المطالعة العربية
المطالعة العربية
المطالعة العربية
المطالعة العربية
لمدارس البنات
تأليف
نبوية موسى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين «وبعد»؛ فإن الأطفال يتعلمون اللغات بمجرد تعودهم سماعها، فإذا تعودوا سماع الكلام الصحيح ثبت ذلك في أذهانهم، وبعد عليهم النطق بالخطأ، وإن لم يتعلموا شيئا من القواعد؛ لما في طبيعتهم من قوة الاستعداد للتقليد.
ولما كان الغرض من تعليم اللغة العربية أو غيرها من اللغات إنما هو تعليم الطفل كيف يعبر عن مكنون صدره، بعبارة صحيحة فصيحة، وجب أن نورد عليه العبارات الراقية الجيدة المعنى والأسلوب، خالية من الحشو والتطويل، يتخللها الآراء الصائبة، فنكون قد خططنا للطفل طريقا يتبعها في سيره، ومددناه بأفكار يعمل قريحته في فهمها، والوقوف على حقيقتها، ثم ادخارها في ذاكرته، حتى إذا بلغ أشده عبر عن حاجته بما اعتاده من جودة الإنشاء، وسداد الرأي «وكل امرئ جار على ما تعودا».
هذا، ولا أرى بأسا باستعمال بعض التشبيهات القريبة؛ فإنها وإن عجز الطفل عن الإتيان بمثلها تمثل له الشيء المعنوي بمثال محسوس يمكنه تصوره، وهي مع ذلك تقوي تخيله، وتنبهه إلى الأشياء المتشابهة، ولا بد له من قراءة بعض موضوعات في الوصف؛ ليتعلم كيف يصف لسانه ما يراه عيانه.
وإني لا أرى بأيدي التلميذات الآن كتبا تفي بهذا الغرض، مع لفتهن إلى ما يجب عليهن من محاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، ولما كنت فتاة أشعر بما تشعر به الفتيات، وأعرف من أين يتأثرن، وما يحرك عواطفهن، ألفت هذا الكتاب لتلميذات السنتين الثالثة والرابعة من المدارس الابتدائية للبنات، وجعلته حاثا على الآداب في أسلوب لا يظهر فيه أمر ولا نهي؛ لأن الإنسان إذا أمر بشيء فربما ثقل عليه عمله، أو نهي عن شيء تاقت نفسه إليه، كما قيل: «وحب شيء إلى الإنسان ما منعا».
لذلك شرحت الأمر الحسن ومدحته، وبينت الشيء القبيح وذممته، وتركت الفتاة تختار لنفسها ما شاءت، وعضدت آرائي ببعض حكايات تاريخية، فيها شيء من أخلاق العرب وآدابهم وأشعارهم حتى تقف التلميذة على شيء من عاداتهم المحمودة، فتحترمهم وتحب لغتهم، وتنظر إليها بعين غير التي ينظر بها بعض التلاميذ الآن، ولم أقصد فيه إلى النصائح المشهورة، التي يسهل على كل أحد الاهتداء إليها مثل: «لتجلس التلميذة أمام معلمها أو والدها بغاية الأدب».
بل رأيت أن التلميذة متى انتهت إلى السنة الثالثة عرفت آداب الجلوس والمشي، ونظافة الأيدي وغير ذلك من الآداب الظاهرة التي لا تتعدى باب المدرسة، أو حضرة أبيها، لكنها يعوزها أن تحلي نفسها بالفضيلة، فتسعى وراءها، وتعلم أن لها في العالم أهمية عظيمة، وأن عليها عملا جليلا يجب إتقانه، فتعرف قدرها، وتترفع عن كل ما ينقصها أو يمس شرفها.
وقد وصفت أرض مصر وقارنتها بالبلاد الأخرى، وأظهرت فضلها وجودة تربتها وغير ذلك، مما يجعل التلميذة تفتخر ببلادها، فتحبها، وتعرف أنها نفيسة فتحرص عليها.
وقد عرضت كثيرا من موضوعاته على تلميذات السنة الثالثة فوجدتها تناسب مداركهن.
نبوية موسى
المطالعة العربية
(1) من لم ترفعه الفضيلة وضعته الرذيلة
إن الفضائل أخلاق كريمة، يحمد المرء على الاتصاف بها، مثل: الاجتهاد، والعلم، والوفاء، والصدق، والأمانة، والعدل، والتواضع، والصبر، والحزم، وكتمان السر، والقناعة، والإقدام على فعل الخير، وضد ذلك الرذائل والنقائص مثل: الكسل، والجهل، والغدر، والكذب، والخيانة، والظلم، والكبر، والجزع، والطيش، وإفشاء السر، والشره، والإحجام عن فعل الخير.
وعلى قدر فضل الإنسان يكون حظه في الحياة الدنيا والآخرة، فإذا اتصف بالفضائل كان جديرا أن يرتفع بعد الضعة، ويسعد بعد الشقاء، ويغنى بعد الفقر، وإلا وضعته الرذيلة، ولو ارتفعت أجداده وجعلته سبة عليهم ووصمة في تاريخهم.
ومن نظر في التاريخ علم كيف ترفع المرء فضيلته. هؤلاء الخلفاء الراشدون - رضي الله تعالى عنهم - ارتقوا بالفضائل، فعاشوا مسودين، وماتوا مأسوفا عليهم، بعد أن خلفوا من الأثر الحميد ما زين كتب التاريخ، أسسوا الملك على دعائم العدل والحكمة، فأصلحوا الفاسد، ومنعوا الجور، وأدوا أعمالهم بالحزم والنشاط، فأصابوا حاجتهم، وسادوا معاصريهم من ملوك البلاد، وكانوا قدوة حسنة لمن بعدهم.
ولا فرق في التحلي بالفضل بين الرجل والمرأة؛ إذ إن كلا منهما يحتاج إلى الفضل احتياج العيون إلى الضوء، وتكاد المرأة تكون أشد احتياجا إلى ذلك من الرجل؛ لما تقوم به من تعهد الأطفال ومخالطتهم من ابتداء نشأتهم وما يتعودونه من طباعها في تلك المخالطة، وقد تكون هذه الطباع عادة لهم إذا كبروا؛ لتمكنها من نفوسهم الخالية.
وما من عصر خلا إلا واشتهرت فيه النساء بما اشتهر به الرجال، فقد اشتهرت نساء العرب بالوفاء والشجاعة والفصاحة، كما اشتهر ذلك عن رجالهن، ومنهن الخنساء، فقد اشتهرت بالشعر حتى فاقت الرجال فيه، والجيداء قد اشتهرت بالفروسية وقوة الساعد، والسيدة عائشة بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما؛ فقد كانت أحب أزواج النبي إليه؛ لما اتصفت به من الفضل وكمال الأدب، وكانت الرجال تقصدها بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
لتسألها في العلم فتفتيهم فيه من وراء حجاب، وكان لها ذوق جميل في انتقاد الشعر والكلام العربي، وكانت ذات حزم وثبات وصبر، لا تهولها المصائب.
ويحكى أنها قامت على قبر أبيها يوم وفاته فخطبت وبينت حسن أفعاله وطاعته لله - سبحانه وتعالى - ولم يبد عليها جزع، بل كانت صابرة على ما ابتليت به، وكانت مع ذلك على جانب عظيم من الشجاعة والإقدام، فقد حضرت وقعة الجمل بنفسها؛ ولذلك اشتهرت أكثر من سائر أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ، وخلد ذكرها في كتب التاريخ. (2) الصدق
الصدق إظهار الأمور على حقيقتها بالقول والعمل، فهو يفيد الإنسان علما صحيحا بالأشياء المحيطة به، ونعمت الفائدة؛ فإذا اعتاد الإنسان الصدق عرف به فأفاد الناس بصدقه، واستفاد منهم؛ لاعتمادهم عليه في القول والعمل، ونفيهم عنه سمة الكذب المهينة.
وإن عرف الإنسان بالكذب لم يكد
يصدق في شيء وإن كان صادقا
هذا فضلا عن ارتكاب الكذوب الآثام لتقوله على الناس ما لم يقولوا، وظلمه لهم فيما عساه أن يصيبهم بسبب كذبه، وهو مع ذلك يخسر حسن سمعته بين الناس، ويضطرب إذا ظهر كذبه، ويتعب نفسه في اختلاق الأقاويل؛ ليستر عيب كذبه بكذبه، ولو صدق لكفى الناس شره، وأراح نفسه. (3) المتظاهرة بالقناعة
يحكى أن فتاة كانت تتظاهر بالقناعة والرضا بالقليل وعدم الاكتراث بالمآكل، وكانت مع ذلك تدخل مخزن الأكل سرا فتبحث فيه عما يطيب لها من المآكل، وتأكل جهد استطاعتها حتى إذا شعرت والدتها بتناقص الأشياء وسألتها عن ذلك أنكرته كل الإنكار، فلم يكن لوالدتها بد إذ ذاك إلا اتهام الخدم ولومهم، وأخذ بعض أجورهم، والفتاة مع كل ذلك مطمئنة القلب، لا يعنفها ضميرها على سوء فعلها، ولا تتحرك في قلبها عاطفة الرحمة على هؤلاء المساكين البرآء، فتحيرت والدتها في أمرها، وأرادت أن تقف على الحقيقة؛ فأحضرت إناء جميلا من أواني المربى، محكم الغطاء، ووضعت فيه نحلا وغطته، ووضعتها بدل المربى.
فلما جاءت الفتاة على عادتها عمدت إلى هذا المحل فوقع بصرها على الإناء، فأعجبها شكله، وأرادت أن تعرف ما فيه، فأخذته وانتحت ناحية وفتحته، فخرجت عليها النحل تلسعها، فصاحت واستغاثت، وجاءت والدتها والخدم وهي على تلك الحال، فلم يرث لها أحد، بل قالت والدتها: قد كنت تهربين من الخيانة إلى الكذب، وكلاهما شر، وقد نصبت هذا الشرك لأوقع فيه الجاني، فكنت أنت الواقعة، وقد ظهرت خيانتك، ولم يعد ينفعك كذبك، ولا يغتر الناس بريائك، ولقد صدق من قال:
ثوب الرياء يشف عما تحته
فإذا اكتسيت به فإنك عاري
فخجلت الفتاة، وأظهرت الأسف، وعزمت على التوبة، وفرح الخدم بوقوع المسيء في شر أعماله. (4) الأمانة
الأمانة محافظة المرء على حقوق غيره، كما يحافظ على حقوق نفسه، بل أشد، فهي قوام العدل، وأصل التقوى، ودليل على كرم النفس وعدم حب الذات الذي هو أصل كل شر وفساد، فلولاه ما استأثر الغني بماله دون الفقير، ولا قتل الفقير الغني طمعا في ماله، ولا كان الناس إلا كأخوة يساعد بعضهم بعضا، فتصفو قلوبهم، وتتيسر أمورهم، وتنجح مساعيهم.
والصدق والأمانة خلتان إذا كانتا في واحد وثق به الناس وأمنوه على أموالهم وأسرارهم وأرواحهم، فيكثر رزقه، وتحسن حاله، ويكتسب الشرف، وحسن الثناء. (5) الفقير الأمين
يحكى أن أحد الفضلاء غدر به الدهر، واستحالت حاله ، وافتقر بعد الغنى، فتقطعت به الأسباب، واضطر إلى بيع ملابسه لضيق ذات يده، فأعطى أحد الدلالين ثوبا، وقال له: بعه، وبين للمشتري هذا العيب الذي فيه، وأراه خرقا في الثوب، فمضى الدلال وجاء في آخر النهار، فدفع إلى الرجل ثمن الثوب، وقال: بعته لرجل أعجمي غريب بهذه الدنانير. قال الرجل: وهل أريته العيب؟ قال: لا، وإني نسيت. قال: لا جزاك الله خيرا، فقد غششت المشتري، وأخذت الدنانير ظلما، فامض معي إليه، فذهبا وقصدا مكان الأعجمي فلم يجداه، وسألا عنه، فقيل لهما: إنه رحل إلى مكة مع قافلة الحجاج، فلم تطمئن نفس صاحب الثوب بأخذ هذا المال ظلما مع ما به من الفاقة، بل عرف صفة الأعجمي من الدلال، واكترى دابة ولحق القافلة وسأل عن الأعجمي، فدله الناس عليه، فقال له: إن الثوب الذي اشتريته من الدلال فلان بكذا وكذا فيه عيب فهاته وخذ ذهبك. فقام الأعجمي وأخرج الثوب وطاف على العيب حتى وجده، فلما رآه عجب من أمانة الرجل وصدقه وشرف نفسه مع ما به من الفاقة، وقال: يا هذا، أخرج ذهبي حتى أراه، وكان الذهب مغشوشا، ولم يعلم ذلك البائع؛ لأنه لم ينظر إليه ولم ينتقده، فلما أخرج الذهب أخذه الأعجمي ورمى به إلى الأرض، وقال: إني قد كنت غششتك واشتريت منك هذا الثوب بذهب زائف طمعا مني في المال، أما الآن وقد ظهرت أمانتك وأبنت بفعلك عن فضلك، فقد اشتريت منك هذا الثوب على عيبه بمثل هذا الذهب، وأعطاه بمقدار الذهب المغشوش ذهبا جيدا، فأخذه الرجل ورجع ظافرا بالمال والشرف. (6) الاجتهاد والتقوى أصل سعادة الدارين
إن سعادة الآخرة مرتبطة بأعمال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فإذا سعى في إصلاح دنياه وهو يخشى الله - سبحانه وتعالى - صلحت بذلك آخرته، واكتسب مالا يستعين به على طاعة الله، فالمثري العاقل إذا أحسن التصرف قام بما يقربه من الله - سبحانه وتعالى - فأعان الضعيف، وأعطى المعوز، وبنى المساجد والمستشفيات والملاجئ.
