20

متوالی صالح

المتوالي الصالح

ژانرها

مضت على هذا الاجتماع تسعة أشهر، فحاز سليم شهادته العالية، وعاد إلى زحلة يتمتع بالراحة التي يحتاجها جسمه، فقضى شهرا كان أسعد أيام الحياة.

وسافر مع رفيق له إلى دمشق لمشاهدة تلك المدينة العظيمة التي تاقت نفسه لمشاهدتها من قبل، وعاد بعد أيام فوجد أن والده ذهب إلى العمروسة، فود لو أنه يسير إلى هنالك إلا أن والدته أخبرته أن والده عائد في المساء، فانتظر للمساء ولكن والده لم يعد في ذلك المساء ولا في صباح اليوم التالي فقلق سليم ووالدته، وذهب سليم إلى السوق ليرى بعض الأصحاب، فسمع أن هنالك قتيلا مسيحيا على طريق بعلبك، وقد أرسلت حكومة المعلقة قوة للتحقيق، فزاده هذا الخبر قلقا، ونزل إلى المعلقة؛ ليستعلم عن حقيقة الحادثة دون أن يخبر والدته، وإذا به يرى محمد الهلالي وبعض أهل العمروسة مكبلين بالحديد، فسأل عن السبب فقيل له: إن هؤلاء قتلوا تاجرا من زحلة، فأصبح النور في عينيه ظلاما، وكاد يسقط على الأرض لو لم يمسك به صديقه، قائلا: «تشدد فلا تخف فسوف تظهر الحقيقة.»

ثم وصلت عربة وفيها جثة القتيل، فأسرع سليم ليرى الجثة، فعلم أن القتيل إنما هو والده، فصرخ صرخة دوى لها الفضاء، وجرى نحو العربة رغم ممانعة الجند، ورمى نفسه على والده يبكيه.

اجتمع فريق من أعيان زحلة وكبارها، ونزلوا إلى المعلقة، وقابلوا القائمقام، وأعربوا له عن استيائهم مما جرى، ومن تعدي الأشرار على أبناء طائفتهم، وقالوا: إن هذه الأمور لا ترضي الحكومة، ولا تريح بال الأهالي، فإذا لم تتخذ الحكومة الاحتياطات الوافية لقطع دابر الأشرار وتأديبهم عم الفساد، فوعد القائمقام القوم بالاهتمام، وخرجوا من لدنه ساخطين.

احتفل بدفن سمعان إلياس في زحلة احتفالا شائقا يليق بمقامه، ومشى بجنازته كثيرون من علية القوم في زحلة والمعلقة، وكان بجانب سليم شيخ مسلم رقيق الجسم عالي الجبين، تدل سيماؤه على خلق طيب وذهن وقاد ونية صافية، فتساءل الناس: ومن يكون هذا الشيخ الذي يمشي بجانب ابن قتيل قتله المسلمون؟! وما معنى وجوده في مثل هذه الحال؟! هل ذلك كما يقولون «يقتل القتيل ويمشي بجنازته؟»

ولكن الشيخ كان يسير الهوينا، وهو مطرق في الأرض يفكر في أمر هام، غير مكترث بما يقول الناس فيه وما يفتكرون، عاد الناس إلى منازلهم، وعاد الشيخ مع سليم والناس متعجبون من أمره؛ لأنهم رأوه واقفا مع أهل الفقيد يستقبل المعزين، وكأنه من ذوي الفقيد وأقرب الناس إليه، ولما اجتمع الناس عرف بعض الوجهاء الشيخ الذي جاء إلى المعلقة في العام الماضي في حادثة العصابات.

واحتشد في المساء في منزل الفقيد عدد كبير من الوجهاء، وكبار البلدة، وجلسوا يتحدثون بما كان من أمر الجريمة الفظيعة التي قامت لها البلاد وقعدت، وما يجب اتخاذه من التدابير لمعاقبة المعتدين، وكان بين الحاضرين شاكر أفندي صديق القائمقام الحميم، فقال: إن القائمقام شدد جدا على أهل قرية العمروسة، وأمر بإلقاء القبض على محمد الهلالي نجل الرجل الذي كان ينام عنده المرحوم وزعيم عصابة من عصابات الأشرار؛ لأن الشبهة وقعت عليه، وألقي القبض على عدد من أصحابه أيضا، وسمعت أن هنالك من ساعد الحكومة وأبلغها أمر القاتل والمخبر وجيه كبير له صلة بالقائمقام.

