مؤتمر النجف ٢٤، ٢٥، ٢٦ شوال ١١٥٦ هـ
من مذكرات علامة العراق وعماد هذا المؤتمر
عبد الله بن الحسين السويدي العباسي ١١٠٤ - ١١٧٤
_________
مؤتمر النجف = الحجج القطيعة لاتفاق الفرق الإسلامية: (طبع بالقاهرة سنة: ١٣٢٤هـ)، (وفي بغداد سنة: ١٩٨٨هـ)، (ونشر ملخصها المرحوم شاعر الشام خليل مردم بك سنة ١٣٧٩هـ، في مجلة مجمع الشام. ج٨. ص:٤٤٩، وترجمت إلى التركية)، (وطبعت أيضًا في القاهرة ونشرة مرتين في سنة: ١٣٢٦هـ)، (كما قدم مؤتمر النجف الأستاذ محب الدين الخطيب وقد طبع أيضًا بدولة قطر، والمملكة العربية السعودية أكثر من مرة).
[التعريف بالمؤلف] (*) (الإمام عبد الله بن حسين بن مرعي السويدي (١) العباسي الهاشمي) أبو البركات جمال الدين البغدادي هو الإمام العالم العلامة ناصر السنة السنية الفقيه الجليل الشريف / أبي البركات عبد الله جمال الدين ابن الإمام الشيخ حسين أبي الخير بن أبي البقاء مرعي بن الشيخ ناصر الدين بن حسين خير الدين بن علي أبو المعالي بن أحمد أبي المحامد بن الأمير محمد المدلل (٢) بن عبد الله أبو الفتوح الحسين بن علي بن عبد الله بن الحسين بن علي ابن أبي بكر أمير المؤمنين الخليفة أبو منصور الفضل المسترشد بالله بن الخليفة أبو العباس أحمد المستظهر بأمر الله العباسي الهاشمي. وكنيته (أبي البركات)، ويلقب بـ (بجمال الدين) (٣). _________ (١) لقب السويدي يطلق على كافة ذريته الآن وكان الشيخ عبد الله هو أول من عرف بهذا اللقب حيث كفله بعد وفاة أبيه كما ذكرنا بعاليه خاله العلامة الشيخ (أحمد بن سويد) وأخذ بداية علمه عليه، ولمزيد شهرة خاله الشيخ أحمد بن سويد بالمشيخة والعلم عرف الأول بلقبه، وقد كان ذلك شائعًا عند العلماء مثل أن يأخذ أحدهم على بعض المذاهب أو الشيوخ فيحمل لقبه حيث يقال .. فلان الشافعي، أو المالكي وهكذا. (٢) الأمير أحمد المدلل: هو الجد الأعلى (لقبيلة آل بو مدلل) القاطنين بمنطقة (دور تكريت، ونواحي سامراء) بالعراق في عهدنا هذا وتعرف هذه القبيلة باسمه، وقد برز منهم الكثير من العلماء والمفكرين والسياسيين، كان لهم أدوارًا هامة، ومؤثرة في كافة الحكومات المتعاقبة على العراق، وآل السويدي فخذ ينحدر من هذه القبيلة .. راجع صفحة (مكنز الأنساب العباسية). (٣) جمال الدين: كناه بذلك شيخه: (العلامة الشيخ محمد الغلامي) المتوفي سنة (١١٨٤هـ) حينما قرأ عليه (هدية الحكمة) في مدينة الموصل. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أثبتنا هذه الترجمة من بعض مواقع الإنترنت للفائدة
مولده ونشأته: عالم من عظماء أئمة الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري، ولد صوب الكرخ بالجانب الغربي من بغداد في سنة: (١١٠٤هـ)، ونشأ بها. ولما بلغ من العمر ست سنوات توفى والده، فكفله خاله شقيق والدته العلامة الشيخ (أحمد بن سويد)، وأقرأه القرآن الكريم، وعلمه الكتابة، والقراءة، وشيء من الفقه، والنحو والصرف، وأجازه بما يجوز له. ثم أخذ على مشايخ عدة بالعراق، والشام والحجاز، منهم: (العلامة محمد الغلامي، الذي قرأ عليه كتاب: هدية الحكمة بالموصل) (١)، (والعلامة محمد بن إسماعيل القاهري)، (والشيخ أبو الطيب أحمد بن أبي القاسم المغربي المدايني)، (والشيخ آلي أفندي الرومي القسطنطيني - صاحب الثبت المشهور في الروم). وأخذ قواعد اللغة والنحو عن عدة علماء منهم: (الشيخ حسين بن نوح الحديثي الحنفي البغدادي) (٢)، (والشيخ سلطان ابن ناصر الجبوري الشافعي الخابوري) (٣)، (والشيخ حسين نظمي زادة) (٤). وأخذ جانبًا كبيرًا في الفقه والأصول على: (الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرحبي مفتي الشافعية بالعراق) (٥)، (والشيخ درويش العتاقي)، (والشيخ علي الأنصاري الأحسائي). وأجاز له مكاتبة: (الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي)، (كما أخذ مشافهة في بغداد عن: (الشهاب أحمد بن محمد عقيلة الملكي) (٦)، (والشيخ محمد المصري)، (وذلك حين قدم الأخير بغداد زائرا في سنة: (١١٤٣هـ)، وكذلك أخذ عن الشيخين: (محمد بن الطيب المدني) والشيخ العارف بالله مصطفى بن كمال الدين البكري) حين وردا بغداد أيضًا للزيارة (٧). وكان قد أرتحل للموصل لطلب العلم فقرأ على علمائها، وأتم المادة في المعقول والمنقول على: (الشيخ يس أفندي الحنفي)، (والقاضي الشيخ فتح الله أفندي الموصلي الحنفي) (٨). ثم رجع إلى بلده بغداد مكملًا بسائر العلوم العقلية والنقلية، وتصدر للتدريس والإفادة في داره، وفي حضرة مزار (الإمام أبي حنيفة النعمان)، (وفي المدرسة المرجانية)، (وانتفع به طلبة العلم وأستمر عاكفًا على بث العلوم والإفادة. _________ (١) انظر عن الغلامي في كتاب: (العلم السامي-في ترجمته للمرحوم محمد رؤوف الغلامي)، (وتاريخ الأدب العربي. ج٢ ص: ٢١٣، ٢٧٨،٢٧٩)، (والروض النضر. ج١ ص: ٤٣٠). (٢) الشيخ حسين بن نوح الحديثي: من علماء بغداد، ومن مدرسي المدرسة القمرية في جانب الكرخ من بغداد، وقد ذكره وأثنى عليه الإمام عبد الله السويدي العباسي في كتابه (النفحة المسكية). (٣) الشيخ الجبوري: من أعلام عصرة، ولد بالموصل في سنة: (١٠٧٢هـ)، وتوفى بالطريق أثناء عودته من الحج، وله آثار مخطوطة في اللغة، والفقه، والقراءة، وقد ذكره وأشاد بفضله كثيرون منهم صاحب: (تاريخ الأدب العربي في العراق. ج٢ ص:١٧٦)، وتاريخ الأسرة العلمية في بغداد) (والرسالة الإسلامية ص: ٦٢،٦٣). (٤) الشيخ حسين نظمي زاده: من علماء بغداد، كان عالمًا بعدة لغات، ولد في سنة (١١٣٠هـ) وكانت وفاته في سنة: (١٠٥٣هـ) وهو شقيق الشيخ مرتضى آل نظمي صاحب (كلشن خلفا). (٥) الشيخ الرحبي: كان مفتي الشافعية بالعراق، واحد العلماء الأعلام في عصره، ترجم له العمري في: الروض النضر. ج٣. ص: ٨٢. (٦) محمد بن عقيلة المكي: هو جمال الدين المعروف بابن عقيلة، وهو من علماء مكة المكرمة وتوفي بها سنة (١١٥٠هـ) أخذ عنه عالمنا صاحب الترجمة في بغداد أثناء زيارته لها، وله آثار مخطوطة في الفقه، والتاريخ، والحديث: انظر عنه أيضاَ في: (سلك الدرر. ج٤ ص:٣٠)، ومعجم المؤلفين. ص ٢٦٤)، (وتاريخ الأدب العربي لبرو كلمان. ج٢. ص:٣٨٦ - والذيل ٢:/٥٢٢ الطبعة الألمانية). (٧) النفحة المسكية: للإمام عبد الله السويدي العباسي (ق/١٧). (٨) الشيخ فتح الله الموصلي: هو فتح الله بن موسى بن علي المري الموصلي، من أعلام قضاة العراق، تولى قضاء البصرة، وهو من مواليد سنة: (١٢٠٠هـ) وتوفي بالموصل سنة في: (١١٠٧هـ).
رحلته المكية: توجه للحج في سنة (١١٥٧هـ) شكرًا لله تعالى على ما أتم على يده من إقناع (نادر شاه) ملك العجم واتباعه من علماء وجمهور (الرافضة) بمنع سب أصحاب رسول الله صلى الله علي وسلم، وخضوعهم لمذهب أهل السنة والجماعة كما سيأتي ذكره، وقد كان طريق رحلته ذهابًا من بغداد إلى الموصل، ومنها إلى حلب ثم دمشق والشام، ومنها إلى المدينة المنورة، ثم مكة المكرمة. وفي رحلة حجه هذه أخذ عنه، واستجاز منه عددًا كبير من علماء تلك البلدان التي مر بها، كما استزاد وتلقى عن أفاضل علمائها، ونورد هنا بعض تفاصيل تلك الرحلة المباركة كما يلي: ١ - في الموصل: أجاز بالموصل العديد من العلماء منهم: (الشيخ سليم أفندي)، (والشيخ محمد العبدلي) (والشيخ محمد بن حسين غلامي زادة)، (والشيخ يعقوب)، (والشيخ عبد العزيز الموصلي). ٢ - في حلب: القى في حلب الشهباء دروسًا عامة، وخاصة في العلوم الفقهية، وأخذ عنه بها خلق كثير منهم: (الشيخ محمد العقاد الشافعي)، (والشيخ الشريف محمد بن إبراهيم الطرابلسي الحنفي مفتي حلب ونقيبها)، (والشيخ محمد أفندي مفتي الحنفية)، (والشيخ أبو المواهب مفتي الشافعية) (والشيخ محمد الزنار)، (والشيخ طه بن مهنا الجبرين)، (والشيخ عبد الكريم بن أحمد الشرباتي)، (والشيخ علي الدباغ)، (والشيخ محمد بن الشيخ صالح المواهبي)، (والشيخ مصطفى الغريب المقدسي)، (والشيخ علي العطار)، (والشيخ عبد السلام الحريري) (والشيخ محمد المكيني)، (والشيخ قاسم البكرجي). ٣ - في دمشق: وأقرأ بدمشق أيضًا، وألقى دروسًا بها، وأقبل عليه الطلبة لتلقي العلم، وأخذ عنه بها جماعة من العلماء الأجلاء منهم: (الشيخ عبد الرحمن الصناديقي)، (والشيخ سلمان الشيخ، والشيخ عبد الوهاب أبناء الشيخ مصطفى شيخ الأحياء)، (والشيخ عبد القادر الدمشقي)، (والشيخ محمد العجلوني العمري)، (والشيخ صالح الجنيني). ٤ - في المدينة المنورة: ولما وصل المدينة المنورة. أقرأ بها وألقى دروسًا عامة، وخاصة (الكتب الستة) وكان إلقائه للدروس بالروضة المطهرة، وحضر دروسه الكثير الأئمة الأفاضل منهم: (الشيخ العماد إسماعيل ابن محمد العجلوني)، والعديد من أقرانه. ومن العلماء الذين أستزاد منهم وأخذ عنهم أثناء رحلته للحرمين الشريفين في ذهابه، وإيابه، بالبلدان التي مر بها فهم: في المدينة المنورة: ولما وصل المدينة المنورة. أقرأ بها وألقى دروسًا عامة، وخاصة (الكتب الستة) وكان إلقائه للدروس بالروضة المطهرة، وحضر دروسه الكثير الأئمة الأفاضل منهم: (الشيخ العماد إسماعيل ابن محمد العجلوني)، والعديد من أقرانه. ومن العلماء الذين استزاد منهم وأخذ عنهم أثناء رحلته للحرمين الشريفين في ذهابه، وإيابه، بالبلدان التي مر بها فهم: أ. بدمشق أخذ عن (الشيخ العماد إسماعيل العجلوني الجراحي)، (والشيخ الشهاب أحمد بن علي المنيني)، (والشيخ صالح بن إبراهيم الجنيتي)، (والشيخ عبد الغني الصيداوي)، وقد اجتمع بهذا الأخير بدمشق. ب. وبمكة المكرمة أخذ عن أكابر الأعلام من علماء الحجاز منهم: (العالم الجليل الشيخ عمر السقاف سبط الشيخ عبد الله بن سالم البصري)، كما أخذ كذلك عن: (الشيخ العلامة سالم بن عبد الله بن سالم البصري).