أما الفقير فيقوم الفقر بينه وبين ما يريد من عمل الخيرات التي تتوقف على المال كما قال الشاعر:
لحا الله دهرا خصني بخصاصة
فأقعدني عما سعى فيه أمثالي
تنوب صديقي نائبات زمانه
فتمنعني من رفده قلة المال
فوا أسفا من مكرمات أرومها
فينهضني عزمي ويقعدني حالي
هذا إذا كان الفقير ورعا تقيا شريف النفس، وإلا دفعته الحاجة إلى ارتكاب المآثم فتسوء آخرته بفساد دنياه.
فعلى العاقل أن يسعى وراء المنفعة جهد استطاعته طالبا إصلاح دنياه طلب المخلد فيها الآمن من زوالها، وهو مع ذلك يخشى الله - سبحانه وتعالى - ويعمل بما يرضيه عمل الخائف من عقابه، المترقب قرب لقائه، حتى لا يسيئ التصرف فيما أصاب من نعيم الدنيا، فيطغى فيها، ويكون حظه منها الحرمان من رحمة ربه - والعياذ بالله، بل يقوم بواجب دنياه وآخرته فيعيش سعيدا محمودا، ويفوز في الآخرة برضا الله - سبحانه وتعالى. (7) الزائر المتعجب
زار أحد الفضلاء غنيا من أغنياء أمريكا، فرآه في قصر منيف قد أحاطت به حديقة غناء، فيها من الأزهار والثمار ما يأخذ بالأبصار، وعلى القصر من الأبهة والرواء ما يجعل الإنسان يظنه لأحد الملوك، فأخذ الزائر العجب من اتساع ثروة الرجل وكثرة خدمه وحشمه، وما في قصره من النفائس، وجعلا يتحدثان إلى أن انتهيا إلى وسط القصر، وإذا هما بكوخ صغير يظهر عليه الفقر وسوء الحال، فبهت الزائر عند رؤيته، وظهرت عليه علامات التعجب، فالتفت إليه رب المنزل مبتسما وقال له: لعلك قد راعتك رؤية مثل هذا الكوخ وسط قصري؟ قال: نعم، قد حيرني ذلك. قال: لا تعجب؛ فإن هذا الكوخ هو منبع هذه الثروة العظيمة التي أدهشتك، فهو المنزل الذي ولد فيه جدي، وهو مؤسس هذه الثروة، ورافع هذه الأسرة بعد الضعة، ولد في هذا الكوخ، وترعرع فيه، ولكنه جد وأعمل الفكرة، وساعده الحظ والاستقامة، فنال ما ترى، ولم يشأ أن ينسى منشأه، فبنى قصره حول هذا الكوخ، وجعل يزوره كلما استطاع ذلك حتى لا ينسى حالته القديمة، ولا يترك الاجتهاد والاستقامة اللذين كانا سببا في إصلاح حاله، فيحمد الله - سبحانه وتعالى - الذي هداه إلى سواء السبيل ، ويشكر له ذلك بطاعته لأوامره، وإني أحفظ هذا الكوخ أثرا حميدا لهذا المجتهد التقي، حتى لا أترك خطته، ولا أسلك غير سبيله، فإني أخشى أن مالا جمعه العلم والحزم يبدده الجهل والطيش. فعجب الزائر وتمثل بقول القائل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يخفض بيت العز والشرف (8) وفاء امرأة بوعدها
لما تولى الخلافة المأمون بن هارون الرشيد خرج عليه عمه إبراهيم بن المهدي، فجهز المأمون جيشا قهر به إبراهيم، ففر مستخفيا، وجعل المأمون لمن دله عليه ألف دينار، فبينما إبراهيم سائر ذات يوم إذ بصر به جندي فعرفه، فنادى هذا والله طلبة أمير المؤمنين، وتعلق بأثوابه، فخاف إبراهيم على نفسه ودفع الجندي دفعة قوية ألقته عن ظهر جواده، فشج رأسه، وتركه ملقى على الأرض، وقد اهتم الناس بأمره، وأسرع في سيره حتى دخل زقاقا، فوجد في صدره دارا مفتوحة فدخلها مسرعا، وإذا هو بامرأة يلوح عليها الوقار والسكينة، فقالت: ما حاجتك؟ قال: إني امرؤ خائف على دمي، وقد لجأت إليكم واستجرت بكم. قالت: على الرحب والسعة، ادخل فأنت آمن، ثم أدخلته في مقصورة وأغلقت عليه الباب.
ولم يكد يهدأ روعه حتى سمع ضجة بالباب، فنظر فإذا الجندي قد دخل الدار ومعه جم غفير من الناس، وهو لا يقوى على المشي لشدة ما أصابه، وقد عصب رأسه بعصابة، فاستلقى على فراشه، وكان إبراهيم بحيث يراهم ولا يرونه، فأيقن بالهلاك، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقد ساقني حتفي إلى هذه الدار، فلا مفر من أمر الله.
فلما خرج الناس إلى حال سبيلهم، جعل الجندي يتأوه، ويقول: لقد بصرت بالغنى ثم أفلت مني، فأخذت المرأة تلاطفه وتخفف مصابه حتى نام، ثم قامت إلى إبراهيم وقالت: أظنك صاحب القصة؟ قال: نعم، أنا هو. قالت: لا بأس عليك، فقد أجرتك ولا سبيل إلى نقض العهد، فانج الآن بنفسك. فخرج من عندها وهو يعجب من عقلها ووفائها وعدم طمعها في المال، مع ما علمت من وعد أمير المؤمنين.
فلما انكشف أمره للمأمون، وعفا عنه، قال له: أخبرني بما رأيت أيام استخفائك؟ فحدثه حديث المرأة، فأعجب المأمون وفاؤها، وأمر بإحضارها، وكافأها على إحسانها. (9) التربية المنزلية
إن الإنسان في سن طفولته كغصن كرم لين، يميل حيث وجهته، وتلتف فروعه على ما يجده هناك من الأشجار أو الأعمدة القريبة منه، ويصعب بعد ذلك تخليصه مما علق به، وربما تلف إن حاول صاحبه ذلك.
فإذا نشأ الإنسان في أسرة كريمة تعوده التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وتقوم بتربيته مربية فاضلة، تسلك به سبل السداد، وتجعل سيره على صراط الدين القويم، وتقوم ما اعوج من أخلاقه، وتصلح ما فسد من طباعه، شب وهو يرتاح للفضيلة، لما ألفه منها، وينفر عن الرذيلة لعدم تعوده إياها، وصادفت تلك التربية نفسا خالية، فثبتت فيها، وصحيفة بيضاء فارتسمت عليها، وتعذر بعد ذلك محوها، فهو ينشأ على ما تعوده صغيرا، وتصير الفضائل طبعا له، لا تكلف فيها حتى إذا ترعرع وذهب إلى المدرسة لم يكن للمعلمين هم إلا تعليمه، وكان طوع بنانهم فيما يرشدونه إليه من الخير، فلا يلبث أن يصير إنسانا كاملا ينفع نفسه وغيره، والفضل في ذلك للتربية المنزلية.
أما إذا نشأ في أسرة سيئة الأخلاق، فلا يلبث أن تسري في نفسه الخالية تلك الأخلاق فتتمكن منها، ويصعب عليه تركها، فيشق على المعلمين إرشاده إلى الخير أو تعليمه ما أرادوا، فيكبر على الجهل والشر، ويحرم نعيم الدنيا والآخرة.
فلا غرو أن عظم شأن هؤلاء الأمهات في نظر البصير، ووجب الالتفات إلى تهذيبهن وتعليمهن؛ لما يترتب على أعمالهن وأخلاقهن من صلاح مستقبل أولادهن، أو فساده؛ لسبقهن المعلمين إلى غرس العادات في نفوس الأطفال، وقد قيل:
قد ينفع الأدب الأطفال في صغر
وليس ينفع عند الشيبة الأدب
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
ولن تلين ولو قومتها الخشب
وقال آخر:
عود بنيك اعتناق الفضل في الصغر
كيما تقر بهم عيناك في الكبر
فإنما مثل الآداب تجمعها
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها
ولا يخاف عليها حادث الغير (10) السارق والجمل
يحكى أن لصا سرق بعيرا، وأراد الهرب به ليلا، فشعر به صاحب البعير، وتبعه في جماعة من قومه، فلما رأى السارق أن القوم كادوا يدركونه أراد أن ينحيهم عنه، فأطلق فيهم سهما من كنانته، فأصاب صاحب البعير فسقط ميتا، وأسرع القوم إلى اللص فأدركوه وقبضوا عليه، وأرسلوه إلى الحاكم، فزج به في السجن مكبلا بالحديد، ثم صدر الأمر بإعدامه حتى إذا كان يوم الإعدام طلب اللص أن يرى والدته؛ ليفي بعض ما لها عليه من الشكر، فأجيب إلى ما طلب، ولما حضرت قال لها: إن لي عندك حاجة أرجو قضاءها. قالت: كل حاجة لك عندي مقضية. قال: ائذني لي أن أقبل لسانك. قالت: وما يعجبك في ذلك. قال: أردت أن أقبل لسانا طالما أسمعني الخير. فأخرجت المرأة لسانها، فمال عليه بحدة أسنانه فقطعه، فلامه من حضر، وقالوا: أجناية وعقوقا بحقوق الوالدة؟! قال الرجل: لو تعلمون الحقيقة لعذرتموني. قالوا: وما ذاك؟
قال: كنت طفلا آوي إليها، فاعتدت منها سوء الخلق والكذب، وحب الباطل والطمع في أموال الناس، حتى إذا بلغت السادسة من عمري سرقت بيضة من بيت جارنا وأتيت بها والدتي، فسرت بذلك وهشت له، وقبلتني بين عيني، فشجعتني على السرقة بفعلها هذا، وما زالت سرقتي تكبر كلما ترعرعت حتى صارت جملا، ووقعت بسببها في هذه الجناية، ولو زجرتني عند سرقة البيضة لما اعتدت السرقة صغيرا، ولا شقيت بها كبيرا، فوالدتي سبب وجودي في هذه الحياة الدنيا، وهي أيضا سبب شقائي فيها، وخروجي منها جانيا كما ترون، أساق إلى النار وبئس المصير.
قال الحاضرون: صدق الرجل فيما قال، فإن أما هذه حالها تسوق بنيها إلى الهلاك وهم لا يشعرون. (11) السمعة
ينشأ الإنسان ونفسه منطوية على غرائز خلقت فيه أو ورثها عن آبائه وطباع اكتسبها، إما بالتعليم أو بالاقتداء بمن خالطهم في سن طفوليته، حتى إذا بلغ أشده ثبتت تلك الطباع في نفسه، فهو يعمل بما يميل إليه من خير أو شر، فإذا كان مجدا في عمله، قائما بالقسط، شريف النفس، عالي الهمة، بعيد النظر، حازم الرأي، صادقا في أقواله وأعماله، محبا لإصلاح الناس، حريصا على نفعهم، أمينا على أموالهم وأسرارهم، مقداما في الشدائد، اشتهر بذلك عند الناس، فتوجهت إليه أنظارهم، ونطقت بمدحه ألسنتهم، وحسنت به ثقتهم، فيلقون إليه بمقاليد الأمور، واثقين بصدقه وأمانته، وحسن تصرفه، فإن كان تاجرا راجت تجارته، أو صانعا أقبل الناس على عمله، أو موظفا قلده رؤساؤه أهم الأعمال، فينسب إليه كل خير، وينزه عن كل شر، فنعم رأس المال السمعة الحسنة.
أما إذا اتصف المرء بالرذائل، فلا يلبث أن يشتهر بها عند الناس.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فيبتعدون عنه ابتعاد الصحيح عن ذي آفة، فلا يلتفتون إليه، ولا يعاملونه، فتكسد سوق تجارته، وتتعطل أعماله ويسوء مآله.
لذلك وجب أن نهذب أخلاق الأطفال منذ نشأتهم حتى لا تسوء سمعتهم، فيتحاماهم الناس، وتضيق أرزاقهم، وتغلق في وجوههم أبواب المطالب. (12) حاتم وضيفه
اشتهر حاتم الطائي، أحد سادات العرب بالجود والكرم، حتى قيل: إنه ربما كان يطعم الضيوف جميع زاده مع كثرته، ويبيت على الطوى مسرورا بما فعل من الإحسان، فشاع ذكره بين العرب، وضربوا بجوده المثل.
ويحكى أن أعرابيا ضافه ليلة، فلم يخرج إليه، ولم يكرمه، بل أرسل إليه بعض عبيده بقليل من الطعام، فبات الأعرابي متكدرا، وفي الغد ركب دابته وخرج من الخباء مغضبا، فتلثم حاتم وتبع الأعرابي واستوقفه وقال له: أين كنت الليلة يا أعرابي؟ قال: كنت ضيف حاتم طيئ. قال: فكيف كان مبيتك؟ قال: على أحسن حال، فقد نحر لي بعيرا وحياني وأكرمني كل الإكرام. فابتسم حاتم وقال: يا هذا، أنا حاتم، فما حملك على الكذب؟ قال: شهرتك بالجود بين العرب، فقد خفت إن قلت غير هذا أن أكذب فيه، فقلت ما قلت خشية أن ينسب إلي الكذب. فضحك حاتم ورده إلى الخباء، ونحر له بعيرا، وأكرم مثواه، وقال: ما فعلت ذلك أمس إلا مزاحا. (13) مكانة الفتاة وكيفية تربيتها تربية صحيحة نافعة
قد فرض الله - سبحانه وتعالى - على الفتاة من العبادات وغيرها مثل ما فرض على الفتى، ولم يكلفه بأكثر منها إلا قليلا، وهذا مما يدل على أن لها نصيبا وافرا من العمل في هذه الحياة الدنيا، وأن لها عقلا وذكاء، ولولا ذلك ما شرفها الله بتوجيه أوامره ونواهيه إليها، فصلاح العالم إنما يتوقف على سعي الرجل والمرأة، فلو فسدت أخلاق أحدهما فسدت بسببها أمور كثيرة، وإنما اختص كل منهما بعمل حتى لا يكون هناك اختلال في أداء الأعمال، وهكذا أمر الله في جميع الأشياء الأخرى، فقد جعل لكل عضو من الجسم عملا مخصوصا به لا يؤديه غيره، ولا يمكننا أن نفضل القلب على الرئتين مثلا لاحتياج الإنسان إلى كل منهما، ولو تلف أحدهما؛ لتعطلت أعمال الآخر، ومات الإنسان، كذلك الرجل والمرأة؛ لا يصلح أحدهما إلا بصلاح الآخر.
