رُؤُوسًا جُهَّالًا فَأفْتُوا بِغَير عِلْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)، كمَا جاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ (١).
ولِدَرْء كُلِّ هَذا سَنَّ صَحَابةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ التَّابِعينَ لَهُم بإحْسَانِ الرِّحْلَةَ لِتَحْصِيلِ الحَدِيثِ، وطَلَبِ عُلُوِّ الإسْنَاد في المَرْوِياتِ، وهذا المَقْصَدُ مِنْ أَهَمِّ دَوَاعِي الرِّحْلَةِ، فيَتَمكَّنُ مِنْ مُلَاقَاةِ الشُّيُوخِ والرِّوَايةِ عَنْهُم مُبَاشَرةً دُونَ وَسَائِطَ، قالَ الإمَامُ مُحمَّدُ بنُ طَاهِرٍ المَقْدِسيُّ: (اعْلَمْ أنَّ طَلَبَ العُلُوِّ مِن الحَدِيثِ مِنْ عُلُوِّ هِمَّةِ المُحَدِّثِ، ونُبْلِ قَدْرِه، وجَزَالةِ رأْيهِ، وقدْ وَرَد في طَلَبِ العُلُوِّ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ .... ثُمَّ قالَ: فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ النَّقْلِ عَلَى طَلَبِهِم العُلُوَّ ومَدْحِه، إذ لو اقْتَصَرُوا على سَمَاعهِ بِنُزُولٍ لم يَرْحَلْ أَحَدٌ مِنْهُم، ثُمَّ وَجَدْنا الأَئِمَّةَ المُقْتَدَى بِهِم في هذا الشأنِ سَافَرُوا الآفاقَ في سَمَاعهِ ولو اقْتَصَرُوا على النُّزُولِ لَوَجدَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُم بِبَلَده مَنْ يُخْبُره بذلكَ الحَدِيثِ) (٢).
وجَمَعَ شَيْخُنَا العَلَّامَةُ عَبْدُ الَفَتَّاحِ أَبو غُدَّةَ رَحِمَهُ الله تَعَالىَ نمَاذِجَ جَلِيلَةً مِمَّا لَقِيَهُ عُلَمَاءُ الحَديثِ مِنْ شِدِّة ولأوْاءٍ في رِحْلَاتِهِم لِتَكُونَ حَافِزًا للنُفُوسِ، وتَقْوِيةً للهِمَمِ، ومِمَّا قَالَهُ غَفَر الله لنا ولهُ: (فإذا نَظَر المُتَبَصِّرُ في هذه الرِّحْلَاتُ التي كَانُوا
_________
(١) رواه البخاري (١٠٠)، ومسلم (٣٦٧٣)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأوله: (إِن اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بغَير علْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)، وقوله (رؤوسا) قال النووي: (ضبطناه في البخاري (رؤوسا) بضم الهمزة والتنوين جمع رأس، وضبطوه في مسلم بوجهين أحدهما هذا والثاني (رؤساء) جمع رئيس وكلاهما صحيح، والأول أشهر) شرح صحيح مسلم ١٦/ ٢٢٤.
(٢) كتاب (مسألة العلو والنزول في الحديث) لمحمد بن طاهر المقدسي ص ٥١، و٥٤، وللخطيب البغدادي كتاب مشهور بعنوان (الرحلة في طلب الحديث) ذكر فيه آداب الرحلة، ومقاصدها، وفوائد أخرى تتعلق. بمعاناتهم وما لقوه من شدائد وأهوال، ﵃ وجزاهم عن الإِسلام خير الجزاء.
المقدمة / 30