بعض ما قيل عنه: وقد ترجم له وأطنب في مدحه والثناء عليه العديد من أكابر علماء الأمة، فمن ذلك ما قاله عنه الإمام العلامة الفاضل مفتي بغداد السيد/ محمود شكري الآلوسي عند ترجمته له في كتابه المسك الأذفر (١) حيث يقول: (هو عبد الله أفندي بن الشيخ حسين السويدي العباسي البغدادي، شيخ المعارف وإمامها والآخذ بيد زمامها، سابق الأماجد فسبقهم بآدابه، ولم ينف إذ ذاك ثوب شبابه، لم يزل مجتهدًا في نيل المعالي وكم سهر في طلبها الليالي .. إلى أن قال: إذا ما ذكرنا مجده كان حاضرًا نأي أو دنا يسعى على قدم الخضر ثم أستطرد بقوله: (فبماذا أصفه وقد بهر، وبدا فضله كالصبح إذا أسفر، ولكني أقول بحر زاخر، وفضل سواه أوله والآخر)، ثم أنشد قائلًا: إمام العلم بحرًا واكتسابا مشيد الفضل إرثًا وانتسابا ثالث الشيخين على اصطلاح الفريقين، شيخ البسيطة على الإطلاق، وزين الشريعة بالإجماع والاتفاق، إن ذكر العلماء فله القدح المعلى، أو عد الفضلاء كان ذا التاج المحلى، عضد الملة المحمدية وناصر السنة السنية، لم يزل مجلسه للعلماء مثوى وللفضلاء مأوى، فكم أغنى بتحف أفكاره محتاجًا، وأوضح للرشاد منهاجًا.! انتهى الآلوسي. وقال عنه الأديب الفاضل الشيخ عثمان بن عصام أفندي العمري في كتابه: (الروض النضر في ترجمة أدباء العصر) عند ترجمته لهذا العالم العظيم ما نصه: له في العلا والمجد أفضل رتبة ... وفي كل حزب في الكمال له شطر أديب أريب ذو كمال وسؤود ... سحاب له في كل معرفة قطر هو ممن يجله الدهر، ويعظمه العصر، ويقدمه الفخر، ويصدره الصدر، مجرة سماء العلوم، ونور مرج المنثور والمنظوم، رجل السويدا وأوحدها، وهمام دار السلام وماجدها، وزند هؤلاء الرجال وساعدها ومعينها في مهام الأدب ومساعدها، صاحب الأمثال السائرة (٢)، والبديهة الغربية النادرة، وهو النبيه النبيل، الذي ما للوصول إلى كماله سبيل، رجل العراق وواحد الأدب على الإطلاق، شمس سماء ذلك لم يدانه في فضله أحد، فالكمالات في ذاته محصورة، والفضائل على جنابه مقصورة، إلى أن قال: شمس الفضائل خير من بلغ السهى مجدًا وسامى في العلى إدريسا فهو من حسنات الزمان، وثمار الأمن والأمان، الذي أطلع الكلام فائقا، وأوقع النظام متناسقا، وهو رونق المقال المطابق لمقتضى الحال، بحر أدب لا يدرك شاطيه، ونهر كمال لا يمكن تواطيه، كان له الأدب معطفا ومنحه ما شاء من البلاغة مقطفا، له نظم أحلى من الضرب، ونثر يريك في اتساقه العجب.! انتهى كلام العمري. _________ (١) المسلك الأذفر: ص. ٢٣، ٢٤، ٢٥، ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩، ٣٠، ٣١. (٢) الأمثال السائرة: كتاب من تأليف شيخنا صاحب الترجمة.
انتصاره لأهل السنة والجماعة (بمؤتمر النجف): وللإمام العباسي، مواقف مشرفة لا تعد ولا تحصى في نصرة الإسلام والمسلمين، وتصدره الدفاع عن أهل السنة والجماعة في الكثير من المواقف الحاسمة، والتي كان من أهمها نصرته لأهل السنة السنية فيما عرف (بمؤتمر النجف) الشهير، والذي انتهى بخضوع أئمة وعلماء الرافضة الشيعة الإمامية واعترافهم وهم صاغرين بصحة خلافة وإمامة الخلفاء الراشدين (أبي بكرالصديق، والفاروق عمر بن الخطاب، وذو النورين عثمان بن عفان ﵃ أجمعين)، وإعلانهم ذلك على منبر الكوفة في خطبة الجمعة التي حضرها (نادر شاه) ملك إيران آنذاك في يوم: (٢٦ - شوال - ١١٥٦هـ) بعد أن دحض شيخنا حججهم، وأعلى فيه كلمة أهل السنة والجماعة ونصرة قولهم وكان عمره عند رئاسته لذلك المؤتمر في الثانية والخمسين من عمره. وقد كان موضوع المؤتمر، وأسبابه (١): حين مجيء (نادر شاه) ملك العجم الفرس إلى سواد العراق تمهيدًا لاحتلاله ومعه جم غفير من الأعاجم ذوى النفاق، والشقاق. وبدأ يبعث بالرسل للوزيرأحمد باشا والي بغداد آنذاك يريد إخضاع عموم العراقيين من أهل (السنة) لمذهب (الرافضة الإمامية) بالقوة واختلفت الرسل بينهما بكثافة، إلى أن طلب (الشاه نادر) بشكل سافر، ومباشر أنه يريد من أهل السنة والجماعة وعلمائهم الخضوع، والدخول، والإقرار بصحة مذهب الرافضة، وإنكار مذهب أهل (السنة) بالكلية. وبعد تلك المراسلات تم الاتفاق بأن يقام (مؤتمر) بالنجف يحضره علماء أهل السنة والجماعة، وعلماء من الرافضة الإمامية، وقد حشد (نادر شاه) من علماء الرافضة (سبعون عالمًا) من فحول علمائهم استعدادا للمناظرة، وقام الوزير أحمد باشا والي بغداد العثماني بترشيح وإرسال شيخنا العباسي صاحب الترجمة (وحده) يمثل أهل السنة والجماعة وعلمائهم. يقول صاحب المسك الأذفر في ذلك (٢): (ولما حدثت المناظرة، والمناقشة، أذعن له نادر شاه وعلمائه السبعون، وعلموا أنه بحر علوم لا يمكنهم الوصول إلى أصله، وصاروا أطوع له من شراك نعله، وألبسهم ثوب الخزي والعار، وفضح كفرهم وجهلهم، وأقر أهل الرفض يومئذ برفع سب الشيخين أبي بكر، وعمر ﵄، وذلك في خطبة الجمعة التي حضرها (نادر شاه) في الكوفة، وأقامو الشيعة صلاة الجمعة لأول مرة في تاريخ الإمامية في ذلك اليوم المشهود في: (٢٦ - شوال - ١١٥٦هـ)، كما أقروا وهم صاغرين بترتيب الخلفاء الراشدين على ترتيب أهل السنة والجماعة، ولما رأى (نادر شاه) عظمة الشيخ عبد الله وشمول وسعة علمه هابه، وعظمه غاية التعظيم والاحترام، وتراجع عن احتلال العراق، وحصل الصلح بينه وبين الدولة العثمانية، وصار (الشاه نادر - سنيًا) على يد الشيخ بعد أن كان مبتدعًا، شيعيًا، فأحيا الله ﷾ على يد شيخنا، وبفضل علمه السنة السنية، بعد ما كان يعتريها أفول وحقن دماء المسلمين .. ثم انشد قائلا: ورتب الخلفاء الراشدين على .... عقائد السنة الأولى بإرشاد فكم خلاف وكم كفر وكم بدع ... أزال وهو على كل بإرصاد ثم استطرد قائلا: ورفع عن أهل السنة أعظم المصائب، وحاز من الله تعالى في الجنان أعلى المراتب ولعمري أنها لنعمة المنة، يجب شكرها على عموم أهل السنة). انتهى كلام صاحب المسك الأذفر. _________ (١) من أراد المزيد من الإطلاع على تفاصيل المناقشة (مؤتمر النجف) فليراجع: كتاب الرحلة المكية للإمام عبد الله أبي البركات السويدي العباسي - تقديم السيد محب الدين الخطيب. (٢) المسك الأذفر: لمفتي بغداد السيد محمود شكري الآلوسي. ص: ٢٤، ٢٥، ٢٦ ٢.
مؤلفاته وآثاره العلمية: له مؤلفات مخطوطة عديدة في الفقه، والعقائد، والحديث، والأدب، حقق وطبع منها اليسير، ونورد هنا بعض ما وصلت إليه يد الإطلاع من تلك المؤلفات: ١. كتاب: النفحة المسكية في الرحلة المكية (١). ٢. كتاب: أسماء أهل بدر. ٣. كتاب: المحاكمة بين الدماميني والسمني الواقعين على مفتي اللبيب. ٤. كتاب: شرح دلائل الخيرات. ٥. كتاب: الأمثال السائرة. ٦. كتاب: رشف الضرب في شرح لامية العرب. ٧. كتاب: إتحاف الحبيب على شرح مغنى اللبيب. ٨. بعض النسخ: على علم الكلام وغير ذلك. ٩. وله: شرح جليل على صحيح البخاري. ١٠. كتاب: الجمانات. ١١. ديوان شعر، ومقامات بليغة. _________ (١) كتاب: النفحة المسكية في الرحلة المكية: هو من أعظم آثاره، سجل فيه رحلته العلمية من بغداد، إلى الموصل، وحلب، ودمشق، والحجاز، وفيها معارف عصره، وتراجم علماء البلدان التي مر بها، وقد كتبها بعد أن نصره الله ﷿ على علماء الرافضة فذهب للحج شكرًا لله تعالى وما زالت مخطوطة، ومنها نسخ كثيرة - راجع تاريخ الأدب العربي في العراق ج٢. ص: ٣٧.