ولما كان الأطفال الصغار يلجئون إلى الأم؛ لتعلقهم بها، واحتياجهم إليها، وجب أن تقوم هي بتربيتهم، وتعهد المنزل، ويقوم الرجل بالسعي وراء اكتساب الرزق، وكلا العملين لا غنى عنه، فيجب أن تهذب أخلاقهما، وتطهر أنفسهما، حتى يستقيم أمرهما، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدين الذي يحث على الفضيلة، وينهى عن الرذيلة، فإذا تمسك كل منهما بدينه كملت أخلاقه، وقام بأعماله حق القيام.
وكما أن الفتى يتعلم العلوم لتتربى مداركه، ويكتسب بها عقلا يرشده إلى تحسين أعماله، واختراع أسهل الطرق وأنفعها في تأديتها، كذلك الفتاة يجب أن تتعلم حتى يقوى تصورها، وتهتدي إلى تحسين حالها، فإن عملها يحتاج إلى الحكمة والروية، فإنها تكون رئيسة منزل تدير حركته، فلا بد لها أن تعرف كيف توزع الأعمال على خدمها، وترشدهن إلى إتقان أعمالهن، وتحسن التصرف فيما لديها، وهي مسئولة عن صحة الأطفال وأخلاقهم، فلا بد أن تعرف طبائعهم وحالة أجسامهم؛ لتتبع على علم ما ينفع صحتهم، ويؤثر في طباعهم، وإلا أضرت بهم من حيث أرادت أن تنفعهم.
ومنها يطلب حفظ الأشياء والاقتصاد فيها، فلا بد لها أن تعرف طبيعة هذه الأشياء، وتأثير الأجواء فيها، ومقدار فائدتها للغذاء حتى تجيد ادخارها سالمة، وتحسن الانتخاب فيما ادخرت.
ويلزمها إبداء رأيها فيما يصلح أحوال المنزل، وبيان ما ينشأ عن ذلك من المنافع؛ لهذا وجب أن تتعلم الإنشاء وحسن المحاورة حتى تقدر أن تعبر عما في نفسها بعبارة ترضي السامع وتقنعه، فكثيرا ما ينشأ الشقاق عن سوء التفاهم بين المتخاطبين أو عدم دراية المتكلم بمواقع كلامه من القلوب، وجهله بآداب المحادثة، وكثيرا ما يحول الإنسان آخر عن اعتقاده بكلام حسن لين، فلا يشعر السامع أن المتكلم يعارضه في الرأي فيميل إليه بارتياح تام، وبذلك يسود الوئام في الأسرة.
فالفتاة في كل ذلك تحتاج إلى تعلم علوم كثيرة، هذا فضلا عن شدة احتياجها إلى درس التربية والأخلاق، درسا تاما، ولا يمكنها كل هذا إلا إذا تمكنت من لغتها، وعرفت معانيها وأساليبها، حتى تقف على ما دون بها من هذه العلوم، وتفهمه فهما جيدا، وتعمل فكرتها في الانتفاع بما علمت منه.
وبالجملة، فكل علم اشتغلت به الفتاة أفادها، فإن لم يرتبط بعملها مباشرة فهو يقوي إدراكها، ويسدد رأيها، ويعدها لإصلاح أعمالها، وإن لم تشعر، وليكن نصب عينيها في كل ذلك العناية بتدبير المنزل، فهو أول واجباتها المعاشية.
ولا يمنعها كل علمها من خفض جناح الذل لمن فضلهم الله عليها، ولتحترس من تقليد الرجال في خشونة الألفاظ أو تكون عديمة الحياء أو قليلته، ظنا أنها تبلغ بذلك كمالات الرجال، غير عالمة أن الشيء إنما يحسن في محله، وأن الغراب إذا حسد البلبل على حسن صوته وتغنى ليضاهيه كره الناس سماعه ورجموه بالحجارة؛ لينأى عنهم، وأن الفتاة لا يتم كمالها إلا بالتحلي بصفات النساء الممدوحة، مثل الحياء وغض الطرف، وحسن الألفاظ، ولين الجانب.
هذا، ولا يحسن أن تقتصر الفتاة على ما يؤهلها لإدارة المنزل فقط، بل يلزم أن يكون لها إلمام تام ببعض الفنون التي يسهل على السيدات القيام بها، ومشاركة الرجال فيها، مثل علم الطب والتعليم والخياطة، فربما احتاجت في المستقبل إلى اكتساب ما تقتات به.
والدهر ذو دول بالناس ينتقل
فالعلم جمال ما دامت غنية عنه وحفظ من الفاقة إن احتاجت إليه، هذا فضلا عن أن اشتغال الفتاة بهذه الفنون يفيد غيرها من السيدات فائدة أدبية عظيمة، وخير الناس أكثرهم نفعا. (14) الفتاة والدجاج
يحكى أن رجلا أرسل ابنته إلى المدرسة، ولم تكد تعرف مبادئ القراءة والكتابة، حتى أخرجها منها، واكتفى بما تعلمت، ظنا أنها بلغت من العلوم درجة يمكنها معها إعمال الفكر فيما ينفعها.
أما الفتاة، فلما رأت أنها تعرف ما لا تعرفه والدتها الجاهلة من قراءة وكتابة الرسائل أعجبت بنفسها، وظنت أنها بلغت من العلوم شأوا بعيدا لا تتنازل معه إلى النظر في تدبير المنزل، وظلت في معزل عن ذلك، تأنف أن ينسب إليها معرفة شيء منه، كأن العلم بذلك عار ونقيصة، ولبثت على ذلك سنين حتى توفيت والدتها، وصارت هي رئيسة المنزل، فاستعملت الغلظة وسوء الخلق مع خدمها حتى اضطرتهن إلى ترك منزلها، وطلب الرزق من غيره.
واتفق أن زار والدها بعض أصدقائه، ولم يكن في المنزل إلا الفتاة وخادمة لها صغيرة، لا تحسن صنع شيء من الأطعمة، فضاق الرجل ذرعا بذلك وقال لابنته: لو أمكنك أن تصنعي لنا ولو طعاما بسيطا لا يحتاج إلى التأنق لكفانا ذلك شر الاحتياج إلى المآكل المصنوعة في السوق، مع عدم ثقتنا بنظافة صانعيها، وانتخابهم أحسن الأشياء لصنعها، وقد أحضرت لك بعض دجاجات، فما عليك إلا أن تنظفيها جيدا وتصنعي لنا بمرقها ثريدا. قالت الفتاة: لا بأس بذلك، وسأريك نشاطي في العمل كما رأيته في العلم، فسر الرجل بذلك وقامت الفتاة لصنع الطعام.
حتى إذا كان وقت الغداء، ووضعت المائدة، قال الرجل لضيوفه: لا يخفى عليكم أن ابنتي صرفت كل زمنها في العلم، ولم تلتفت إلى تدبير المنزل؛ لعدم اكتراثها به، وقد تركت الخادمات منزلنا حديثا، وأملي أن أحضر غيرهن. لذلك اضطررنا أن نصنع لكم ثريدا، وهو طعام سهل الهضم مغذ، مع ثقتنا بنظافته لما أعهده في ابنتي من النشاط والتيقظ. قال الضيوف: نعم الطعام صنعتم، ولم يستتموا حديثهم حتى أحضر الخادم الطعام، فابتدروا يأكلون، ومد صاحب المنزل يده إلى دجاجة وقطعها ليقدمها لضيوفه، وما كاد يفعل ذلك حتى فاحت رائحة كريهة، وتبين للحاضرين أن الفتاة لم تخرج أمعاء الدجاج قبل طبخه، فاشمأزت نفوسهم، وندموا على تناول بعض لقيمات من الثريد.
قال أحدهم، وكان فطنا لبيبا: قد زعمت يا صاحبي أن فتاتك قد صرفت كل وقتها في العلوم، وأراها جاهلة حتى بالأشياء البديهية، ولو أعملت الفكرة لعلمت أنه لا بد للدجاجة من أمعاء تحتوي على فضلات غذائها، وإلا فأين يذهب غذاء الدجاجة، فغلطة فتاتك غلطة جاهلة، لا تدري شيئا، حتى ولا في تكوين جسمها، وهو أقرب إليها من مضيق جبل طارق وغيره، ولو تعلمت العلم الصحيح، واستضاء عقلها بالمعارف لأفلحت في كل ما قامت به من الأعمال، ولعرفت أنفع الأشياء إليها، فاهتمت به، فالعلم نور يهدي صاحبه إلى معرفة الحقائق، وهو جمال أينما كان، فلا تنسب إليه ما وقعت فيه ابنتك من خيبة الجهل، وأتم تعليمها، فربما ترى منها ما يسرك، فإن ما تعلمته مبادئ أولية لا يراد منها إلا وصول الإنسان إلى غاية محمودة، أما أنت فقد جعلت ذلك نهايتها فأخرجتها من العلم والعمل، فلا هي تعلمت فاستفادت كيف تستنتج من الأمر الواحد أمورا، ولا هي بقيت في المنزل فتعلمت ما عرفته والدتها بالتجربة والتلقين من أسلافها.
فخجل الرجل، وانصرف الضيوف يلعنون الجهل وعاقبته. (15) جمال الفتاة أدبها
إن الفتاة تبدى حالة الصغر
كزهرة أينعت مجهولة الخبر
فإن تغذت بماء العلم نبعتها
أهدت إلى الكون طيب العنبر العطر
وزينت روضة الآداب يانعة
وأخرجت ثمرا من أحسن الثمر
وإن يفتها التحلي وهي في صغر
بالعلم ذاقت عذاب الجهل في الكبر
فلا يغر فتاة حسن منظرها
ليس التفاضل بين الناس بالصور
ما الفضل إلا لمن طابت شمائلها
وألهمت في صباها دقة النظر
فقلدت بحلي العلم لبتها
وكحلت ناظريها فيه بالسهر
وزانها حسن ألفاظ إذا نثرت
على ترائبها أبهى من الدرر
وظل يرشدها العلم الذي علمت
فكل أعمالها نفع بلا ضرر (16) ملكة تخدم نفسها
اعتصبت الخادمات في قصر ملك أسبانيا، فأضربن عن العمل، وتركن القصر ، فاهتم الملك لذلك، أما الملكة فلم يهلها ما رأت، بل قالت: لا يهيم الملك بمثل هذا، وليعلم أن عملا تقوم به جماعة من الجاهلات لا يصعب على مثلي القيام به، ثم قامت فجهزت طعاما كان على قلب الملك أشهى من كل طعام غيره، لا لأن الملكة صنعته، ولكن لإتقان صنعته، ولذة طعمه، فإن الملكة لم يمنعها كل ما تعلمت من العلوم الراقية من تعلم تدبير المنزل، فأعملت فكرتها فيه، وساعدها اتساع عقلها بالمعارف على إتقان ما أرادات منه، فنالت العلم والعمل.
ولما رأت الخادمات أن الملكة قد استغنت عنهن بمعرفتها، عرفن قدرها، وعدن صاغرات خاضعات لأمرها، وكن من ذلك اليوم يجتهدن في تحسين ما يصنعن وإتقانه، علما منهن أن سيدتهن لها دراية تامة بكل ما يصنعن، فهي تعرف هفواتهن فيه وتنتقدها، فكن على حذر من ذلك. (17) المعلم والمتعلم
إن الأطفال يحتاجون إلى تربية نفوسهم احتياجهم إلى تربية عقولهم؛ إذ بدون التربيتين لا يقوم الإنسان بما وجب عليه، ولا يكون لأعماله نظام يعرف.
وإن المعلم خير مثال يقتدي بأعماله وأخلاقه المتعلمون، فضلا عن تربيته عقولهم بما يلقيه من العلوم النافعة، فإذا تحلى بمحاسن الآداب، واتصف بالكمال فقد سار بتلاميذه في سبل السداد، ونهج بهم منهج النجاح، يأمرهم بالفضيلة، وينهاهم عن الرذيلة، فيشبون أناسا عقلاء أفاضل، يكبتون العدو، ويسرون الصديق.
لذلك وجبت طاعته واحترامه على المتعلمين، فينقادون له، ويصغون إليه، حتى إذا أشكل عليهم الأمر، ولم يمكنهم فهم ما يلقيه تلطفوا في السؤال عما أرادوا، غير معاندين ولا مسلمين، فإن عنادهم جحود لنعمته، وعدم مروءة؛ إذ إن المعاند يأتي بأدلة فاسدة، يحاول بها ستر الحقيقة، وهو يعلم بطلانها، فهو مخادع كاذب، أما المسلم فهو إما جبان لا يقوى على المجاهرة بما لديه، وإما غبي لا يفهم ما يلقى عليه، فهو يتبع آراء المعلم على غير علم بها.
