وهو في ذلك يقول: لا تأتي القوة من القدرة البدنية، ولكنها تأتي من الإرادة القوية الغلابة التي لا تقهر. وليست الرغبة عن العنف معناها الاستضعاف والذل والخضوع لإرادة المسيء، وإنما معناها الاعتصام بكل قوة النفس وإرادتها حيال المتجبر والطاغية، وضد الظالم العاتية، وفي استطاعة الفرد وحده إذا هو عمل بهذا واتبع سبيله لأنه قانون الحياة وشرعة الوجود، أن يتحدى قوة أكبر دولة، فيسقطها إذا هي كانت ظالمة، ويعيد بناءها إذا هي اتبعت طريق العدل والإحسان.
وغاندي في ذلك إنما يبني هذه العقيدة على مزايا «الألم» وقوته وفضله، فيقول إن الألم هو الناموس العظيم، بل هو سر الحياة البشرية وقانونها الأبدي وشرعها الثابت؛ فإن المرأة تتألم وتتلوى وتتعذب في المخاض لكي يحيا وليدها، كما تأتي الحياة من الموت، وكما تنمو السنابل بتلاشي البذرة. وما من بلد نهض يوما وارتقى إلا وقد تطهر ونقي بمخاضه نيران الألم وانصهاره في أتون العذاب، فمن المستحيل الاستغناء عن قانون «الألم»؛ لأنه الشرط الذي لا غنى عنه في هذه الحياة، وليس معنى «الرغبة عن العنف» كمحرك بالغ الأثر إلا أنها الرضوان بالألم ... ولقد وضعت أمام الهند ناموس «التضحية» بل ناموس الصبر على الألم، وإن الأولياء والقديسين الذين كشفوا هذا القانون وسط أشد أنواع العنف وأقسى ضروب الأذى والطغيان، كانوا والله أعظم عقولا وأكبر عبقرية من «إسحق نيوطن»، بل كانوا أكبر محاربين وأروع مكافحين من ويلنجتون ذاته. ولم يقصد هذا الناموس بالأولياء والصالحين وحدهم، ولكنه مراد بالناس جميعا، والخاصة والعامة بالسواء. «فإذا اتخذت الهند العنف عقيدة لها فلن أرضى لنفسي المقام بها، ولا أحب العيش فيها، ويومئذ لن تثير في نفسي فخارا بها، ولن يبقى لها في نفسي أي موضع؛ لأن وطنيتي خاضعة لديانتي، مقيدة بعقيدتي، وأنا في نسبتي وتعلقي بالهند كمثل الطفل المتشبث بثدي أمه، وما ذلك إلا لأنني أشعر بأنها ترضعني أفاويق الغذاء الروحي الذي أحتاج إليه، فإذا هي خذلتني كنت كاليتيم البائس الذي لا يجد وليا ولا نصيرا، ويومئذ فلتكن قمم «الحملايا» المغطاة بالجليد موئلي وملاذي، أجد لديها ما هي مكسبتي وماسحة عن روحي الدامية ...!»
وكذلك راح غاندي يمزج الوطنية بهذا العنصر الديني العجيب، ويقود الهند به إلى الجهاد، وقد طالما لقي في سبيله الألم، وزج به في غيابات المحابس، وقد حار خصومه في أمره، ولم يعرفوا ماذا يصنعون به؛ فكانوا كلما سجنوه عادوا بعد حين فأطلقوا سراحه، وهو في السجن والسراح هو لا يغالب ولا يقهر ولا ينثني عما هو ماض فيه يأسا أو قنوطا.
وقد جرت هذه المبادئ الدينية التي اختلطت بوطنية الهند إلى الاستعانة بوسائل مناسبة لها، وهي المقاومة السلبية «وعدم التعاون»، وفي حماسة الثورة راحت هذه التعاليم تغمر النفوس في الهند جلدا على الألم، واستماتة بالتعذيب، وتدفع الشباب إلى الشهادة، وتحبب إلى نفوسهم الموت في سبيل الوطن ولقاء المدافع رحب الصدور، ولكن لا تلبث بعد الثورة أن تحمل الناس على التساؤل في قيمتها ومبلغ نفعها، وتثير في النفوس الشك في صلاحيتها والمداومة على التدرع بها، كما أن اختلاف النحل في الهند وكثرة الملل، وتعدد الطوائف والديانات، ظل أكبر حائل دون الوحدة الروحية التي نادى غاندي بها وأهاب ، والتي جعلها صيحته المترددة الصدى في كل مكان.