ما طبع من آثاره المخطوطة: ١. أسماء أهل بدر: طبع ببولاق بمصر سنة: (١٢٧٨هـ). ٢. مؤتمر النجف الحجج القطيعة لاتفاق الفرق الإسلامية: (طبع بالقاهرة سنة: ١٣٢٤هـ)، (وفي بغداد سنة: ١٩٨٨هـ)، (ونشر ملخصها المرحوم شاعر الشام خليل مردم بك سنة ١٣٧٩هـ، في مجلة مجمع الشام. ج٨. ص:٤٤٩، وترجمت إلى التركية)، (وطبعت أيضًا في القاهرة ونشرة مرتين في سنة: ١٣٢٦هـ)، (كما قدم المؤتمر النجف الأستاذ محب الدين الخطيب وقد طبع أيضًا بدولة قطر، والمملكة العربية السعودية أكثر من مرة). نموذج من شعره: جزم الحبيب بأن قلبي قد سلا ... وذا تحكم في الحشاشة أولا لا والذي جعل الفؤاد أسيره ... ما حال قلبي عن هواك وبدلا أأحول ياسكني وحبك ساكن ... قلبًا من الهجران ظل مبلبلا وأحيد عمدًا عن هواك وأنثني ... عن سالف العهد القديم محولا فوحق صدق مودتي وتولهي لم ... يخطر السلوان في قلبي ولا (١) هذا وقد مدحه الكثير من الشعراء والأدباء في زمانه، ومن ذلك ما قاله فيه الأديب الأريب الشاعر/ حسن ابن عبد الباقي الموصلي (٢) من قصيدة طويلة منها قوله: مبجل جل أن تحصى فضائله .... خير الوجود وبحر الجود والرحب نبي فضل على طلابه نزلت ... آيات فضل بخفي حنظل الطلب ما حاتم ما إياس بل وما معن ... وهل تقاس سيول البحر بالقلب وما ابن سينا سوى قوس بلا ... وتر لديه أن رام رميا ً قط لم يصب والفارسي جبان عند صولته ... والواقدي يوم الخمد باللهب وفاته: توفى رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته بمدينة السلام بغداد، في يوم السبت: (١١ - ١٠ - ١١٧٤هـ) ودفن بجامع الشيخ معروف الكرخي داخل رحبة الجامع، وكان قد أعقب من الأبناء: (الشيخ أسعد والشيخ أسعد، والشيخ إبراهيم، والشيخ محمد سعيد، والشيخ عبد الرحمن، والشيخ أحمد، وجميعهم علماء أفذاذ (٣) ترجمنا لكلًا منهم في موضعه من هذا الكتاب، كما وقد برز من ذريته الكثير من الزعماء، والمفكرين والسياسيين. _________ (١) وردت القصيدة في: المسك الأذفر. ص: ١٢٧. (٢) حسن بن عبد الباقي الموصلي: من شعراء الموصل متوفى سنة: (١١٥٦هـ)، وله ديوان نشره المرحوم الدكتور محمد صديق الجليلي سنة:١٤٠٠هـ) في الموصل، وهذه الأبيات من قصيدة توجد آبيات منها في: (منهل الأولياء. ص: ٣٣١)، (وتاريخ الأدب العربي للعزاوي. ج٢ ص: ٢٦١ ولا توجد في ديوانه). (٣) انظر عن الأسرة السويدية العباسية في كتاب: (الأسرة السويدية - عبد الله السويدي)، (والرسالة الإسلامية. ص.: ٦٢،٦٨) (والمسك الأذفر للآلوسي).
[التعريف بالمؤلف] (*) (الإمام عبد الله بن حسين بن مرعي السويدي (١) العباسي الهاشمي) أبو البركات جمال الدين البغدادي هو الإمام العالم العلامة ناصر السنة السنية الفقيه الجليل الشريف / أبي البركات عبد الله جمال الدين ابن الإمام الشيخ حسين أبي الخير بن أبي البقاء مرعي بن الشيخ ناصر الدين بن حسين خير الدين بن علي أبو المعالي بن أحمد أبي المحامد بن الأمير محمد المدلل (٢) بن عبد الله أبو الفتوح الحسين بن علي بن عبد الله بن الحسين بن علي ابن أبي بكر أمير المؤمنين الخليفة أبو منصور الفضل المسترشد بالله بن الخليفة أبو العباس أحمد المستظهر بأمر الله العباسي الهاشمي. وكنيته (أبي البركات)، ويلقب بـ (بجمال الدين) (٣). _________ (١) لقب السويدي يطلق على كافة ذريته الآن وكان الشيخ عبد الله هو أول من عرف بهذا اللقب حيث كفله بعد وفاة أبيه كما ذكرنا بعاليه خاله العلامة الشيخ (أحمد بن سويد) وأخذ بداية علمه عليه، ولمزيد شهرة خاله الشيخ أحمد بن سويد بالمشيخة والعلم عرف الأول بلقبه، وقد كان ذلك شائعًا عند العلماء مثل أن يأخذ أحدهم على بعض المذاهب أو الشيوخ فيحمل لقبه حيث يقال .. فلان الشافعي، أو المالكي وهكذا. (٢) الأمير أحمد المدلل: هو الجد الأعلى (لقبيلة آل بو مدلل) القاطنين بمنطقة (دور تكريت، ونواحي سامراء) بالعراق في عهدنا هذا وتعرف هذه القبيلة باسمه، وقد برز منهم الكثير من العلماء والمفكرين والسياسيين، كان لهم أدوارًا هامة، ومؤثرة في كافة الحكومات المتعاقبة على العراق، وآل السويدي فخذ ينحدر من هذه القبيلة .. راجع صفحة (مكنز الأنساب العباسية). (٣) جمال الدين: كناه بذلك شيخه: (العلامة الشيخ محمد الغلامي) المتوفي سنة (١١٨٤هـ) حينما قرأ عليه (هدية الحكمة) في مدينة الموصل. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أثبتنا هذه الترجمة من بعض مواقع الإنترنت للفائدة
مولده ونشأته: عالم من عظماء أئمة الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري، ولد صوب الكرخ بالجانب الغربي من بغداد في سنة: (١١٠٤هـ)، ونشأ بها. ولما بلغ من العمر ست سنوات توفى والده، فكفله خاله شقيق والدته العلامة الشيخ (أحمد بن سويد)، وأقرأه القرآن الكريم، وعلمه الكتابة، والقراءة، وشيء من الفقه، والنحو والصرف، وأجازه بما يجوز له. ثم أخذ على مشايخ عدة بالعراق، والشام والحجاز، منهم: (العلامة محمد الغلامي، الذي قرأ عليه كتاب: هدية الحكمة بالموصل) (١)، (والعلامة محمد بن إسماعيل القاهري)، (والشيخ أبو الطيب أحمد بن أبي القاسم المغربي المدايني)، (والشيخ آلي أفندي الرومي القسطنطيني - صاحب الثبت المشهور في الروم). وأخذ قواعد اللغة والنحو عن عدة علماء منهم: (الشيخ حسين بن نوح الحديثي الحنفي البغدادي) (٢)، (والشيخ سلطان ابن ناصر الجبوري الشافعي الخابوري) (٣)، (والشيخ حسين نظمي زادة) (٤). وأخذ جانبًا كبيرًا في الفقه والأصول على: (الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرحبي مفتي الشافعية بالعراق) (٥)، (والشيخ درويش العتاقي)، (والشيخ علي الأنصاري الأحسائي). وأجاز له مكاتبة: (الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي)، (كما أخذ مشافهة في بغداد عن: (الشهاب أحمد بن محمد عقيلة الملكي) (٦)، (والشيخ محمد المصري)، (وذلك حين قدم الأخير بغداد زائرا في سنة: (١١٤٣هـ)، وكذلك أخذ عن الشيخين: (محمد بن الطيب المدني) والشيخ العارف بالله مصطفى بن كمال الدين البكري) حين وردا بغداد أيضًا للزيارة (٧). وكان قد أرتحل للموصل لطلب العلم فقرأ على علمائها، وأتم المادة في المعقول والمنقول على: (الشيخ يس أفندي الحنفي)، (والقاضي الشيخ فتح الله أفندي الموصلي الحنفي) (٨). ثم رجع إلى بلده بغداد مكملًا بسائر العلوم العقلية والنقلية، وتصدر للتدريس والإفادة في داره، وفي حضرة مزار (الإمام أبي حنيفة النعمان)، (وفي المدرسة المرجانية)، (وانتفع به طلبة العلم وأستمر عاكفًا على بث العلوم والإفادة. _________ (١) انظر عن الغلامي في كتاب: (العلم السامي-في ترجمته للمرحوم محمد رؤوف الغلامي)، (وتاريخ الأدب العربي. ج٢ ص: ٢١٣، ٢٧٨،٢٧٩)، (والروض النضر. ج١ ص: ٤٣٠). (٢) الشيخ حسين بن نوح الحديثي: من علماء بغداد، ومن مدرسي المدرسة القمرية في جانب الكرخ من بغداد، وقد ذكره وأثنى عليه الإمام عبد الله السويدي العباسي في كتابه (النفحة المسكية). (٣) الشيخ الجبوري: من أعلام عصرة، ولد بالموصل في سنة: (١٠٧٢هـ)، وتوفى بالطريق أثناء عودته من الحج، وله آثار مخطوطة في اللغة، والفقه، والقراءة، وقد ذكره وأشاد بفضله كثيرون منهم صاحب: (تاريخ الأدب العربي في العراق. ج٢ ص:١٧٦)، وتاريخ الأسرة العلمية في بغداد) (والرسالة الإسلامية ص: ٦٢،٦٣). (٤) الشيخ حسين نظمي زاده: من علماء بغداد، كان عالمًا بعدة لغات، ولد في سنة (١١٣٠هـ) وكانت وفاته في سنة: (١٠٥٣هـ) وهو شقيق الشيخ مرتضى آل نظمي صاحب (كلشن خلفا). (٥) الشيخ الرحبي: كان مفتي الشافعية بالعراق، واحد العلماء الأعلام في عصره، ترجم له العمري في: الروض النضر. ج٣. ص: ٨٢. (٦) محمد بن عقيلة المكي: هو جمال الدين المعروف بابن عقيلة، وهو من علماء مكة المكرمة وتوفي بها سنة (١١٥٠هـ) أخذ عنه عالمنا صاحب الترجمة في بغداد أثناء زيارته لها، وله آثار مخطوطة في الفقه، والتاريخ، والحديث: انظر عنه أيضاَ في: (سلك الدرر. ج٤ ص:٣٠)، ومعجم المؤلفين. ص ٢٦٤)، (وتاريخ الأدب العربي لبرو كلمان. ج٢. ص:٣٨٦ - والذيل ٢:/٥٢٢ الطبعة الألمانية). (٧) النفحة المسكية: للإمام عبد الله السويدي العباسي (ق/١٧). (٨) الشيخ فتح الله الموصلي: هو فتح الله بن موسى بن علي المري الموصلي، من أعلام قضاة العراق، تولى قضاء البصرة، وهو من مواليد سنة: (١٢٠٠هـ) وتوفي بالموصل سنة في: (١١٠٧هـ).
