32

متوالی صالح

المتوالي الصالح

ژانرها

فبدأ سليم الحديث، وقال: كيف رأيت هذه البلاد العظيمة؟ قالت: أرى كل شيء فيها جديدا، فعسى ألا تكون تغيرت فيها، قال: إن ما هو مألوف عندنا من بقاء القديم على قدمه غير مألوف هنا، بل ترين كل شيء متحولا متحركا متجددا والبلاد سائرة بخطى واسعة إلى الأمام، ولكن القلوب لا تتغير والحب لا يتبدل والأفكار لا تتحول إذا رسخت على قاعدة الحب، بل يزيد اجتماع المحبين توقدها، فما أحلى هذا الاجتماع، والآن قد أصبحنا أحرارا في هذا العالم الجديد، فهل تودين البقاء هنا فتشبعين نفسك المتعطشة إلى العلم، وتشبعين نفسا أخرى متعطشة إلى لقياك، وهو اللقاء الذي قال فيه الشاعر العصري:

فلقاء يكون منه دواء

قالت: أراك الآن تميل إلى الشعر، فهل زالت القيود التي كانت تحول دونك ودون النظم أيام كنت في العمروسة؟ قال: تلك أيام مضت كان يحول فيها بيني وبين النظم ما تحظره علينا العادات والتقاليد، أما الآن فنحن في العالم الجديد حيث الناس إخوة مهما اختلفت نزعاتهم وعقائدهم، وليس ما يقف في سبيل اتحادنا بعد الآن إلا إرادتنا، فهل تودين أن تسمعي من الشعر ما طالما تمنيت أن أسمعك إياه قبلا ولم تسمح بذلك الأيام؟

قالت: قل ما بدا لك، فإنه لا أحلى وقعا في أذني من كلامك، فنظر إليها نظرة أحرقت فؤادها، وقال: ليس كلقاء المحبين بعد الفراق، ولا أرق من حديث الغرام لمن برحت به الأشواق وحركت فؤاده العيون.

لم أستطع أن أنظم لك في العمروسة شيئا لأسباب تعلمينها الآن، وأما في هذا اليوم البهيج فقد انطلقت القريحة من عقالها، فانظري حولك إلى هذه الأشجار الباسقة والأزهار الزاهية والخضرة النضرة والمياه المتدفقة الصافية، فكأنها أعدت لهذا اللقاء السعيد.

تتمايل الغصون بأزهارها كما تتمايلين، ولكن أنى لها من معاني الحياة وجمال التكوين ما لهذا الجمال الساحر الفتان، وهاك الطيور تغرد، ولكن أين نغماتها من صوتك العذب الرنان الذي يضرب على أوتار القلب فيحرك الشجون.

يذكرني ذلك يوم خلونا معا في كروم لبنان نتدانى بين الأغصان ونتهادى عناقيد العنب، ونحن لاهون ثملون بما تقر به العيون.

بل ما أحسن ذكرى ذلك اليوم الذي وقفنا فيه أمام الشلال وهو يقذف بلآلئه الدرية من شاهق، ثم تجتمع تلك اللآلئ الحسان، وتسير كأنها مجار من البلور المذاب، فتمر بين مخضل العشب الأخضر، وأزاهر الرياض الناضرة، وأغصان الصفصاف المتدلية التي كانت تظللنا عن أعين الرقباء حينما كان قلبانا كأنهما ساعتان دقاقتان تخفقان معا من شدة الطرب والسرور، وأنا أتبعك محاولا الوصول إليك ونظراتك الحادة تفصل بيننا، ومهابة جمالك تلقي حولك درعا منيعا يقي هذه المحاسن الغراء، فبورك في جمالك ما أبهاه، وبورك في طهرك ما أسماه، وبورك في يوم تلاقينا فيه فكان أفضل أيام الحياة.

هاك قلبي المضطرم أطرحه أمامك على مذبح الحب الطاهر، وهاك قريحتي التي أضرمت فيها نار الذكاء أقدمها لك عربون المحبة والولاء، وهاك لساني الذي علمه جمالك الفصاحة والبيان، لا ينطق إلا بما توحين ولا يستعذب إلا ذكر اسمك المحبوب الذي هو أحلى ما ينطق به بين الأسماء.

فهل ترغبين في أن يكون هذا اللقاء فاتحة الاتحاد والسعادة؟ وهل تسمحين لي أن أنظم في جيدك عقدا من الآلئ الحسان يحلو منظره في هذا الجيد الناعم الفتان، وتسمحين لي أن أضع في يدك هذا الخاتم الذهبي الذي أعددته ليكون أفضل علامة للمحبة والإخلاص؟

صفحه نامشخص