كالعادة تصدى له موسى الرحيم؛ حيث إنه الشخص الوحيد الذي يتبنى كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسرى، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم إسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه وبلسانه وبيده أيضا، بدآ بمشادة كلامية حادة ثم تدافعا بالأيدي، ثم استخدم الجاويش المهدي دبشك بندقيته، وبركلة بهلوانية ألقى موسى الرحيم على الأرض، وعندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة تدخلنا الستة عشر رجلا وامرأتين لفضها والفصل بينهما، كان المهدي قد حمل بندقيته معمرة وفي وضع إطلاق النار، واتخذ موضعا حربيا دفاعيا هجوميا خطيرا بالقرب من صخرة الجرحى، الذين نسوا آلامهم في الحال، توقفوا عن التأوه، الصراخ، طلب الماء وتبادل الوصايا، أخذوا يحملقون بعيون زائغة مفتوحة إلى آخرها فينا، في المهدي، في موسى الرحيم المرمي على الأرض فاقدا الوعي، يصدر الآن أصواتا غير مفهومة، تمثل احتضار فرصتهم الأخيرة في الحياة، طلب المهدي من الجميع الجلوس وإلا : لحستكم كلكم واحد واحد.
جلسنا.
أمرنا بأن نضع أيادينا على رءوسنا وأن ننظر في اتجاه الشمال مقابلين إياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك: زي الهوا.
فعلنا.
هددنا بأنه إذا تحرك أي منا أية حركة، مريبة كانت أم صديقة، لأي اتجاه كان سوف: أشربه.
أومأنا برءوسنا أن: فهمنا وأطعنا.
عندما سمعنا هوهوة الرصاصات، بالرغم من كل التهديد والوعيد، اتجهنا جميعا في لحظة واحدة نحوه، كان يدوس برجله على ظهر الأسير الجريح الذي يرقد ميمما وجهه شطر الأرض ورأسه غارق في الرمل الأصفر الحارق تحت ثقل بوت وجسد المهدي.
وفي ناحية قلب الأسير الجريح يطلق المهدي الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
ست رصاصات قاتلات نافذات من كلاشنكوفه، صمت الأسير الجريح نهائيا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية وحقيقية، ولا شك فيها مطلقا: مات كما يجب أن يموت أسير جريح، أطلقت ست رصاصات من كلاشنكوف جاويش عجوز في قلبه: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
عندما رفع المهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت نهض الأسير الجريح الميت؛ أغبر أشعث طويلا مرعبا وصامتا، وقف المهدي مندهشا فاغرا فاه في بلادة بينة بائسة، مع عجز كامل عن النطق أو التعبير، عاجل الأسير الجريح الميت المهدي بلكمة واحدة قوية في رأسه فأرداه صريعا على الأرض، بحركة أخرى جيدة قام الأسير الجريح الميت بقلب المهدي على ظهره، ببطء وضع رجله اليمني على ظهر المهدي، أحنى الأسير الجريح الميت جسده في شكل قوس عملاق رهيب فوق جسد المهدي المسجي على الرمال، أمسك الرأس بكفتيه الكبيرتين الملوثتين بالتراب، أدارها ناحية اليمين في رفق وعناية فائقتين، ثم بذات الرفق والعناية الفائقتين، أدار الرأس ناحية الشمال بهدوء وصبر، كأنه نطاسي عليم يدرس حركة عنق مريضه، ثم في سرعة البرق وبمهارة شيطان رجيم حنى الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلى فرقعة عظام رقبة المهدي وهي تتحطم مصحوبة بشخير عميق وقح وما يشبه نغمة دو وازا منفلتة، ظل طنينها عالقا في الهواء لزمن طويل، بينما كانت بعض أطيار الكلج كلج تغرد عابرة السماء العارية نحو الشرق، رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطى في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ ثم مات مرة أخرى.
صفحه نامشخص