كتاب الميسر
في شرح مصابيح السنة
تصنيف
الإمام أبي عبد الله فضل الله بن الصدر الإمام السعيد تاج الملة والدين
الحسن التوربشتي
المتوفى سنة ٦٦١ هـ
تحقيق
دكتور عبد الحميد هنداوي
الناشر
مكتبة نزار مصطفى الباز
1 / 1
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
(اللهم يسر إتمامه بالخير)
الحمد لله الذي شرع لنا الحق وأوضح لنا دليله وشرح لنا [المشتبه] ويسر لنا سبيله، وبعث إلينا عبده ورسوله وصفيه وخليله، فعرفنا [] وحيه وبتنزيله، وبين لنا ما نزل إلينا من الذكر وأوقفنا [فيه] على حد من العلم فألهمنا تأويله.
والحمد لله الذي بعثه إلينا مهيمنا على الكتاب، ومبينا وجوه الخطاب، وموردا للوحي والإلهام، ومصدرا للشرائع والأحكام، ومفصلا للحلال والحرام، [ومدربا لطرق] الرشاد، وحاميا [....] السداد، وماحيا للشرك والإلحاد، فضلا من الله ورحمة على العباد والبلاد.
فالحمد لله الذي أسعدنا بطاعته، وأكرمنا بمتابعته، وأحسن إلينا بالتوفيق لإيثار دينه، واختيار ملته، ومن علينا بالتيسير لاقتفاء هديه وسنته، حمدا كثيرا طيبا مباركا، لا انقطاع لمدده ولا انقضاء لمدته.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تأتي على ما قدمنا وما أخرنا، وتتدارك ما أعلنا وما أسررنا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المنوه باسمه في التوراة والإنجيل، المكرم وجهه بمعالم التنزيل، صلى الله عليه مبلغ ما خصه به من المواهب الجزيلة، وزنة ما أعد له من الوسيلة وعلى آله أولى السابقة والفضيلة وبعد:
فقد أشار إلى عصبة من إخواني بشيراز- رعاهم الله وحماها- أن أشرح لهم المشكل من الأحاديث التي اشتمل عليها كتاب المصابيح الذي جمعه الشيخ الإمام محيي السنة أبو محمد الحسن بن مسعود الفراء- ﵀ من كتب الحديث التي هى دواوين الإسلام المنبئة عن السنن والأحكام، الفارقة بين الحلال والحرام، والواردة في فضائل الأعمال، والدالة على نفائس الأحوال، الداعية إلى طريق الخير وسبيل الصواب، الهادية [.....] الأخلاق ومحاسن الآداب.
وهو كتاب مبارك، وفيه علم جم من سنن الرسول ﷺ (...) لصحة القصد فيه رزق حسن القبول، فوجدت الشقة في ذلك شاسعة، والسبيل إلى ما سألوه متوعرة، فتوقفت حينئذ مترددا في الإجابة.
1 / 29
ورأيت الربع على الظلع أحرى، والتأخر عن شأو لم أدركه أحجى بعد أن كنت أرى صغو نفسي إليه، وأحس منها النزوع إلى ذلك نظرا إلى ما يقتضيه خفى الهوى، وحكم الجبلة من حب الثناء، والركون إلى الشهرة.
ولم أزل في نقد من العزيمة، وفسخ من الهمة نظرا إلى سوابقه ولواحقه، وحذرا من توابعه ورواجعه، حتى تفكرت فيما آل إليه أمر هذا الزمان من قبض علم الحديث بقبض حملته وحفاظه، وقلة اهتمام الناس بكشف معاينه وضبط ألفاظه.
ثم إني صادفت همم أهل هذه الديار لا تتعدى في طلب الحديث عن أحاديث هذا الكتاب، ورأيتهم لم يتقنوا حفظها، ولم يحسنوا وعيها، ووجدت فيها ألفاظا كثيرة محرفة عن جهة قصدها، وكان عندي طرف من العلم بها، والمعرفة بوجوهها.
فأبى حق الدين وواجب النصيحة إلا كشفها وبيانها. ثم إني تأملت فيما عدى ذلك من مشكل هذا الكتاب، وامتساس حاجة الراغبين فيه إلى معرفته، وأن مجموع ما أشكل منه- وإن وجد- متفرقا في مسانيد أئمة الحديث وكتب أرباب المعاني، وأصحاب الغريب؛ فإن الخطب في تحصيله ليس بهين عليهم؛ إذ هو مفتقر إلى أسباب كثيرة يقصر عنها مقدرة الأكثرين، فدعتني داعية الثواب، وهيجتني نية الاحتساب إلى شرح هذا الكتاب.