هذا، ويجب أن يعرف المتعلم لمعلمه حق ماله عليه من الفضل، فيخفض له جناح الذل، ويخضع لسلطانه، ولا يقاوم غضبه، وإن كان محقا في جداله ؛ لأن من المروءة معرفة الفضل لأهله، ووقوف المرء عند حده، فلا يتكبر على من هو أرفع منه قدرا، بل يعظمه ويحترمه، لا سيما من له الفضل عليه، مثل الوالدين والمعلمين، هذا فضلا عن أن خضوع التلميذ لأستاذه يقربه منه، ويستميله إليه، فيبذل له مكنون صدره، ويتحفه بذخائر علمه، فيرقى سلم النجاح، وتخضع له الآمال. (18) الكسائي عند الرشيد
كان الكسائي يؤدب الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد، فأراد يوما النهوض من عندهما، فابتدرا إلى نعله؛ ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها له، ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردا منها، فلما رفع الخبر إلى الرشيد وجه إلى الكسائي، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ قال: لا أعلم أعز من أمير المؤمنين. قال: بلى، إن أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله له وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل منهما أن يقدم له فردا منها. فأخذ الكسائي يعتذر حاسبا أنه أخطأ.
فقال الرشيد: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوما وعتبا، ولألزمتك ذنبا، وما وضع ما فعلا من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبين عن جوهرهما، ولقد تبينت مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر المرء وإن كان كبيرا عن ثلاث: تواضعه لسلطانه، ولوالديه، ولمعلمه، ثم قال: وقد عوضتهما مما فعلا عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما. (19) إصلاح العلم في أمريكا
كان يسكن أمريكا في الزمن الغابر الجنس الأحمر، وهم قوم متوحشون، كانوا يأوون إلى الجبال والغابات، ويأكلون من الحشائش البرية، أو من لحوم الحيوانات التي كانوا يفترسونها، ثم يستترون بجلودها، فكانوا عرضة لهجوم الوحوش عليهم، ونهبها نفوسهم، وكانوا لا يستغرقون في نومهم لشدة تخوفهم من تلك الوحوش حتى كانت آذانهم تتحرك وتتجه جهة الصوت؛ لكثرة تتبعهم الأصوات، حذرا من وثوب السباع عليهم، وقد أعماهم الجهل عن التمتع بخيرات بلادهم، مع ما كان فيها من المعادن النفيسة، كالذهب والفضة وغيرهما.
حتى إذا دخل الأسبانيون أرضهم بعد اكتشافها، وجدوا بها من الكنوز والذخائر ما بهرهم، وكانوا يستعملون الأمريكيين في نقلها إلى سفنهم كما تستعمل الحيوانات في حمل الأثقال، ذلك لجهل الأمريكيين، واتساع عقول الأسبانيين بالعلوم والمعارف.
ومن ثم دخل العلم أمريكا فما زالت تترقى حتى أصبحت من أحسن البلاد عمارة وتجارة وحضارة، وأصبح نساؤها من أفضل النساء علما ونشاطا في العمل حتى شاركن الرجال في كثير من الأعمال، وأحسن القيام بها، فمنهن الكاتبات البارعات، والمهندسات، والمحاميات، وغير ذلك.
ويحكى أن المهندس الذي شرع في عمل قنطرة بين نيويورك وبركلين مات قبل تتميم عمله، فحلت محله امرأته، وأتمت عمله على أحسن ما يرام من الإتقان، فنعم الذخر العلم؛ به يتقدم المتأخر، ويسود الوضيع، وتنال الآمال، وتصلح الأحوال. (20) وفاء السموءل
اشتهر العرب بكثير من الفضائل، من ذلك: الشجاعة والحلم والجود والوفاء بالعهد وحفظ الجوار، فكانوا يبذلون كل نفيس في سبيل الوفاء بما عاهدوا الناس عليه، ويقون جارهم بأموالهم وأنفسهم، ويفتخرون بذلك، ويعيرون من نكث عهده، أو خذل جاره.
وممن اشتهر منهم بالوفاء السموءل، وكان يسكن حصنا منيعا فوق جبل لا يستطيع العدو الهجوم عليه، فكان هذا الحصن مأوى الخائفين، فلما قتل أبو امرئ القيس، وطرد امرؤ القيس الشاعر المشهور من ملك أبيه أخذ معه مائة درع وسلاحا، وأودعها السموءل، وعاهده على أن لا يسلمها لأحد غيره.
فسمع عدو امرئ القيس بها، وجاء ليأخذها منه، فأبى السموءل، وتحصن بحصنه، وكان له ابن خارج الحصن، فأخذه العدو وناداه: إما أن تسلم لي الأدراع، وإما قتلت ابنك. فأبى السموءل أن يسلم الأدراع، وقال: إنك إن قتلت ابني فعندي من يخلفه، ولا عار في قتله، فقد عاش كريما ومات كريما، أما نقض العهد فلا سبيل إليه لما يعقبه من العار. فضرب العدو وسط الغلام بالسيف فقطعه وأبوه يراه وانصرف، ومنع السموءل الأدراع إلى أن مات فضرب به المثل في الوفاء بالعهد.
ومن كلام السموءل في الفخر قوله:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل (21) الدين المعاملة
إن الإنسان في جميع أطواره لا مندوحة له من مخالطة أناس يأنس بهم في وقت فراغه، ويستعين بآرائهم في بعض أعماله؛ لذلك وجب أن يحب المرء معاشريه، ويخلص لهم ويحسن معاملتهم؛ ليعيش مستريح البال، لا يعوقه عن إصلاح أمره الاشتغال بالشقاق والمنازعة، فإن حسن الأخلاق لا يكلفه شيئا، بل يكسبه أشياء؛ لأنه يستميل قلوب الناس إليه، ويدعوهم إلى مساعدته، ويكفيه شر التعرض لهم وإيذائهم بحدة لسانه، فقد يفعل اللسان من الضرر ما لا يفعله الحسام، فيتفق الناس على معاداة صاحبه، ويغضب عليه الله - سبحانه وتعالى.
فنعم عون المرء حسن أخلاقه، فهو وصف جميل يدعو إلى الاتحاد والتعاضد، وهو ضروري لاسيما للفتاة التي ربما أصبحت بين أسرة لم تعرف من بها من السيدات من قبل، ولا ما عاداتهن التي نشأن عليها، فإن لم تعرف كيف تعامل الأهل بل الناس جميعا كانت سبب تفرق الأسرة، واختلاف كلمتها، فتضعف رابطتها وتتفرق آحادها، ويستظهر عليها العدو، وتعجز عن إصلاح شئونها، والقوة في الاتحاد، كما قال أكثم بن صيفي:
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت آحادا
لذلك ينبغي أن تتعود الفتاة حسن الأخلاق منذ نشأتها، فتتعلم طفلة كيف تحسن معاملة إخوتها، أو من معها في المنزل من الأطفال، فلا تؤثر نفسها عليهم، ولا تتسبب في كدرهم حتى إذا ترعرعت وذهبت إلى المدرسة تعلمت كيف تحسن معاملة التلميذات وترضيهن جميعا على اختلاف مشاربهن، فتستميلهن إليها، وتأنس بهن، وتستفيد من رأيهن وعلمهن حتى إذا بلغت أشدها كان ذلك عادة لها، فتكون سرور الأسرة التي توجد فيها؛ بها يأنسون، ومن آرائها يستمدون، فتريحهم من متاعب النزاع، وتقوي رابطة اتحادهم؛ فيتفرغون للإصلاح والتعاون عليه، ويساعدهم اتحادهم على الاقتصاد في النفقات.
فإن الأخوة مثلا إذا جمعهم منزل واحد ومائدة واحدة ينفقون في أمر غذائهم ومسكنهم أقل مما ينفقون، لو كانوا متفرقين، فيستبقون من الدراهم ما يستعينون به على إصلاح شئونهم، وحسن تربية أبنائهم، وتكسب هي ثناء الناس عليها، ورضا الله - سبحانه وتعالى - عنها. (22) عبد الله بن الزبير ومعاوية رضي الله عنهما
كان لعبد الله بن الزبير أرض له فيها عبيد يعملون، وإلى جانبها أرض لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، وفيها أيضا عبيد يعملون له، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله، فكتب كتابا إلى معاوية يقول فيه:
أما بعد؛ يا معاوية فإن عبيدك قد دخلوا في أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام.
فلما وقف معاوية على كتابه رماه إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك؛ يأتونك برأسه. قال: بل غير ذلك خير منه يا بني، ثم أخذ ورقة وكتب فيها إلى عبد الله يقول:
أما بعد؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها هينة عندي في جانب رضاه، وقد نزلت عن أرضي لك، فضمها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال، والسلام.
فلما وقف عبد الله على كتابه، كتب إليه:
قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل، والسلام.
ولما وقف معاوية على كتاب عبد الله رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر، فقال له أبوه: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء. (23) بلاد مصر
إن مصر بلاد عريقة الحضارة، قد اشتهر قدماؤها بالصناعة، وشهد لهم بذلك ما خلفوه من غريب الآثار، ومن أعظمها الأهرام التي أبلت الدهر، وهي في عنفوان الشباب حتى اتفق الناس على أنها أشهر الآثار القديمة . ذلك لإتقان صنعتها، ومتانة بنائها، وعظيم منظرها الهائل الذي يأخذ بالقلوب قبل الأبصار، ومن جميل آثار مصر؛ قصر أنس الوجود، وأعمدة رمسيس، ومعبد الكرنك، وقبور بني حسن، وقبور العجل أبيس.
وهي مع ذلك بلاد معتدلة الجو، رائقة السماء، قد مر فيها النيل فأكسب أرضها خصبا، وحسن تربتها، فكانت بلادا زراعية كثيرة الخيرات، فأهلها يتمتعون بما منحهم الله - سبحانه وتعالى - من تلك الهبة الجليلة التي طالما حسدهم عليها جميع الأمم، ولو أحسنوا التصرف لكانوا من أسعد الناس حظا؛ لكثرة مزروعاتهم، واتساع ثروتهم، ووفرة أموالهم. (24) النيل في مصر
إذا ما النيل حط بنا الرحالا
وفاض على شواطئه وسالا
وأهدى مصر جلبابا موشى
بفضته فألبسها جمالا
أرادت أن تباريه فغطت
بسندس نبتها تلك الرمالا
وأبدت درها المكنون حتى
يطيب الضيف في الأحياء حالا
وماس الغصن من طرب وأوما
بشكر النيل إذ بذل الزلالا
فنخرج من بطون الأرض تبرا
ونأكل طيبا حسنا حلالا
ولا نخشى من الأيام قحطا
ولا عسرا يكلفنا السؤالا
ولا برد يضر المرء فيها
ولا حر إذا ما الظل زالا
فنعم الأرض ما أحسنت فيها
ولم تطع الغواية والضلالا (25) متتبع الآثار
أراد أحد المصريين السفر إلى باريس يمتع الطرف بما فيها من الآثار والمناظر، فصادف في طريقه فرنسيا عائدا من مصر إلى بلده، فأنس كل منهما بصاحبه، وأخذا يتحدثان، فقال الفرنسي: أين تذهب؟ قال: إلى باريس. قال: ألك حاجة هناك؟ قال: لا، ولكني أردت أن أرى ما فيها من الآثار، وقد علمت أن هذا يزيد الإنسان علما بتاريخ هذه البلاد، وما كان عليه أهلها من الحضارة والعلوم.
قال الفرنسي، وقد أعجب بقول المصري وأقبل عليه: لقد صدقت؛ ولهذا الغرض كنت في مصر، وإنها لفوق ما سمعت من وصفها، وقد تمتعت بكثير من مناظرها الجميلة، وأعجبني متحف الآثار العربية، ولكني أسفت لعدم معرفة اللغة العربية وقراءة شيء مما كتب على بعض هذه الآثار، فهل تحفظ شيئا من ذلك؟ قال المصري: إني لم أر هذا المتحف.
فظهرت علامات التعجب على وجه الفرنسي، ولكنه تمالك عنه، ودخل في الحديث ثانية، وأخذ يطنب في مدح مصر وما فيها من الآثار، ويذكر مشاهدته لكثير منها، إلى أن ساقه الحديث إلى ذكر الأهرام، فجعل يعجب من صنعها وعظيم مشهدها، ويسأل المصري عما يرى في ذلك، فاضطرب المصري ولم يكن يخال أن يكون لأرضه هذا التأثير في النفوس، ثم قال: إني لم أر الأهرام؛ لعدم اهتمامي بها، ولكنك عظمت ذلك في نفسي، وسأزورها بعد عودتي.
فضحك الفرنسي متهكما به، وصرف وجهه عنه، قائلا: إنك لا تدري شيئا من آثار بلادك، وأراك توغل في البلاد الأخرى؛ لتعرف من آثارها ما لم تعرفه جدودك، فماذا يكون حالك إن سألك أهل باريس أن تصف بعض الآثار الشهيرة في بلادك، وما مثلك إلا كمن يترك الدر تحت أقدامه لا يعبأ به، ويذهب في طلب الصدف جهلا منه بقيمة كل.
اذهب أيها المغرور فاعرف آثار بلادك، ثم اطلب معرفة غيرها، نعم إن الإنسان لا تكمل أخلاقه وآدابه وتحسن تجربته إلا إذا خالط أجناس الناس على اختلاف أحوالهم ومشاربهم، فيكتسب منهم علما وتجربة، ولكنه إذا أراد أن يعرف آثارهم وعاداتهم ليستفيد منها فليبدأ بمعرفة آثار بلاده وعاداتها؛ ليقارن بين هذا وذاك، وإلا كانت سياحته مجرد أسفار لا يهمه فيها إلا حسن المناظر، وتنميق الألوان، وهو في معزل عما تشير إليه هذه المناظر من الأسرار الغامضة.
فخجل المصري، وكر راجعا إلى بلاده، معولا أن يدرس أحوالها درسا جيدا. (26) وصف حالة المعيشة في مصر
ينقسم المصريون إلى قسمين متباينين في المعيشة؛ أهل القرى والمدنيين، أما القرويون: فإن منبع ثروتهم الزراعة، وهم في الغالب مستقيمو الأحوال، ولنسائهم من العمل نصيب وافر، وكل الأشياء متوفرة لديهم من خيرات أرضهم حتى إن الحازم منهم الذي لم يقتد بأشرار المدنيين في أحواله ولم يترك سنة آبائه لا يحتاج إلى شراء شيء من غير متحصلات أرضه، إلا خشب البناء، وبعض أثاث المنزل، كالفرش والأواني، وربما كان أغلب أواني الفقراء من الفخار المصنوع من طين أرضهم.
