أيكون الغيظ الذي يعتريه الآن غيظا حقيقيا؟
أيكون ما يراه الآن خدعة أو بداية، أو بالأصح بداية شعور أنه ضحية خدعة شيطانية من المحتم لو صحت أن يفقد لها أثبت العقول وأصلبها الصواب؟
أخذت السيدة شهقة، قبل أن تكتمل ركبت فوقها شهقة أخرى، وكانت النتيجة شهيقا طويلا جدا اضطربت له جفونها المسدلة، حتى كادت تفتح، وحتى تصور أنه في الشهيق التالي حتما سيعود إليها الوعي، ومن يدري؟ ربما تحدث المعجزة الكاملة وتعود للحياة.
ولكن رغم دقة القلب العالية الزائدة التي دوت في صدره انفعالا، فقد بدأ السؤال يلح من جديد: أيكون قد خدع الخديعة يا ترى؟
2
ويحدث هذا أين؟ في نفس حجرة العمليات التي شهدت منذ بضعة شهور أعظم لحظات حياته، اللحظة التي وعى فيها لأول مرة بالحياة، حياته، وأدرك عن يقين لماذا يريد أن يعيش.
لقد بدأت مشكلته بعد أن تخرج وأصبح طبيبا، واستهلك في بضعة أسابيع كل متع الفرحة بالتخرج والإحساس الغامر الجميل بأنه انطلق من عقال تلمذة طالت، وعليه أن يعب من متع الحياة الصغيرة التي حرم منها طويلا. واجهته حينذاك مشكلة ماذا يريد أن يكون؟ لقد دخل الكلية بالمجموع، وواصل الدراسة ونجح بالرغبة الغريزية في التفوق على أقرانه، وها هو ذا الآن بعد التخرج يستعرض أمام عينيه كل فروع الطب، فلا يجد في نفسه مثقال رغبة في أي منها، بل إنه حتى بعد أن تخرج وأصبح يزاول المهنة لا يجد في نفسه أي رغبة فيها أصلا. وكاد يصبح الأمر كارثة؛ فإنها لمهزلة أن تبدأ بعد وصولك إلى هدف ما قضيت في الوصول إليه أعواما طوالا، أن تكتشف أنه ليس هدفك، وأن عليك أن تبحث عن آخر.
ولقد ظل هذا يحدث وهم البحث يؤرقه، حتى انتقل إلى العمل بقسم الجراحة. حين دخل ذات صباح باكر هذه الحجرة، ومر بالطقوس المعتادة من ارتداء ملابس العمليات والاغتسال والتعقيم، وإحاطة رأسه ونصف وجهه بالقناع الأبيض المشهور، هنا حيث رأى أستاذ الجراحة الكبير لا يصف الدواء ويترك للعمليات الغامضة في الجسم أن تعمل عملها وتشفي، وإنما بأصابعه الطويلة الحادة القوية يقطع ويصل ويستأصل ويعيد التشكيل. هنا حيث بإرادتك أنت وحدك وبقدرتك يتم الشفاء، يدخل المريض يتلوى من شدة الألم أو من اليأس، وبعد ساعة يخرج وقد شفي تماما وانتهى ألمه. هنا حيث يختلط دور الجراح بدور الساحر القديم، والعلم يصبح حرفة ترتفع إلى مصاف الفن، والعملية السحرية كلها تدور في ذلك المكان البالغ النظافة، الشاحب الضوء، المعقم، بصمته القدسي الكلمات في تتحول إلى همسات تختلط بالفحيح الصادر من أجهزة التعقيم، وتنسجم مع الحركة الصوتية المتتابعة لتنفس المريض من خلال جهاز التخدير، بالسكون المضمخ بروائح اليوسول واليود والأثير، السكون الحي النابض بدق القلب، وهو يتحول إلى إشارات موسيقية ضوئية، السكون الذي يتنفس تنفسا خاشعا منتظما. هنا اكتشف الجراحة كعلم وكسحر، واكتشف أن ها هنا يوجد أمله، ومن الآن سيصير هدفه من الحياة.
وكان طبيعيا وقد اكتشف الهدف أن تأخذ السعادة عنده شكل الهوس، حيث لا يعود يأكل أو يستريح أو يحلم إلا وهو يقوم بشيء من أجل عمله الذي أصبح حبه الأكبر. سماه زملاؤه مجنون الجراحة، وكانوا يغيظونه بقولهم إنه إنما يتفانى ليرضي الأستاذ، وليتكتك لينال وظيفة «نائب الجراحة» حين تخلو، مع أنه يعلم وهم جميعا يعلمون ألا أمل له في هذه الوظيفة؛ إذ إن درجاته لا تؤهله، ولكنهم معذورون؛ فالعمل عندهم مرتبط بالمصلحة، ومن المحال أن يستطيعوا هضم أن يعمل الإنسان لأجل متعة العمل نفسها.
ولقد كان يعمل ويتفانى بلا كلمة تشجيع واحدة، وحتى وهو يدرك أن رئيسه النائب ينسب معظم الأعمال أمام الأستاذ لنفسه، فماذا يهمه أن يعرف الأستاذ اجتهاده؟ إنه لم يكن يعمل ليرضيه، بل ليرضي ذلك الشيء المركب فيه الذي لا يرضى أبدا! نفسه.
صفحه نامشخص