واستخرت الله تعالى لإسعاف ما ندبوني له فشرح لذلك صدري، واطمأن به قلبي.
فناديتهم: إخواني رعاكم الله وحياكم، ورفعكم عن حضيض العادة إلى ذروة العبادة ورقاكم: اعلموا أن علم الحديث تسمو إليه الهمم، ويمتد نحوه الأعناق، ويقف عليه الآمال. به يستكشف مبهمات الكتاب، ويستدرك حسن المآرب، وتناوله على سبيل السبك والإتقان يستدعي علوما جمة منها المطلع عليها، ويفتقر إلى أسباب كثيرة هى المرقاة إلى الوصول إليها.
وكتاب المصابيح لما فيه من أمهات السنن وجوامع الكلم يفتقر في البيان إلى سائر أنواع علم الحديث؛ ثم إنه لا يخلو عن نبذ ما سوى ما أشرنا [..... ولا ير بعضها أئمة الرواة].
ومجمل الكلم عندي (والله أعلم) أنه ألف محذوف الأسانيد فرغب عنه رجال الحديث،
1 / 30
وتناولته ألسنة أناس لم يكن لهم دربة بهذا [العلم] فحرفوا وصحفوا وزادوا ونقصوا، وتخطبوا في أسامي الرواة وغلطوا، وإني إن شرعت في اقتفاء تلك الأبواب، واستفتاحها على منهاج أهل الصنعة: حال بيني وبين ما أحاوله بعض ما أشير إليه من العلوم والأسباب.
وهذا علم قد تغيرت بهجته وتضوحت زهرته، بل حقق اختلاسه، وطوى بساطه، وقد كان معظم غمرته بالعراق وخراسان فلما اكتنفتها الفتن، وتركت سيوف الأعداء أهلها عباديد متفرقين، تلفظهم البلاد، وتتجهمهم الأمصار لم يبق من رجال هذا العلم في تلك الديار ديار، وذهب بذهابهم المسموعات، واضمحلت بخرابها المؤلفات. وحين فقدت الأنصار، وعدمت الأسباب، رأيت أن أقتصر من ذلك على ما لا يسع الطالب جهله، وأن أكتفى من البيان بما يفتح الغلق عن متون الألفاظ ومبانيها، ويستكشف بمقدار الضرورة عن مباحثها ومعانيها، متنكبا عن التعسف في مذاهب الإسهاب، والاشتباط.
وأن لا أتعرض في الأحكام لمجال النزاع ومواضع الاستدلال؛ إلا إذا دعت الحاجة إليه في بيان الحديث ونفي التناقض والإحالة عن كلام الرسول ﷺ؛ لأن أكثر الناس لاحظ لهم فيه؛ مع أنه أمر قد فرغ منه، وباب قد أتى عليه، فإن ظفرت بمعنى على طريق الفهم، ويتعلق به بيان الحديث؛ فسأشير إليه غن شاء الله تعالى.
والمرجو من الله المنان أن يمدني بحسن التوفيق وألا يكلني إلى نفسي فتنزل قدمي، ويخطئ نظري، وأن يجعل ذلك لوجهه الكريم؛ فإن ما أريد به وجهه لا يثمر خزيا، ولا يعقب ندامة، ولا يزداد على ممر الأيام إلا بهجة وطراوة.
ولقد بلغني أن أبا عبد الله بن أنس الأصبحي- رحمة الله عليه- لما صنف كتابه الموسوم بالموطأ سمع به عبد الله بن وهب المصري، فصنف كتابا وسماه بالموطأ فأخبر بذلك مالك، فقال: ما كان لله يبقى، وأشار بذلك [إلى ما أخذه على] نفسه من صدق النية وصحة العزيمة.
ونحن نسأل الله تعالى أن يحول بيننا وبين ما نحاوله أشرا ورياء واتباعا للهوى حتى يخلص فيه النية؛ فإن استمتاع كل أحد بعلمه على مبلغ عمله بالعلم، ومقدار خلوص النية فيه.