رحلته المكية: توجه للحج في سنة (١١٥٧هـ) شكرًا لله تعالى على ما أتم على يده من إقناع (نادر شاه) ملك العجم واتباعه من علماء وجمهور (الرافضة) بمنع سب أصحاب رسول الله صلى الله علي وسلم، وخضوعهم لمذهب أهل السنة والجماعة كما سيأتي ذكره، وقد كان طريق رحلته ذهابًا من بغداد إلى الموصل، ومنها إلى حلب ثم دمشق والشام، ومنها إلى المدينة المنورة، ثم مكة المكرمة. وفي رحلة حجه هذه أخذ عنه، واستجاز منه عددًا كبير من علماء تلك البلدان التي مر بها، كما استزاد وتلقى عن أفاضل علمائها، ونورد هنا بعض تفاصيل تلك الرحلة المباركة كما يلي: ١ - في الموصل: أجاز بالموصل العديد من العلماء منهم: (الشيخ سليم أفندي)، (والشيخ محمد العبدلي) (والشيخ محمد بن حسين غلامي زادة)، (والشيخ يعقوب)، (والشيخ عبد العزيز الموصلي). ٢ - في حلب: القى في حلب الشهباء دروسًا عامة، وخاصة في العلوم الفقهية، وأخذ عنه بها خلق كثير منهم: (الشيخ محمد العقاد الشافعي)، (والشيخ الشريف محمد بن إبراهيم الطرابلسي الحنفي مفتي حلب ونقيبها)، (والشيخ محمد أفندي مفتي الحنفية)، (والشيخ أبو المواهب مفتي الشافعية) (والشيخ محمد الزنار)، (والشيخ طه بن مهنا الجبرين)، (والشيخ عبد الكريم بن أحمد الشرباتي)، (والشيخ علي الدباغ)، (والشيخ محمد بن الشيخ صالح المواهبي)، (والشيخ مصطفى الغريب المقدسي)، (والشيخ علي العطار)، (والشيخ عبد السلام الحريري) (والشيخ محمد المكيني)، (والشيخ قاسم البكرجي). ٣ - في دمشق: وأقرأ بدمشق أيضًا، وألقى دروسًا بها، وأقبل عليه الطلبة لتلقي العلم، وأخذ عنه بها جماعة من العلماء الأجلاء منهم: (الشيخ عبد الرحمن الصناديقي)، (والشيخ سلمان الشيخ، والشيخ عبد الوهاب أبناء الشيخ مصطفى شيخ الأحياء)، (والشيخ عبد القادر الدمشقي)، (والشيخ محمد العجلوني العمري)، (والشيخ صالح الجنيني). ٤ - في المدينة المنورة: ولما وصل المدينة المنورة. أقرأ بها وألقى دروسًا عامة، وخاصة (الكتب الستة) وكان إلقائه للدروس بالروضة المطهرة، وحضر دروسه الكثير الأئمة الأفاضل منهم: (الشيخ العماد إسماعيل ابن محمد العجلوني)، والعديد من أقرانه. ومن العلماء الذين أستزاد منهم وأخذ عنهم أثناء رحلته للحرمين الشريفين في ذهابه، وإيابه، بالبلدان التي مر بها فهم: في المدينة المنورة: ولما وصل المدينة المنورة. أقرأ بها وألقى دروسًا عامة، وخاصة (الكتب الستة) وكان إلقائه للدروس بالروضة المطهرة، وحضر دروسه الكثير الأئمة الأفاضل منهم: (الشيخ العماد إسماعيل ابن محمد العجلوني)، والعديد من أقرانه. ومن العلماء الذين استزاد منهم وأخذ عنهم أثناء رحلته للحرمين الشريفين في ذهابه، وإيابه، بالبلدان التي مر بها فهم: أ. بدمشق أخذ عن (الشيخ العماد إسماعيل العجلوني الجراحي)، (والشيخ الشهاب أحمد بن علي المنيني)، (والشيخ صالح بن إبراهيم الجنيتي)، (والشيخ عبد الغني الصيداوي)، وقد اجتمع بهذا الأخير بدمشق. ب. وبمكة المكرمة أخذ عن أكابر الأعلام من علماء الحجاز منهم: (العالم الجليل الشيخ عمر السقاف سبط الشيخ عبد الله بن سالم البصري)، كما أخذ كذلك عن: (الشيخ العلامة سالم بن عبد الله بن سالم البصري).
بعض ما قيل عنه: وقد ترجم له وأطنب في مدحه والثناء عليه العديد من أكابر علماء الأمة، فمن ذلك ما قاله عنه الإمام العلامة الفاضل مفتي بغداد السيد/ محمود شكري الآلوسي عند ترجمته له في كتابه المسك الأذفر (١) حيث يقول: (هو عبد الله أفندي بن الشيخ حسين السويدي العباسي البغدادي، شيخ المعارف وإمامها والآخذ بيد زمامها، سابق الأماجد فسبقهم بآدابه، ولم ينف إذ ذاك ثوب شبابه، لم يزل مجتهدًا في نيل المعالي وكم سهر في طلبها الليالي .. إلى أن قال: إذا ما ذكرنا مجده كان حاضرًا نأي أو دنا يسعى على قدم الخضر ثم أستطرد بقوله: (فبماذا أصفه وقد بهر، وبدا فضله كالصبح إذا أسفر، ولكني أقول بحر زاخر، وفضل سواه أوله والآخر)، ثم أنشد قائلًا: إمام العلم بحرًا واكتسابا مشيد الفضل إرثًا وانتسابا ثالث الشيخين على اصطلاح الفريقين، شيخ البسيطة على الإطلاق، وزين الشريعة بالإجماع والاتفاق، إن ذكر العلماء فله القدح المعلى، أو عد الفضلاء كان ذا التاج المحلى، عضد الملة المحمدية وناصر السنة السنية، لم يزل مجلسه للعلماء مثوى وللفضلاء مأوى، فكم أغنى بتحف أفكاره محتاجًا، وأوضح للرشاد منهاجًا.! انتهى الآلوسي. وقال عنه الأديب الفاضل الشيخ عثمان بن عصام أفندي العمري في كتابه: (الروض النضر في ترجمة أدباء العصر) عند ترجمته لهذا العالم العظيم ما نصه: له في العلا والمجد أفضل رتبة ... وفي كل حزب في الكمال له شطر أديب أريب ذو كمال وسؤود ... سحاب له في كل معرفة قطر هو ممن يجله الدهر، ويعظمه العصر، ويقدمه الفخر، ويصدره الصدر، مجرة سماء العلوم، ونور مرج المنثور والمنظوم، رجل السويدا وأوحدها، وهمام دار السلام وماجدها، وزند هؤلاء الرجال وساعدها ومعينها في مهام الأدب ومساعدها، صاحب الأمثال السائرة (٢)، والبديهة الغربية النادرة، وهو النبيه النبيل، الذي ما للوصول إلى كماله سبيل، رجل العراق وواحد الأدب على الإطلاق، شمس سماء ذلك لم يدانه في فضله أحد، فالكمالات في ذاته محصورة، والفضائل على جنابه مقصورة، إلى أن قال: شمس الفضائل خير من بلغ السهى مجدًا وسامى في العلى إدريسا فهو من حسنات الزمان، وثمار الأمن والأمان، الذي أطلع الكلام فائقا، وأوقع النظام متناسقا، وهو رونق المقال المطابق لمقتضى الحال، بحر أدب لا يدرك شاطيه، ونهر كمال لا يمكن تواطيه، كان له الأدب معطفا ومنحه ما شاء من البلاغة مقطفا، له نظم أحلى من الضرب، ونثر يريك في اتساقه العجب.! انتهى كلام العمري. _________ (١) المسلك الأذفر: ص. ٢٣، ٢٤، ٢٥، ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩، ٣٠، ٣١. (٢) الأمثال السائرة: كتاب من تأليف شيخنا صاحب الترجمة.
انتصاره لأهل السنة والجماعة (بمؤتمر النجف): وللإمام العباسي، مواقف مشرفة لا تعد ولا تحصى في نصرة الإسلام والمسلمين، وتصدره الدفاع عن أهل السنة والجماعة في الكثير من المواقف الحاسمة، والتي كان من أهمها نصرته لأهل السنة السنية فيما عرف (بمؤتمر النجف) الشهير، والذي انتهى بخضوع أئمة وعلماء الرافضة الشيعة الإمامية واعترافهم وهم صاغرين بصحة خلافة وإمامة الخلفاء الراشدين (أبي بكرالصديق، والفاروق عمر بن الخطاب، وذو النورين عثمان بن عفان ﵃ أجمعين)، وإعلانهم ذلك على منبر الكوفة في خطبة الجمعة التي حضرها (نادر شاه) ملك إيران آنذاك في يوم: (٢٦ - شوال - ١١٥٦هـ) بعد أن دحض شيخنا حججهم، وأعلى فيه كلمة أهل السنة والجماعة ونصرة قولهم وكان عمره عند رئاسته لذلك المؤتمر في الثانية والخمسين من عمره. وقد كان موضوع المؤتمر، وأسبابه (١): حين مجيء (نادر شاه) ملك العجم الفرس إلى سواد العراق تمهيدًا لاحتلاله ومعه جم غفير من الأعاجم ذوى النفاق، والشقاق. وبدأ يبعث بالرسل للوزيرأحمد باشا والي بغداد آنذاك يريد إخضاع عموم العراقيين من أهل (السنة) لمذهب (الرافضة الإمامية) بالقوة واختلفت الرسل بينهما بكثافة، إلى أن طلب (الشاه نادر) بشكل سافر، ومباشر أنه يريد من أهل السنة والجماعة وعلمائهم الخضوع، والدخول، والإقرار بصحة مذهب الرافضة، وإنكار مذهب أهل (السنة) بالكلية. وبعد تلك المراسلات تم الاتفاق بأن يقام (مؤتمر) بالنجف يحضره علماء أهل السنة والجماعة، وعلماء من الرافضة الإمامية، وقد حشد (نادر شاه) من علماء الرافضة (سبعون عالمًا) من فحول علمائهم استعدادا للمناظرة، وقام الوزير أحمد باشا والي بغداد العثماني بترشيح وإرسال شيخنا العباسي صاحب الترجمة (وحده) يمثل أهل السنة والجماعة وعلمائهم. يقول صاحب المسك الأذفر في ذلك (٢): (ولما حدثت المناظرة، والمناقشة، أذعن له نادر شاه وعلمائه السبعون، وعلموا أنه بحر علوم لا يمكنهم الوصول إلى أصله، وصاروا أطوع له من شراك نعله، وألبسهم ثوب الخزي والعار، وفضح كفرهم وجهلهم، وأقر أهل الرفض يومئذ برفع سب الشيخين أبي بكر، وعمر ﵄، وذلك في خطبة الجمعة التي حضرها (نادر شاه) في الكوفة، وأقامو الشيعة صلاة الجمعة لأول مرة في تاريخ الإمامية في ذلك اليوم المشهود في: (٢٦ - شوال - ١١٥٦هـ)، كما أقروا وهم صاغرين بترتيب الخلفاء الراشدين على ترتيب أهل السنة والجماعة، ولما رأى (نادر شاه) عظمة الشيخ عبد الله وشمول وسعة علمه هابه، وعظمه غاية التعظيم والاحترام، وتراجع عن احتلال العراق، وحصل الصلح بينه وبين الدولة العثمانية، وصار (الشاه نادر - سنيًا) على يد الشيخ بعد أن كان مبتدعًا، شيعيًا، فأحيا الله ﷾ على يد شيخنا، وبفضل علمه السنة السنية، بعد ما كان يعتريها أفول وحقن دماء المسلمين .. ثم انشد قائلا: ورتب الخلفاء الراشدين على .... عقائد السنة الأولى بإرشاد فكم خلاف وكم كفر وكم بدع ... أزال وهو على كل بإرصاد ثم استطرد قائلا: ورفع عن أهل السنة أعظم المصائب، وحاز من الله تعالى في الجنان أعلى المراتب ولعمري أنها لنعمة المنة، يجب شكرها على عموم أهل السنة). انتهى كلام صاحب المسك الأذفر. _________ (١) من أراد المزيد من الإطلاع على تفاصيل المناقشة (مؤتمر النجف) فليراجع: كتاب الرحلة المكية للإمام عبد الله أبي البركات السويدي العباسي - تقديم السيد محب الدين الخطيب. (٢) المسك الأذفر: لمفتي بغداد السيد محمود شكري الآلوسي. ص: ٢٤، ٢٥، ٢٦ ٢.
