نظرة وبيان في متشابه القرآن
العلامة عبد المجيد عبدالرحمن الحوثي حفظه الله تعالىنظرة وبيان في متشابه القرآن ¶ العلامة عبد المجيد عبدالرحمن الحوثي حفظه الله تعالى
أود ان أتقدم بالشكر الجزيل لكل من ساعد على إخراج هذا العمل واخص بالذكر الطلبة الأعزاء من منطقة بني الشماخ الذين قاموا بنساخة هذة المحاضرة من الأشرطة وكتابتها في الكراريس.
كما أخص بالذكر الأخ الأستاذ: عبد الله ناصر عامر الذي قام بتنقيح وتهذيب هذه المحاضرة وصياغة الكثير من العبارات التي كانت باللغة الدارجة.
وكذلك الأخ الأستاذ: ماجد عبد الله الحوثي
والأخ الأستاذ: محمد قاسم الهاشمي الذي شجعني على اخراج هذا العمل إلى حيز النور.
صفحه ۱
تنويه
على الأخ القارئ أن يلاحظ أن هذا الكتيب هو عبارة عن محاضرة ألقيت في احدى ليالي شهر رمضان المبارك عام 1420ه في منطقة بني الشماخ من بلاد الشرفين محافظة حجة وقد يكون هنالك بعض العبارات غير منسقة تنسيقا تاما نظرا للتفاوت الكبير بين أسلوبي المحاضرة والكتابة ولكن الغرض الأهم هو حصول الفائدة.
وفقنا الله لما يحب ويرضى وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
صفحه ۲
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين
وبعد:
فإن الواجب على كل إنسان أن يعرف الله سبحانه وتعالى حق معرفته؛ فالعلم نوعان: فرض عين، وفرض كفاية.
ففرض العين هو الواجب على كل مسلم ومسلمة، وهو الذي لا يتم إسلام المرء إلا به، وهو الذي جاء جبريل صلوات الله عليه سائلا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال له:
صفحه ۳
((ما الإيمان؟)) فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره))
فأول ما ابتدأ الله به في الذكر: الإيمان بالله، وهذا الإيمان هو البر الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة:177].
فالبر ليس التوجه إلى القبلة وأداء الصلاة بحركاتها وهيئاتها فقط، وإنما هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى ومعرفته حق معرفته، مع ما ذكره الله تعالى في الآية.
والإيمان بالله ليس هو العلم الواجب فحسب؛ بل هو رأسه ومحل القيادة فيه، وهو الذي أجاب به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السائل الذي جاء يطلب منه أن يعلمه من غرائب العلم؛ فأجاب صلوات الله عليه وآله على ذلك السائل قائلا: ((وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟)) فقال: وما رأس العلم؟
صفحه ۴
قال: ((معرفة الله حق معرفته)) قال: وما معرفة الله حق معرفته؟ قال: ((أن تعرفه بلا ند ولا شبيه ولا مثيل فإنه واحد ظاهر باطن أول آخر لا كفوء له ولا نظير، فذلك معرفة الله حق معرفته))(1)، فهذا رأس العلم وهو أول ما يجب على المؤمن أن يعلمه قبل كل علم، وهو الذي كان يعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه قبل أن يقرئهم القرآن، ولذلك ورد عن أحد الصحابة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الإيمان ونحن فتيان حزاورة(1)قبل أن نقرأ القرآن؛ فإذا قرأناه ازددنا إيمانا.
فكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلمهم القرآن إلا بعد أن يعلمهم الإيمان والتوحيد، فكان لا ينتقل بهم إلى قراءة القرآن إلا بعد تغذية عقولهم، وإشباعها بالإيمان، والمعرفة لله سبحانه فيزدادوا عند قراءته إيمانا مع إيمانهم.
ومعرفة الله هي الفريضة التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:28]، فالعلماء هم العارفون بالله سبحانه، بصفاته وما يجوز أن يثبت له، وما لا يجوز، وما يصح نسبته إليه، وما لا يصح.
صفحه ۵
فالعلم كما قلنا نوعان: فرض عين لازم على كل مسلم لا يسقط عن المكلف بفعل غيره له، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ))(2)، وجاء فيه عن النبي (ص) ((خمس لا يعذر بجهلهن أحد: معرفة الله، أن تعرفه ولا تشبهه بشيء، ومن شبه الله بشيء أو زعم أن الله يشبهه شيء فهو من المشركين، والحب في الله والبغض في الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،واجتناب الظلم ))(1)
وفرض كفاية: وهو العلم الذي إذا قام به البعض سقط وجوب تعلمه عن الآخرين.