فيزرع الفلاح في أرضه ما يحتاج إليه من الغذاء والكسوة، كالقمح والذرة والفول والقطن والكتان والتيل، ويهتم باقتناء المواشي وبعض الطيور، فيعيش من لحومها وألبانها، ويلبس من صوفها، وبعد فراغه من زرع أرضه يشتغل بحراستها، وغزل القطن أو الصوف؛ لعمل ملابسه.
أما المرأة فتقوم بأعمال منزلها أحسن قيام، فتحسن التدبير، وتساعد الرجل في بعض الأعمال، وتستخرج السمن والجبن، وفي الغالب أنها تأتي بالماء من الترع على رأسها، وتمشي به معتدلة مسرعة في خطواتها، يظهر عليها النشاط والاستقامة، وتشتغل في أوقات الفراغ بغزل الكتان لنسج ملابسها، إلا أنها لجهلها لا تحسن تعهد الأطفال والاعتناء بنظافتهم، فهي تعرضهم للمرض خصوصا مرض العيون، ولكنها تجتهد في عمل ما تقدر عليه، فلا يضطر الفلاح إلى شراء شيء إلا ما ندر، وهو مع ذلك يبيع القطن والحبوب الزائدة عن حاجته.
أما فقراؤهم فلا يعرفون من العسر إلا اسمه؛ لأنهم يشتغلون أيام الزرع والحصاد عند أصحاب الأراضي، ويأخذون أجورا كافية لسد عوزهم طول السنة، زيادة عن أكلهم، وأخذ ما أرادوا من الخضر وغيرها من الأشياء التي لا قيمة لها عند الفلاح لكثرتها، وعند الفراغ من الأعمال لا يحرمهم الأغنياء من أخذ ما تيسر من الخضر والبقول للطبخ، ولا يمنعهم أحد من تسريح ماشيتهم التي يتعيشون منها على الجسور ورعيها الكلأ.
وبالجملة، فإن فلاحي المصريين في رغد عيش وظل ظليل ما أحسنوا التصرف، واجتنبوا تقليد المدنيين التقليد الأعمى، وهم مع ذلك في تمتع مطلق؛ ليس لأحد عليهم سيطرة في جميع أحوالهم المباحة، وفيهم من مكارم الأخلاق حب المساواة بين الناس، غنيهم وفقيرهم، وترك التملق حتى إن الفقير يدعو الغني باسمه، لا يزيد عليه كما يدعوه الغني، ولا يهتمون بحسن الزي وزخرفة الملابس، ويمقتون المسرف، ولا يتظاهرون إلا بالفضائل محتقرين الفجور وأهله، كيف كانت حالهم، ولهم حرص شديد على اتحاد كلمة الأسرة، وعدم تشتيت شملها، وربما ساعدهم ذلك على تحسين حالهم، والاقتصاد في نفقاتهم، ولنسائهم من الاستقامة والصبر على مكابدة المشاق، والقدرة على مساعدة الرجال، والقناعة بما لديهن ما هو جدير بحسن الثناء.
هذه حالهم على العموم، ولا شك أن بعضهم قد تبع خطوات الأشرار، فأنفق ماله سدى وساءت حاله.
أما المدنيون: فتختلف أحوال معيشتهم باختلاف منابع رزقهم، فمنهم التجار، والموظفون، والصناع، والعملة، وأغلب أشيائهم تأتي من الخارج، حتى إن الفقراء منهم يستبدلون
1
شراء الدقيق الآتي من البلاد الأجنبية بشراء القمح لقلة ثمنه.
أما أغنياؤهم: فأغلبهم يفضل شراء الأشياء المصنوعة، كالملابس وغيرها على صنعها في المنزل، حتى إنهم فضلوا شراء الخبز من المخابز على تجهيزه في المنزل، وهذا لكسل النساء، وتركهن أعمال المنازل في أيدي الخادمات يتصرفن فيها ما شئن؛ ولذلك كان شراء الخبز على علاته أقل نفقة من القمح؛ لعدم تمكن الخادمات من سرقة الخبز، كما يسرقن القمح والدقيق؛ لأن الخبز يأتي كل يوم على قدر الحاجة.
وقد اعتادت نساؤهم الكسل، ونمن على فراش الراحة، فلم يهمهن إلا تحسين زيهن، والتغالي في الترف، حتى فضلن زينتهن على جميع ما عداها، فما يسعى الرجل في جمعه تجتهد المرأة في تشتيته وإنفاقه على مطالبها التافهة، فيضطر الرجل إذ ذاك إلى كثرة الكد والتعب، وتزداد هي من التبرج والزينة، غير مبالية بما يقاسيه الرجل من المشاق، فتترك منزلها في أيدي الخادمات يبددن الأشياء ويتلفن أخلاق الأبناء؛ لكثرة المخالطة، وتخرج في زيارتها من منزل إلى آخر.
هذا، ولا أنكر أن بعضهن يعتنين بمنازلهن والقيام بنظافة الأطفال وحسن تربيتهم، وهن مع ذلك يساعدن الرجال في التدبير، ويدخرن بعض المال لتعليم أبنائهن، ويستبقين بعضه أمانا من الفقر، حتى إذا مات الرجل أو أصابه أمر وجد الأطفال من المال ما يسد عوزهم، ويقوم بتربيتهم.
ولولا سوء التصرف لكان المصريون من أسعد سكان المعمورة حالا؛ لتوفر أسباب المعيشة، واعتدال الجو الذي يساعد الإنسان على قضاء حاجاته، فيمكن الفقير أن يعيش في مصر سعيدا لا يعرف للجوع ألما، ويتقي شر البرد بقليل من الملابس، كما تقيه الأشجار حر الشمس، فلا يحتاج إلى كثرة النفقة كغيره من سكان البلاد الباردة، كالروسيا وغيرها، الذين ربما ماتوا من البرد والجوع، وهو مع ذلك مستريح من شدة حر الشمس الذي يمنع الإنسان من العمل، ويضطره إلى الراحة والكسل، كما يقاسي ذلك سكان المنطقة الحارة، فهو في هناء ورغد عيش. (27) القروية وجرتها
أرادت فتاة مدنية من أهل الثروة أن تستريض، فتردت بأنفس حللها، وتزينت بحليها، وخرجت تخطر في جماعة من خدمها، وقصدوا قرية قريبة منهم، حتى إذا وصلوها وقفت الفتاة على شاطئ نهر، تنعم النظر في جمال ما صنعته القدرة الإلهية، وقد أعجبها انحدار سبائك الماء الفضية بين تلك المروج الزبرجدية، وراقها اهتزاز الغصون وتمايل الأشجار التي كانت كأنها تشير بأكف أوراقها الخضراء قائلة لمن أضر بهم الإعياء:
إلي إلي تستريحوا من العنا
فظلي من حر السماء ظليل
وتحت غصوني يكتسي الجسم صحة
لأن نسيمي رق فهو عليل
وبينما هي تسرح الطرف بين تلك الحقول والغدران، إذ بصرت بفتاة قروية تملأ جرتها من النهر، وقد زان جمالها الطبيعي بشاشة وجهها، واعتدال صحتها، فأخذت الفتاة تردد الطرف في محاسنها، وتود لو تكلمها لتعرف بعض عاداتها، وما زالت كذلك إلى أن ملأت القروية جرتها، والتفتت يمينا وشمالا لترى أحدا تستعين به على حمل الجرة، فلم تجد، فجثت على ركبتيها، ورفعت الجرة على رأسها، وقامت بها تمشي معتدلة القامة مسرعة الخطوات.
فدنت منها المدنية وحيتها وسألتها: كيف استطاعت أن تحمل تلك الجرة مع ثقلها، ولم تستعن على ذلك بأحد؟ قالت القروية: قد اعتدت ذلك، فسهل علي عمله، فأبدت المدنية أسفها على حالة الفتاة، وقالت: أظن أن أباك فقير يضطرك إلى هذا. قالت القروية: كلا يا سيدتي، فإن أبي متوسط الثروة، وعندنا خير كثير. قالت المدنية: هذا والله هو الظلم؛ كيف يكون والدك غنيا وأنت تقومين بمثل هذا العمل الشاق؟!
فابتسمت القروية وقالت: لا ظلم في ذلك يا صاحبتي، فإن لكل إنسان عملا في هذه الحياة الدنيا، وإن لأبي نفسه أعمالا كثيرة، فكيف يتركني بلا عمل، أوليس لك عمل تقومين به؟ قالت: حاشا لله، فإن عندنا من الخدم ما يكفيني شر هذا. قالت القروية: أوليس لأبيك عمل أو صناعة؟ قالت: بلى ، إنه رئيس قلم في بعض الدواوين. قالت: وهل يتحمل في ذلك مشقة؟ قالت: نعم، فقد يسهر أحيانا إلى جزء من الليل في تتميم عمله.
فصاحت القروية: هذا والله هو الظلم لا ذاك، أيقوم والدك بمثل ذلك العمل الشاق وتتركين بلا عمل، ولو زهيدا، تظهرين به مقدار شكرك له، وعنايته بك، وقيامه بشئونك! قالت المدنية: تلك سنتنا، ولا باس بها، وإني آسف على سوء حالكن أيتها القرويات. قالت القروية: لو تعلمين الحقيقة لأسفت على حالكن أكثر مما تأسفين علينا؛ لأننا عددنا أنفسنا من جنس الإنسان، فشاركنا الرجال في العمل، ولم نكن عالة على غيرنا، فضميرنا مرتاح لعلمنا أننا نقوم بأعمال نستحق عليها ما ينالنا من مال أهلنا، وقد اعتدنا تحمل المشاق، والصبر عليها، والرضا بما لدينا، ومساعدة الرجال في الاقتصاد في المعيشة.
أما أنتن فقد تركتن العمل، فكنتن عالة على الرجال، يقومون بشئونكن بلا مقابل منكن على ذلكن، وبهذا وضعتن أنفسكن موضع الحيوانات التي تقتنى للزينة، وقد تغاليتن في زينة أجسامكن إلى حد صرتن معه تماثيل تضحين في سبيل ذلكن الكمال والصحة، حتى أصبح الإنسان ينظر إليكن فيعجب، ويسمع عنكن فيأسف، قدود مائسة، وأفكار يابسة، أجسام حالية، وعقول عاطلة، فأنتن أصل الفساد، تبددن الأموال، وتهلكن الرجال، قد جبلت نفوسكن على الطمع وحب الاستئثار بالمنافع دون غيركن ممن تخالطن، فلستن تبالين بما ينالهم بسبب تغاليكن في الترف، وبئست الخصال.
وإني على ما أقاسيه من هذا العمل لأسعد منك حالا، وأنعم بالا، وقد كفتني هذه الملابس البسيطة شر ما تجدينه من ملابسك المزخرفة من الضيق، فلست أجد منها ما تجدين من هذا الدرع «الكرسه» الذي ضغط على أضلاعك فآلمك وغير لون وجهك، وهذه الأحذية الضيقة التي فضلا عن ضغطها على الأقدام قد ارتفعت من الخلف فدفعتك إلى الأمام حتى تكادي تسقطين في مشيتك، وناهيك بتأثير ذلك في صحتك، وما مثلك في هذه الملابس الطويلة التي تجر وراءك فتلتقط من الأقذار ما شاءت مع فراغك من العمل إلا كمثل طاووس يربيه الإنسان ليسر بمنظره ، فإن بقي كان تسلية، وإن فقد فلا حاجة إليه.
فخجلت المدنية وانصرفت عنها، وقد خفف ذلك من كبريائها. (28) اللغة العربية
اللغة العربية أغزر اللغات مادة، وأجودها معنى، وأحسنها أسلوبا، وأرقها عبارة، وأشدها تأثيرا في النفوس، وأكثرها فائدة، وأقلها لغوا، قد اعتنى أهلها بتهذيبها وتنقيحها، فكانوا يعدون لذلك الأسواق، فيها يقول كل خطيب أو شاعر ما خطر بباله، وينتقد كلامه الحاضرون من أهل الخبرة والدراية، حتى إذا استحسنوا قوله أثنوا عليه، وحفظوا شيئا مما قال، فيسير ذكره بين قبائل العرب، ويفتخرون به وبقوله.
لذلك اجتهدوا في لغتهم، وأودعوا فيها من الحكم والتشبيهات ما شهدت لهم به كتب التاريخ، حتى قال بعض نبهاء الغربيين: إن جو بلاد العرب الرائق واتساع سهولهم ساعدهم على تصور ما لا يتصوره غيرهم من الناس.
وقد تقدمت العرب في الصدر الأول من الإسلام في كثير من العلوم ودونوها بلغتهم، وانتشروا في البلاد الأخرى حتى دخلوا أسبانيا، فأسسوا بها دور العلم، وعنهم أخذ الغربيون كثيرا من العلوم الحديثة، مثل علم الكيمياء والطبيعة والجبر والأرقام الحسابية وغيرها. (29) بعض الشاعرات
الخنساء
قد اشتهر كثير من نساء العرب بالشعر وحدة الخاطر، ومنهن الخنساء، وقد كانت من أعظم شعراء الجاهلية، وكان تحضر أسواق العرب وتنشد شعرها كغيرها من الرجال، فاشتهرت بين العرب، واستحسن الناس شعرها، وفضلوها على كثير من شعراء عصرها، ومن ذلك قولها:
كل ابن أنثى بريب الدهر مرجوم
وكل بيت طويل العمد مهدوم
لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ممن تملكه الأعراب والروم
وقد حضرت الإسلام وحسن إسلامها، ويحكى أنها عرضت شيئا من شعرها على النابغة الذبياني رئيس الموسم فقال لها: لولا سبقك هذا الأعمى «يعني الأعشى» لفضلتك على شعراء هذا الموسم، وكان إلى جانبه حسان بن ثابت الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - فغضب لذلك، وقال: أنا أشعر منك ومنها، فالتفت إليها النابغة وقال: أجيبيه يا خنساء. فأجابته فأسكتته.
