وما نظن رجلا ذهب ضحية حب الناس له أولا، وكراهيتهم له أخيرا، وعانى من هذه الجانحة الاجتماعية ما عانى روبسبيير في الثورة الفرنسية، فلم ير الناس فيه إذ سقط عن تمثاله الوطني الحسود، والجريء المستهتر، والشجاع البهمة، والحمى الشرير، وإنما عدوه آخر أمرهم أصل البلاء برمته، والشر بكل قوته، وعصر الهول بسلطانه وويلاته، واليعقوبية مجسمة في شخصه، وفي الحق لم يكن هو الذي حمل ذلك الأسلوب الشيطاني المخيف في تلك الثورة الهوجاء إلى أبعد حد، وأقصى مدى، بل لقد كانت العامة نفسها التي أرادت أن يكون روبسبيير كما كان، وهي التي أوحت إليه أن يفعل ما فعل، وكانت هي تصفق له، وتهتف وتحبذ وتعضد؛ فخشي أن يعيش هو في وظيفته على المنطق؛ فتمله العامة، وتتجنى عليه الجماهير، وترميه بالأناة، وكانت الأناة في عصر النهضات، ووقدة النفوس في بكرة الثورات، فضيلة مركونة في زاوية، ومنقصة في الرجل إن تبدى بها، وعيبا في أهل القيادة، لا يقل في نظر الناس عن الخيانة شناعة وجرما، وكان أخوف ما يخاف أن يقال قد أخذ الوطنية بالرفق، وتناولها بالمصانعة، والحكمة والحزم، وكانت تلك رذائل كلها في عصر تلك الفضيلة الذباحة الجازرة الطاغية، فكان يتهوس في وطنيته لعامته، ويتطرف في إخلاصه مرضاة لجماهيره، فلما تصنع للناس الجنون بالوطنية، وحذق تمثيل القسوة في إخلاصه، نسي على ممر الأعوام أنه المتصنع، وغاب عن ذهنه أنه الحذاق الممثل المتكلف، فوقع له الجنون حقيقة في نفسه، ومضت الحقيقة الظاهرة حقيقة عميقة، باطنة صادقة، وأعجبه ما رأى من صنع يديه، وراق في عينه ما شهد من تطرف وطنيته، وغره بنفسه ما لقي من تصفيق الجموع الجامعة لقسوته، فارتد أنانيا متغاليا في حب السلطان، وكان الناس الذين مدحوه في مبدأ أمره، وقالوا عنه: إنه اكتسب تلك الشهرة الذائعة بوطنيته بفضل جهاد أعوام خمسة كان يقيم لياليها مسهدة ساهرة حتى مطالع الصبح، هم بأعيانهم الذين حاولوا إسقاطه، فلما سقط اقتادوه إلى المقصلة!
ومن هذا ترى أن التفاف العامة حول رجل منهم، قصير العمر غير عميق الأثر؛ لأن عاطفة العامة لا عقل لها، وعقلهم لا عاطفة فيه، فهم إما عاطفة بمفردها، وإما عقل خالص لا مزاج من العاطفة فيه، ولا تكون العامة في واحدة من هاتين إلا غاشمة جزارة، ولا يستطيع رجل منا أن يصيب محك العدل، أو يقسط في الحكم، إذا وقف ينظر إلى الناس بمنظار واحد من هذين، وهو مغلق عينيه الأخرى، وإذا صح هذا فما هو بعجيب أن تسمع بأن تلك العامة في تلك الثورة كانوا يصفقون في إبانها للخطيب، وهو يصيح بهم أن لا يأخذوا بالرحمة، أو يجعلوا الحلم شعار وطنيتهم، وأن سفينة الثورة لا تستطيع أن تجد سبيلها إلى المرفأ إلا على أمواج من الدماء، وأن أرواح المشفقين، وحشاشات أفئدتهم، وذماء نفوسهم ينبغي أن تكون من تلك اللجج الزبد من ذلك الجفاء، وهم الذين عادوا يهتفون محبذين مؤمنين للخطيب الذي وقف في بهرتهم يقول: إنه قد آن الأوان الذي نستطيع فيه أن نأخذ بالرأفة، ولا خطر علينا منها، وأن نظهر بواكر الرحمة واللين والحلم غير خاشين علينا أذاة ولا ضرا.
وإذا كان هناك شيء من الغرابة في ذلك ففي الحق لم يكن أغرب من أن يكون الخطيب الذي صفق له في الخطبتين رجل واحد بعينه، وأنه لم يكن مضى من الزمن بين الواحدة على فرط وحشيتها، وسورة العاطفة المجنونة فيها، وبين الأخرى العاقلة التي تحمل جزءا من العقل، وجزءا من العاطفة، غير خمسة عشر يوما ... فقط!
