ولكن المهم أن «حامد» راق مزاجه، وانقلب من «الكلب الكشر» الذي يعوي طول النهار ويصيح، إلى إنسان مرح ضاحك كالنحلة، صاعد هابط، واقف قاعد، يحيي، ويوصل، ويلبي الطلبات.
أما «فتحية» فقد قبعت في مكانها المواجه للباب من الحجرة ترقب المدخل العريض الواسع، والباب الضخم الزجاجي، باب العمارة، ترقب مصر، أو بالضبط ذلك القطاع من الشارع المواجه الذي يكون «مصر» في نظرها.
قبعت منكمشة على نفسها تتفرج وهي لا تزال أسيرة الرحلة من باب الحديد إلى العمارة التي واجهت فيها لأول مرة ذلك الحلم الذي عاشت تحلم به، ويهتف بها الهاتف من أجله، مصر! مصر التي وجدتها أروع بكثير مما تخيلت أو استطاعت بنت خالتها أن تصف، أروع وأكبر وأعظم ألف مرة، مليون مرة. أيمكن أن تكون الدنيا بهذا الازدحام، أو الشوارع بذلك العرض، أو الميادين بهذا الاتساع؟
أيستطيع الناس أن يعيشوا وسط هذا الحشد الرهيب من العربات التي تمضي بسرعة البرق، بحيث تلهفك إحداها حتما إذا سهوت وتلفت خلفك مرة؟ والدكاكين، والمحلات، والصور، والنور، النور ذو الألوان السبعة الذي ينطفئ ويولع بالكهرباء وعلى «الواحدة» كالمزيكة، والهيصة، والدوشة، والمولد. لقد خيل إليها حين أفلح «حامد» بعد جهاد أن يجرها إلى وسط ميدان باب الحديد، وهي مروعة مذهولة تكاد تجن، أنه لا بد في مصر عيد أو مولد أو شيء آخر لا تعرفه يزدحم له الناس كل هذا الازدحام، وتصدر عنه كل هذه الضجة الهائلة التي ترتجف لها الأذن، فقال لها «حامد» وهو يضحك ضحكة العارف العالم: «إنها حال كل يوم.» فيا لها من مدينة تلك التي يحيا الناس فيها كل يوم في مولد وعيد!
ولكنها في منكمشها خلف باب الحجرة الموارب، وهي ترى من بعيد هذه المرة وتتأمل، بدأت ترى في مصر، تلك التي تلخصت في قطاع الشارع المقابل، أشياء لم تتصور مطلقا أن تجدها في المدينة الحلم. رأت فقراء، فقراء تماما وجوعى وشحاذين، حتى في قريتهم نفسها لا يوجد الفقر فيها على هذه الدرجة من البشاعة، وفيها كذب أيضا وشتيمة وقلة أدب وحرامية ونشالون، حرامية هم السبب في وجود أمثال زوجها الذي يحدثها عنهم وعن حوادث السرقات المجاورة والبعيدة. وستات مصر اللاتي تصورتهن أول ما رأتهن خواجات سنايير، فيهن قبيحات كثيرات، بل معظمهن قبيحات لولا الأحمر والأبيض والطلاء الذي يطلين به وجوههن، فتحمر كالأحذية اللامعة، وتترك صاحباتها أشد قبحا، سيدات بدأت «فتحية» من كثرتهن تحس بنوع من الرضا عن نفسها، تلك التي اعتقدت أول الأمر أنها لن تصلح في سوق النساء في مصر إلا خادمة لأقل سيدة من سيداتها. ووصل الغرور إلى درجة الاعتقاد أنها لو لبست مثلهن لأصبحت محط أنظار الناس جميعا، ولاعتبروها مثلما كانوا يرونها في البلدة ملكة من ملكات الجمال، حتى «حامد» نفسه وعمله ذلك الذي لم تفهمه تماما حين قالوه لها، إنها تصورته شيئا كخفير نظامي للبوابة عليه حراستها في الليل، له نفس احترام وهيبة الخفير ذي البندقية في بلدهم. ها هي تراه شيئا أقرب ما يكون إلى الخدام، ينحني لهذا، ويسرع في تلبية طلبات الست «أم فلان»، ويشخط فيه صاحب البيت ويؤنبه ويشتمه بألفاظ غريبة لعلها ألفاظ الشتيمة في مصر، ألفاظ لم تعرف لها «فتحية» مطلقا أي معنى مثل يا «أحمق» أنت «مياس»! حتى موقفه يوم ألح صاحب البيت عليه أن يجعلها تعمل عندهم، ورفض هو بإباء وشمم مقسما أنه لو حكمت ألا يعمل عندهم أو عند غيرهم، لم تستطع أن تهضم ذلك الموقف وهي ترى الحال البائس وترتيبهم في «سلم» الناس في العمارة أو خارجها لا يسمح بهذه «العنجهية» التي لا يقفها إلا إنسان على الأقل في جيبه خمسة جنيهات؛ تلك فرصة لأكل العيش ولهدمة كستور تلبسها في الشتاء، ولأكلة حلوة نظيفة من المحتمل جدا أن ينالوها بين الحين والحين، ولكن «حامد» يرفض ويركب رأسه، وحين تفتح فمها لتناقشه يصرخ فيها وكأنه صاحب البيت وهي ساكنة الدور الثامن عنده.