ليلى الأخيلية
اشتهرت ليلى الأخيلية بالشعر وحدة الخاطر في عهد بني أمية، فكان يعظمها الملوك والحكام إذا دخلت عليهم، ومن شعرها قولها:
لعمرك ما في الموت عار على الفتى
إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وكل شباب أو جديد إلى بلى
وكل امرئ يوما إلى الله صائر
ودخلت يوما على الحجاج أمير الكوفة، فأنشدته قولها:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة
تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها دماء المارقين وعلها
إذا جمحت يوما وخيف أذاها
فقال الحجاج: والله ما وصفني شاعر بأحسن من هذا، ثم قال: يا غلام خذها فاقطع لسانها واكفنا شرها، فخرج بها الغلام وأراد قطع لسانها، قالت: ويحك إنما أراد أن تقطع لساني بالصلة، فردني إليه. فأعادها إليه، فضحك الحجاج، وأعجبه ذكاؤها، وأمر لها بصلة جزيلة.
عائشة تيمور
اهتمت عائشة هانم التيمورية باللغة العربية حتى نبغت فيها، ولم يقعدها غناها عن الكد في جمع دررها، فاشتهرت بين المصريات بالشعر والأدب، ومن ذلك قولها:
بيد العفاف أصون عز حجابي
وبعصمتي أسمو على أترابي
وبفكرة نقادة وقريحة
وقادة قد كملت آدابي
ولقد نظمت الشعر شيمة معشر
قبلي ذوات الخدر والأحساب
وجعلت مرآتي جبين دفاتري
وجعلت من نقش المداد خضابي
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي
إلا بكوني زهرة الألباب
ما عاقني حجلى عن العليا ولا
سدل الخمار بلمتي ونقابي (30) بعض عادات المصريات
إن لكل أمة خرافات وعادات مذمومة، نشأت فيها زمن جهالتها، ثم بقيت لاصقة بها بعد ذلك، وتكون غالبا في جهلائها، فمن عادات المصريات المذمومة: النواح والصياح في المآتم، فيلطمن وجوههن ويولولن ويلبسن الحداد مع أن هذا مخالف للأدب، وكل دين سماوي، وهن مع ذلك يتغالين فيه حتى يكاد الإنسان يظن أنهن قد أصبن في عقولهن، ولا أدري ما فائدة هذا التعب والجزع، وهو لا يبعث ميتهن، بل يزيدهن هما وألما، ويشغلهن عن إصلاح حالهن، فربما يشغل إحداهن البكاء وشدة الجزع عن النظر في شئون أطفالها أو من يجب عليها ملاحظتهم، فتتلف صحتهم وأخلاقهم، هي لاهية عنهم بما تبديه من الحزن والجزع، وهذا دليل على عدم نظرها في العواقب، وجهلها بالأمور ؛ لأنها ببكائها على من مضى تهلك من بقي معها، ولو علمت الحقيقة لتسلت عن الحزن بالجد والعمل، والسعي وراء ما يصلح أحوالها.
ومن العجيب أن المعزيات يبعثن صاحبة المصاب على كثرة الحزن والجزع، ويهولن لها الخطب، حتى إن إحداهن ربما دخلت من باب المنزل صارخة مولولة كأنها هي المصابة، فتثير أحزان أقارب الميت وتزيدهن جزعا وهما، وكان الأولى بها أن تخفف مصابهن، وتذكرهن بمن مضى من البشر، ومن أصيب من الناس؛ ليسهل عليهن الأمر، ويتركن الحزن.
وإننا نأمل أن ينجع التعليم بالفتيات فيقتدين بالرجال في الصبر، ومصادمة النوائب بقلب ساكن، وجنان ثابت، وهن ينظرن أن كثيرا من الرجال قد يفقدون أعز الناس عليهم فلا يبدون جزعا ولا تململا، لا يزالون ساكني الجأش صابرين في السراء والضراء.
ومن عادات المصريات: التغالي في زخرفة الملابس وتطريزها، وانتخاب الألوان الزاهية التي تزول بمجرد ملامستها للبدن أو تعرضها للهواء، حتى إذا زالت هذه الألوان اضطررن إلى ترك الملابس وصنع غيرها، مع كثرة ثمنها وقصر أجلها، فهن يصرفن في ذلك مالا طائلا كان الأولى صرفه فيما ينفع، كتعليم أبنائهن أو إصلاح مستقبلهن.
ولا يؤخذ من ذلك أن تهمل الفتاة في نظام ملابسها، أو تلبس من الثياب ما لا يليق بمقامها ويحفظ احترامها، بل يراد به أن تنتخب المنسوجات المتينة، والألوان الثابتة، مع بساطتها وحسن شكلها، فتظهر للناس حسن انتخابها وسداد رأيها.
ومن عادات بعضهن: كثرة الخروج والتبرج، وترك المنزل في أيدي الخادمات، يعبثن ما شئن، يبددن الأشياء، ويتلفن أخلاق الأبناء؛ لكثرة المخالطة، وربة المنزل لاهية في زيارتها من بيت إلى آخر، وهذا يعد خيانة وعدم وفاء؛ لأن الفتاة التي ترى أن الرجل يصرف نفيس أوقاته في جمع المال لراحتها كيف لا تبذل هي الجهد في حفظه وصرفه فيما يفيد الأسرة، وهو لا يكلفها كبير تعب ولا مشقة.
ومن أقبح عادات المصريات غير المتعلمات: الزار، وهو دليل على جهل من تعتقده، وميلها للأوهام والخرافات؛ لأنها تعتقد دائما أن فتاة تدخل في جسمها العفاريت فتتحرك بحركات لا تقصدها، وتتكلم بأصوات شتى زاعمة أن لكل صوت منها عفريتا مخصوصا، وكيف يحترم الإنسان فتاة قد استهوتها الشياطين، وهن مع ذلك يفتخرن به، ويصرفن فيه أموالهن، وكل عاقل يعلم أن من ادعته كاذبة في دعواها ناقصة الإدراك.
وقد يكون الزار حجر عثرة في شفاء كثير من هؤلاء المدعيات؛ لابتعادهن عن طلب الطبيب زعما أن صاحبهن الجني يغضبه شرب الأدوية، أو اتكالا على أنه يشفيهن بلا دواء، فيشتد مرضهن ويتعذر شفاؤهن، ويمتن قتيلات جهلهن وسوء تصرفهن. (31) الصديقتان
أرادت إحدى المصريات أن تذهب إلى وليمة الزار، فقابلت في طريقها صديقة لها من الغربيات، كانت تلميذة معها في المدرسة، ففرحت الغربية بمقابلتها، ومالت إليها، وكانت ممن تربين في مصر، وتمكن من اللغة العربية، وعرفن عادات المصريات، فتذكرت الفتاتان أيام الطفولية وما صرفتاه معا من لذيذ الأوقات، وأخذتا تتحدثان، وكانت المصرية لابسة ثيابا رقيقة لا تستر من جسمها إلا القليل، وقد تردت فوقها بملاءة جميلة تشف عما تحتها حتى لم تستر منه شيئا، وعلى وجهها نقاب رق حتى كاد يخفى، فقالت الغربية، مبتسمة: وددت يا صديقتي أن أعرف ما فائدة هذه الملاءة، وهذا النقاب؟ قالت: بذلك أمرنا الدين، قالت الغربية: في أي آية أمرك الله بلبس هذه الملاءة، وقد جاء في القرآن الكريم في حق المؤمنات:
ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها
أما أنت فقد أبديت كل زينتك، وإن على ملاءتك هذه من الزينة، ما هو جدير بجذب الأنظار إليك، فأي كتاب اتبعت؟ قالت المصرية - وقد أخجلها ذلك: دعينا من هذا فتلك عادة قد نشأنا عليها، ولندخل في حديث غيره، قالت الغربية: فأين تذهبين؟ قالت: أذهب إلى وليمة الزار، قالت الغربية: أوتعتقدين ذلك؟ قالت: نعم، ولقد صرت من أهله، قالت الغربية: ألك صاحب من الجن؟ قالت: نعم، فصاحت الغربية: بئست التربية، لقد ذهبت تربيتك المدرسية أدراج الرياح، وركنت إلى أوهام والدتك، فبئس ما علمتك أمك، قالت المصرية: أو عندك ريب في ذلك؟ قالت: كيف لا، وهو لا يطابق العقل السليم؛ إذ من أي باب تدخل الجن أجسامكن فتحرككن بتلك الحركات المضحكة، وكيف تستولي على ألسنتكن فتتكلمن بما لم تردن، ولم لا تستولي الشياطين علينا معاشر الغربيات ألسنا نساء مثلكن، أم هل تخشانا الجن؟! قالت المصرية: إن الجن لا تخشاكن، ولكنها لا تصحب إلا الأجسام الطاهرة، أما أنتن فلا طهارة لكن، فضحكت الغربية وقالت: لا خير في طهارة يتبعها جنون، وهل تظنين أن كل الجن طاهرون يحبون الطاهر، أليس فيهم خبيث يحب النجس، ويستهوي عقولنا كما استهوى طاهرهم عقولكن، وإني لآنف أن أكون صديقة لفتاة مثلك قد استهوتها الشياطين، فصارت أضحوكة بين الناس.
ولقد ساءت آدابكن فاخترعتن الطرق في صرف الأموال، واعتدتن الكذب وهو أقبح الخصال، ولولاه لما زعمتن هذا الزعم الباطل، وقد استولت على عقولكن زعيمة الزار، فجعلت تحسن لكن القبيح، وتريكن أن الجن أعجبها جمالكن ونظافتكن، فمالت إليكن، وهذا مما يملك عقولكن الصغيرة فتستسلمن لها، وتبذلن المال في مرضاتها، فهي تأخذه مسرورة متهكمة بضعف عقولكن الصغيرة، فيالها من خيبة عظيمة، وضياع مال في اكتساب عار.
ولقد خرجتن عن حدود دينكن في تلك الولائم، فقد جاء في قرآنكن الكريم:
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير
وأنتن مع ذلك تشربن الدماء زعما أن صاحبكن الجني يفعله، فكيف تهملن حتى في أمر الدين؟ ومن لا دين لها فلا صون لها ولا عفاف.
فأطرقت المصرية إلى الأرض لحظة، ثم قالت: لقد صدقت، وقد فاتني هذا كله مع تمسكي بأمر الدين، ولكن الجهل أعمى بصيرتي، وسأقلع عن خطتي هذه، وأصلح من شأني إن شاء الله - تعالى - ليكون للعلم نفع في النفوس. (32) الصبر يخفف المصائب ويدني الآمال
الصبر كف النفس عن القلق والشكوى عند حلول مكروه، وهو من أهم الفضائل؛ إذ يجعل الإنسان ثابتا لا يتململ، فيسليه عن الهم، ويخفف ألم مصيبته، ويدني منه بعيد الأمل كما قيل:
لا تيأسن وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
والصبر من أحسن صفات النساء؛ لأن الفتاة إذا كانت صابرة لا تجزع خففت مصاب من معها، وشجعتهم على العمل، وترك الحزن.
أما إذا اتصفت بالجزع - كما هي عادة غير المتربيات - فإنها تضاعف هم من معها، وتذكرهم بالحزن كلما تسلوا عنه، فتكون منبع الحزن والكدر، إذا عزت إنسانا زادته حسرة ببكائها وتهويلها المصاب، وإن أصيبت أقلقت راحة معاشريها بجزعها وكثرة شكواها، فيسأم الإنسان مجالستها، ويود بعدها، وهي مع ذلك تعلم بنيها الخوف والجبن، وتصعب عليهم الأمر السهل، فإن حاولوا فراقها طلبا للفائدة وسعيا وراء الخير قامت تحول بينهم وبين ما أرادوا باكية شاكية، تعدد لهم المصائب، والأهوال الوهمية مما لا يجزم المرء بوقوعه، فتحط من هممهم، وتخيب آمالهم غير عالمة أنه:
لا يبلغ المجد من لم يركب الخطرا
ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفوا بلا تعب
قضى ولم يقض من أيامه الوطرا
وكانت نساء اليونان أيام سطوتهم من أحسن النساء صبرا وجلدا، فكن يشجعن الرجال إذا خرجوا للحرب حتى كانت الأم تقول لولدها: اخرج، ولا ترجع إلا حاملا مجنك هذا أو محمولا عليه، أي لا ترجع إلا ظافرا حاملا سلاحك أو قتيلا محمولا، فكان رجالهن شجعانا لا تهولهم المصائب، ولذلك سادت الأمة اليونانية في عصرهم. (33) صبر الخنساء
يحكى أن الخنساء الشاعرة المشهورة والصحابية الجليلة حضرت الحرب ومعها أولادها الأربعة، فباتت تشجعهم، وتحضهم على الإقدام في ساحة القتال والخوض وسط المعمعة ابتغاء وجه الله في جهاد العدو حتى إذا بدا الصباح شيعتهم بصبر وثبات، وقد امتثلوا أمرها، فقاتلوا قتال الأبطال، وأبلوا بلاء حسنا حتى قتلوا جميعا، وجاءها الخبر، فحمدت الله - سبحانه وتعالى - وسألته أن يجزيهم خيرا في الآخرة، ولم تجزع مع عظم المصاب، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - بذلك، وكان الخليفة وقتئذ، فأجرى عليها أرزاق أولادها الأربعة إلى أن ماتت، رحمها الله ورضي عنها.