ونحن رأينا أمثلة من هذه النظريات، وألوانا من هذا التقلب الذي يعتري الجماهير في نهضاتها الوطنية، وشهدنا أعراضا متنوعة لنفسية العامة في حركتنا الحاضرة، فقد وهم كثيرون من المفكرين، وضل آخرون من قادة الرأي، وتركوا مبدأ، ووقعوا في مبدأ آخر يناقضه، وغادروا خططا صالحة لم يستطيعوا تحقيقها، أو سلوك طريق العمل بها إلى خطط أقل رشادا، وأضأل وطنية، وأقرب إلى روح اليأس منها إلى الاستبسال والاستماتة، وألفينا قوما ما كانوا بالمتغيرين تغيروا، ورجالا كنا نتوسم فيهم العظمة الذهنية نزلوا عن عظمة أذهانهم فكانوا خاصة العامة، ودون عامة الخاصة، فجعلت الجماهير الضئيلة الذهن تهتف لهم على الحالين، وتحشد من جموعهم جموعا لتكون كواكب تمشي في حرسهم، وتصطف للقائهم وتوديعهم، ولو تصدى رجل من المخلصين، شجاع أمام العاصفة، غير هياب حيال تلك الجموع، فبصر الجماهير بمنحى سديد، أو بخطة عاقلة، أو أنكر على قيادتها مبدأ من المبادئ، أو نقد منها سبيلا من السبل، وكان خليقا أن يستمع له، وينظر في رأيه، ويتدبر في نقده؛ لأنه لم يرسل النقد على عواهنه، ولم يشأ أن يعكر على الناس الصفاء بمقاله، ولم تكن له عند القوم ترة؛ فأراد أن يشفي نفسه مما تجد، أو يروي غلة ترته، نعم.
فلو أن رجلا كذلكم اضطلع بعمل مثل هذا، واحتمل مواجهة الجماهير بخطة كتلك، إذن فويل له، والويح ويحه؛ والضلة ضلته، فإنه المستهدف لسخط الناس عليه، المتعرض لغضبهم وموجدتهم، وقد رأينا كيف كان أمر رجل منا يرأس صحيفة من كبريات الصحف، كانت في إبان النهضة ترسل أوراقا من المطبعة كالجراد المنتشر، فأوحى إليه إخلاصه أن ينقد أهل القيادة نقدا غير جوهري، لا يشتف منه الخروج عن الصفوف، ولا ينم عن خيانة للفكرة المقدسة، فأصبحت تلك الصحيفة، والناس غاضون عنها أنظارهم، والباعة يبيعونها للقوم حميلة على الصحف الأخرى «فوق الببعة» مع الوريقات التي تظل تحت أكتاف غلمان الصحف حتى تحل النسخة التالية، ولم يكن الرجل في الوطنية آثما حتى تكون هذه عقوبته، وإنما رأى الناس منه رجلا يريد أن يقطع عليهم وترا من موسيقية وطنيتهم فتروح ناقصة النغم، فيصيبون منها وقرا في آذانهم، وتضعف تلك اللذة السحرية التي يجدونها من العقيدة العمياء بأنهم إنما يحبون حقا، ويرون حقا، ويسمعون حقا.
على أن ذلك الرجل كان مخلصا في عمله، وظل كذلك مخلصا في صبره، فاحتمل أذاة الناس وسخطهم، غير شاك ولا متململ، ومضت صحيفته في طريقها، خاسرة في المادة، راضية عن الخسار في ضميرها.
ولم يلبث الجمهور بعد ذلك أن عاد إليها، ولم تعد هي إليه مصانعة متغيرة لوامة، ولا اعتقدت أنها ارتكبت جرما في الوطنية، حتى تكفر عنه، أو تتشفع لأجله.
ومن هذا ندرك أن الجماهير مصابة أبدا بضعف الذاكرة، وسرعة النسيان؛ لأن أعمالها لا تصدر عن ذهن حاد حتى تكون بجانبه ذاكرة قوية، وليست للعواطف حافظة، وإلا لو أن لها ذلك لمضت جافة، لا تمضي في عمل حتى تراجع سجلها، وتلقي نظرة على ماضي فعالها، ولا تحدث حدثا حتى تتحقق أن له سابقة من مثله، وماضية من طرازه.
وإذن لكانت قصة العاطفة الوطنية سلسلة مستطيلة من حلقات عمل واحد، وفكرة واحدة، ولم نر ثورة في تاريخ العالم مشت عاما فعاما على منهاج واحد، وطبعت من كتابها صورا متعددة، لا تختلف واحدة عن أختها في شيء.
وكان الناس يقولون في مضرب الأمثال: إن خدمة الملوك خطرة، والزلفى عند الأمراء ضر، والعيش في قصور السلاطين لا يطول ولا يعمر، وإن رضى المليك معلق بكلمة، مرهون بلفظة، وإن الحب يدخل عليهم من أذن، ولا يلبث أن يخرج من الأخرى، وإن ابتسامة اليوم قد تصبح في الغد تجهما، وشرا مستطيرا، وإن وراء الضحكة هبوب العاصفة العابسة الراعدة؛ وإذا كان هذا حقا، فأقرب منه إلى الحق الدخول في الجماهير، والعمل على اكتساب عاطفة الجماعات، والظهور على رأس الحشد في الثورات، ولئن كان في حب الشعب للرجل منا لذة مخدرة، فإنها لا تزال مع ذلك لذة خطرة، ولا يني تخديرها يصبح خمارا مؤلما، ومهما أرضيت الشعب في عام، فما أنت بمستطيع أن ترضيه حجة أخرى، وإن اتبعت أهواءهم، ونزلت على أحكامهم، ومضيت تغذي عاطفتهم الغذاء الذي تسيغه، فإنك لا تلبث أن ترى المؤونة التي ادخرتها لغذائهم قد نفدت، ولا تزال عاطفة الجماعات جائعة تطلب مزيدا، وتريد شيئا آخر تلتهمه، فإن لم تجد لديه ما تأكله، أكلته هو والتهمته، أو اطرحته، فلا يسمع أحد عنه شيئا حتى تمل الجماهير من خلفه عندها فتعود ثانية إليه.
صفحه نامشخص