ففرض العين الذي لا يسقط عن أحد بفعل غيره هو: معرفة الله وتوحيده وعدله، ومعرفة النبوة والإمامة، ومعرفة الوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذه هي أصول الإسلام التي لا بد للمسلم أن يعرفها بالتفكر والاستدلال، لا بالتقليد واتباع قول الغير، من دون بحث ومعرفة لصحة تلك الأقوال من عدمها.
ولذلك قال العلماء من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم: إنه لا يجوز التقليد في مسائل أصول الدين.
صفحه ۶
ويعنون بذلك أنك لا تكتفي بأن ينقل لك العالم ويقول لك: الله من صفته كذا اوالله لايجوز عليه كذا، دون معرفة يقينية بصحة ما يقوله، بالدليل الواضح الذي يكون علمك معه ثابتا وراسخا، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه مالت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال))(1)
فالمراد بأخذ الدين عن أفواه الرجال هو تقليدهم في أصول الدين،
التي لا يجوز فيها إلا العلم واليقين ليكون الإنسان على عقيدة ثابتة لا تزحزحها الشبهات والشكوك والأوهام.
[بعض وسائل معرفة الله وافتراق الناس فيها]
وسنحاول هنا أن نستعرض بعض ما يوصلنا إلى معرفة الله سبحانه من خلال الكتاب والسنة، من خلال الأحاديث النبوية والآيات القرآنية.
وقد انقسم الناس إلى فرقتين في مسائل صفات الله سبحانه:
فرقة يقال لها العدلية وهم أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم من المعتزلة وبعض الخوارج، وسموا عدلية: لأنهم قالوا بعدل الله وتوحيده وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين.
وفرقة أخرى يسمون المجبرة والمشبهة والمجسمة والحشوية، ويسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة.
صفحه ۷
هؤلاء نسبوا إلى الله بعض صفات المخلوقين، واستندوا في أقوالهم إلى بعض الآيات المتشابهة في القرآن الكريم وجعلوها حجة لهم.
وجاروا على أهل البيت ومن تبعهم، ونبزوهم بالألقاب السيئة،
فسموهم: بالقدرية والمعطلة والمبتدعة، ونسبوهم إلى الضلال، وإلى مخالفة ما جاء به الكتاب والسنة، وأنهم هم فقط أي من يسمون أنفسهم بأهل السنة المتمسكون بالكتاب والسنة. أما أهل البيت عليهم السلام فإنهم في نظرهم يحرفون نصوص القرآن، ويتأولونه على ما يوافق أهواءهم، ويتجاوزون بعقولهم ويغلون فيها حتى يفسدوا كلام الله، ويحولونه عن مراده وعن معناه الواضح إلى معنى لا يحتمله الكلام.
ويسمون أهل البيت عليهم السلام: بالمعتزلة والمتأولة والمعطلة الذين يتأولون على حد زعمهم الآيات والأحاديث ويخرجونها عن ظاهرها وذلك لكي لا يظهر أنهم مخالفون لأهل البيت عليهم السلام، بل كأنهم إنما يخالفون المعتزلة.
وأما هم فيزعمون أنهم باقون ومحافظون على نصوص القرآن والسنة، وأنهم لم يتأولوا، ولم يحرفوا، ولم يغيروا.
فنريد هنا استعراض مسألة التأويل في القرآن الكريم، وبالأخص استعراض الآيات التي ظاهرها التشبيه لله تعالى، والتي يستند إليها المشبهون ويثبتون بها الاشتراك بين الله وبين خلقه في كثير من الصفات.
صفحه ۸
[التحسين والتقبيح العقليين]
وبعد أن عرفنا انقسام الناس إلى فرقتين: أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم ونطلق عليهم اسم: العدلية.
والفرقة الأخرى: الحشوية والمجسمة والمجبرة، ويسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة؛
فلا بد من ذكر مقدمة ضرورية في العقل، وهل يدرك حسن الأشياء وقبحها أم لا؟
تقول العدلية: إن العقل يدرك أن هناك أشياء قبيحة وأن هناك أشياء حسنة، حتى لو لم يرد الشرع بذلك.