مؤلفاته وآثاره العلمية: له مؤلفات مخطوطة عديدة في الفقه، والعقائد، والحديث، والأدب، حقق وطبع منها اليسير، ونورد هنا بعض ما وصلت إليه يد الإطلاع من تلك المؤلفات: ١. كتاب: النفحة المسكية في الرحلة المكية (١). ٢. كتاب: أسماء أهل بدر. ٣. كتاب: المحاكمة بين الدماميني والسمني الواقعين على مفتي اللبيب. ٤. كتاب: شرح دلائل الخيرات. ٥. كتاب: الأمثال السائرة. ٦. كتاب: رشف الضرب في شرح لامية العرب. ٧. كتاب: إتحاف الحبيب على شرح مغنى اللبيب. ٨. بعض النسخ: على علم الكلام وغير ذلك. ٩. وله: شرح جليل على صحيح البخاري. ١٠. كتاب: الجمانات. ١١. ديوان شعر، ومقامات بليغة. _________ (١) كتاب: النفحة المسكية في الرحلة المكية: هو من أعظم آثاره، سجل فيه رحلته العلمية من بغداد، إلى الموصل، وحلب، ودمشق، والحجاز، وفيها معارف عصره، وتراجم علماء البلدان التي مر بها، وقد كتبها بعد أن نصره الله ﷿ على علماء الرافضة فذهب للحج شكرًا لله تعالى وما زالت مخطوطة، ومنها نسخ كثيرة - راجع تاريخ الأدب العربي في العراق ج٢. ص: ٣٧.
ما طبع من آثاره المخطوطة: ١. أسماء أهل بدر: طبع ببولاق بمصر سنة: (١٢٧٨هـ). ٢. مؤتمر النجف الحجج القطيعة لاتفاق الفرق الإسلامية: (طبع بالقاهرة سنة: ١٣٢٤هـ)، (وفي بغداد سنة: ١٩٨٨هـ)، (ونشر ملخصها المرحوم شاعر الشام خليل مردم بك سنة ١٣٧٩هـ، في مجلة مجمع الشام. ج٨. ص:٤٤٩، وترجمت إلى التركية)، (وطبعت أيضًا في القاهرة ونشرة مرتين في سنة: ١٣٢٦هـ)، (كما قدم المؤتمر النجف الأستاذ محب الدين الخطيب وقد طبع أيضًا بدولة قطر، والمملكة العربية السعودية أكثر من مرة). نموذج من شعره: جزم الحبيب بأن قلبي قد سلا ... وذا تحكم في الحشاشة أولا لا والذي جعل الفؤاد أسيره ... ما حال قلبي عن هواك وبدلا أأحول ياسكني وحبك ساكن ... قلبًا من الهجران ظل مبلبلا وأحيد عمدًا عن هواك وأنثني ... عن سالف العهد القديم محولا فوحق صدق مودتي وتولهي لم ... يخطر السلوان في قلبي ولا (١) هذا وقد مدحه الكثير من الشعراء والأدباء في زمانه، ومن ذلك ما قاله فيه الأديب الأريب الشاعر/ حسن ابن عبد الباقي الموصلي (٢) من قصيدة طويلة منها قوله: مبجل جل أن تحصى فضائله .... خير الوجود وبحر الجود والرحب نبي فضل على طلابه نزلت ... آيات فضل بخفي حنظل الطلب ما حاتم ما إياس بل وما معن ... وهل تقاس سيول البحر بالقلب وما ابن سينا سوى قوس بلا ... وتر لديه أن رام رميا ً قط لم يصب والفارسي جبان عند صولته ... والواقدي يوم الخمد باللهب وفاته: توفى رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته بمدينة السلام بغداد، في يوم السبت: (١١ - ١٠ - ١١٧٤هـ) ودفن بجامع الشيخ معروف الكرخي داخل رحبة الجامع، وكان قد أعقب من الأبناء: (الشيخ أسعد والشيخ أسعد، والشيخ إبراهيم، والشيخ محمد سعيد، والشيخ عبد الرحمن، والشيخ أحمد، وجميعهم علماء أفذاذ (٣) ترجمنا لكلًا منهم في موضعه من هذا الكتاب، كما وقد برز من ذريته الكثير من الزعماء، والمفكرين والسياسيين. _________ (١) وردت القصيدة في: المسك الأذفر. ص: ١٢٧. (٢) حسن بن عبد الباقي الموصلي: من شعراء الموصل متوفى سنة: (١١٥٦هـ)، وله ديوان نشره المرحوم الدكتور محمد صديق الجليلي سنة:١٤٠٠هـ) في الموصل، وهذه الأبيات من قصيدة توجد آبيات منها في: (منهل الأولياء. ص: ٣٣١)، (وتاريخ الأدب العربي للعزاوي. ج٢ ص: ٢٦١ ولا توجد في ديوانه). (٣) انظر عن الأسرة السويدية العباسية في كتاب: (الأسرة السويدية - عبد الله السويدي)، (والرسالة الإسلامية. ص.: ٦٢،٦٨) (والمسك الأذفر للآلوسي).
صفحه نامشخص
[مقدمة الناشر]
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
وبعد فإن جمهور المسلمين الأعظم - من صدر الإسلام إلى الآن - يتألف من أهل السنة والجماعة، وهم الذين يتلقون في دينهم وأحكامه عن كتاب الله كما فهمه الصحابة والتابعون، ومن صحيح السنة النبوية التي محصها الأئمة والحفاظ الأمناء ودونوها في دواوين معتنى بها أهمها صحيحا البخاري ومسلم، وموطأ مالك، وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود، ثم سنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد وما هو بمنزلتها. وأن الأحاديث الواردة في هذه الكتب تتفاوت، إلا أنها أصح ما نقلت أمة من تراث ماضيها وأن أئمة هذا الشأن وضعوا قواعد وشروطا لرواية الحديث وتعيين درجاته وألفوا فيها كتابا صارت لأهميتها وسعتها علما جليلا هو علم السنة، والأمة العاملة بالأحكام المستنبطة من كتاب الله وحديث رسوله وما يقاس عليها وما أجمع عليها أئمتها مما لا يخالف شيئا من نصوصها هم أهل السنة، ولأنهم جمهور المسلمين وجماعتهم قيل لهم أهل السنة والجماعة.
وهناك أقليات لم تتقيد بما نقيد به أهل السنة من أحاديث رسول الله
1 / 3
ﷺ التي صحت عنه في كتب السنة التي أشرنا إليها، لكنهم شاركوهم في كونهم من أهل القبلة وفي صلاتهم وحجهم، وأقرب هذه الأقليات إلى أهل السنة الزيدية ثم الأباضية ثم الشيعة الاثنا عشرية فأحمدية لاهور الذين لا يقولون بنبوة المأفون الكذاب غلام أحمد القادياني. أما القائلون بنبوتهم فهم أبعد من هؤلاء عن الإيمان الإسلامي.
ويلي هؤلاء أقليات أخرى باطنية لا تعد نفسها من أهل القبلة، إلا أنها تنتسب إلى الإسلام ولها في نصوصه وعقائده فهم خاص، وفي مقدمة هؤلاء إسماعيلية البهرة ثم إسماعيلية أغا خان والنصيرية والدروز، وكان يمكن أن يعد في هؤلاء البابية والبهائية لولا أنهم أعلنوا انفصالهم عن الإسلام، وابتدعوا دينا مستقلا زادوا به الديانات المعروفة اختلافا جديدا لم تكن في حاجة إليه، فخرجوا بذلك حتى عن اسم الإسلام.
والفرق بين أهل السنة والشيعة راجع إلى أهل السنة يحصرون مصدر التشريع في النبي ﷺ ويرون أن العصمة له وحده فيما بلغ عن ربه وفيما يستلزمه كمال رسالته. أما الشيعة الاثنا عشرية فيدعون العصمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأحد عشر رجلا من سلالته، وإن لم يدعها علي لنفسه، أو أحد من بنيه له ولهم. ويرى الشيعة أن هؤلاء الأثنى عشر مصدر تشريع على خلاف ما كان يؤمن به هؤلاء الصالحون ﵏.
وفرق آخر جوهري بيننا وبين الشيعة هو أن التشريع الذي وصل إلينا عن النبي ﷺ إنما وصل عن طريق أصحابه الكرام البررة الصادقين، وقد نقله عنهم العدول الصادقون الحافظون من التابعين ومن جاء بعدهم، فالصحابة
1 / 4
هم حملة أمانة التشريع عن النبي ﷺ، وهم ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (١) كما قال الله ﷿ فيهم. وأن الذين أنفقوا منهم وقاتلوا مع النبي ﷺ قبل فتح مكة أعظم درجة عند الله من جميع خلق الله كما أثنى عليهم الله بذلك، ومن أصدق من الله قيلا وقد وعدهم الله الحسنى هم وكل من تشرف بعدهم بصحبة خير خلقه ﷺ إلى أن لقي ربه، وكل ما نحن فيه الآن من نعمة الإسلام وقيام الدولة الإسلامية ووجود الأمة المحمدية هو من ثمرات جهاد الصحابة ونتائج أعمالهم، ولولاهم لكنا وكان الشيعة أيضا كفرة فجرة خاسرين، فكل حسنة لكل مسلم على وجه الأرض - سواء أكان سنيا أو زيديا أو أباضيا أو شيعيا - فإن للصحابة الذين جاهدوا لإدخال البلاد في الإسلام نصيبا من ثواب الله له على تلك الحسنة إلى يوم القيامة.
