فأخذنا ندرس هذه النسخ درسا دقيقا لننبذ بعضها، ولا سيما ما يعتمد منها على سابق له. فأهملنا بادئ ذي بدء نسخة جورج يني؛ لأنها تتفق كل الاتفاق مع النسخة ك التي هي أقدم منها، ولما كانت ك مع هذا الاتفاق التام، موجودة لدى أحد الخوازنة، وكان الأستاذ جورج يني قد نسخ باعترافه عن نسخة خازنية أصبح من المحتمل أن يكون قد نسخ عنها نفسها، وكذلك فإنه بالإمكان أن نعتبر نسخة جامعة برنستن والنسخة ج ب نسخة واحدة؛ لأن الأستاذ المعلوف يعترف بهذه الصلة، ولأن المقابلة بين النسختين تؤيدها. ثم لاحظنا أيضا علاقة ظاهرة بين النسختين م وج ب، وذلك بالأغلاط المشتركة بينهما. فقد ورد مثلا في كل من هاتين النسختين ما نصه: «فلما عاد مصطفى كتخدا وأعلم الأمير عليا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش وأرسلها لابن الحرفوش واستكثر خيره.»
وهو كلام مشوه بدليل النقص في معناه، ولا ينجلي المعنى إلا بالاتكال على ك فنقرأ عندئذ: «فلما عاد مصطفى كتخذا وأعلم الأمير عليا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش، ودفعه لأرباب الديوان في الحال جهز الأمير علي العشرة آلاف غرش، وأرسلها لابن الحرفوش وتشكر منه.» وهنالك مثال آخر يؤيد هذه الصلة بين النسختين. فقد ورد في كل منهما أن الوزير «خليل باشا عين جملة بكلربكية وسناجق، ومعهم عشرون ألف عسكري جرد خيل وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين تصور باله أن لا بد أن يجيء إلى كبسهم.» وفي هذا القول نقص ظاهر، وصحيحه في الأرجح كما ورد في ك: «وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين، فلما علم الشاه عباس أن جماعة الوزير مروا على التركمان والأكراد، تصور في باله أنه لا بد يجيء لكبسهم.» هذا وقد وجدنا من هذا النوع من الأغلاط المشتركة ما يربو على الستين، ولا يخفى كما أشرنا سابقا أن النساخ لا يجمعون على مثل هذه الأغلاط إلا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابق له، كما أنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلا على الصحة. فأما أن تكون ج ب منقولة عن م، أو أن تكون م وج ب منقولتين عن أصل واحد مفقود، وأصبح لدينا بعد هذه الغربلة وهذا النبذ نسختان رئيسيتان هما ك وم، وتوجب علينا أن نقابلهما الواحدة بالأخرى وأن ننتقي منهما ما نراه أقرب لعصر المؤلف وللغته وأمياله، فنثبت نصه في المتن، ونرجئ للهامش نص النسخة الأخرى.
الباب الرابع
تنظيم العمل
يجدر بالمؤرخ المدقق بعد ولوج هذه الأبواب الثلاثة؛ أي بعد أن يكون قد جمع الأصول، ونقدها، وتمكن من العلوم الموصلة إلى فهمها، أن ينسق ما جمع من الأصول ويتبع خطة عملية رشيدة في استخلاص المعلومات منها، وقد أدرك المنفعة من مثل هذا العمل خاصة الناس وعامتهم، وأجمعوا عليه في حياتهم الشخصية. فقالوا بوجوب ترتيب الثياب في الخزائن والجوارير، ووضع أواني المطبخ في محلات معينة لها، وذلك لتسهيل الوصول إليها وعدم ضياع الوقت في التفتيش عنها.
وعلى الرغم من هذه لا نزال نرى بعض علمائنا يقضون السنين الطوال في البحث والتنقيب وجمع المعلومات، وعندما تضطرهم الظروف للرجوع إليها، يستغلق الأمر عليهم ويعسر الوصول إلى ما يريدون مما جمعوا، إلا بعد العناء الطويل، ونحن نعرف صديقا لنا قضى عمره في درس تاريخ لبنان الحديث، فوقف على جلائله ودقائقه، وأصبح أعرف الناس به، ولكنه قليل الترتيب في تدوين ما يعلم. فإنك لو طلبت إليه أن يطلعك على مرجع من المراجع التي أخذ عنها وذهبت معه إلى بيته، ودخلت مكتبته، لو فعلت هذا لرأيته يطلب دفترا قديما هنا، وهامشا هناك، وقصائص أوراق دون في الواحدة منها معلومات شتى بخط سقيم ممجمج، وقد تبقى في غرفته ساعتين أو أكثر، ثم يقول لك سأبحث عن هذا في جو رائق وأوافيك بالجواب، وقد يجد ما يطلب أو لا يجد، ولست أدري من هذا الذي قال إن مثل هذا مثل قوم قضوا حياتهم كلها في تشييد بناء يحملون حجارته على أكتافهم دون أن يفقهوا أين يضعونها، حتى إذا بلغوا المرحلة الأخيرة في حياتهم نظرت إليهم وإلى ما يفعلون، فلا تسمع سوى ضجة تصم الآذان، ولا ترى سوى سحب من الغبار عقدت سرادقات فوق رءوسهم تعمي الأبصار.
ومثل هذا التنسيق أو الترتيب على تواضع ظاهره، يعد في عرف المؤرخين المدققين، دعامة كبرى في بناء التاريخ، وبفضله وحده يتميز نفر من المؤرخين على سواهم. فيوفرون على أنفسهم أتعابا جمة، ويصلون من أهدافهم إلى ما لا يصل إليه غيرهم.
وإذا كان لا بد من تنظيم العمل فكيف يكون ذلك؟ وماذا يفعل المؤرخ فور انتهائه من نقد الأصول؟ على المؤرخ أن يعترف بادئ بدء أنه ليس بإمكانه أن يعتمد على ذاكرته في العمل، وأن يسلم بوجوب القيد، وهو أمر لا يرتاب فيه عاقل، وقد نطق بصحته فلاسفة علم النفس، وتناصرت عليه حججهم. أولم يقل الفقيه اللغوي ابن عباس الكوفي:
لا تنس هاتيك العهود فإنما
سميت إنسانا لأنك ناسي
صفحه نامشخص