أخبرنا الإمام شهاب الملة والدين أبو الفضائل عبد الوهاب بن صالح بن محمد المعزم إمام الجامع العتيق بهمذان أنبأ الحافظ أبو جعفر محمد بن علي الهمذاني، أنبأ أبو الخير محمد بن موسى بن عمران الصفار أنبأ أبو الهيثم محمد بن علي الكشميهني محمد بن يوسف
1 / 31
الفربري أنبأ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ثنا الحميدي حدثنا سفيان ثنا يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب- ﵁ على المنبر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
وأسأل الله تعالى أن يهديني وإياكم إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا لاتباع سنة نبينا محمد ﷺ فهو الصراط المستقيم.
وأن يجيرنا عن اتباع (الأهواء) واقتفاء البدع [والضلالات]، وأن يستر لنا عيوبنا جليها وخفيها، ويغفر لنا ذنوبنا ظاهرها وباطنها؛ إنه ولي الإجابة.
1 / 32
بداية شرح المصنف للكتاب الكلام على مقدمة الشارح
ذكر ما يحتاج إلى البيان في عنوان الكتاب
قوله: (وربما سميت في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله ﷺ لمعنى دعا إليه).
تنبيه: يوجد ذلك المعنى على وجوه كثيرة يعسر استيعابها حصرا وتعدادا؛ فنذكر منها أمثلة تحل عقدة الإشكال عن قوله، فنقول: إن الحديث الواحد ربما روى عن جمع من الصحابة بطرق شتى وألفاظ مختلفة يرويه كل واحد منهم على سياق آخر؛ فإذا حدث المحدث به وساقه على سياق واحد: ذكر الصحابي الذي يرويه على ذلك السياق ليتميز حديث بعضهم عن البعض. والوجه الآخر: أن يروي أحد الصحابة حكما مطلقا ويرويه الآخر مقيدا؛ فيذكر الراوي حينئذ رفعا للخلاف، ودفعا للالتباس.
والوجه الآخر: أن يسند الحديث إلى جمع من الصحابة بروايات مختلفة، وبعضها لا يكاد يصح؛ إما لضعف في الرجال أو خبط في الإسناد، أو انقطاع فيه، فيعين الصحابي (دفعا للشبهة) وقطعا للاعتراض.
والوجه الآخر: أن يعارض الحديث حديث آخر، ويكون في ذكر الراوي حصول معرفة التقدم والتأخر اعتبارا بزمان الصحابة، والاستشهاد في علم الناسخ والمنسوخ، والفرق بين السابق واللاحق فيذكر الراوي الاستدلال والاحتجاج وإن شذ عن هذه الأمثلة ونظارها في القياس شيء؛ فالظاهر أنه أثبت على حاشية الكتاب فألحق بالأصل.
ومن الدليل على هذا أنا لا نجد أكثر النسخ في كر الصحابي على وتيرة واحدة، وأن أكثر أحاديث هذا الكتاب مقترن بذكر الصحابي الذي يرويه. والمؤلف أشار بحرف التقليل إلى ما هو دون ذلك فقال (وربما سميت) والله أعلم.
قوله: أعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري- رحمهما الله- في جامعيهما أو أحدهما. وبالحسان ما أورده أبو داود وأبو عيسى وغيرهما في تصانيفهم.
أشار بقوله: (أعني) إلى مصطلحه الذي وضعه للتفريق بين الدرجة الأولى من الصحيح التي صنف عليها كل واحد من كتابي إمامي أهل الصنعة وبين ما دون ذلك في الدرجة، ولهذا استدركه بقوله: وأكثرها صحاح، ولم يرد بهذا القول نفي الصحة عما عداها؛ إذ هو قول يفضي إلى تعطيل أبواب كثيرة من السنة.
1 / 33
وقد قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ البيع النيسابوري وهو أحد المعتبرين في معرفة أقسام الحديث ورجاله:
الصحيح على عشرة أقسام، خمسة منها متفق عليها وخمسة منها مختلف فيها، قلت: ولم يحتو كتاب الشيخين إلا على القسم الأول منها. وأحاديث المصابيح على ما تبين لنا لا تتجاوز عن كتب هؤلاء الأئمة أبي عبد الله البخاري، وأبي الحسين القشيري وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني ﵏.
قوله: (وأكثرها صحاح إذا كثر [......] ثبوتها بطريق حسن) معنى هذا الكلام أن أحاديث كتاب المصابيح ملتقطة [... ذكر الأحكام] التي تقدم ذكرها والأحكام إنما تثبت بأسانيد/ مقبولة عن رجال مرضيين، وبيان ذلك أن كتب الحديث مخرجة لا على الأبواب وإنما على التراجم فما كان منها على تراجم الرجال فإن المؤلف يذكر فيها الغث والسمين؛ لأنه إذا قال مسند أبي بن كعب- ﵁ يذكر سائر ما انتهى إليه مسندا عن طرق رواة أبي صحيحا كان أم سقيما حتى يأتي على جميعه عن المعدلين والمجروحين وما كان على الأبواب فإنه يذكر باب الطهارة ويأتي فيه من الأحاديث بما يصلح للاستدلال به.