وقد تولى غاندي الدفاع عن الطبقات الصغيرة، تلك الطبقات العامة المهينة التي وطئها الظلم بأقدامه، وديست بالصغار، وسمي أهلها «بالأنجاس» و«المنبوذين»، ولم يكن هذا الإحساس جديدا عليه في الكبر، ولكنه نشأ معه من الحداثة، حتى لقد اعتزم وهو في الثانية عشرة أن يمحو هذه الوصمة عند الهند، ويزيل هذا العار من حياتها الاجتماعية، بل لقد بلغ من سخطه على هذا التفريق الشنيع بين الأخ وأخيه في شركة الوطن الواحد أنه كان يقول إن بلاده تستحق كل ما أصابها من ظلم الغير وطغيان الأمم جزاء لها وانتقاما منها على هذا النظام الفاسد المنكر الشنيع، وهو في ذلك ينادي مصارحا؛ إذا كان الهنود قد أصبحوا عبيدا أذلاء للأمم الأخرى، فقد حق ذلك عليهم جزاء وفاقا، وحل بهم انتقاما من رب عادل منتقم للضعيف، أفلا ينبغي لنا نحن «الهندوس» أن نغسل أيدينا الملوثة بالدم قبل أن نطلب من الإنكليز أن يغسلوا هم أيديهم؟ ... إن «المنبوذية» قد حقرتنا في أعين الأمم، وحقرت شأننا في العالم، وما دام الهندوس قائمين عنادا وتشبثا على الاعتقاد بأنها جزء من دينهم، فسوف يظل بلوغ الاستقلال مستحيلا علينا مهما صنعنا ومهما جاهدنا، إن الهند لأثيمة مذنبة، ولم يفعل الإنكليز بها أسوأ مما فعلت هي بنفسها، إن أول واجب علينا أن نحمي الضعفاء ونذود عمن لا نصير لهم ولا معين، ولا نؤذي إحساس أحد من الناس، ولن نرقى عن مستوى الحيوان حتى نتطهر من الخطايا التي اقترفناها في حق إخواننا المساكين.
ومن ثم راح غاندي يجاهد في سبيل جعل الهند وحدة كاملة، سامية فوق اختلاف الملل والنحل والأديان؛ لأنه أقام جهاده الديني أو رسالته الروحية فوق وطنيته، وهو في ذلك يقول: «الوطنية عندي هي حب الإنسانية؛ فأنا وطني لأنني إنساني محب لخير الناس، وإذا كنت قد اشتركت في السياسة، فما ذلك إلا لأن السياسة قد أصبحت اليوم تلتف علينا كالتفاف الحية لا سبيل إلى الخلاص منها مهما حاولنا، وليتني أستطيع أن أتغلب على هذه الحية التي أحاطت بي ... إنني أحاول أن أمزج السياسة بالدين.»
وأكبر الظن أن هذا الذي أصر غاندي عليه واستنفد كل قواه فيه، هو الذي أدى في النهاية إلى فتور حركته، وانقطاع ما كان موصولا من رسالته، ومكن لخصومه من إحباط مساعيه وإفساد مهمته؛ لأن غاندي قد قام يطلب أمرا عسيرا للغاية، ويجعل هذا الأمر نقطة ارتكاز في سياسته وما كان منتظر لغاندي أن ينجح وشيكا؛ لأن الحاسة الدينية شديدة متأصلة في الهند، والاختلاف الطائفي فيها غائر الجذور، بعيد العمق، متشعب، كثير النواحي، متعدد الوجوه، بسبب كثرة النحل والملل، حتى لتبلغ العشرات، مما لا يتسنى التغلب عليه، ولا يمكن معه إيجاد الوحدة الوطنية الكفيلة في قضايا الاستقلال بالنجاح.
وقد انقطعت اليوم أخبار غاندي، وعقب فشل مؤتمر المائدة المستديرة أخلد إلى رسالته الروحية؛ ولكن أكبر ظننا أن فتور حركته هذا إلى حين، وأنه سينبعث مرة أخرى فيملأ سمع الدنيا بحديث نهضته وجديد ظهوره.
على أن «غاندي» لم يعد اليوم اسما لشخص من الأشخاص، ولكنه مثل وقدوة، وعقيدة ومبدأ، ودين جديد ورسالة، ولكنها رسالة لا تنحصر في الهند، ولا تحتبس داخل حدودها وإنما تسري رويدا في العالم، وتتمشى على مهل لتغمر الدنيا كافة؛ لأنها رسالة الحق غير المسلح، الحق الوديع الراغب عن العنف، حيال القوة المدججة، القوة الغاشمة التي تدعي أن الحق لها ما دام السيف في كفها، والقذيفة فوق كتفها، والمدافع من حولها، وفي البحر لها الجارية المسلحة والسفين.
هي رسالة عامة للإنسانية، وإن كانت الهند هي مهدها ومحل ظهورها، بل ضحيتها وتفديتها، وقد تكون رمز صليبها، كأنما قدر على كل صاحب رسالة أن يكون ضحيتها، قبل أن تنتشر وتهب الدنيا قوة وحياة جديدة.
صفحه نامشخص