والحقيقة أنها في رغبتها للعمل كان أكل العيش حجة، كانت في الواقع تريد أن «تتعرف» على أهل مصر أكثر، وأن تدخل بيتا من بيوتهم، وتحادث ناسا منهم؛ إذ هي في حبستها في الحجرة هكذا لن تمكنها طبيعتها الخجول المنطوية أن تفعل شيئا من هذا، بل لا تملك إزاء نظرات سكان العمارة التي تمتد عابرة المدخل مقتحمة الباب، رامقة إياها أنى تكون، مستطلعة شكلها وجلستها وزيها باسمة أو مغمغمة أو ساخرة، لا تملك إلا أن تزداد انغلاقا وانكماشا وتزداد القيود حولها أحكم، قيود من صنعها، فليس سكان العمارة فقط، ولكن المدينة من حولها حافلة متحركة مائجة، كل شيء فيها يجري ويختلط مكهربا ويكهرب. وهي إلى درجة ما، وزوجها «حامد» لم يكن باستطاعتهما ليس فقط أن يتركا أنفسهما للمدينة وحركتها تفعل بهما ما تفعل بالآخرين، وإنما هذه الحركة الهائجة المائجة نفسها لا تفعل أكثر من أن تخيفهما وتروعهما وتدفعهما للانكماش أكثر، أو بالأصح تدفعها هي؛ «فحامد» - وبالتحديد منذ أن تزوجها وجاءت - استطاع وبطول العهد أيضا أن يتحرر بعض الشيء، ويتحرك ويذهب إلى السيدة زينب ويجوب شبرا مصر، ويعرف أن تغير إذا كنت ذاهبا إلى الحسين، وليست حركة فقط، إنما فهم أيضا ودردحة، فقد بدا ل «فتحية» وكأنه أصبح إنسانا آخر غير «حامد» الأسمر شاب بلدتهم الصامت الخجول، الذي يدير وجهه إلى الناحية الأخرى إذا قابل موكب حاملات الجرار في الصباح، الآن باستطاعته أن يهزر مع عمال الجراج، ويضحك، ويجمع إيجار العمارة كلها ويحسبه بالمليم، بل وأصبح له أصدقاء من أهل مصر نفسها ومن غير بلدياته وأقاربه. هي وحدها الباقية أسيرة الحجرة، أسيرة حتى ذلك الشرخ المحدود الذي ترى عالم مصر منه، شاعرة أنه ليس عالما أو مدينة، إنما هو بحر لا بر له ولا قرار، تسير هي على حافته إن سهت مرة، وزلت قدمها فقل عليها السلام، والمخيف أنه بحر ليس هادئا أو ساكنا أو يأخذ منها نفس موقفها منه، إنما هو بحر جبار صفيق تمتد منه آلاف الأيدي، وتطل منه آلاف الابتسامات كابتسامات الجنيات والنداهات، خادعة تدعوها وتسهل لها خوض الماء، أجل! كلها أيد ماكرة وابتسامات خبيثة، حتى نداء ذلك الساكن الملهوف والنقود في يده والبقال قريب، يد تمتد من البحر تجعل شلل الخوف يجمدها في مكانها لا تتحرك، يد تمتد في مكانها تنكمش أكثر وتزداد انكماشا، وكأنها ما رأت أو سمعت، ملتفتة إلى الناحية الأخرى، أو مخفية رأسها هربا تتمنى أن تحدث معجزة، وتنقذها من الموقف، بينما الساكن حين ييأس يصوب لها نظرة لا تراها، إنما تحسها رصاصة تخترق رأسها، كثيرا ما يتبع نظرته بغمغمة لا تخطئ أذنها فهم ما بها من سباب.
