وهكذا يتضح أن العشيرة الإبراهيمية وافدة على المنطقة من جنوب أرمينيا، وقد وصفت التوراة إبراهيم عليه السلام بأنه رجل آرامي، وأقر التراث الإسلامي أنه ليس من أبناء الجنس العربي، وأن لسانه لم يكن عربيا، وقال ابن هشام في السيرة: إن لسانه كان سريانيا (لسان شمالي بلاد الشام)، ولكنه عندما عبر نهر الأردن إلى كنعان حول الله لسانه إلى اللغة العبرانية.
6
وربما يكون تفسير هذه الهجرة في حديث المسعودي عن حدثان الطبيعة، وقوله: «ولما قبض ساروغ قام من بعده ناحور بن ساروغ، مقتديا بمن سلف من آبائه «وحدث رجف وزلازل» لم تعهد فيما سلف الأيام قبله، وكانت في أيامه حروب وتحزيب أحزاب»،
7
و«ساروغ» هو «سروج» في التوراة، أبو ناحور، جد إبراهيم النبي. المعنى هنا أن ثمة ضغطا قد حدث دفع شعوب هذه المنطقة الحورية للخروج في موجات متتابعة من الهجرات، وربما تمثل هذا الضغط في كارثة طبيعية أو مجموعة كوارث متتابعة تفسر الهجرات المتتابعة التي هبطت على المنطقة، منهم النبي إبراهيم أو قبيلته، الكاسيين، الهكسوس ... إلخ. وقد أضفت الملحوظة المطولة التالية التي بين القوسين الكبيرين، بعد مطالعتي لخبر جاء بصحيفة الأهرام القاهرية بتاريخ 13 / 12 / 89، وذلك أثناء مراجعتي لطباعة البروفة الأولى للكتاب، والخبر تحت عنوان «نظرية علمية جديدة تقول: «ثورات البراكين ابتلعت بعض الحضارات القديمة » طبقا لنظرية جديدة توصل إليها العالم البريطاني الدكتور مايكل بايلي، فإنه من المرجح أن تكون عدة حضارات في أنحاء العالم قد تعرضت للدمار بسبب الثورات البركانية التي دمرت - فيما دمرت - جزيرة ثيرا في بحر إيجا (لاحظ هنا أنه قد حدثت أيضا هجرات كاسحة من بحر إيجة لسواحل البحر المتوسط الشرقية قرب نفس الزمان. والملحوظة من عندنا)، وطبقا لما تقوله النظرية الجديدة؛ فإن السلالة الحاكمة الصينية في ذلك الوقت كانت من بين ضحايا هذه الثورات البركانية، وقد أسس الدكتور بايلي نظريته على نتائج دراسة لعينات من خشب البلوط القديمة يرجع عهدها إلى وقت الثورة البركانية التي دمرت جزيرة ثيرا «في القرن السابع عشر قبل الميلاد» (لاحظ أنه الوقت الذي ظهرت فيه القبيلة الإبراهيمية 1700ق.م، والإشارة من عندنا) حيث لاحظ الدكتور بايلي أن معدل نمو أشجار البلوط في ذلك الوقت كان بطيئا بسبب ضعف ضوء الشمس، والبرودة الزائدة التي نتجت عن تصاعد كميات كبيرة من الغبار إلى الغلاف الجوي بعد الانفجار البركاني. وفي معهد التكنولوجيا في باسادينا بولاية كاليفورنيا الأمريكية توصل عالم من أصل صيني، ويدعى «كيفين بانج» إلى نتائج تدعم نظرية بايلي، فقد أجرى بانج أبحاثه مستخدما الكمبيوتر. وتوصل إلى أن النشاط البركاني كان سببا في إنهاء السلالة الحاكمة «شانج» أثناء العصر البرونزي، وحدث خسوف للشمس وفيضانات وأوبئة ...» ونعود الآن لصلب موضوعنا.