فإن قيل: إنا نجد في كتب الأحكام من الأحاديث ما يشهد عليه جامع الكتاب بالضعف فإن المؤلف لا يذكر في مؤلفه حديثا ضعيفا عنده في الأحكام إلا وقد علم أن لغيره فيه متمسكا على حسب المعرفة به والاجتهاد فيه ألا ترى أن المراسيل لا تكون حجة عند كثير من العلماء وعند بعضهم يلزم العمل بها ثم إن أكثر مباني هذا القول على الجرح والتعديل وكلاهما مختلف فيه بين الأئمة فربما يكون ضعيفا عنده قويا عند غيره.
قوله: (وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه) فأما الغريب ما يتفرد به ثقة من الثقات ولا يكون له طرق مخرجة في الكتب وهو نوع من أنواع الصحاح دون النوع الذي يشتمل عليه كتاب البخاري ومسلم.
وأما الضعيف فإنه يوجد من وجوه فتارة يكون لضعف بعض الرواة من المردودين بنوع من أنواع الجرح على ما يذهب إليه المجتهد من عدم العدالة أو الرواية عمن لم يره، أو سوء الحفظ أو تهمة في العقيدة أو عدم المعرفة بما يحدث به أو الإسناد إلى من لا يعرف في الرواة/ وتارة لعلل أخر مثل الإرسال والانقطاع والتدليس ونحوها. والإرسال: أن يذكر رواية التابعي عن
1 / 34
النبي ﷺ من غير ذكر الصحابي. والانقطاع هو انقطاع الإسناد وذلك أن يروي الراوي عمن لا يمكن أنه رآه. والتدليس أن يقول المحدث: قال فلان، أخبرنا فلان، وقد أدرك فلانا الذي رآه إلا أن بينه وبين من يروى عنه الحديث الذي دلس فيه راو آخر ترك ذكره ليوهم أنه سمعه من شيخ شيخه. ومن جملة الوجوه أيضا الاضطراب في الإسناد وهو: أن يروى الحديث عمن دونه (٤/ب) أو فوقه، أو يرفع الحديث تارة، ويوقفه أخرى.
-والمرفوع ما أسنده إلى النبي (ﷺ)، والموقوف ما لم يتجاوز فيه عن الصحابي إلى النبي (ﷺ).
واعلم أن الحديث الضعيف ليس ساقط الاعتبار مطلقا على ما ذكرناه، وربما يكون فيه ما يؤيده القياس الجلي فيعمل به مع ضعف الإسناد.
وكثير من المجتهدين عملوا في بعض الأحكام بالحديث الضعيف عند أهل النقل وتركوا العمل بما صح إسناده لما يشهد له قضية الحال ويقتضيه النظر والاستدلال، وإني إنما سلكت هذا المسلك من الإطالة في شرح تلك الكلمات لئلا يجترئ من لا علم له بأساليب الحديث وطرق الرواية بمجرد الوهم الحاصل عن تقليد من يحسن ظنه فيه على الطعن فيما نقل من أحاديث الرسول (ﷺ) والقول الموجز الجامع أن نقول:
الحديث على ثلاثة أنواع:
صحيح: وهو ما اتصل سنده، وعدلت رواته، وهو النوع المتفق عليه وقد ذكره الحاكم أبو عبد الله في خمسة أقسام.
وحسن: وهو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وهو النوع المختلف فيه على ما ذكره الحاكم في خمسة أقسام.
وسقيم: وأقسامه ثلاثة: موضوع، ومقلوب، ومجهول.
فالموضوع: ما صح عند أهل الحديث وضعه.
والمقلوب: ما قلبه القلابون متنا وإسنادا.
والمجهول: ما لا يعرف أئمة الحديث مخرجه ويكون مداره على من لم يعرف في رجال الحديث أصلا، فالمنكر الذي أشار إليه الشيخ في عنوان كتابه لا يخرج عن هذين القسمين أعني المقلوب والمجهول، وقد يوجد في كتابه بعض ذلك مع تبريه عنه وسننبه عليه في موضعه إن شاء الله.