والخنساء هذه اشتهرت أيام الجاهلية بشدة الجزع على أخويها صخر ومعاوية، وكثرة بكائها عليهما، ورثائها لهما، ومن ذلك قولها:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني
فقد أضحكتني زمنا طويلا
بكيتك في نساء معولات
وكنت أحق من أبدى العويلا
دفعت بك الخطوب وأنت حي
فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل
رأيت بكاءك الحسن الجميلا
فلما جاء الإسلام وتأدبت بآدابه، عودت نفسها الصبر والثبات:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت (34) عدل علي بن أبي طالب «كرم الله وجهه»
كان في بيت مال علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم أجمعين - عقد لؤلؤ قد أصابه يوم البصرة، فسمعت به ابنته، فأرسلت إلى خازن أبيها وكاتبه على بن أبي رافع، وسألته أن يعيرها هذا العقد لتتجمل به يوم الأضحى، فاشترط عليها أن تأخذه على أنه عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام، فقبلت منه ذلك، وأخذت العقد فتزينت به، ورآها أبوها، فعرف العقد، وقال لها: من أين لك هذا؟ قالت: استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزين به في العيد ثم أرده، فبعث إلى ابن أبي رافع من وقته، فلما مثل بين يديه، قال له: أتخون المسلمين يا ابن أبي رافع؟! قال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أخون المسلمين؟ قال: كيف أعرت ابنتي العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم؟! قال الخازن: يا أمير المؤمنين إنها ابنتك، وسألتني أن أعيرها العقد تتزين به، فأعرتها إياه عارية مضمونة مردودة، قال: رده من يومك، وإياك أن تعود لمثل هذا العمل فتنالك عقوبتي، ثم قال: ويل لابنتي لو كانت أخذت العقد على أنه ليس عارية مردودة لكانت أول هاشمية قطعت يدها في سرقة، فأخذ الخازن العقد، وبلغت مقالة علي ابنته، فقالت له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنتك وفلذة كبدك، فمن أحق بلبس هذا العقد مني؟ فقال لها: يا ابنة ابن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق، أكل نساء المهاجرين والأنصار يتزين في مثل هذا العيد بمثل هذا العقد؟ (35) لا إصلاح بغير علم
دخلت أختان في إحدى المدارس، وما زالتا بها إلى أن نقلتا إلى السنة الرابعة، وكانت الكبيرة مجتهدة في حفظ دروسها ملتفتة إليها، أما الصغيرة: فكانت غير مكترثة بالعلوم، وما زال كسلها يزداد إلى أن تركت حفظ الدروس بالكلية، ونبذت العلم ظهريا، وصرفت كل ذكائها في اللعب، واختراع المضحكات، فساء ذلك أختها، وأرادت أن تنصحها فجعلت تترقب لذلك الفرص.
وبينما الفتاة الصغيرة مشتغلة باللعب ذات يوم إذ اقتربت منها أختها، وقالت لها: إن علينا اليوم أن نحفظ أبواب الفعل الثلاثي، فهل لك أن تحفظي معي؟ قالت الصغيرة: لا تعنيني وأبيك أبواب الفعل ولا نوافذه، فاتركيني ونفسي، فلست أبالي من أي باب آتي:
وإن تكسري للفعل عينا فإنني
كسرت ذراع الفعل قهرا وأنفه
وإن كان معتلا فلست طبيبة
دعيه عسى أن يلتقي اليوم حتفه
قالت الكبيرة: لعلك أردت أن تذاكري الحساب، قالت: إني أعرف أن أحصي ما أصرفه، ولا حاجة لي بغيره، ولا يهمني شيء إذا ربح التاجر خمسة في المائة أو خسر عشرة، ولست آمل أن أكون تاجرة ما حييت، فلا حاجة لي بما لا يعنيني، قالت الكبيرة: إذن فلنذاكر تقويم البلدان فهو علم جميل مسل، قالت: وهل يهمني ذلك، وما ضرني إن صب النيل في البحر الأبيض أو الأسود، وما ينفعني إن رسمت البحر المتوسط أو المتطرف، وليس من عملي التوغل في البلاد، قالت الكبيرة: لعلك تريدين التاريخ فهو علم سهل مسل، قالت الصغيرة: لقد علمت أني لا أحب سماع الدروس، فلا تصدعي آذاني بسماع شيء منها، قالت: فما رأيك إذا قالت إني فتاة لا يطلب مني إلا البقاء في المنزل وتدبير شئونه، فلست أتعب نفسي فيما لا يتعلق بعملي هذا.
فابتسمت الكبيرة عن غيظ وقالت: إن من يسمع كلامك هذا لأول مرة يظنك محقة فيه حتى إذا تروى ودقق البحث علم أنك مخطئة، فإن كل علم تدرسينه من هذه العلوم يقوي إدراكك، ويسدد رأيك، فيؤهلك لأداء عملك، وإن لم يتعلق به مباشرة، فإنك تصيرين ربة منزل تديرين شئونه، وتتوقف عليك وفرة ثروته، وحفظ صحة من به، وهو عمل جليل يحتاج إلى الحكمة والروية والمعرفة ، تحتاجين فيه إلى قراءة بعض الكتب والمجلات النافعة التي تساعدك على أداء أعمالك، فإن لم تتعلمي اللغات وقواعدها وأساليبها، فربما فهمت من تلك الكتب غير المقصود، فأخطأت المرمى، وأسأت من حيث أردت أن تحسني، لا سيما أن درس اللغة العربية والشغف بقراءة أساليبها الرقيقة يقويان ذكاءك ويهذبان ألفاظك، فتحسن محاضرتك، ويطيب الحديث معك.
أما درس الحساب: فهو يقوي تصورك، ويساعدك على معرفة النفقات، والاقتصاد فيها إن دعت الحاجة إلى ذلك، ولا يخفى عليك أن الإنسان مهما تقدم في هذا العلم فهو عرضة للخطأ فيه، فيلزم الالتفات إليه بوجه خاص، وهو مع ذلك يعودك التيقظ والاحتراس في أعمالك؛ لما يترتب على الهفوة الصغيرة فيه من كبير التعب، وهو أيضا يقوي تصورك، ويسدد رأيك؛ لما يستلزمه من إعمال الفكر.
أما تقويم البلدان: فهو يعرفك اختلاف الأجواء وتأثيرها في النفوس والأشياء، فتستعينين بذلك على إصلاح منزلك، وكيفية ادخار الأشياء فيه حتى لا تتلف، هذا فضلا عن أنه يساعدك على فهم ما تقرئينه من الحوادث وتصور حصولها.
وتعرفين من التاريخ أخبار الأمم السالفة وما تركوه من الأثر وأسباب تقدم بعض الناس وانحطاط الآخرين، فتعلمين من ذلك عواقب الأمور، وتتبعين ما ينفعك، وتجتنبين ما يضرك على علم منك بعاقبته، ويعلمك الرسم تحسين المنظر وحسن الترتيب، وهو أليق بك؛ لما تقومين به من ترتيب أثاث المنزل.
هذا فضلا عن أن اشتغالك بهذه العلوم يمحو صدأ الجهل عن عقلك، فتعرفين النافع من الضار، وهو يكفيك شر ضياع الوقت سدى في اللعب أو فيما عساه أن يتلف أخلاقك، ونجاحك في العلم يدل على ذكائك واستحقاقك للقيام بعملك الجليل، وهو أمان لك من الفاقة إن احتجت إليه، وإن استغنيت عنه فهو حلية لك، وبهاء به تهذب ألفاظك، وتحسن مجالستك، ولو كان كل إنسان إنما يتعلم ما يتعلق بعمله مباشرة لترك التلاميذ كثيرا من دروسهم لعدم تعلقها بعملهم.
هؤلاء أطباء أرضنا كانوا تلاميذ يدرسون ما ندرس الآن من علوم اللغات، وتقويم البلدان، والتاريخ وغير ذلك، فهل كان يرجو التلميذ منهم أن يبرئ مريضا بما يحفظه من أسماء الجبال، والبحار، أو يصرف أمامه فعلا فيخف ألمه، أو يكلمه بلغة أجنبية فيثوب إليه رشده؟ كلا، إنما يتعلم التلميذ تلك العلوم؛ ليتسع نطاق عقله، ويمكنه القيام بعمله، حتى إذا نال شهادة الدراسة الابتدائية دخل المدارس الثانوية؛ ليزداد علما بما يتعلق بعمله، وما لا يرتبط به مباشرة من نحو، وصرف، وإنشاء، وآداب اللغة العربية، وحفظ كلام الشعراء الماضين، وسيرهم، وغير ذلك مما لا تعلمين، فما علاقة ذلك بعلم الطب؟ وهل كان ذلك إلا لتقوى مدارك الطلبة؛ ويمكنهم فهم دروسهم، ثم قيام الطالب بأعماله قيام رجل استنار عقله بالمعارف، وعرف في صغره ما لم تعرفه الشيوخ بالتجارب، وكذلك الجندي وغيره من موظفي الحكومات لا يقتصرون على ما يتعلق بأعمالهم.
فأنت إن اقتصرت على ما تعرفين وهي مبادئ أولية لم تكد تثبت في ذهنك، فلا تلبث أن تذهب، وتصيرين جاهلة كغيرك ممن لم يدخلن المدارس، ولم يتعلمن شيئا، فبئس المنزل منزل تقوم بشئونه جاهلة مثلك، فهي تسبب خرابه من حيث لا تشعر.
قالت الصغيرة: لقد علمت من كلامك ضد ما كنت أعتقد، وعرفت خطئي فيه، فهل لك أن تساعديني على المذاكرة؛ لأتلافى ما كاد يفسده الطيش، قالت: كيف لا أبذل في ذلك النفس والنفيس، وإنما جعل الإنسان في هذه الحياة الدنيا ليفيد بني جنسه ويستفيد منهم، وأنت أقرب الناس إلي وأولاهم بمساعدتي لك. (36) حلم معن ابن زائدة
لما تولى معن بن زائدة إمارة العراق، وكان قد اشتهر بالحلم والكرم، أتاه أعرابي يختبر حلمه، فدخل عليه دون أن يؤذن له، فلما مثل بين يديه قال له:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير
قال معن: نعم، أذكر ذلك ولا أنساه، قال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا
وعلمك الجلوس على السرير
قال معن: سبحانه على كل حال، قال الأعرابي:
فلست مسلما ما عشت دهرا
على معن بتسليم الأمير
قال معن: إن السلام سنة يا أخا العرب، تأتي به كيف شئت، قال الأعرابي:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير
قال معن: إن أقمت فينا فمرحبا بك، وإن رحلت عنا فمصحوب السلامة، قال الأعرابي:
فجد لي يا ابن ناقصة بشيء
فإني قد عزمت على المسير
قال معن: يا غلام أعطه ألف دينار، فأخذها الأعرابي، وقال:
قليل ما أتيت به وإني
لأطمع منك بالمال الكثير
قال معن: يا غلام أعطه ألف دينار أخرى، فأخذها الأعرابي وقال:
سألت الله أن يبقيك ذخرا
فما لك في البرية من نظير
قال معن لغلامه: أعطه ألف دينار أخرى، فأخذها الأعرابي، وقال: أيها الأمير، إنما جئت مختبرا حلمك لما بلغني عنه، فلقد جمع الله فيك من الحلم ما لو قسم على أهل الأرض لكفاهم، قال معن: يا غلام كم أعطيته على نظمه؟ قال: ثلاثة آلاف دينار، قال: أعطه على نثره مثلها، فأخذها الأعرابي، وذهب في طريقه شاكرا. (37) مراعاة الصحة والنظافة
خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان، وجعل لكل عضو من أعضائه عملا يقوم بأدائه، فإذا تلف أي عضو منها عجز الإنسان عن إتقان عمله، وأصبح يعلل النفس بالآمال، يرقبها بقلب مشغوف بها، وباع قصير عن إدراكها، لا سيما إذا كان العضو المصاب مما له التأثير في غيره كالمعدة التي إذا اعتلت مرض لها الجسم كله، وأصبح الإنسان منغصا بأنواع السقام غارقا في بحار الأوهام، وربما حرم بذلك لذة التمتع بالفكر الذي شرفه الله به على سائر المخلوقات؛ لأن الأعصاب كلها مرتبط بعضها ببعض، فمتى اعتلت القوى الجسمية تبعها بعض الاعتلال في القوى العقلية، ويظهر ذلك جليا فيمن اشتد مرض أجسامهم ففقدوا عقولهم أو كادوا، والغالب أن العقل الحكيم في الجسم السليم.
لذلك وجب أن يهتم الإنسان بصحته التي هي من أهم الأسباب في تمتعه بالحياة الدنيا، فينظم أوقات عمله ورياضته، فلا ينهك قواه في العمل بلا رياضة، ولا يضيع زمنه كله في اللعب والبطالة؛ بل يتوسط في أمره، ويكون كما قال الشاعر:
وللجد أوقات وللهزل مثلها
ولكن أوقاتي إلى الجد أقرب
ولما كان الغذاء من أهم الأشياء لحياة الإنسان، وجب أن يهتم الإنسان بأمر غذائه، ويجعله في أوقات معلومة حتى تعتاد المعدة هضم الأغذية في تلك الأوقات، فلا يتأخر ميعاد الغذاء فيفقد تشهي الأكل، ولا يقرب بين مواعيد الغذاء؛ لئلا تتراكم المواد على المعدة، وتعجز عن هضمها.
هذا، وإن أغلب الأمراض إنما تنشأ عن عدم النظافة؛ ولذلك كان من أهم أسباب الصحة: الاعتناء بنظافة المأكل والمشرب والملبس والمسكن.