أي أننا ندرك بعقولنا حسن بعض الأشياء وقبح البعض الآخر، وإن لم ترد آيات ولا أحاديث تبين لنا حسن تلك الأشياء او قبحها.
أي أن العقل يدرك ذلك باستقلال عن الشرع؛ فالعقل يدرك أن هنالك أفعالا قبيحة يحكم بحسن ذم فاعلها واستحقاقه العقاب، وأن هنالك أشياء حسنة يحكم بحسن مدح فاعلها واستحقاقه المكافأة على فعله، وهذه مسألة يعرفها كل عاقل.
صفحه ۹
فإن كل من له عقل يدرك مثلا أن الظالم الذي يظلم الناس ويأخذ أموالهم بغير حق ويقتل الضعفاء والمساكين إنسان مرتكب للقبيح من الفعال، وأنه يستحق بأفعاله تلك الذم والعقاب.
حتى أن كل من لا يؤمن بالله ولا برسوله ولابدين من الاديان من العقلاء ليعرف أن الظلم قبيح، وأن من قتل الأطفال وأخاف النساء وأخذ الأموال بغير حق ظالم يستحق الذم والعقوبة على فعله.
وأن من أحسن إلى الضعفاء والمساكين والأرامل، وأعان الأعمى وأغاث الملهوف والغريق فإنه يعتبر محسن يستحق على فعله المدح والثناء والمكافأة،
وقد اتفق العدلية على أن العقل يدرك ذلك.
وقال المتسمون بأهل السنة: إنه لا قبيح إلا ما قبحه القرآن والسنة، ولا حسن إلا ما حسنه القرآن والسنة، وأنه ليس هنالك أمور قبيحة لذاتها ولا حسنة لذاتها.
حتى انه لو قال الله:إن الظلم حسن لأصبح حسنا، وكذا الكذب وغيره، ولو قال الله:إن شكر المنعم ورد الوديعة والإحسان إلى الضعيف قبيح لأصبح قبيحا.
فليس يدرك العقل عندهم حسنا ولا قبحا، وإنما المحسن والمقبح الشرع؛ فما حرمه الله فهو القبيح وما أحله فهو الحسن، ولا دخل للعقل في شيء من ذلك.
صفحه ۱۰
فيجاب عليهم: بأن ذلك صحيح وهو أن ما أمر الله به فهو حسن وما
نهى عنه فهو قبيح على معنى أن الله لا يحكم ولا يأمر إلا بما هو حسن، ولا ينهى إلا عن ما هو قبيح، لا على معنى ما يقوله المتسمون بأهل السنة: من أن الأمر من الله بالشيء هو الذي يجعله حسنا وإن كان قبيحا، وأن النهي عن الشيء هو الذي يجعله قبيحا وإن كان حسنا.
[ شاهد من القرآن على التحسين والتقبيح]
ولو لم يكن الحسن والقبح على ما رأته العدلية لما كان لتمدح الله تعالى معنى في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} [النحل:90].
فأخبرنا الله تعالى بأن هنالك عدلا وإحسانا، وأن هنالك منكرا وبغيا، وأن الله لا يأمر إلا بالعدل والإحسان، ولا ينهى إلا عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وليس على معنى أنه صار فحشاء ومنكرا حين نهى الله عنه، وإلا لما تمدح الله بأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر إن لم يصر فحشاء ومنكرا إلا بالنهي .
صفحه ۱۱
وعلى مذهبهم: أن أي شيء ينهى عنه الله فإن نهيه عنه يصيره قبيحا ومنكرا وفحشاء، حتى لو نهى عن العدل والإحسان لأصبح فحشاء ومنكرا، ولو أمر بالفحشاء والمنكر لأصبح عدلا وإحسانا عندهم تعالى الله عن ذلك .
فتمدح الله تعالى في هذه الآية ليس له معنى على مذهبهم
ونتج عن هذه القضية أن قالت المجبرة: إن الله سبحانه وتعالى لا يقبح منه قبيح؛ لأنه لم يكن مأمورا من أحد ولا منهيا من أحد، فلم يكن هناك شيء في حقه قبيحا.