1 / 35
كتاب الإيمان
[١] قوله (ﷺ): (إنما الأعمال بالنيات ...) الحديث يرويه عمر بن الخطاب- ﵁.
النية: العزيمة، وهي قصد القلب وتوجهه على الشيء. أشار ﷺ بكلمة (إنما) إلى أن قوام الأعمال بالنيات وأن لا عبرة بالأعمال إذا خلت عن النيات؛ لأنها العاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فبحرف التحقيق تثبت الشيء وبحرف النفي تنفى ما عداه وهذا كما يقال: إنما الأجساد بالأرواح، أي قيام الأجساد وحيويتها بالأرواح.
ولو قيل إنه أراد به [...] فله وجه محمل، كما يقال: إنما المرء بأصغريه. وليس في هذا القول تعريض بتهوين أمر النية وإنما فيه التنبيه على استخلاصها عن النقائص والإتيان بها على صفة الكمال.
وقوله (ﷺ): (وإنما لامرئ ما نوى) يؤكد كلا المعنيين، ويشير إلى أن حس القبول منوط بحسن النية، ومقادير المثوبات على مراتب النيات في قوة العزيمة والتخلص عن شوائب الرياء، والتجرد عن دسائس الهوى.
وقوله ﷺ (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله) أي فمن كانت نتيه في الهجرة الهجرة إلى الله وإلى رسوله فهي كما نواها، فهجرته إلى الله وإلى رسوله. (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها): دنيا: مقصورة غير منونة؛ لأنها على بناء فعلي؛ فلا يجوز فيها التنوين.
وقوله ﷺ: (أو امرأة يتزوجها): لهذا القول سبب رواه جمع من أئمة الحديث في كتبهم عن عبد الله ابن مسعود- ﵁ وهو أنه قال: هاجر رجل من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها أم قيس فقالوا له هذا مهاجر أم قيس. فكأنه ﷺ عرض بهذا القول توبيخا على صنيعه وتنبيها له على الإنابة عن ذلك، وتذكيرا لأهل الاعتبار.
أورد الشيخ هذا الحديث في عنوان كتابه تأسيا بجمع من العلماء استحبوا تقديم هذا الحديث في كتبهم تفاؤلا بحسن النية وتيمنا بهذا الحديث منهم البخاري رحمة الله عليهم.
1 / 36
[٢] حديث عمر بن الخطاب: (بينما نحن عند رسول الله ﷺ) إذ طلع علينا بين أوقات جلستنا بين يدي رسول الله ﷺ وبينا: فعلى. أشبعت الفتحة فصارت ألفا، وبينما: زيدت عليها (ما). والمعنى واحد.
يقول: بينا نحن نرقبه أتانا. أي أتانا بين أوقات رقبتنا إياه.
وفيه: (إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب).
قد علمنا بهذا الحديث وبما ورد في معناه من الأخبار الصحيحة التي تنقطع العذر دونها؛ لحصول التواتر فيها أو في جنسها أن جبريل- ﵇ كان يتمثل بشرا، وتلك الهيئة لم تكن مختصة به لما ثبت من نزول الملائكة يوم بدر ويوم حنين وفي غزوة الخندق وغزوة بني قريظة للنصرة متمثلين في صورة الرجال، وقد شهد التنزيل بأن الملك يتمثل بشرا، قال الله تعالى: ﴿فتمثل لها بشرا سويا﴾.
ولكن هل لعموم الملائكة التجلي في صورة البشر أم لا؟ فسبيل ذلك التوقيف وإن كان العقل يجوزه، أو يحكم به؛ لأن الوقوف على أمثال ذلك مقطوعا به لا يحصل إلا من طريق النبي ﷺ، ومقولات أبناء الضلالة في هذه المسألة بمعزل عن ذلك.
مذهب أهل الحق أن الملك إذا تجلى في صورة بشر فذلك بأمر الله- تعالى- وتكوينه لا بقوة الملك وتصرفه في ذاته وقدرته على ذلك واختياره فغنه مقدور مقهور لا يقدر على شيء من ذلك والله القادر على كل شيء.
ولو اعتبرت المناسبة بين الهيئة التي تراءى فيها الملك وبين الحالة التي كان عليها لسوغ أن يقال: شدة بياض الثياب لصفاء الأعمال وكمال النورانية، وشدة سواد الشعر مناسب لكمال القوة الملكية.
وفيه إشارة إلى طلب العلم في ريعان الإدراك، وعنفوان الشباب، وإلى إيثار النظافة والنقاوة للحضور في المجالس السادة.