فنهض الشيخ صالح، وكان متأكدا من براءة آل الهلالي، وعارفا أنهم آخر من يفكر بمثل هذه الجريمة، وقال: «حبذا العمل، ومن يكون هذا الوجيه الذي ساعد الحكومة هذه المساعدة الكبرى؟» فقال شاكر أفندي: «هو سلمان أحمد شيخ قرية مجاورة للعمروسة، ورجل معروف بثروته وجاهه، وقد خشي أن تقع الشبهة على الأبرياء من أهل بلدته، فأرسل للقائمقام كتابا سريا أنبأه فيه بما فعله الهلالي فيما مضى، وقال: إنه يعتقد أن محمد الهلالي هو القاتل طمعا بمال القتيل، ويرجح أنه لحقه إلى أن خرج من القرية فقتله هنالك ليضلل المحققين.»

فتأثر الشيخ صالح لهذه التهمة الباطلة، وثارت ثائرته، ثم وقف، وقال: «أيها الإخوان، أنا أعرف الناس بآل الهلالي فهم أبرياء.» وهنا قامت ضجة بين الحاضرين، فهذا يقول من جاء بهذا الشيخ الممخرق، وذلك يقول دعونا نسمع ما يقول وهلم جرا، فنظر الشيخ إلى الحاضرين مليا حتى سكنت جلبتهم، ثم قال: «لم يكن من رجل أحب إلي من المرحوم، فهو أعز الناس لدي ولدى أهل قريتي العمروسة، فليس بينهم من يبغض المرحوم أو ينقم عليه؛ فقد كان أكرم الناس أخلاقا وأطيبهم قلبا وأحسنهم معاملة، ومع أنه تاجر يهمه الربح، فقد كان أبسط التجار كفا، فلم يكن يرضى إلا بالربح الحلال، وهذا ما جعله محبوبا لدى الجميع، وقد تركنا منذ يومين، وودعناه جميعنا بقلوب طافحة بالمحبة والإخاء، فليس بيننا من ينظر إليه كغريب عنا؛ لأنه مسيحي كما سمعت بعض الحاضرين يهمس الآن.

وأنتم تعلمون أن عصابة من أشقياء المسلمين هاجمته في العام الماضي هو وابنه، فكان أهل العمروسة حربا على الأشقياء، وقد ألقوا القبض على بعض أفراد العصابة، وساقوهم إلى السجون، وأنا أعرف آل الهلالي كما أعرف أهلي، فهم يحبون المرحوم ويكرمونه وينزلونه في منزلهم كلما ذهب إلى قريتهم، فلا يعقل أن يرتكبوا مثل هذا الوزر مع صديقهم وأكثر الناس نفعا لهم بعد أن عاد من قريتهم صفر اليدين، ودفع كل ما كان يحمله من المال ثمنا للحبوب وهم أعرف الناس بذلك، وإذا لم يكن لهم مطمع بمال، فأي سبب يحملهم على قتل صديق صدوق، ولو شاءوا أخذ ماله لتربصوا له قبل دخول القرية لا بعد خروجه منها ودفع ما لديه، أما إذا كان أحد الوجهاء دس دسيسة سافلة فتلك مسألة أخرى، وهل يود حضرة المتكلم أن يفهمنا ما عرف الوجاهة عنده؟ فإذا كانت مواجهة الحكام عندما يزورون القرى أو كثرة المال الذي يجتمع لدى الإنسان فهذا ما لا نتفق عليه، فوالله إن صاحب الوجاهة المزعومة الذي تكلم عنه حضرة الأفندي لهو أحقر من كلب إذا قيس بابن الهلالي، فهذا رجل كريم النفس، طيب الخلق، عالي الهمة، جمع ماله بجده ونشاطه وحسن تدبيره، وذلك رجل سافل غدار، جمع ماله بالتقرب من الحكام، وظلم الناس، وتسخير الضعفاء لقضاء حاجاته وأغراضه.

صفحه نامشخص