قلنا: إن هنالك أشياء قبيحة،حتى لو فعلها الله سبحانه كالظلم والكذب لكان قد فعل القبيح، فلو أن الله عذب إنسانا وأدخله النار وخلده فيها بغير ذنب لكان هذا ظلما وقبيحا، ولكن الله لا يفعل هذا القبيح لأنه قد مدح نفسه بعدم فعله، ولأنه عدل حكيم، وفعله لمثل تلك القبائح ينفي عنه العدل والحكمة.
وعلى قاعدتهم تلك وهي أنه لا يقبح من الله قبيح :
لو أن الله أدخل الأنبياء النار وخلدهم فيها أبدا، وأدخل الفراعنة الجنة ورفعهم في أعلى الدرجات لكان هذا حسنا وجائزا من الله سبحانه وقوعه ولا يعتبر ظلما !!!.
وكذا لو خلق الله إنسانا وعذبه من حين خلقه إلى الأبد من دون أن يفعل أي جريمة لما كان ذلك ظلما عندهم.
صفحه ۱۲
قلنا: إذا لم يكن هناك ظلم في حق الله تعالى فما هو الظلم الذي تنزه عنه تعالى في قوله: {وما ربك بظلام للعبيد(46)} [فصلت]؟!!، ألم يكن هنالك ظلم أخبر الله تعالى في الآية أنه متنزه عنه لعدله وحكمته وغناه عنه؟!
فظهر بهذا أن الله يأمر بالحسن لأنه حسن في ذاته، وينهى عن
القبيح لأنه قبيح، وأن الأمر بالقبيح لا يصير القبيح حسنا، والنهي عن الحسن لا يصير الحسن قبيحا، والله لا يفعل ذلك لمنافاته لعدله وحكمته.
[النافون للتحسين والتقبيح العقليين لا يمكنهم إثبات صدق نبوة نبينا محمد(ص)]
وقد يقال : ما هي الفائدة من ذكر هذه المسألة هنا؟
فنقول: إننا نريد من إيرادها هنا أن نبين عدم صحة دعوى المتسمين بأهل السنة أنهم متمسكون بالكتاب والسنة؛ لأنهم على مذهبهم الذي ذكرناه لا يمكنهم في الحقيقة التصديق بالكتاب والسنة، وعليهم أن يأتوا لنا بالدليل على أن الرسول صادق على مذهبهم.
فإن قلت: وكيف تفرعت هذه المسألة أي مسألة التصديق بالرسل والبرهنة على صدقها على مسألة التحسين والتقبيح العقليين؟
قلنا: لأنه لا يمكن إثبات صحة الرسالة وصدق دعوة الأنبياء عليهم السلام إلا بإثبات التحسين والتقبيح العقليين والقول به.
صفحه ۱۳
وذلك أنا لما أثبتنا دليل العقل وجعلناه من أعظم حجج الله، أثبتنا معرفة الله بالعقل وبما دلنا على معرفته مما أتقن من حكيم صنعته؛ فعرفنا الله سبحانه وعرفنا صفاته من كونه موجودا، حيا،قادرا على كل شيء، عالما بكل شيء، سميعا بصيرا، غنيا عن كل شيء...إلى غير ذلك من صفات الله تعالى.
فلما عرفنا ذلك وجاءنا رجل يدعي أنه رسول من عند الله وأن الله أمره أن يبلغنا بتكاليف واجبة علينا، وأن من أخل بما كلف به فإنه سيناله من خالقه عذابه الأليم.
وجب علينا عند ذلك أن ننظر بعقولنا في هذه الدعوى لنعرف صدقها من كذبها؛ فإن كانت صادقة عملنا بها واتبعنا هذا الرسول لكي ننجى من هذا العذاب الأليم؛ لأن دفع الضرر عن النفس واجب كما يعرفه كل عاقل.
وإن كان هذا المدعي للنبوة كاذبا أمنا مما توعدنا به، وعرفنا أنه لن ينالنا منه أي ضرر؛
فعند أن يقول هذا المدعي للنبوة: أنا آتيكم بدليل على صدق كلامي وصحة نبوتي، وذلك أني أفعل لكم فعلا لا يستطيع فعله إلا الله سبحانه وتعالى، وجاءنا بالمعجزة صدقناه لعلمنا أنه لو لم يكن صادقا لما صدقه الله بهذه المعجزة،لأن تصديق الكاذب قبيح والله سبحانه لا يجوز عليه فعل القبيح،لعلمه بقبح القبيح،وغناه عنه، وعلمه باستغنائه عنه، ومن كان كذلك استحال عليه فعل القبيح.