قوله: (ووضع يديه على فخذيه): الضمير في يديه وفخذيه يعود إلى جبريل، ﵇، ولو ذهب مؤول إلى أن الضمير في فخذيه عائد إلى رسول الله ﷺ لم ينكر عليه لما يدل عليه نسق الكلام من قوله (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول؛ لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوي الآداب.
ونقوا: إن الراوي استغنى في الكلمتين الأوليين عن الإيضاح بإضافة الثانية إلى مظهر اتكالا على ما
1 / 37
في الركبتين من البيان؛ ثم إنه أجرى الكلمتين الأخريين على تلك الوتيرة معمولا في ذلك على فهم السامع الذي أخبرناه.
قوله ﷺ في بيان الإيمان: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ... الحديث).
هذا حديث جامع لأصول الدين. ولو آثرنا إشباع القول في بيان مسائل الإيمان، واستقصينا البحث عن مواقع الخلاف بين أهل العلم وأهل اللسان؛ كنا قد تعدينا عن شريطة الإيجاز في البيان؛ ثم إن الحديث ذو شجون والأنفاس غير متناهية.
والأولى والأمثل لأمثالنا أن نكتفي بما اتفق عليه الأمينان:
أمين أهل الأرض، وأمين أهل السماء ﵉.
ولقد رأينا أن نستكشف عن حقيقة معنى لفظ الإيمان من طريق الوضع والاشتقاق ليكون طالب معنى الحديث منه على بصيرة، فنقول: الإيمان مشتق من الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف، والتصديق والتحقيق هو الغرض المبتغى عنه عند الإطلاق؛ لأن ما اعتقده الإنسان وصوره في نفسه يدخل فيه الشك واليقين، وما سمعه يحتمل الصدق والكذب؛ لأن الأمر والنهي كل واحد منهما بالنسبة إلى المخاطب به قول يتردد بين الرد والقبول، فمن عرف حقا فأيقن به حتى يجد في نفسه استحالة أن يكون باطلا فكأنما آمن نفسه أن يعتريه فيه شك أو يصده عنه شبهة، ومن سمع خبرا واعتقد أنه صدق حتى لا يستشعر عن نفسه جواز أن يكون كذبا فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما ألقى من أن يكون مكذوبا أو ملبسا عليه.
ومن بلغه أمر أو نهي فاعتقد فيه الطاعة حتى لا يرى لنفسه في الترك أو الإتيان مسلكا؛ فكأنما آمن نفسه باعتقاد ما اعتقده فيما أبلغ إليه من أن يكون مظلوما أو محمولا على ما لا يجب قبوله.
وعليه فقول المؤمن: آمنت: أي حق لي ما رأيته بقلبي وأدركته بعقلي وبدا لي صدق ما سمعته بأذني فآمنت نفسي عن الخطأ فيه والارتياب وآمنت الداعي لي إلى سبيل الرشاد عن التكذيب والشقاق بما أضمرت له وأظهرت له من التصديق والوفاق والإيمان بإثبات الباري سبحانه وإثبات وحدانيته وقدمه وعلوه عن سمات الحدوث، وتفرده بالإبداع والاختراع وإثبات أن وجود كل ما سواه كان بعد إيجاده، وأنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء، وإن كان تقتضيه العقول السليمة، ويستعد لقبوله الأوضاع الفطرية؛ فإن سبيل الوقوف على أسماء الله تعالى وصفاته وموجبات مرضاته وسخطه والاستعداد للمعاد في النشأة الثانية، وغير ذلك من الأمور التي لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيها بذاتها العقول هو التوقيف من عند الله بواسطة الأنبياء ﵈، وإنما انتهى علم ذلك إليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقد بعثهم الله تعالى إلى عباده بذلك تنبيها لهم على ما ندبوا إليه للبعث بعد الموت. وقد أخبر الله تعالى أنه عالم بما هم عاملون له، وحاكم بما هم صائرون إليه، ولا يمكن أن يكون خلاف ما علم وحكم به، فلم يكن الإيمان بالله وحده ينفعهم دون الإيمان بما أخبر عنه الأنبياء ﵈ على ما ذكرنا؛ فلهذا قال ﷺ: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... الحديث).