هذه مكانة الصحابة عند الله. وهذا جزاؤهم عنده، وأهل السنة يدينون بذلك، وكانوا جميعا إخوانا متحابين، وقد كان علي وإخوانه أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير أتقى لله من أن يكون في قلب أحدهم منهم غل لإخوانه، وكان في عنق علي بيعة لأخيه أبي بكر، ثم لأخيه عمر، ثم لأخيه عثمان، وكان من شديد محبته لهم أن سمى أبناء له بأسمائهم، وكان من وثيق رابطته بهم أن صاهرهم وتعاون معهم وأمر ولديه وفلذتي كبده أن يكونا على باب عثمان لدفع الثوار الأشرار وبذل دمائهما فداء لدمه، لولا أن عثمان نفسه أمرهما وأمر الصحابة جميعا، - بصفته أمير المؤمنين - أن يكفوا عن الدفاع حقنا منه لدماء المسلمين وتضييقا لدائرة الفتنة وإمعانا منه في إقامة الحجة، ولأن النبي ﷺ بشره
_________
(١) سورة آل عمران: جزء من الآية ١١٠.
1 / 5
بالشهادة والجنة.
أما اعتقاد الشيعة بأن الصحابة كفروا إلا خمسة وهم علي والمقداد وأبو ذر وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر، فهو الكفر. وهو الباطل.
وأما اعتقاد الشيعة بعصمة علي وأحد عشر شخصا من بنيه وأن الشريعة هي التي يرويها عنهم المتعصبون لهم وإن عرفوا بالكذب والفساد فهو الكذب على الله، وهو الفساد.
فالنبي ﷺ هو وحده المعصوم في هذه الأمة ولا معصوم فيها غيره وهو وحده ﷺ مصدر التشريع بما أنزل الله عليه في الكتاب وما ثبت عنه في صحيح السنة ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (١) وهذا الوحي انقطع بالتحاقه ﷺ بالرفيق الأعلى فانقطع التشريع بذلك فلا تشريع بعده ولا معصوم غيره، ولا حكم إلا لله وما قيس على أحكام الله، وما أجمع عليه أئمة الملة مما لا يخالف حكما ثابتا في كتاب الله أو سنة رسوله.
وأصحاب رسول الله ﷺ هم حملة شريعته وأمناؤها الذين أدوها إلى الأمناء بعدهم، فالصحابة كلهم عدول وأن تفاوتوا في العلم والمنزلة ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ (٢) فمن زعم أن فيهم من لا يصدق عليه وعد الله له بالحسنى فقد افترى على الله وكفر بمخالفته نص الكتاب وخرج بذلك من ربقة الإسلام. وكانوا كلهم أخوة متحابين ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (٣) فمن زعم أن قلب أحد منهم لأخيه
_________
(١) سورة النجم: الآيات ٣، ٤، ٥.
(٢) سورة الحديد: جزء من الآية ١٠.
(٣) سورة الفتح: جزء من الآية ٢٩.
1 / 6
ضغنا لا رحمة، وإحنة وفسادا لا محبة وإيثارا، فقد كذب القرآن وآذى رسول الله في أصحابه وأساء إلى علي بتشويه ما كان عليه من سمو وصلاح وفضيلة.
والخلافة نفسها كانت في نظرهم تكليفا وعبئا يحمله من يحمله منهم تدينا وتطوعا. ولم تكن حقدا لأحد منهم قبل أن يتولاها، ولا متعة له أو مأكلة بعد ولايتها، حتى يتنازعوا عليها أو يتعادوا لأجلها. وقد قام بها الأربعة الراشدون سلام الله عليهم جميعا رحمته ورضوانه - واحدا بعد واحد - فكانوا المثل الأعلى في النزاهة والأمانة والعفة والكفاف والإنصاف وبعد النظر وإيثار الخير والحق.
وكان علي محبا لجميع الصحابة - وفي مقدمتهم إخوانه الذين سبقوه في حمل أعباء الأمة - عارفا عظيم منزلة أهل المنزلة منهم عند رسول الله عاقدا قلبه على بيعة من بايعه منهم صدقا لا نفاقا، وهو أجل من أن ينافق فمن ادعى خلاف ذلك فقد ذم عليا واستحق منه البراءة والسخط، ومن الله اللعنة والنار.
وسنة رسول الله ﷺ التي حملها أصحابه ومحصها الأئمة بعدهم وبينوا صحيحها من سقيمها، ودلوا على الأمناء من رواتهم وميزوهم عن الكذبة والأشرار والضعفة الذين لا كفاءة بهم لهذا الأمر، هي السنة الصحيحة، أي لا يعرف التاريخ أمانة من أمانات الماضي بذل صفوة البشر أقصى عنايتهم في صيانتها كما بذل علماء المسلمين في تمحيص سنة نبيهم وإنقاذها من أهواء الكذبة المتعصبين للباطل، المتشيعين للفتنة والفساد.
وبعد وضوح هذه الفروق الأساسية بين طريقة السنة وطريقة
1 / 7
الشيعة في النظر إلى الإسلام وتعيين الأسس التي يقوم تشريعه عليها نحب أن يعلم القارئ أن أهل السنة يجتمعون مع الشيعة عليها في اسم الإسلام وفي الولاية له بالجملة، وأهل السنة لا يسوؤهم أن يتعاون الفريقان فيما اتفقا عليه، بشرط أن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، ما دام متعذرا عدول أهل السنة عما عرفوه من الحق، أو عدول الشيعة عما ألفوه من مبادئهم وطرائقهم. فالتعارف والتعاون على الخير من الخير. وكان كاتب هذه السطور من دعاة هذا التعارف وهذا التعاون منذ أربعين سنة إلى الآن، ثم نجم أخيرا داع من الشيعة حضر إلى مصر من إيران ليدعو إلى ما سماه التقريب بين المذاهب الإسلامية، ومراده من ذلك أن يحدث شيئا جديدا مؤلفا مما عند أهل السنة والشيعة فقط. أما الأباضية فلم يدعهم إلى هذا التقريب مع أن في مصر بعض علمائهم. ونحن أيقنا من اليوم الأول أن هذا التقريب بين مذهبي السنة والشيعة غير ممكن ولا معقول ثم هو يؤدي إلى فساد، لأن لكل من المذهبين أساسا يقوم عليه ويختلف اختلافا جوهريا عن الأساس الذي يقوم عليه المذهب الآخر، والطريقة التي يمكن بها التقريب هي أن يتنازل أتباع أحد المذهبين عن مذهبه ويلتحق بأهل المذهب الآخر. ولم نأنس من داعية هذا التقريب أنه وجماعته مستعدون لهذا التنازل، فلم يبق إلا أن يطمع في تنازل أهل السنة عن مذهبهم، أو تكوين مذهب ثالث جديد مؤلفا من بعض ما عند هؤلاء وبعض ما عند هؤلاء، ولا ينتظر بعد ذلك أن يرضى به أهل السنة ولا الشيعة فيكون فسادا جديدا في الإسلام.
1 / 8
والكتاب الذي نقدمه الآن للقراء هو حكاية التقريب على طريقة تنازل أحد الفريقين عن أصوله فإن مجتهدي الشيعة من الإيرانيين وعلماء النجف اجتمعوا في يوم الخميس ٢٥ شوال سنة ١١٥٦ بمحضر من علماء أهل السنة والجماعة في اردلان والأفغان وما وراء النهر (بخارى وما إليها) برئاسة علامة العراق السيد عبد الله السويدي كاتب هذه الواقعة في كتابنا هذا، وكان اجتماعهم تحت المسقف الذي وراء الضريح المنسوب إلى الإمام علي - كرّم الله وجهه ـ، واجتمع للاستماع لما يقع في هذا المؤتمر خلائق لا يحصر عددهم إلا الله من العجم والعرب والتركستان ممن يتألف منهم جيش نادر شاه ومن سكان هذه الجهات، وكان نادر شاه - وهو أعظم ملوك إيران في العصور الأخيرة - يراقب أعمال المؤتمر. فقرر علماء الشيعة ومجتهدوهم جميعا بلا استثناء - وعلى رأسهم عظيمهم الديني الملا باشي - أنهم ينزلون على مذهب أهل السنة في الصحابة، ويرفعون كل محدثات الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي، ويعترفون بأن اتفاق الصحابة عند وفاة النبي ﷺ إنما كان على أفضلهم وأخيرهم وأعلمهم أبي بكر الصديق، وأن الإمام عليا بايعه كما بايع سائر الصحابة، وإجماعهم حجة قطعية. ثم عهد أبو بكر لعمر فبايعه الصحابة والإمام علي معهم، ثم اتفق رأيهم على عثمان، ووليها بعده علي، وأن فضلهم وخلافتهم على ذلك الترتيب فمن سب أو قال خلاف ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد وضعوا جميعا أختامهم على المحضر الرسمي لهذا المؤتمر.
فهذا العمل الذي قام به مجتهدو الشيعة وعلماؤهم سنة ١١٥٦ في محضر عام يصح أن يسمى (تقريبا) لأنه أزال (المكفرات) التي كان يفترق بها
1 / 9
الشيعة عن أهل السنة افتراقا أساسيا.
أما الدعوة الجديدة المريبة إلى (التقريب) بين مذهبين مختلفين في الأسس التي قام كل منهما عليها لمآرب يظهر أن لبعض الجهات الدبلوماسية علاقة تشجيع عليها، وبطرق سخيفة لا تنطبق على علم ولا على شرع، فإنها جديرة بأن ترفض من أهل السنة ومن الشيعة على السواء لما ينتج عنها من عبث بالمذهبين قد يبلغ إلى أن يكون منه مذهب ثالث تزاد به الفرقة بين المسلمين، وقد سمعنا أن مجتهدي الشيعة في الشام السيد محسن الأمين أشد إنكارا لهذا التقريب، وإلى الآن لم يكتب في تأييد ذلك إلا أفراد من الشيعة لا يمثلون علماءهم الموثوق بهم.
وكتاب المؤتمر الذي نقدمه بعد هذه المقدمة مكتوب بقلم رئيسه السيد عبد الله السويدي، وكان قد نشر في سنة ١٣٣٣ بعنوان (الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية) بمطبعة السعادة بالقاهرة، إلا أن انتشاره كان محدودا وفي نطاق ضيق، ورأيت أكثر أهل العلم لم يطلع عليه، ولا سبيل إلى الحصول على نسخ منه، فدعاني ذلك إلى إعادة نشره لمناسبة فتنة التقريب المريب التي فشلت ولله الحمد زد على ذلك أن (مؤتمر النجف) كان الأول من نوعه في المجتمع الإسلامي على ما وصل إليه علمي.