صفحه ۱۴
وأما المخالفون فإنهم لما جوزوا على الله فعل القبيح وقالوا: لا يقبح من الله قبيح لم يستطيعوا أن يثبتوا صحة نبوة الأنبياء صلوات الله عليهم وصدق ما جاءوا به؛ لأنهم إذا قالوا نعلم صدقهم لأنهم جاءونا بالمعجزات التي لا تكون إلا من الله سبحانه، فلما جاءوا بها عرفنا أنهم صادقون.
قلنا لهم: وما يدريكم لعل الله أعطاهم المعجزات وهم كاذبون، وما المانع من ذلك عندكم؟
فلا يجدون بدا من أن يقولوا: المانع أن ذلك قبيح والله لا يفعل القبيح؛ فيخرجوا من مذهبهم ويرجعوا إلى ما هو الحق من مذهبنا.
أو يعاندوا ويبقوا على مذهبهم من أن الله لا يقبح منه قبيح
وتبطل عليهم الشريعة بكاملها حيث لم يستطيعوا إثبات حقيتها، وأن كل ما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم فهو من الله عز وجل.
[ أقوال علمائهم في محاولة التخلص من هذا الإشكال ]
ولهذا فإن علمائهم المحققين لما وصلوا إلى هذه المسألة اضطربوا اضطرابا شديدا، ولم يجدوا ما يدفعون به هذا الإلزام.
ولذلك فإن الرازي قال: صحيح أنه يلزم على مذهبنا أنه يمكن أن تكون المعجزة نصبت على يد كاذب أو صادق، وأننا لا نستطيع أن نجزم بأنها نصبت على يد صادق.
صفحه ۱۵
ولكن أنتم أيضا يدخل في دليلكم الاحتمال، وذلك أنكم تقولون: إن إنزال الله للمعجزة على يد مدعي الرسالة هو بمثابة أن يقول له الله: أنت صادق، وقوله: أنت صادق خبر؛ والخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب.
إذا فقول الله له: أنت صادق، محتمل للصدق والكذب، وكذلك ما يكون بمعناه وهو المعجزة فإنها تبقى محتملة للصدق والكذب.
قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
أولا: أن هذا غير مخلص ولا رافع لورود الإشكال على مذهبكم بل الإشكال باق ولا ينفعكم إلزامكم لنا بالاحتمال الذي أوردتموه؛ لأنه لو جاء إليكم أحد اليهود أو النصارى أو البراهمة المنكرون لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطالبكم بدليل قاطع على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم فبماذا تجيبون عليه؟
هل إذا قدح في دليلكم بأنه لم يثبت به أن المعجزة نصبت على يد صادق قطعا؟ ستجيبون عليه وتقولون له: والمعتزلة كذلك أيضا دليلهم محتمل مثل دليلنا.
فيقول لكم: أنتم والمعتزلة جميعا مبطلون ولستم على شيء، أليس يكون قد أفحمكم بهذا؟
صفحه ۱۶
ثانيا: أنا لا نسلم لكم ورود الاحتمال الذي ذكرتموه على دليلنا فإنا وإن قلنا: إن الخبر يحتمل الصدق والكذب، فإنما نعني بذلك الخبر المجرد بدون نظر إلى أمر آخر من متكلم أو أمر خارجي.
فأما بالنظر إلى غيره فقد يكون مقطوعا بصدقه كما إذا قال لك شخص: أنت موجود، أو: هذه سماء، أو أرض؛ فهذا لا يجوز فيه الكذب، بل هو مقطوع بصدقه.
وقد يكون مقطوعا بكذبه كما إذا قال لك شخص: أنت معدوم، أو الأرض فوقنا، فإنه يقطع بكذبه وإن كان كلامه خبرا فهو غير محتمل هنا.
وما نحن فيه من المقطوع بصدقه، وذلك لأن الخبر من الله تعالى، والله يستحيل عليه الكذب لأنه قبيح والله لا يفعل القبيح.
فلو قال الله للرسول: أنت صادق، كان قوله صدقا قطعا؛ فكذا ما كان في معناه، وهو المعجزة، فعرفت أنه لا ورود لهذا الاحتمال على مذهبنا.
وأما ابن الحاجب: فإنه أجاب على هذا الإشكال بأن قال: إنما قلنا إن المعجزة تدل على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان يجوز على الله أن ينصب معجزة على يد كاذب لأن الله قد أجرى العادة بأن لا ينصب المعجزة إلا على يد الصادق.