فذكر الأصول الستة التي هي حق اليقين، ومناط الدين، وعروة العرفان، وذكر فيه القدر من [جملة
1 / 38
الأهواء المضاه [لأن مذهب القدرية يضاهي من بعض الوجوه مذهب الثنوية في القول بالأصلين وهما النور والظلمة فإضافة الخير في الفعل إلى النور وإضافة الشر إلى الظلمة، وفي تفسير رسول الله ﷺ الإيمان بالتصديق بهذه الجملة متمسك لمن يذهب إلى تكفير القدرية قياسًا على ما يقدمه من الأصول. وأكثر السلف يتنزهون عن إطلاق القول بذلك وهو الصواب؛ لأنهم تشبثوا بشبه أسندوها إلى ظواهر بعض النصوص واستدلوا على إثبات ما ذهبوا إليه بتأويلات زائغة عن منهج الحق زينت لهم واستحكمت في نفوسهم وليس الأمر في التكذيب بما سواه من الأصول التي ذكرت في الحديث كذلك.
قلت: وفي سياق هذا الحديث على هذه الرواية- على ما روى في المصابيح- أن رسول الله ﷺ ذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر على وتيرة واحدة عطفًا للاسم على الاسم من غير فاصلة فلما انتهى إلى ذكر القدر كرر لفظ الإيمان فقال وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ولم يقل والقدر خيره وشره نوع من التنبيه على المعنى الذي أشير إليه والله أعلم.
قوله ﵇ فأخبرني عن الإسلام. الإسلام الانقياد للحق والإذعان له بقبول الشرائع والتزام الفرائض على أنها صواب وحكمة وعدل وهو في الحقيقي إظهار الطاعة لمن آمن به والإتباع لمن آمن به ولابد لإظهار الطاعة من أن يكون مسبوقًا بالتصديق على ما ذكرنا حتى يصح قبول الشرائع عن الله وعن رسوله فلهذا بدأ جبريل ﵇ بالسؤال عن الإيمان ثم أردفه بالسؤال عن الإسلام مقترنًا بفاء التعقيب ليفيد المعنى الذي أشير إليه، فسأل عما يقتضيه الإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر الرسول عنه من إعلان كلمة التوحيد وقبول الأمر وإظهار الطاعة وهو الإسلام وأمهات أصوله الأركان الخمسة التي اخبر عنها الرسول ﷺ. ثم قال (فأخبرني عن الإحسان) وذلك أن المؤمن بالله ورسوله، وبما أخبر هو عنه إذا قام بقبول الأمر وإظهار الطاعة فينبغي أن يطالب نفسه بالاستقامة على حسب الطاقة ببذل المجهود في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم ومجانبة الشرك الخفي والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على [...] والتعظيم حتى كأنه ينظر إلى الله فرقًا منه وحياء وخضوعًا له وإجلالا وإلى ذلك أشار بقوله ﷺ (اعبد الله كأنك تراه) ولقد وجدت في المتأخرين زمانًا ومنزلة ممن أفضى به جهله بأصول الدين وعلوم الشريعة إلى القول بإثبات رؤية الله تعالى للأولياء وخواص المؤمنين في هذه الدار الفانية من يظن أن له متمسكا في قوله ﷺ (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا قول زائغ ومذهب باطل لعدم التوقيف في جوازه ودلالة النص على خلافه وذلك قوله ﷺ (فإنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت) وقوله ﷺ (الموت قبل لقاء الله) الحديث الأول رواه أبو أمامة والثاني الذي روته عائشة- ﵂ وكلا الحديثين صحيح أخرجه مسلم في جامعة وهذا المتوهم الذي دحض في قوله أتته المحنة من قبل جهله بوجوه كلام العرب فظن أن في قوله (فإن لم تكن تراه) دليلا على جواز أنه يراه فلم يفهم المراد منه والنبي ﷺ أراد بهذا القول إرشاد العباد إلى رعاية حق التعظيم في عبادته واستشعار الخوف منه والتوجه إليه على حال اليقين حتى كأنهم ينظرون إليه وإلى
1 / 39