إذا كانت التوراة قد وصفت النبي إبراهيم عليه السلام بأنه رجل آرامي، فقد انتهينا إلى أنه رجل «حوري» أيضا، ولم يزل اللسان الشامي يحتفظ إلى الآن بهذا المعنى، فرجل الدين أو الكاهن هو «الخوري»، والخاء تختلط بالحاء دون ضير، مما يشير إلى أن الاشتغال بأمور الدين كان يغلب على أهله العنصر الحوري، لذلك كان جليا في التوراة أبوة إبراهيم عليه السلام للأنبياء، ولا يغيب عن الخاطر أنه في المنطقة الحدودية بين المنطقة الكاسية الهندوأوروبية والمنطقة العراقية والكنعانية وهي سامية، كان سهلا أن يتبادل حرف «ح» مع حرف «أ» أو مع الهمزة، ومن هنا كان ممكنا أيضا أن تنطق حور الواقعة في المنطقة الكاسية أو «حور الكاسيين» بالنطق «أور-كاسيين»، والتي يجب نطقها عبريا «أور-كسديم»!
وقد تبدو النتائج التي وصلنا إليها مخالفة لما تعارف عليه جمهور الباحثين، وخاصة أن كثيرا من البحوث قد أثبتت تطابق ميثولوجيا التوراة مع ما كشف عنه من تراث رافدي، مما يشير إلى أن أصل العبريين يعود فعلا إلى العراق، بل إن هذا التطابق في المأثور كان من أهم أسباب تأكيد «أور» العراقية كموطن أول للعشيرة الإبراهيمية. وفسر التطابق بين المأثورين بأن العبريين قد أخذوا معهم التراث الرافدي ليسجل بعد ذلك كعقائد في التوراة، بل إن كاتب هذه الدراسة مر عليه وقت كان يأخذ بهذه النظرية في بعض بحوثه المنشورة، لكننا الآن نرى أن تطابق المأثور التوراتي مع التراث الرافدي القديم، لا يعني بالضرورة أن أهل التوراة كانوا من أهل العراق، إنما نجد للأمر أسبابا أخرى لعل أهمها أن أهل الرافدين من بابليين وآشوريين عندما حطموا المملكتين العبرانيتين: يهوذا والسامرة، بعد عصر إبراهيم عليه السلام بأكثر من ألف عام، واستاقوا اليهود أسرى ليعيشوا على ضفاف دجلة والفرات في عبق التاريخ العريق، تعرف العبريون الأسرى هناك على المأثور الرافدي وتمثلوه بعد طول مقام، هو ذات الأثر الذي تركه التراث المصري والكنعاني في التوراة، واصطنع العبريون لأنفسهم تراثا تم استخلاصه من تراث المنطقة التي كانت تموج بظواهر التحضر وما يلزم عنه ويفرزه. ولعل أهم دعم لهذا الرأي هو إجماع الباحثين في التوراة - تقريبا - على أن الأسفار الخمسة الأولى الكتاب المقدس (وهي التي يطلق عليها تحديدا اسم التوراة، وهي الأسفار التي أجريت عليها دراسات ومقارنات شتى مع المأثور الرافدي، والتي حوت معظم ما يتصل بالتراث العراقي) لم تكتب قبل عام 400ق.م، هذا ونعلم أن: الأسر الآشوري لليهود قد بدأ عام 722ق.م، أي إن الأسفار التوراتية التي تطابق المأثور العراقي قد كتبت بأثر لا جدال فيه لهذا المأثور فهل لم يزل ثمة نقاش؟
ولا تفوتنا الإشارة إلى أمر بالغ الأهمية لأمرنا هنا، وكثيرا ما أثار عجب الباحثين ودهشتهم، وهو أن طوائف تعيش اليوم في جنوب روسيا تتكلم اللغة الآرامية القديمة
8
المحسوبة من اللغات السامية، ومع بحثنا يزول هذا العجب؛ لأن من هذه المنطقة قدم أصحاب اللسان الآرامي في القديم، ويحمل اسمها «أرمينيا» معنى الآرامية.
صفحه نامشخص