قلنا جوابا على ذلك أي ما أورده ابن الحاجب :
صفحه ۱۷
أولا: من أين ثبت لك هذه العادة، وما الدليل عليها؟ وما يؤمنك أن كل مدع للرسالة يكون غير صادق في دعواه؟ وأن تكون العادة أن ينصب الله المعجزة على يد الكاذبين على مقتضى مذهبكم ؟
ثانيا لو سلمنا هذه العادة:فبماذا تثبت نبوة أول رسول وثاني رسول قبل أن تثبت هذه العادة،
ثالثا:ما يدريك لعل الله خرق هذه العادة وغيرها في نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أليس لله سبحانه خرق العادات؟!
فإذا عرفت أن هذا الكلام الذي هو أوهى من نسج العنكبوت هو كلام المحققين من علمائهم، عرفت أنهم بنفيهم للتحسين والتقبيح العقليين قد سدوا على أنفسهم باب الشريعة ومعرفة صحة القرآن والسنة.
فكيف يدعون بعد هذا أنهم المتمسكون بالكتاب والسنة؟!!
ولهذا اعترف الرازي بفساد مذهبهم قائلا: لا يمكن إثبات صحة دعوة الأنبياء إلا على مذهب المعتزلة(1)،
وصدق الله تعالى حيث يقول: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب(19)} [الرعد].
صفحه ۱۸
فهذا أول ما يجاب به عليهم:
فنقول لهم عندما يريدون أن يستدلوا بالآيات المتشابهة: لا يصح لكم الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلا بعد أن تثبتوا أولا بالأدلة القاطعة صحة ما تستدلون به.
ولن يجدوا ولله الحمد على مذهبهم وقواعدهم دليلا على ذلك،
وهذا من الأجوبة الجملية الواردة عليهم.
[ نزول القرآن على لغة العرب وأساليبهم ]
الجواب الثاني: أن يقال لهم: يقول الله سبحانه وتعالى: {إنا أنزلناه قرءانا عربيا(2) } [يوسف]، ويقول: {قرءانا عربيا غير ذي عوج(28)} [الزمر:]، ويقول: {بلسان عربي مبين(195)} [الشعراء]، ويقول: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه(4)} [إبراهيم ].
فإذا: قد ثبت بالأدلة القاطعة أن القرآن أنزل بلغة العرب ولسانها وطريقتها في تعبيرها عن مرادها؛ فإذا رأينا الله سبحانه ذكر في القرآن الكريم: (الوجه واليدين والساق والجنب) وغيرها من الألفاظ ونسبها إليه عز وجل، وجب علينا أن نبحث عن معانيها في لغة العرب.
فلما بحثنا عن معانيها في لغتهم وجدنا لها معان حقيقية وأخرى مجازية.
صفحه ۱۹
فالوجه يطلق حقيقة على عضو من الإنسان مخصوص يحتوي على العينين والأنف والفم.
ومجازا: يطلق على ذات الشيء، كما يقال: هذا وجه الصواب، ويطلق على الذمة والعهد كما يقال: هذا المال في وجهي، أي في ضماني وذمتي، ويطلق على غير ذلك من المعاني.
ووجدنا اليد كذلك تطلق حقيقة على العضو المخصوص المؤلف من الراحة والأصابع، وتطلق مجازا على النعمة والقدرة وغيرها من المعاني.
وكذلك الساق والجنب وغيرها من الألفاظ الموهمة للتشبيه نجد
لها في اللغة معنى حقيقيا ومعنى مجازيا.
[ المتسمون بأهل السنة يتأولون ولكن !! ]
فلا يخلو هؤلاء المدعون للتمسك بظواهر هذه الآيات التي ذكرت فيها تلك الألفاظ:
إما أن يحملوها على معانيها الحقيقية على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فيثبتوا لله سبحانه وجها كما هو معروف في اللغة وهو العضو المخصوص المؤلف من خدود وأنف وفم وعينين.
وكذا يثبتوا له يدا مؤلفة من أصابع وراحة، وكذا جنبا حقيقيا كما هو معروف عند أهل اللسان العربي، وغير ذلك من الأعضاء، فيثبتوا التشبيه صراحة ويتمسكوا بهذه الظواهر.
صفحه ۲۰