لم يكن ادعاء روز بالنسيان كذبا محضا؛ فقد كانت تتذكر الحقائق، لكنها نسيت المشاعر. تحولت كورا إلى فتاة ضخمة البنيان داكنة البشرة متجهمة الوجه مستديرة الكتفين تحمل دوما كتب المدرسة الثانوية. لم تفدها الكتب كثيرا، فقد رسبت في المدرسة الثانوية. وكانت ترتدي بلوزات عادية وتنورة لونها أزرق داكن بدت فيها بدينة. لعلها لم تتحمل فقدان فساتينها الأنيقة، فرحلت كورا عن المدينة، وحصلت على وظيفة أثناء الحرب. التحقت بالقوات الجوية، وكانت تظهر في الإجازات بالزي العسكري المهيب. وتزوجت من طيار.
لم تنزعج روز كثيرا بهذه الخسارة، وهذا التحول؛ فالحياة برمتها سلسلة من التطورات المفاجئة، هذا ما تعلمته، لكنها كانت تفكر فقط فيما كانت عليه فلو من رجعية وتخلف؛ إذ أخذت تكرر تذكرها لتلك القصة وتجعل كورا تبدو أسوأ وأسوأ، فتصفها بصاحبة البشرة الداكنة، وكثيرة الشعر، والمتبخترة في مشيتها، والبدينة. وبعد ذلك الحين بفترة طويلة، رأت روز فلو وهي تحاول أن تحذرها وتغيرها، الأمر الذي لم يكن مجديا. •••
تغيرت المدرسة بنشوب الحرب؛ فتضاءل حجمها، وفقدت كل ما بها من طاقة الشر، وروح الفوضى، ونمط الحياة السائد فيها. التحق الصبية الأقوياء بالحرب. تغيرت هانراتي الغربية أيضا؛ فغادر الناس للالتحاق بوظائف في الحرب. حتى من تخلفوا منهم في المدينة، كانوا يعملون، ويحصلون على أجور أعلى مما حلموا به من قبل. ساد الاحترام، فيما عدا الحالات التي اتسمت بأقصى صور العناد. غطيت أسطح البيوت بالألواح الخشبية بالكامل، بدلا من الرقع التي كانت تكسوها. وطليت المنازل، أو غطيت بألواح تبدو على شكل الطوب. اشترى الناس ثلاجات وتباهوا بها. عندما كانت روز تفكر في هانراتي الغربية أثناء الحرب وأثناء السنوات السابقة لها، رأت الفترتين مختلفتين تماما، كما لو كانت قد استخدمت إضاءة مختلفة في المرحلتين، أو كما لو كان كل شيء مسجلا على شريط فيلم طبع على نحو مختلف في المرتين. فبدا كل شيء نظيفا ومرتبا ومحدودا وطبيعيا في مرة، وكئيبا وغير واضح، ومشوشا، ومزعجا في المرة الثانية.
المدرسة ذاتها تحسنت أحوالها؛ فتم تبديل النوافذ، وثبتت المكاتب بالأرضيات، واختفت الكلمات البذيئة تحت الطلاء الأحمر الباهت، وهدمت دورتا مياه الصبية والفتيات، وردمت الحفر فيهما. رأت الحكومة وإدارة المدرسة أنه من الأفضل وضع مراحيض بصناديق طرد في القبو الذي تم تنظيفه.
تبنى الجميع ذلك التوجه. توفي السيد برنز في الصيف، ومن اشتروا منزله أقاموا فيه دورة مياه، وأقاموا كذلك سورا عاليا من الأسلاك لمنع أي شخص في فناء المدرسة من الوصول إلى حديقتهم واقتلاع أزهار الليلك الخاصة بهم. أقامت فلو دورة مياه أيضا آنذاك، وقالت إنهم بإمكانهم هم أيضا التمتع بتلك الرفاهية التي منحتها الحرب للناس.
لزم على جد كورا التقاعد، ولم يخلفه في تلك الوظيفة أحد بعد ذلك قط.
نصف ثمرة جريب فروت
خاضت روز امتحان القبول بالمدرسة الثانوية، وعبرت الجسر لتلتحق بالمدرسة في هانراتي.
ضم الحائط بالمدرسة أربع نوافذ كبيرة ونظيفة، فضلا عن أضواء الفلورسنت الجديدة. تناولت الحصة موضوع «الصحة والإرشاد»؛ وكانت فكرة جديدة آنذاك. اختلط الصبية بالفتيات في الفصل حتى انتهاء فترة الكريسماس لينتقلوا بعد ذلك لدراسة «الحياة الأسرية». كانت المعلمة صغيرة السن ويملؤها التفاؤل. ارتدت بذلة حمراء أنيقة تتسع فوق فخذيها. أخذت تسير جيئة وذهابا بين الصفوف، مستمعة إلى إجابات الطلاب عن السؤال الذي طرحته بشأن ما تناولوه في وجبة الإفطار؛ وذلك لكي تتحقق من اتباعهم قواعد «دليل الأغذية الكندي».
سرعان ما اتضحت الفوارق بين الريف والحضر في الإجابات عن هذا السؤال. «بطاطس مقلية.» «خبز وشراب ذرة.» «شاي وعصيدة.» «شاي وخبز.» «شاي وبيض مقلي ولحم مملح.» «فطيرة زبيب.»
صفحه نامشخص