لنعد إلى داغير؛ فإنه حين رجع إلى منزله كان منهوك القوى؛ فإنه لم يكن يستطيع السير بعد، غير أنه كان واثقا أن الخطر يدنو منه كل يوم، وأنه لا رجاء له بالنجاة إلا إذا تمكن من الفرار، وكيف يهرب دون أن يأخذ المال الذي سلبه من فولون وخبأه في الغابة؛ فإنه لم يرتكب جريمة القتل إلا لهذا المال.
ولم تكن الغابة تبعد أكثر من ساعة، ولكن هيهات أن يستطيع الوصول إليها ماشيا، فافتكر أن يذهب راكبا، ودعا الخادم فأمر أن يعد له مركبة الصيد في الساعة السادسة من الصباح.
ونام ليلته وهو شديد الجزع، وفي الصباح ركب المركبة وحده، وكان هو يسوقها ودفعها إلى الغابة، بينما كان كلوكلو نائما بين الأدغال والرقيب ساهرا مختبئا ينظر إليه من حين إلى حين.
ولما وصل إلى الغابة ومر بالمكان الذي قتل فيه فولون أغمض عينيه بالرغم عنه، وضرب الجواد بالسوط كي يسرع السير ويبعد عن هذه الذكرى، كأنما العواطف الإنسانية عادت إلى قلبه الوحشي، وعطف إلى جهة البحيرة حتى وصل إلى الأدغال المحدقة بها، فأوقف المركبة ومشى بين تلك الأدغال.
كان الرقيب مختبئا بين تلك الأدغال يراقب كلوكلو كما قدمنا، وفيما هو على ذلك سمع وقع خطوات، فالتفت إلى كلوكلو فوجده لا يزال نائما، فقال في نفسه: ترى من يكون هذا القادم؟ فإني إذا بقيت في موضعي لا أراه، وإذا خرجت أخاف أن يراني. وقد التفت عند ذلك إلى كلوكلو فرآه قد فتح عينيه، وأنه ينظر محدقا إلى جهة البحيرة، وقد برقت عيناه، فقال في نفسه: لا شك أنه يحدث ما يدعو إلى انذهال كلوكلو، ولا بد لي أن أرى ما يجري.
وقد أزاح عند ذلك بملء العناية فرعا غليظا كان يحول بينه وبين الطريق، فرأى رجلا يسير إلى البحيرة لم يستطع أن يعرفه؛ لأنه لم يكن يرى غير ظهره، حتى إذا وصل إلى المياه نظر إلى ما حواليه نظرة الفاحص الخائف، ونزل إلى تلك المياه فبلغت إلى ركبتيه، فدهش الرقيب مما رآه ونظر إلى كلوكلو فرآه يكاد يفترس داغير بنظراته، فقال في نفسه: لماذا كلوكلو ينظر إليه هذه النظرات؟ وأي شأن لهذا الرجل في البحيرة، وهو يمشي فيها دون أن يخلع نعليه؟ وما عساه يجد هناك غير الضفادع؟
ثم اختلف المنظر فجأة فرأى أن داغير قد ارتعش ارتعاشا عنيفا؛ فإنه التفت اتفاقا وهو يسير في المياه فرأى كلوكلو مضطجعا بين الأدغال وهو ينظر، فكان ارتعاشه من التقاء النظرات.
ولكنه ملك نفسه بسرعة، وبعد أن وقف بضع ثوان في البحيرة عاد إلى الشاطئ، وجعل يسير باحثا في التراب، كأنه يقتفي أثر طريدة يطاردها، ثم خرج من بين الأدغال وتوارى عن الأنظار، فركب مركبته وانصرف عائدا إلى المنزل وهو على حالة من الاضطراب لا تصفها الأقلام؛ فإنه لو لم ير كلوكلو ينظر إليه لأخرج المال الذي دفنه في البحيرة وافتضح أمره؛ إذ لا برهان على الجناية أمتن من هذا البرهان.
غير أنه أخذ يبحث في الحادثة بحثا مدققا فاطمأن؛ إذ قال في نفسه: إما أن يكون كلوكلو جاء إلى هنا ليصطاد، وإما أنه أتى لينام، وهو في الحالتين غير عالم بشيء من أمر الحقيبة؛ إذ كيف يخطر له أني خبأتها تحت المياه؟ أما انبغاته من اجتيازي المياه فهو أمر طبيعي؛ ولذلك فقد كان خوفي في غير محله.
أما كلوكلو فإنه لبث هنيهة وهو شبه المأخوذ مما رآه، ثم خطر له أن يقتفي أثره ولكنه سمع صوت المركبة تسير به فسار إلى المكان الذي مشى فيه داغير من البحيرة، واقتدى به فنزل إلى المياه، ومشى في نفس طريقه دون أن يعلم سر نزوله إلى الماء، ثم عاد وجلس على الضفة وأخذ يفتكر بحل هذا اللغز.
صفحه نامشخص