والسيد عبد الله السويدي - رئيس هذا المؤتمر، وكاتب هذا الكتاب - هو أبو البركات ابن السيد حسين بن مرعي بن ناصر الدين، وأسرة السويدي إحدى الأسر العظيمة الكريمة في بغداد، وهي من سلالة البيت العباسي الذي اضطلع بأمر الخلافة الإسلامية زمنا طويلا.
ولد السيد عبد الله سنة ١١٠٤ وتوفى سنة ١١٧٠، وكان عند رياسته
1 / 10
هذا المؤتمر في الثانية والخمسين من عمره، أخذ العلم عن أحمد بن أبي القاسم المدائني المغربي وعمه السيد أحمد بن مرعي السويدي والشيخ سلطان الجبوري ومحمد بن عقيلة المكي والشيخ علي الأنصاري الأحسائي وغيرهم من علماء العراق والحجاز والشام، وقد امتدحه السيد محمود شكري الآلوسي بأنه " شيخ البسيطة على الإطلاق وزين الشريعة بالإجماع والاتفاق " وله من المؤلفات شرح جليل على صحيح البخاري، وكتاب المحاكمة بين الدماميني والشمني فيما كتباه على مغني اللبيب، ورشف الضرب، والنفحة المسكية، والأمثال السائرة، وشرح دلائل الخيرات، وكتاب رحلته المكية الذي أثبت فيه ما نقلناه في هذا الكتاب عن مؤتمر النجف، وقد حج ذلك العام شكرا لله على ما أتم على يده من إقناع نادر شاه وجماهير الشيعة بمنع سب أصحاب رسول الله ﷺ.
والله ولي الحق والخير وأهلهما، والحمد لله رب العالمين.
محب الدين الخطيب
1 / 11
[مقدمة المؤلف]
مؤتمر النجف
- بسم الله الرحمن الرحيم -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين.
أما بعد، لما يسر الله لي نصرة الشريعة الغراء، وردع أهل البدع والإغراء عزمت على حج بيت الله الحرام، شكرا له على ما وفقني من نيل المرام، وما به إصلاح أهل الإسلام، وإجراء الحق على يدي، وإخماد نار الباطل بمباحثتي وإرجاع الشيعة عما هم عليه من سب الصحابة وتكفيرهم وإدعائهم الفضل والخلافة لعلي بن أبي طالب ﵁ وتجوزيهم المتعة والمسح على الرجلين، وغير ذلك من قبائحهم وبدعهم وضلالتهم المشهورة المتواترة عنهم.
وقصة ذلك - باختصار - أن مملكة العجم لما اضمحلت، وملك الأفغان دار مملكتهم أصفهان (١) وملك آل عثمان - أيد الله بالتوفيق دولتهم - بعض البلدان، وذلك بعد قتل الأفغان شاه حسين، فظهر ابنه طهماسب ليأخذ بالثأر ويكشف العار، فجمع من حوله الأعاجم، فاجتمع عليه خلق كثير. ومن جملة من انضم إليه نادر شاه، وكان طهماسب قليل الفكر والاهتمام بأمور الرعية، منهمكا بشرب الخمر، فتقرب إليه نادر إلى أن
_________
(١) وكان ذلك في سنة ١١٣٥ هـ على يد الأمير محمود الأفغاني من قبيلة كلزايي، وهو ابن الأمير أويس، وأصلهم من قندهار. انظر ترجمته في (قاموس للأعلام) لشمس الدين سامي بك ص ٤٢٢٢.
1 / 12
صار اعتماد دولته (١) وسلمه جميع أموره فشرع نادر هذا في رد الممالك فأخذ أصفهان من يد الأفغان وفرقهم شذر مذر، فلقب بطهماسب قلي، ومعناه: عبد طهماسب، وغلب عليه هذا اللقب إلى أنه لا يكاد يعرف اسمه الأول، ثم ثنى عنان عزمه على نحو الممالك التي بيد آل عثمان يخلصها من أيديهم، وجاء في عسكر عظيم ليحاصر بغداد، والوالي فيها الوزير الكبير والدستور المشير، عضد الدولة العثمانية ونظام المملكة الخاقانية الوزير بن الوزير أحمد باشا بن المرحوم حسن باشا، ولم يكن الوزير المشار إليه مأمورا بقتال هذا الباغي الخارجي؛ بل كان مأمورا بحفظ داخل القلعة، وأنه لو وقعت عمامته خارج السور لا يخرج إلى أخذها، وكان معه من الوزراء ثلاثة للمحافظة: قره مصطفى باشا، وصاري مصطفى باشا، وجمال أوغلي أحمد باشا فحاصر هذا الباغي بغداد ثمانية أشهر حتى نفد الزاد وأكلوا لحوم الخيل والحمير بل والسنانير والكلاب. فدفعه الله عن بغداد وسلمها منه، وذلك أن آل عثمان جهزوا عليه عسكرا، ورئيس العسكر طوبال عثمان باشا فتوجه نحو بغداد وهزم جنود الأعاجم حتى طهماسب قلي معهم وكسرهم لكن بعد قتال شديد. ثم بعد كسره وهزيمته جاء ثانيا وحاصرها الوزير الوالي أحمد باشا أيضا. فنجاها الله تعالى منه. ثم أنه توجه نحو الروم إلى أرض ارزن روم فنجاها الله منه. ولما رجع إلى صحراء مغان بايعه الأعاجم على السلطنة بتدبير منه، وكان تاريخ المبايعة (الخير فيما وقع) سنة ١١٤٨ ومن لم يرض بيعته قلب التاريخ المذكور وقال: (لا خير فيما وقع) وهو أيضا عين التاريخ الأول. ثم أنه توجه نحو الهند، ولم يزل يمر في تلك البلاد إلى
_________
(١) أي وزيره، وكان من اصطلاحهم أن يلقبوا الوزير بلقب (اعتماد الدولة).
1 / 13
أن وصل إلى جهان آباد كرسي مملكة الهند فضبطها بعد قتال كثير، ثم أنه صالح سلطانها شاه محمد وأخذ من الهند أموالا كثيرة لا تعد ولا تحصى ورتب على شاه محمد كل عام أن يرسل خزينة من الأموال معلومة الأجناس والعدد، فارتحل من الهند وتوجه تحت تركستان واستولى على بلخ وبخاري والحاصل أن الأفغان والتركستان وجميع أهل إيران أطاعوه، وتزعم العجم أن الهند - شاههم شاه محمد - بايعوه، وأن الشاه محمد وكيل عنه، ولأجل ذلك لقب نفسه شاهنشاه وأمر أن لا يسمى إلا بهذا الاسم، وأوعد من يطلق عليه غير هذا الاسم. ثم توجه نحو داغستان يريد اللزك، وهو في هذه المدة لا تنقطع سفراؤه ورسله عن الدولة العثمانية، فتارة يطلب منهم حد الرها إلى ما وراء عبادان، وأن هذا ملكه بحسب الإرث عن تيمور الذي يدعى أنه وارثه ويطلب منهم أيضا التصديق بأن المذهب الشيعي الذي هم عليه الآن هو مذهب جعفر الصادق وأنه حق! ويقولون: مذاهب الإسلام خمسة، ويطلب أن يكون له ركن خامس في الكعبة! ويطلب أن يكون هو الذي يباشر طريق الحج من طريق زبيدة فيصلح البرك والآبار وغير ذلك، ويطلب أن يكون أمير الحاج، وإذا ذهب من طريق العراق يذهب واحد من طرفه بالناس ويرجع ...
ولم يزل هذا دأبه وديدنه وهو يسعى في الأرض بالفساد حتى أخرب أكثر أراضي العراقيين، وظهر الخلل فيها إلى عام ١١٥٦ فجاء إلى عراق العرب بجحافل متواترة وجنود متوفرة عدد الرمل والحصى، وبث سراياه وعساكره في تلك الأراضي، فأبقى لحصار بغداد نحو سبعين ألفا وأرسل لحصار البصرة نحو تسعين ألفا، فحاصروها مدة ستة أشهر إلا أن البصرة ضاربوها بالطوب (أي المدفع) والقنابر والبنادق،
1 / 14
أما بغداد فإنهم كانوا عنها على نحو فرسخ، وما ذلك إلا بتدبير واليها الوزير الكبير أحمد باشا. وأما نادر شاه وباقي عسكره فتوجه إلى شهرزور فأطاعه أهلها وكذلك عشائر الأكراد والأعراب، ثم توجه إلى قلعة كركوك فحاصرها ثمانية أيام ضرب عليها في هذه المرة عشرين ألف طوب ومثلها قنابر فسلموا وأطاعوه، ثم توجه إلى أربل فسلم أهلها وأطاعوه، ثم توجه إلى الموصل - وكان معه من العسكر نحو مائتي ألف مقاتل - فرمى عليها في خلال سبعة أيام نحو أربعين ألف طوب ومثلها قنابر، فسلموا الأمور لمدبرها وهو الله تعالى. ثم حفر لغوما وملأها بارودا ورصاصا وأشعلها بالنار فكانت وبالا عليه، فلما علم أنه لا يحصل من الموصل على طائل ارتحل عنها وتوجه بعسكره إلى بغداد، فجاء ونزل في قصبة سيدنا موسى بن جعفر (١) فزاره وزار محمدا الجواد، ثم عبر دجلة في قارب وزار الإمام أبا حنيفة (٢) ولم تزل الرسل تختلف بينه وبين أحمد باشا إلى أن رفع مطالبة بالإقرار بصحة مذهب الشيعة والتصديق بأنه مذهب جعفر الصادق، ثم توجه إلى النجف لزيارة الإمام علي بن أبي طالب. وليرى القبة التي أمر بأن تبنى بالذهب.
فبينما أنا جالس قبيل المغرب من يوم الأحد الحادي والعشرين من شوال إذ جاء رسول الوزير أحمد باشا يدعوني إليه. فذهبت بعد صلاة المغرب ودخلت دار الحكم فخرج إلي بعض ندمائه وسماره (أحمد أغا) فقال: أتدري لم طلبك؟
_________
(١) وتسمى الآن (الكاظمية).
(٢) ويسمى موضع قبره الآن (الأعظمية)
1 / 15
قلت: لا
قال: إن الباشا يريد أن يرسلك إلى الشاه نادر.
فقلت: ولم ذلك؟
قال: إنه (يعني نادر شاه) يريد عالما يبحث مع علماء العجم في شأن مذهب الشيعة ويقيم الدلائل على بطلانه والعجم يقيمون الدلائل على صحته فإن غلب عالمنا يجب أن يقر ويصدق بالمذهب الخامس.