ولكن خجولا فلتكن، منغلقة منكمشة، فلتنكمش ولتنغلق، فللحياة قوانينها التي لا مناص منها ولا مهرب. وهكذا مع الحمل الأول كانت «فتحية» قد غادرت الحجرة، واتسع عالمها فاحتوى المدخل، ومع الطفل الثاني الذي أعقب الأول بأشهر كان قد اتسع حتى شمل الرصيف الملاصق، بل والمواجه، والشارع إلى ناحيته من هنا، وإلى الميدان الذي يؤدي إليه من هناك، والآن أصبحت «فتحية» ترد، بل وأحيانا تثير النقاش، وتلبي الطلبات، وتستطيع أن تفرق بين عربة المدارس القادمة تحمل ابن الدكتور، من العربة القادمة تحمل ابن الموظف في الإذاعة، وكل قصص السكان عرفتها من «حامد» ومن غيره، بل وبلغ بها الأمر أنها أصبحت هي مصدر «حامد» في معرفته لأخبار السكان وأحوالهم، وزائر منتصف الليل الذي يطرق شقة البك الموظف في الطيران، بالذات في الليالي التي يكون فيها «نوبتجيا» في المطار، بل ولم تكن هذه آخر ما بدأت «فتحية» تعرفه عن مصر السفلى وأحوالها وأخبارها، بحيث أصبحت تدرك أن تحت مصر الوجيهة الغنية المؤدبة الوقور، هناك مصر أخرى مليئة بالفضائح والمخازي والأشياء التي لا يعرفها إلا البواب، أو من هو أدهى في هذه الأمور وأمر، زوجة البواب خاصة إذا كانت رغم صغر عينيها ترى كثيرا، وبالذات في الليل، ورغم دقة رأسها تستطيع أن تعرف الفرق بين أخت الزوج الذي تصيف زوجته بأولادها في الإسكندرية، بينما هو يا عيني غرقان في الشغل في مصر، وبين إخوته الحقيقيين الذين يزورون الأسرة طول العام.
والغريب أنها كلها أشياء لم تفسد الحلم في عقل «فتحية» تماما، صحيح نالت منه كثيرا، ولكنها أبدا لم تضيعه، بقيت مصر العظيمة هي مصر العظيمة في نظرها والشر في كل مكان؛ هكذا كانت دائمة الرد على «حامد» حين يجيئها بين كل حين وحين لاعنا مصر وأبو مصر وأهل مصر، الذين فعل أحدهم به كذا أو كيت.
وإذا كان الشر والوحل والقبح في القاع، فالنجاة في العوم.
وهكذا تعلمت «فتحية» أن تفعل مثلما يفعل آلاف وملايين الناس الذين تحفل بهم مصر الكبيرة، ويكونون حركاتها الجبارة الهائلة، وتعوم مثلما يعومون. كل ما كان ينغص عليها حياتها أحيانا هي تلك الانتفاضات التي كانت تفاجئها على هيئة كمين، يخرج لها منه من بين مشاغلها التي أصبحت كثيرة وكثيفة ذلك الأفندي العاري كاليد المهولة الممتدة، مهددة أن تجذبها إلى القاع مباشرة، حيث الوحل والقبح والطين. خرج لها ذلك الهاتف اللعين الذي طالما أكد لها وصدق أن ستكون القاهرة مآلها، ليؤكد لها أنها واقعة في المحظور مع الأفندي لا محالة ومهما فعلت، مسألة تترك «فتحية»، وهي تكاد تنفجر بالغيظ والضيق والاستنكار والتصميم أيضا، تصميم قاطع مانع أن أبدا لن يكون حتى لو دفعت حياتها ثمنا، فأبدا لن يكون، وبيننا الأيام يا مصر. •••
صفحه نامشخص