وإذا كان كل إنسان يأوي إلى منزله ليستريح من عناء العمل، ويخرج النفس من سجن الفكر إلى رياض الراحة وجب أن يكون المنزل نظيفا نقي الهواء مرتب الأثاث حتى يسر المرء بتسريح النظر بين أرجائه، ويصح جسمه باستنشاق هوائه العليل فيقوى على العمل، فلو بذلت ربة المنزل الجهد في تنظيفه وتنظيمه مراعية صحة من به وراحتهم غير متكلة على أحد في ذلك لوجد رب المنزل لذة في البقاء فيه، وشغله حسنه عن الخروج إلى الخارج، وصرف دراهمه سدى، وشبت الأطفال أقوياء على العمل يقومون بواجب دنياهم ودينهم.
لذلك كان من الحزم أن تجتهد الفتاة في معرفة ما يساعدها على مراعاة صحة الأطفال، وتدبير المنزل مثل قراءة المجلات الطبية وبعض الكتب في تدبير المنزل، تاركة كل ما يشغلها عن إتقان عملها من كثرة الخروج، والتغالي في الزينة، وتغيير لون وجهها الطبيعي بأشياء تصرف فيها دراهمها، وتضيع في صنعها نفيس وقتها، وهي مع ذلك لا تلبث أن تذهب، ويشتهر للناس أمرها وميلها للكذب، حتى في تغيير خلقتها الطبيعية. (38) عدو عاقل خير من صديق جاهل
إن الإنسان يصادق الإخوان ليكونوا ابتهاجا عند الفراغ، وعضدا في الأعمال، وعونا على المصائب، فإذا صاحب أناسا عقلاء فقد أصاب حاجته من طيب حديثهم، وسداد آرائهم، وحسن وفائهم، وإن أخطأ المرمى ومنح وده صديقا جاهلا فقد سرح آماله «بواد غير ذي زرع» ولم يكتسب من صداقته غير الكدر، وسوء المعاملة؛ لأن هذا الصديق يضره من حيث أراد أن ينفعه فيمضي العمر بين عتاب ممل وخطأ مستمر وغضب ورضا، فتكون العداوة خيرا من هذه الصداقة الفاسدة التي أقل ضررها ضياع الوقت سدى في محادثة غر جاهل لا يفقه حديثا، ومحاورة غبي بليد لا يدري مواقع كلامه من قلوب سامعيه.
هذا فضلا عن أنه ربما تسري فيه أخلاق صديقه فيكتسب من مصادقته الحمق والدناءة، وينسب إليه الجهل لمصاحبته، ويعزى له سوء فعله، وإن كان بريئا منه:
والمرء منسوب إلى القرين
فعلى الإنسان أن ينتخب أصدقاءه من عقلاء الناس، وفضلائهم؛ ليكسبوه الفخر، ويعلموه الفضل، وإلا كان عدمهم خيرا من وجودهم، وربما أصاب الصديق من شرهم أكثر مما يصيبه من شر أعدائه؛ لأن المرء واثق بأصدقائه لا يداخله ريب منهم، ولا يحذر سطوتهم، فهو غرض لسهام خطئهم، وربما هجم عليه صديقه بنبال جهله، فأصاب مقتله، وهو لاه عنه غير مستعد لحربه فيشقى بصحبته، أما الأعداء: فهو على يقظة من غدرهم، فلا يمكنهم اغتياله بغتة، وهو مع ذلك يكتسب من عداوتهم التيقظ ومعرفة عيوبه، فيتخلى عن كثير من الرذائل إذا كان عاقلا، ويتحلى بالفضائل؛ ليسلم من ملامهم، فتظهر فضيلته، وتشتد شوكته، وتقوى حجته كما قال الشاعر:
عداي لهم فضل علي ومنة
فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وإذا اختار المرء أصدقاء عقلاء فضلاء دل ذلك على حسن اختياره وفضله؛ لأن المرء يميل إلى مماثله:
وشبه الشيء منجذب إليه
ويجب عليه إذن أن يحرص على مودتهم ويغض النظر عن هفواتهم:
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة
يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب (39) العقل في الغربة وطن والجهل في الوطن غربة
إن العاقل إذا حل بأرض اختبر أهلها وعرف أهواءهم وأخلاقهم ومجاري رزقهم، فيعرف خزائن خيرها، ويطلبها من وجوهها، ويجاري القوم في أعمالهم، ويتخلق ببعض أخلاقهم، فيميل إلى ما تميل إليه نفوسهم، ويبتعد عما ينفرون منه، فيقبلون عليه، ويرغبون في معاملته، وبذلك يمكنه التمتع بخيرات بلادهم ومزاحمتهم عليها بحسن تلطفه ودهائه، فهو إذ ذاك كأنه في بلاده؛ لقربه من نفوس القوم، وتمتعه بخيرات البلاد التي ربما حرم منها بعض أهلها؛ لجهلهم، وسوء تصرفهم.
هؤلاء العرب في الصدر الأول من الإسلام دخلوا بلاد الأندلس، وهي قاحلة، فجعلوها جنة بجدهم وسداد رأيهم، فانتفعوا من خيراتها بما عجز عن استخراجه أهلها، وأسسوا دعائم الملك، وأقاموا معالم العلم في جميع أنحائها، فدامت عامرة بحكمة ملوكها وعزمهم، حتى إذا استولى عليهم الغرور وحب الترف، وتركوا الأخذ بالحزم، وغلب عليهم الجهل اضمحلت قوتهم وذهب ملكهم كأن لم يكن، فهذه مملكة أسسها العقل والحزم، وهدمها الجهل والعجز.
أما الجاهل فهو في وطنه بعيد عن آراء أهله وأخلاقهم وأهوائهم؛ جاهل بمنابع رزقهم، محروم من خيرات بلاده، ذليل بين قومه، خامل لا يعرفه إلا القليل فهو كالغريب لعدم انتفاعه بخيرات البلاد وبعده عن أحوال أهلها، ولو كان عاقلا لوجد في الغربة عزا وغنى بإعمال الفكرة فيما يفيده، وبلغ آماله، فبئس الداء الجهل، ونعم الدواء العقل. (40) وصف نزول المطر في قرى مصر
إن نزول المطر في القاهرة مما يشوه جمال منظرها، ويجعل الإنسان يكره الخروج من بيته؛ ولذلك كنت أحسب المطر من الأشياء الممقوته، وأعجب من اهتمام العرب به، وتغاليهم في مدحه حتى شبهوا به النوال، ولم أقدر هذه النعمة حق قدرها حتى نظرت نزول المطر في القرى، فإذا هو من أجمل المناظر وأحسنها، فأخذ منظره بمجامع قلبي، وراقتني نضرته، ومالت إليه نفسي التي لم يكد يعجبها شيء من زخارف هذه الحياة، فكان هذا اليوم عندي من أفضل الأيام.
نزلنا من القطار وقد نفدت بدر السماء من دارهم الماء، فانقطع نزول المطر بعد أن كسا الأرض رداء كافوريا، وغسل الأشجار من التراب، فظهرت حلتها الزبرجدية في أبهى مناظرها، فأخذت الغصون تميل طربا بحسنها، وكأنها تشير إلى السماء شكرا لها على ما أهدته إليها من كنوزها النفيسة، وعمت السكينة جميع الأنحاء، وسكن الغبار، واختفت الطيور في أوكارها، فصرنا لا نسمع إلا خرير المياه، واهتزاز الغصون، ووقع حوافر مطايانا التي كانت تثير من عنبر تلك الأرض ما قد تعطر بماء السماء، فما أبهى تمايل النبات على هذا الثرى الذي ابتل بالمطر، فصار كافورا أصفر، ونفحت عليه الأزهار من شذاها، ففاق المسك ريحا ، فكأن الأرض بساط سنجابي مزركش بأنواع الجواهر من زبرجد الغصون، وياقوت الأزهار ودرها، وقد خيم الضباب، واختفى كوكب السماء، فرفعت نجوم الأرض رءوسها؛ لتراه من تحت السحاب.
وما زالت تسير بنا الركاب بين رياض وغدران، كأن ماءها سبائك الفضة حتى انتهينا إلى حيث قصدنا، وبودي لو زاد طول الطريق أضعاف ما كان عليه حتى أتمتع بمرأى تلك المناظر الطبيعية، التي تعجز عنها يد الصناعة، وتشهد لخالقها بالتفرد والقدرة على جميع ما أراد، وتذكرت إذ ذاك حال العرب، وفرط ولوعهم بهذا المطر، بل الرحمة التي أنزلها الله - سبحانه وتعالى - على خلقه، فعلمت أنهم لم يفوا بحق مدحها مع بلاغتهم وحسن بيانهم. (41) من سره زمن ساءته أزمان
كان لأحد الأغنياء ابنة واحدة قد رباها على الترف والدلال، فكانت مخيرة في جميع أعمالها، ليس لأحد عليها سيطرة؛ لذلك شبت لا تعرف شيئا إلا الانغماس في الملاهي، حتى إذا بلغت الثامنة عشرة من العمر حلت بأبيها بعض مصائب ذهبت بأكثر ماله، فمات حزنا وأسفا على أثر ذلك، ولم تلبث والدتها أن تبعته، وتركت الفتاة فريدة في الدنيا، ليس لها من يرشدها سواء السبيل.
فما زالت لاهية عن الزمان مشغولة باللهو واللعب، غير شاعرة بعاقبة إسرافها وتفانيها في الغرور، تلبس من الملابس أغلاها، وتأكل من المآكل أشهاها، حتى نفد ما بقي معها من مال أبيها، واحتاجت إلى اكتساب ما تقتات به، ولما كانت لا تعرف حرفة تعيش بها، اضطرت إلى خدمة الناس.
واتفق أن إحدى جاراتها المثريات علمت وليمة عظيمة، حضر إليها كثير من الفتيات، وحضرت هذه الفتاة الوليمة لمساعدة الخدم، حتى إذا انتهى عملها جلست ناحية تنظر إلى من حضر من المثريات، وزخرفة ملابسهن المختلفة، فتذكرت إذ ذاك حالتها القديمة، وأطرقت إلى الأرض برهة تفكر فيما آل إليه أمرها، فانحدرت الدموع من آماقها، وجعلت تلوم نفسها على ما ضيعته من نفيس وقتها فيما لا يفيد، وبينما هي كذلك إذ دخلت سيدة يحيط بها كثير من الخدم وعليها من الحلي والحلل ما يدل على اتساع ثروتها وعظيم شأنها، فقامت لاستقبالها الحاضرات، وأجلسنها في محل يليق بمقامها الرفيع، ونظرت الفتاة إلى القادمة، وإذا هي فتاة كانت تلميذة معها في المدرسة، وكان أبوها من فقراء الباعة لا يمتلك شيئا إلا رداءه وصندوق بضاعته الحقيرة، فعجبت من ذلك، وأخذت تردد طرفها فيها؛ لتتحقق من معرفتها، ولاحت من السيدة التفاتة، فرأت الفتاة وعرفتها، ولكنها تجاهلت حتى اشتغلت عنها الحاضرات بشيء آخر.
ثم قامت مظهرة أنها قد سئمت الجلوس، وتود أن تتمشى قليلا، ودنت من الفتاة، وقالت لها: ألست فلانة ابنة ذلك الرجل الغني، قالت: بلى أنا هي، قالت: ما فعل بك الدهر، قالت: فعل ما ترين، فقد غدر بي فلم يترك لي أهلا ولا مالا، قالت: هكذا الدهر يخفض ويرفع، ولطالما نصحتك فلم تسمعي نصيحتي، وكنت تسخرين مني ومن اجتهادي في العلوم، وطالما أكرهت النفس على ما لا تحب حتى بلغت الآن ما أهوى، أما أنت فقد تبعت هوى النفس حتى وقعت فيما تكرهين، قالت الفقيرة: إنك تشمتين بي على أني وإن كنت في تلك الحال فقد علم الناس أني أرفع منك بيتا، ولي من الفخر بأجدادي ما ليس لك.
قالت الغنية وقد انحنت عليها ورقت لها: لم أقصد بك شماتة أيتها الصديقة، ولكني أردت أن أنصحك، أما قولك إنك أفضل مني عنصرا، فلا فخر لك في ذلك؛ لأن المرء أقرب إلى نفسه منه إلى أجداده، فإن فخرت علي بما أسسه أجدادك من المجد فلي أن أفخر بما أسسته أنا، ولتعلمي، أنك هدمت ما بناه جدودك، أما أنا فقد بنيت لي من المجد والشرف ما عجز أبي عن الوصول إليه، وهناك بون بعيد بين الهادم والباني، فمن أحق منا بالفخر؟!
فأطرقت الفتاة إلى الأرض ساعة، ثم قالت: نعم، قد هدمت بجهلي ما بناه أبي وجدي، فبئس الخلف أنا، وقد جازاني الدهر على سوء فعلي، وكفى بفعله تأديبا، فاتركيني ونفسي يا رعاك الله، وانصرفت عنها وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فاستوقفتها الغنية قائلة لها: لم لا تحبين البقاء معي، لعلك تظنين أن سينالك مني ما نالني منك أيام فقري من الإهانة والسخرية، وحاشا لله أن أفعل ذلك بعدما شرفني به الله - سبحانه وتعالى - من العلم، وستجدين في صديقة حميمة تساعدك على مصائب الدهر؛ لأريك الفرق بين الجاهل والمتعلم، وربما قدرت أن أعيد إليك بعض مجدك السالف، فدهشت الفتاة لذلك، وقالت: أوفاعلة أنت ما تقولين، فقد والله سئمت الخدمة ولم أعتد ذلك من قبل؟ قالت: نعم سآخذك معي ترأسين منزلي إن شئت، فشكرت الفتاة لتلك المحسنة عظيم إحسانها، وقبلت منها ذلك، وأنشدت تقول في مدحها:
لك الفخر فاجني في سرور وغبطة
ثمار اجتهاد آن وقت جناها
حملت على النفس الأبية ضيمها
فنالت على بعد المرام مناها
سلكت سبيل المكرمات وأومأت
يمينك تهدي من أراد هداها
وقدت زمام الغانيات إلى العلا
كفى النفس فخرا بالكمال كفاها
صفحه نامشخص