم أنقى منها حاضرا، وستكون غدا أشد نقاء وصفاء ونصاعة؛ إذ يتم عمله في لجنة الدستور، ويخرج ثمرات تفكيره، وتنعم البلاد بالأنظمة التي نظمها، والقوانين التي اشترعها لمجلس الندوة، وندوة الموالي، وستكون تلك الأنظمة كفيلة بالحرية للشعب في تشريعه، وبالاستقلال المكتمل في برلمانه؛ وإن تخرص اليوم المتخرصون؛ ونقد الناقدون عمى الأبصار والبصائر، وسيرى الناس منه في موقفه الوطني الحاضر، واضطلاعه بهذا العمل العظيم كيف تكون وطنية الشيخ وجرأته في الحق، وسعة اطلاعه بأنظمة الحكومات في ممالك الغرب، وقوانين مجالسها النيابية، ولن ينقصنا من تلك الأنظمة شيئا، ولن يضيق علينا منها مضطربا، وهو يعلم أننا قد نضجنا لمعنى الحياة المهذبة، واكتملت نفوسنا للعيش في ظلال الحرية، ولن نخدع في أمر من أمور حياتنا، ولن يكون هو ومكانه مكانه بخادع لنا، ولوطنيته تلك المواقف، والجولات العظيمة التي لا نزال نستهدي بأعلامها الخفاقة.
ونحن قد قرأنا ذلك التقرير الضافي الذي رفعه عن السودان، ورابطته المقدسة الأبدية بمصر، فإذا هو لا يزال جريئا في عمله، عاملا في وطنيته وطنيا في كل ما يمد يده إليه، ويكلفه من الخطوب الكبار، وهذه المذكرة ستبقى علما على شعور فياض يلم بالنيل العظيم من منبعه إلى مصبه، ويتدفق على ضفافه، وإنما ينصب من عل كالسيل، فلا يقف في سبيله مانع، ولا يسد عليه الطريق حاجز أو حائل.
ونحن ننقل كلمة من تلك الكلمات البليغة المفعمة وطنية وصراحة، التي جاءت في عرض ذلك التقرير المستطيل ... ليس النيل رباط الحياة الوحيد الذي يربط مصر والسودان، بل هناك اعتبارات اقتصادية، فإن الجانب الأكبر من تجارة السودان سيمر دائما في مصر، ومصر هي العميل الأكبر للسودان الآن، وستظل كذلك إلى الأبد، وقد أخذت مصر تغص بالسكان، وأخذت أرضها تعجز عن أن تكفيهم، وليس في الأرض مكان معد بذاته لقبول زيادة السكان في مصر غير السودان، فهو بلاد متاخمة لمصر زراعية بحتة، متصلة بمصر بروابط من كل نوع، ثم إن مبدأ الجنسية المسلم به الآن والذي كان مرشدا وهاديا لسياسة الإنسانية بعد الحرب ينطبق على مصر والسودان؛ لأن أغلبية العنصر العربي يتكلم لغة المصريين، وهو دين أغلبيتهم، وهو متخلق بأخلاقهم. •••
وقد عطف الوزير بعد ذلك في خطبته على صاحب الدولة عدلي يكن باشا؛ فقدره حق قدره، وأبان للناس عن ذلك العمل الكبير الذي قام ذلك العظيم بأعبائه، وذلك الرفض الشريف الذي تجلى من ناحيته في مفاوضات طويلة، كان الإنكليز يريدون منها أن يظفروا بالغلبة علينا.
وإليك ما قال رئيس الوزارة في هذا الصدد: سينشر يوما من الأيام ما طوي من الصحائف، وما خفي من أسرار المفاوضات ، وإذ ذاك يعلم بنو مصر جميعا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير، والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نوال استقلالها، والتي تأبى أن توقع على صك يضعف هذه الشخصية:
إنما الوطنية الصحيحة الوطنية الصادقة؛ تعمل ولا تتكلم، وكل همها موجه إلى جلب النفع للوطن، فلزم عدلي باشا الصمت، وكان خصومه يرمونه بأشنع ما يرمى به إنسان من نقص في الوطنية، وضعف في العقيدة القوية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيا عظيما في صمته عظيما في حسن دفاعه.
هذا لعمري دفاع مجيد من رأس وزارة في حق رجل كان معتقدا مجلسه قبل جلوسه، وهذه هي الوطنية النبيلة المؤثرة غيرها على نفسها المتواضعة في رفق النازلة للناس عن عرضها، ومكانتها وكرامتها؛ لتحفظ عرض وطني عظيم، ومكانته وكرامته.
ونحن لا ندري أية مذمة يستطيع الناس في هذا البلد أن يضعوها عند باب رجل جريء مخلص كالوزير عدلي، وأية جريمة تسول لهم نفوسهم أن يلصقوا عارها به، وأية منقصة يتزرون عليه من ناحيتها، وهو لم يجترح في حق هذا الوطن إثما، ولم يرتكب سوءة، وانطلق إلى داره كريما أبيا، رأى العار يريد أن يلتصق بقومه على يد مفاوضات أكره عليها، وسيق عن كره إليها، فصرخ فيه ضميره المخلد القوي أن يفلت من عمل لا يصيب بلده منه غير الخسار، ولكن كثيرين من العاملين في الثورات، والأحرار المخلصين الذين يعيشون على هدي ضمائرهم، ولا يريدون أن ينزلوا عن استقلال رأيهم للشعب، والقطيع الذي وراءهم، نالهم ما نال هذا الرجل، ووقع لهم ما وقع له، ولكن التاريخ يأبى إلا أن تكون له الكلمة الأبدية، والحكم الفصل، وفي التاريخ يبدو اسم هذا الرجل بريئا من الإثم نقيا من العاب، شريفا ناصعا لا شية فيه، وأما ما لصق به أعداؤه، وما يعيبه به خصومه فجفاء لا يصبر على نقد، وهباء لا يستطيع مواجهة حرارة الشمس، وقد أدرك الناس اليوم فضل هذا الوزير، وحقيقة ما قام به، ورضي هو بالحياة الساكنة الهادئة بعيدا عن العاصفة الهوجاء التي تهز أعالي الشجر، وتمر بصغارها غير مؤذية ولا محطمة. •••
صفحه نامشخص