هذا المعنى أشار أبي بن كعب- ﵁ في قوله: (ففضت عرقا وكأني أنظر إلى الله فرقًا). وأراد بقوله (فإن لم تكن تراه) أن العبرة في تعظيم من عظمته وتأديب بين يديه برؤيته إياك وإطلاعه عليك لا برؤيتك إياه فاعبده على يقين من هذه الحالة (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا مثل قول القائل: فإن لم تكن تعلم الغيب فإن الله يعلمه فهل يلزم من هذا القول إثبات علم الغيب لأحد دون الله سبحانه ومن هذا القبيل في هذا الحديث ما يتعمق فيه المتشدقون أبعدهم الله فقد أبعدوا في المرمى ويقولون: إن جبريل قال للنبي ﷺ حين أخبره عن الإيمان والإسلام صدقت وأمسك عن هذا القول حين أخبره عن الإحسان ولا يخلو هذا عن فائدة فرأيت أن أبينه لئلا يغتر به مغتر ولا يقدم على تأويله متكلف فيضر به نفسه ويفتتن به غيره ولقد فهمت قصدهم فيه ولم أر أن أتعرض لإيضاحه لما فيه من سوء الأدب. فأقول وبالله التوفيق إن هذا الحديث من رواية عمر بن الخطاب ﵁ مخرج في كتب الأئمة مسلم وأبي داود وأبي عبد الرحمن وأبي عيسى وسياقه في كتابي مسلم وأبي داود على هذا الوجه غير أن سؤاله عن الإسلام مقدم على سؤاله عن الإيمان وفي كتاب أبي عيسى وغيره: الأسئلة [... .] بترتيب [... .] في كتاب المصابيح [... .] لم يذكر في شيء من الحديث [... .] وانتهى إلى قوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ثم روى الراوي بعد ذلك عن عمر- ﵁ أنه قال: في كل ذلك يقول: له: صدقت. وقد أخرج مسلم هذا الحديث في كتابه عن أبي هريرة ﵁ وذكر الأسئلة الثلاثة على هذا الترتيب عن أبي هريرة ﵁ وذكر بعد جواب النبي ﷺ أن جبريل قال صدقت في الأجوبة الثلاثة فتبين لنا أن جبريل ﵇ أردف الأجوبة الثلاثة بالتصديق، وإنما وقع الترك فيما اعترض عليه المعترض من قبل بعض الرواة في هذا السياق، إذ قد صح ما ذكرناه بطرق مرضية وروايات صحيحة والعجب من جرأة من تخوض في مثل هذا القول بالظن والتخمين، والحديث الصحيح محكم بخلاف ما يشير إليه وكان من حق الإيمان أن ينتهي عن ذلك وإن لم يبلغه الحديث على ما نقلناه فإن نبي الله ﷺ هو الصادق المصدوق في سائر ما يخبر به وهو معصوم عن العوج في أمر الدين غير منسوب إلى القصور والتقصير.
قوله ﵇ (فأخبرني عن الساعة) قد علم جبريل ﵇ أن علم الساعة مما استأثر الله به
1 / 40
وإنما سأل عنه النبي ﷺ ليسمع الأمة بما يجيب عنه فيعلموا أن العلوم المكنونة مع معرفة أماراتها بمعزل عن دركتها العقول فضلًا عن رجم الظنون فيقفوا على حد الأدب وينتهوا إلى معالم العبودية ولا يتطلعوا إلى
1 / 41
البحث عنه والخوض فيه وقد كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الساعة فانزل الله تعالى: (يسألونك عن
1 / 42
الساعة أيان مرساها). الآية وأنزل: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله) الآية فلم يسأل عنها
1 / 43
بعد ورود التنزيل إلا متكلف أو متعنت [... .] أو جاحد وربما كان من الصحابة من خامر ضمائرهم
1 / 44
طمع إلى التطلع إليه فتحدثهم [... .] أن علم الساعة وإن كان مكتومًا عن الخلق فليس بمستنكر من فضل الله على نبيه [... ..] قضاء ذلك [... ..] فينهى منه إلينا فيبقى
1 / 45
البواطن نازعة إليه منازعة فيه وذلك في الطباع البشرية والنفوس مجبولة على التطلع إلى معرفة ما غيب عنه
1 / 46
وكل ما خفي] عليها فربما ... [ويشير إلى هذا المعنى قوله سبحانه (ثقلت في السموات والأرض). وفي العرض ما بين رمل بيرتي إلى منقطع السماوة اسم بادية في طريق الشام وقال الأصمعي هي إلى أقصى عدن أبين الحائض عدنانين إلى موضع أطراف اليمن حتى تبلغ أطراف بوادي الشام، وهذا القول قريب الحدود التي بيناها بالبحار والأنهار ومنقطع البوادي وقال مالك بن أنس ﵀ هي مكة والمدينة واليمن قلت وهذا القول لا يخالف ما ذكرناه، لأن المواضع التي بيناها بالحدود منضمة إلى الحجاز أو إلى اليمن والله أعلم.
1 / 47