ثالثا:
إن أهم ما يؤيد هذا الحفر اللغوي، هو التسمية التي أطلقها أهل الرافدين القديم على سكان تلك المناطق الشمالية، وكانوا يشكلون خطرا داهما على البلاد، وقد غزوا بلاد الرافدين فعلا، ودمروا بابل واحتلوها زمنا، وأسسوا ما يعرف باسم دولة بابل الثالثة. هؤلاء هم من تشير إليهم النصوص الرافدية القديمة باسم «الكاسيين» أو ال «كاسي» ولو جمعنا المفرد «كاسي» باللسان العبري، فإنه يصبح «كسديم»! فهل ترانا قد عثرنا على دليل مبين؟
رابعا:
إن في التوراة ذاتها ما يؤكد مذهبنا في موطن النبي إبراهيم الأصلي، فالنبي إبراهيم كما هو معلوم يعود بأرومته إلى جده البعيد «سام بن نوح» وكان لسام أخوان هما «حام » و«يافث». وتحكي التوراة - كما أسلفنا - أن نوح لعن النسل الكنعاني من أبناء حام، وبارك سام ونسله بالقول: «مبارك الرب إله سام، ليفتح الله ليافث، فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (تكوين 9: 18-27).
وحسب التقسيم التوراتي للأجناس (التكوين 10) فإن سام هو أبو كل بني عابر وبني آرام وبني أرفكشاد. والعجيب أن كاتب هذا الجزء من التوراة، كانت لديه معلومة تقول: إن يافث ونسله كانوا يساكنون سام ونسله «ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام»، وحسب التقسيم التوراتي للأجناس، فإن يافث هو أبو الترك والصقالبة القدماء، وهم ليسوا شيئا آخر سوى سكان بلاد الحور الأرمينية وما جاورها، أفلا يعني ذلك أن مساكن سام التي سكنها يافث، كانت في المنطقة التي حددناها وعيناها كموطن أول للعشيرة الإبراهيمية؟!
خامسا:
إن «ماير» يشير إلى معلومة قديمة متوارثة، تعطينا خاتما توثيقيا على ما ارتأيناه، فيقول: «كان الرأي السائد قديما أن مدينة أور تقع أعالي ما بين النهرين، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتت أنها تقع في الجنوب في أطلال مغير، بالقرب من مصب نهر الفرات في الخليج الفارسي.»
5
وهكذا فإن «ماير» يلقي بمعلومة قديمة متوارثة من وراء ظهره، تقول: إن «أور» تقع أعالي ما بين النهرين، وهو ما حددناه، بلاد الحور الأرمينية. لكن «ماير» لم يلتفت إلى أن الاكتشافات الحديثة كشفت فقط عن مدينة تسمى «أور» تحت أطلال مغير العراقية، لكنها لم تكشف عن أصول العشيرة الإبراهيمية هناك، وتم هذا الربط من جانب الباحثين التوراتيين، فربطوا «أور الكلدانيين» - وهي كما علمنا ترجمة خاطئة - وبين أور المكتشفة في جنوب العراق، وقد علمنا أنها «أوركسديم» أو «أور الكاسيين» في منطقة «أرابخيتيس» الحورية، وهي على ما يبدو كانت معلومة شفاهية قديمة، مجهولة المصدر والزمان، ظلت تتواتر شفاهة، ولكن رفضها الباحثون بعد الكشف عن «أور» العراقية.
وتأسيسا على كل ما أوردناه، وإعمالا لمجموعة القرائن التي توصلنا إليها، فإنه لم يعد هناك أي مبرر للبحث عن حاران تجاور أور الكلدانيين أو أور العراقية، كما حاولت الخريطة المرفقة بالتوراة أن تفعل، ولا يعد مرور النبي إبراهيم عليه السلام بمنطقة حاران في أقصى الشمال داخل الحدود التركية الحالية مثيرا للتساؤل أو الاستغراب؛ لأنه في هذه الحال لم ينطلق من «أور الكلدانيين» في الجنوب، متجها إلى «حاران» في أقصى الشمال، ليعود مرة أخرى جنوبا نحو كنعان، إنما ستتسق الأمور - وفق طرحنا - وتنضبط، فيغادر النبي منطقة «أربكسد» المعروفة حاليا باسم «إلبك» جنوب غربي أرمينيا، ويتجه إلى بلاد الحور أو «حاران»، وتصبح حاران بذلك محطة ترانزيت منطقية تماما في الطريق إلى كنعان، كما يصبح مفهوما إشارة التوراة المترجمة لكافة اللغات، ومنها العربية «عن الأصل العبري» أنه خرج منها، دون سبب واحد تبرر به ذلك، ورغم إشاراتها المتعددة والمتكررة التي تؤكد آرامية النبي إبراهيم.
صفحه نامشخص