چشمه قدیمی: تابلوهای داستانی
النبع القديم: لوحات قصصية
ژانرها
أحاول أن أتخلص من الذراعين الحديديتين، فلا أستطيع ... أراها تمسح على رأسي بكفها وهي تتمتم بالفاتحة، فأمسك يدها وأبعدها بعنف ... تمد فمها الأهتم وتحاول تقبيلي، فأستغيث بأمي، وأنا أصرخ: لا ... لا ... الحقيني يا أمه ... الحقيني.
وتقوم أمي من أمام فوهة الفرن المتوهجة، فتمسكني من ثيابي وهي تربت على كتف العمة العجوز، وتخلصني من ذراعيها الضاغطتين على صدري وبطني وظهري، كخشبتين خشنتين. وفي هذه الأثناء يرتفع بكائي عاليا، كأن ثعبانا أو عقربا لدغني ... وأجري مفزوعا مرعوبا إلى الممر الذي تركت فيه عرباتي وكراتي التي كنت ألعب بها ... لكنني أسمع بعد قليل أصوات نشيج متقطع ينفذ كشظايا الزجاج في صدري، وأترك لعبي وأتلصص على المشهد من بعيد وبحذر شديد، كانت العمة كبرية تمسح دموعها بمنديل محلاوي كبير ورأسها وجسمها كله يرتجف. وبينما تحاول أمي أن تهدئها، قائلة: صلي على حضرة النبي، لا تعملي عقلك بعقل عيل صغير وعبيط ... قومي يا شيخة اغسلي وجهك وصلي ركعتين ... منك لله يا عبده ... الست كلها بركة وقصدها ترقيك وتقرا الصمدية على رأسك ... اسكتي يا عمتي وبلاش النهنهة والبكا ... قطعت قلبي ... استغفري لله، وأنا سأقول لأبيه يضربه علقة ...
يستمر نشيج العنزة السوداء، التي انزوت في الركن البعيد، وراحت تبكي بكاء مريرا، وأحس بأنها تنتفض وتهمس وتدمدم في الوقت نفسه بكلمات لم أتبينها بوضوح ...
1
ستي ستيتة
كل شيء فيها كان يضحك أو على الأقل يبتسم. يبدو أنها - دون خلق الله جميعا - قد استقبلت الدنيا أول ما استقبلتها وتنفست هواءها، بضحكة مجلجلة لا بصرخة مولولة. إن كنت قد نسيت شكلها وملامحها الدقيقة - فقد توفيت وأنا بعد في المدرسة الابتدائية - فلا يمكن أن أنسى أنها لم تكف أبدا عن الضحك. كانت تعيش على مساعدة الجيران الميسورين والمستورين، في العجين والخبيز والغسيل والطبخ والتنظيف. تجلجل ضحكتها طول الوقت منذ أن تقف على الباب في انتظار من يفتح لها، إلى أن تخرج في آخر النهار، وتحت شالها الأسود الطويل بعض ما جاد به الكرام من الزاد والخزين والفاكهة. وترجع إلى غرفتها الصغيرة فوق سطح البيت المجاور لنا، لتنام بعد أن تزوج ابنها الوحيد وترك الغرفة إلى غرفة أخرى على سطح آخر، وبعد أن مات كذلك زوجها الذي لم تكن تذكره وهي إلا بقولها: المتعوس الخائب الذي تركني لا ورائي ولا قدامي.
كانت أمي تحبها وتأنس إليها، وكلما ضاقت بوحدتها، وأوشك الحزن والبكاء على أهلها الأموات أن يغلبها، نادت عليها من الشباك المطل عليها من حجرة الفرن: ستيتة، تعالي وحياة أبوك شوية ... تستفسر الضاحكة الأزلية: خبيز ولا غسيل ولا ... تقاطعها أمي: لا خبيز ولا غسيل ... تعالي يا شيخة ... فكي عني ضيقتي ... ولا تلبث دائمة الضحك أن تحضر، وتشرب القهوة، وتحكي من النوادر والغرائب والحكايات، ما يرج الجسد كله من السرور والنشوة والعجب.
ما الذي يذكرني بها اليوم مع بداية العام الدراسي، مع أني قد خرجت للمعاش وتركت التدريس، وشاب شعري وأصبح الذين لا يعرفونني ينادونني يا جدو ويا حاج. وبينما أسير في الشارع وحولي صغار التلاميذ ذاهبين إلى مدارسهم أو راجعين منها، تتراءى لي ستي ستيتة على الفور. ذلك أنني لا أستطيع أن أنسى أنها هي التي أوصلتني إلى المدرسة في أول يوم دخلتها فيه. أقول أوصلتني، والحقيقة أنها حملتني حملا فوق كتفيها. كنا في عز الشتاء، السماء تمطر بلا رحمة، والسيول تملأ الشوارع، وأكوام الوحل كالتلال الصغيرة على جانبي الطريق وفي وسطه، والبرك تتكون باستمرار وتتسع في الشوارع والحواري التي لم يدخلها الصرف الصحي، ولم يفكر أحد في رصفها بالأسفلت.
كنت أقف أمام الباب في انتظار الحنطور الذي اتفق أبي مع صاحبه على أن يفوت علينا طول أيام الشتاء، ليحملني مع بعض أبناء الجيران إلى المدرسة الواقعة في الطرف البعيد من البلدة عند مدخلها الغربي. مرت ستي ستيتة بالصدفة، ورأتني على الباب وفي يدي شمسية صغيرة وحقيبة أوراق وفي اليد الأخرى العامود المعدني ذو الأدوار، الذي ملأت أوعيته الصغيرة المستديرة بطعام الغداء. يبدو أن القلق والخوف الذي يصل إلى حد الرعب من اليوم الدراسي الأول، قد ارتسما على وجهي وأسدلا عليه ستارا من الصمت المشحون بالفزع والرهبة. كانت أمي واقفة وراء الباب الموارب في انتظار الحنطور الموعود، عندما ظهرت ستيتة، وقالت وهي تضحك، بعد أن أدركت الموقف كله: شاء الله يا حنطور، الجرس زمانه ضرب وأنت هنا واقف على الباب؟ يا الله يا ابني! يا الله يا حبيبي!
حاولت أمي أن تثنيها عن عزمها: الدنيا شتا يا ستيتة، والوحلة للركب. اصبري ... زمان الحنطور في السكة ... قالت ستيتة، وهي ترفعني على كتفيها وتغطي رأسي بشالها الأسود الطويل: وزمان الجرس ضرب. يا الله يا ابني! يا الله يا حبيبي، كل سنة وأنت طيب ...
صفحه نامشخص