الزعيم هو الفرد الذي يصيب نفوذا خاصا وسلطانا معينا على جماعة من الناس، وأكثر الأفراد في هذا المجتمع يصيبون نفوذا على بضعة أفراد على الأقل في نديهم أو جمعهم أو محيطهم، ولكن هذا النحو من النفوذ لا يسمى زعامة، إذ لا يتوافر معنى الزعامة إلا باجتماع النفوذ الخاص، ووجود الجماعات الكبيرة والطوائف الكثر الآحاد.
والزعامة على هذا القياس هي الشخصية الفعالة النافذة في نفوس الجماعات، وهي من هذه الناحية تتألف من معالم خلقية تؤثر وتعمل وتنفذ، ومن معالم خلقية تطيع وتمتثل وتستجيب؛ أو هي التفاعل بين أخلاق وصفات معينة، وبين أخلاق أخرى في الجمع أو الكثير من الوحدان، بحيث تتأثر هذه بتلك، وتنزل على مشيئتها راضية.
ولا ريب في أن الشخصية نوعان: النوع المؤثر والنوع المتأثر، أو القيادة والتبعية، وأن للزعامة صلة وثيقة بالذاتية - أو الفردية الشخصية - وبعنصرها المكمل لها، وهو «الاجتماعية»؛ وأنه إذا كانت الذاتية تشير إلى تلك المزايا والصفات الممتازة البارزة التي تجعل فردا من الأفراد ممتازا عن غيره بينا عن سواه، فإن الاجتماعية هي جملة الصفات ومظاهر السلوك التي تتشابه وتتماثل في الأفراد جميعا.
إن صاحب الصفات الذاتية هو القادر بفضل ذاتيته هذه على تأدية عمل ما من سبيل تختلف، وبقوة أسمى وأعظم من سواه من الناس أو الأفراد المحيطين به، وهو من هذه الناحية الخليق بالزعامة، الجدير بالسيادة والتفوق والقيادة، وإن كان كثير ممن أوتوا هذه الذاتية قد تخلفوا فلم تنتج ذاتيتهم زعامة في الناس ولا سلطانا محسوسا بارزا.
وأما عنصر الاجتماعية فهو الذي يعين الفرد على فهم الناس، والاتصال بهم، والاندماج فيهم، وإدراك حاجات نفوسهم ومطالب أرواحهم وآمال خواطرهم ومختلج أمانيهم، وإيجاد الوسائل والأساليب التي تخرج بهم من المآزق الشداد، والمحرجات الرهيبة، أو تحقق لهم ما يبتغون، وتسير بهم إلى الغاية التي لا يستطيعون وحدهم لها طلبا.
ومن لا تتوافر الاجتماعية له فهو العاجز عن قيادة الناس، والزعامة على الجماهير، والظفر بالسلطان الروحي عليهم؛ وإن كانت الاجتماعية بذاتها لا تخلق زعامة ولا تخرج ممن أوتيها سيدا مطاعا قائدا.
والزعامة من ناحية أخرى هي وليدة حياة الجماعة، وثمرة ما يطرأ على القيم الاجتماعية من التغييرات؛ فكلما اعتدي على قيمة اجتماعية أو هوجمت أو أريد أن تزول؛ نهض لها من يدافع عنها، ويذود عن مستواها، ويحارب في سبيل الحرص عليها، ومن شأن هذا أن يخلق زعامة ويجيء بالقائد المدافع الذواد، كما أن مهاجمة القيم الاجتماعية في سبيل إصلاحها أو القضاء عليها، قد تأتي بالزعيم الخليق بأن يتولى الهجوم وينظم العدوان.
وكذلك يكون قائد الوطن المعتدى عليه زعيما، كما يكون القائد المعتدي المهاجم بدافع الوطنية المستعلية الغازية الفاتحة زعيما، وإن كان الأول في جانب الخير والفضيلة، والآخر مع الشر والسوء.
إن الوطنية لتبتدئ جميلة جليلة زاهية الألوان، ولكنها قد تستحيل في النهاية موحشة مرهوبة ضارية، فهي في أدوار تكوينها تطل على أكثر نواحي الخير والفضيلة وكرائم الأخلاق، وفي مراحل شبابها تبدو حالية بأفخر زينة، متهادية في أفتن مشية، وإن جمالها في هذا الدور من حياتها هو في حدتها وروعة رسالتها، وإيثارها وإبائها، وتفانيها ووفائها، وضحاياها وشهدائها، وتلك هي وطنية الفضيلة الاجتماعية، وفناء الإنسان في الإنسانية القومية، بل وطنية الدفاع عن الوطن في غير هجوم، والذود عن الوطن في غير طمع، والكفاح عن الذمار في غير جشع ولا استكثار ولا استعمار ولا عدوان.
هذه هي وطنية الأمة التي استقلت فرضيت باستقلالها، وقنعت إذا تحررت بالحرص على حريتها، ولم تمدد عينها إلى أكثر مما يصون ذلك الاستقلال، كما هي وطنية الشعب الذي اعتدي على استقلاله، فهو يطلبه ويجاهد في طلبه، ويلهم الأفراد العمل له والسعي في سبيله، وطنية الشعب المستعر الجوانح، الحاضر الحماسة، الباذل التضحية، المستعذب الإيثار، المختفي الأنانية، المقبل على البذل والفداء.
صفحه نامشخص