فلما قرع سمعي هذا الكلام وقف شعري وارتعدت فرائصي وقلت: يا أحمد أغا، أنت تعلم أن الروافض أهل عناد ومكابرة فكيف يسلمون لما أقول؟ لاسيما وهم في شوكتهم وكثرة عددهم، وهذا الشاه ظالم غشوم فكيف أتجاسر على إقامة الدليل على بطلان مذهبه وتسفيه رأيه؟ وكيف تحصل المباحثة معهم وهم ينكرون كل حديث عندنا، فلا يقولون بصحة الكتب الستة ولا غيرها، وكل آية أحتج بها يؤولونها ويقولون: الدليل إذا تطرقه الاحتمال يبطل به الاستدلال، كما أنهم يقولون: شرط الدليل أن يتفق عليه الخصمان، على أن الأمور الاجتهادية تفيد الظن، فكيف أثبت لهم جواز المسح على الخفين وهو قد ثبت بالسنة؟ فإن قلت: روى حديث المسح على الخفين نحو سبعين صحابيا منهم الإمام علي، قالوا: عندنا ثبت عدم جواز المسح برواية أكثر من مائتي صحابي منهم أبو بكر وعمر، فإن قلت: إن هذه الأحاديث التي توردونها في عدم صحة المسح موضوعة مفتراة، قالوا: كذلك الأحاديث التي توردونها في صحة المسح موضوعة، فما هو جوابكم هو جوابنا. فكيف يلزمون بمثل هذه الأحاديث؟ فأرجو من جناب الوزير أن يرفع هذه المحنة عني، وليرسل المفتي الحنفي أو المفتي
1 / 16
الشافعي، فإنهما الأنسب في مثل هذه الحادثة.
فقال أحمد أغا: هذا أمر لا يمكن، وجناب الباشا اختارك لذلك فما يسعك سوى الامتثال فلا تحرك لسانك بخلاف مراده.
قال السويدي: ثم اجتمعت بالوزير أحمد باشا صبيحة تلك الليلة فتذاكر معي بخصوص هذا الأمر كثيرا وقال:
أسأل الله تعالى أن يقوي حجتك، ويطلق بالصواب لسانك وأنت مخير بين المباحثة وتركها. ولكن لا تترك البحث بالكلية، بل أورد بعض الأبحاث من خلال الصحبة بالمناسبة ليعلم العجم أنك ذو علم وإن رأيت منهم الإنصاف، وأنهم يريدون إظهار الصواب فابحث معهم، وإياك أن تسلم لهم.
ثم قال: إن الشاه في النجف وأريدك أن تكون عنده صبيحة يوم الأربعاء.
وأتى لي بكسوة فاخرة، ودابة، وخادم، وأرسل معي بعض خدام ركابه، وواجهنا مع رسل العجم الذين جاؤا في طلبنا. فخرجنا يوم الاثنين قبيل العصر لاثنتين وعشرين خلون من شوال، فلم أزل في الطريق أصور الدلائل من الطرفين وأخيل الأجوبة إذا وقع اعتراض. ولم يزل هذا دأبي وديدني، لا فكر لي إلا في تصوير الدلائل ودفع الشبه، حتى أني صورت أكثر من مائة دليل، وعلى كل دليل جعلت جوابا أو جوابين أو ثلاثة على حسب الشبه ومظنتها. وحصل لي في الطريق ضيق، حتى صار بولي دما عبيطا فدخلنا حلة دبيس بن زيد - وهي إذ ذاك في يد الأعاجم - فلقيت فيها بعض أهل السنة والجماعة، فأخبروني بأن الشاه جمع لهذه المسألة كل مفت في بلاده، وقد بلغوا الآن سبعين مفتيا كلهم روافض، فلما طرق سمعي ذلك
1 / 17
حوقلت واسترجعت (١) وزورت في نفسي كلاما وقلت: إن زعمت أني لست بمأمور بالمباحثة أجد نفسي لا تطيب بذلك، وإن باحثتهم أخشى أن ينقلوا للشاه خلاف ما يقع، فعزم رأيي وجزم فكري بأني لا أباحثهم إلا بحضور الشاه، وأقول له: إن مباحثتي تحتاج إلى حكم عالم لا يكون سنيا لئلا يتهم بأنه يريد مناصرتي، ولا شيعيا لئلا يتهم بأنه يريد مناصرتهم، فنحتاج حينئذ إلى عالم إما يهودي أو نصراني أو غير ذلك ممن لا يكون سنيا ولا شيعيا، وأقول له إنا قد رضينا بك، وأنت الحكم بيننا والله تعالى سائلك يوم القيامة فاسمع مقالنا لكي يظهر لك الحق.
ثم أني خليت لو مال رأيه إليهم، أخاصمه وأكالمه ولو أدى ذلك إلى قتلي، هذا كله أجريته في مخيلتي.
فخرجنا من الحلة المذكورة وقت العشاء الأخيرة ليلة الأربعاء المعهودة وكانت ليلة كثيرة الدث والضباب (٢) لا يبصر الإنسان يده، وهي أشد وأبرد من الليلة التي قال فيها الشاعر:
في ليلة من جمادي ذات أندية ... لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا
فلم نزل نسير تلك الليلة إلى أن جئنا (المشهد) المنسوب إلى ذي الكفل على نبينا وعليه الصلاة والسلام - وهو في نصف الطريق بين الحلة والنجف - فنزلنا خارج البناء واسترحنا قليلا، وسرينا، وصلينا الفجر عند بئر دندان، فلم نشعر إلا والبريد (٣) يعدو عدوا شديدا، فقال لي:
_________
(١) أي: قلت " لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون "
(٢) الدث: أضف المطر وأخفه. قال أعرابي: أمطرتنا السماء بدث لا يرضي الحاضر ويؤذي المسافر.
(٣) رسول الشاه.
1 / 18
ـ أسرع فإن الشاه يدعوك في هذا الوقت
وكانت المسافة بيني وبين مخيم الشاه فرسخين، فقلت للبريد:
ـ وكيف عادة الشاه إذا أرسل إليه رسول من بعض الملوك، أيطلبه كطلبي هذا من الطريق، أم يبقى مدة ثم يطلبه؟
قال: ما طلب أحدا غيرك من الطريق ولا طلب سواك.
فتحركت السوداء، وقلت في نفسي ما طلبك الشاه مستعجلا إلا ليلجئك على الإقرار والتصديق بمذهب الإمامية، فأولا يرغبك في الأموال فإن أجبته وإلا أكرهك على ذلك، فما رأيك؟ فخرجت على أني أقول الحق ولو كان فيه تلف نفسي، ولا يميلني ترغيب، ولا يزعجني ترهيب. وقلت: إن الإسلام وقف يوم توفي رسول الله ﷺ فمشى بسبب أبي بكر الصديق ﵁ ووقف ثانيا في محنة القول بخلق القرآن، فدرج بسبب أحمد بن حنبل ﵀. وفي هذا اليوم وقف الإسلام ثالثا فإن توقفت وقف وقوفا أبديا (نعوذ بالله من ذلك) وإن درجت درج درجا سرمديا، ووقوفه ودرجه بسبب وقوف أهله ودرجهم. ولا ريب أن أهل تلك الأطراف لهم بهذا الفقير حسن ظن فيعتقدون بي: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فجزمت نيتي وحسنت طويتي ووطنت نفسي على الموت حتى استسهلته وقلت: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وسقت دابتي وأنا أكرر الشهادتين، فتراءى لي علمان كبيران رفيعان كالنخلة السحوق فسألت عنهما، فقيل لي: إنهما علما الشاه يغرزهما ليعلم أكابر الجنود كيفية نزولهم في المخيم، فمنهم من ينزل عن يمين
1 / 19
العلمين ومنهم من ينزل عن شمالها ... إلى غير ذلك من الأوضاع، فسرنا حتى رأينا الخيام، وخيمته على سبعة أعمدة كبار رفيعة، فجئنا إلى محل يعبر عنه عندهم بالـ (كشك خانه) وهي عبارة عن خيام متقابلة، في كل طرف خمس عشرة خيمة على هيئة القبلة التي لها إيوان، لكن بلا عمد وبين رأس الخيام مما يلي خيمة الشاه رواق متصل وفي وسطه باب عليه سجاف، ففي الخيام التي على اليمين نحو أربعة آلاف بنادقي ليلا ونهارا يحرسون، والتي عن الشمال فارغة كراسي منصوبة لا غير، فلما دنوت إلى الكشك خانه نزلت، فخرج لاستقبالي رجل، فرحب بي، وأكرمني ولم يزل يسألني عن الباشا وعن خواص أتباعه، وأنا أتعجب من كثرة معرفته بأتباع الشاه، فلما عرف ذلك مني قال:
ـ كأنك لا تعرفني!
قلت: نعم
فقال: أنا عبد الكريم بيك، خدمت في باب أحمد باشا مدة، وفي هذه الأيام أرسلت من طرف الدولة الإيرانية إلى الدولة العثمانية إيلجيا (سفيرا).
فينما هو يحدثني؛ إذا نحن بتسعة رجال أقبلوا، فلما وقع نظره عليهم قام على قدميه، فسلموا علي، فرددت عليهم وأنا جالس لا أعرفهم، فشرع عبد الكريم يعرفهم لي واحدا بعد واحد فقال لي:
ـ هذا معيار الممالك حسن خان، وهذا مصطفى خان، وهذا نظر علي خان، وهذا ميرزا كافي ...
فلما سمعت بذكر (معيار الممالك) قمت على قدمي فصافحني هو ومن
1 / 20
معه ورحبوا بي. ومعيار الممالك هو وزير الشاه، كرجي الأصل من موالي شاه حسين.
ثم قالوا لي: تفضل لملاقاة الشاه.
فرفعوا السجف التي وسط الرواق فبان وراءه رواق آخر، بينهما فسحة ثلاثة أذرع، فأوقفوني هناك وقالوا:
إذا وقفنا قف، وإذا مشينا امش!
فأخذنا ذات اليسار فانتهى الرواق وإذا ببرقع واسع يحيط به رواق يرى من البعد وفيه من الخيام كثير لنسائه وحرمه، فنظرت إلى خيمة الشاه وإذا هو عني مقدار غلوة سهم، جالس على كرسي عال. فلما وقع نظره علي صاح بأعلى صوته:
مرحبا بعبد الله أفندي! أخبرني أحمد خان (يعني أحمد باشا) يقول إني أرسلت لك عبد الله أفندي ...
ثم قال لي: تقدم!
فتقدمت مثل الأول، ووقفت ولم يزل يقول لي (تقدم!) وأنا أتقدم خطا صغيرا حتى صرت منه قريبا نحو خمسة أذرع، فرأيته رجلا طويلا كما يعلم من جلسته وعلى رأسه قلنسوة مربعة بيضاء كقلانس العجم وعليه عمامة من المرعز مكللة بالدرر واليواقيت والألماس وسائر نفائس الجواهر وفي عنقه قلائد در وجواهر على عضده كذلك. والدر والألماس واليواقيت مخيطة على رقعة مربوطة بعضده، ويلوح على وجهه أثر الكبر وتقدم السن، حتى أن أسنانه المتقدمة ساقطة، فهو ابن ثمانين عاما تقريبا
1 / 21