مشکلهی علوم انسانی: قانونمندسازی و امکان حل آن
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها
ژانرها
لقد تنامى من بعد دلتاي الوعي بهذا التخلف النسبي للعلوم الإنسانية، وكثر الحديث فيه ربما لدرجة مملة، حتى أصبح أمرا مألوفا، ما يدفعنا لمحاولة جادة لاستشراف إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية، مقارنة بتقدم العلوم الطبيعية، أو على ضوئه.
والحق أن ذلك الأمر المألوف، مألوف بقدر ما هو عجيب، فمسائل العلوم الإنسانية كانت منذ الأزمنة البعيدة موضع الاهتمام الأكبر، وتستقطب أعاظم العقول، فكان تناولها أكثر نضجا من تناول مسائل العلوم الطبيعية.
4
وأي مقارنة بسيطة بين دساتير أرسطو وبين فيزيائه، أو بين تناول أفلاطون وفلاسفة الإسلام لمشاكل الأخلاق والمجتمع والسياسة «أو الإمامة» وبين تناولهم لمشاكل الطبيعة والمعادن، تثبت هذا، ودع عنك المحاولة الناضجة الباسقة التي قام بها عبد الرحمن بن خلدون (+ 808ه = 1406م) لتأسيس العلم الإنساني، علم العمران، أو علم الاجتماع بمصطلحات عصرنا، وبصورة تدهش أكثر العلميين تقدما حتى الآن. وإن كانت محاولة لم تؤت في عصرها ثمارها الممكنة أو المرجوة؛ لأنها تأتت وشمس الحضارة العربية توشك على الأفول، فلم تلق خلفا صالحا يحمل ميراثها العظيم، والذي يبدو حتى يومنا هذا قابلا للاستثمار المربح كمحاولة سان سيمون، أو حتى أوجست كونت، وسواهما من الغربيين الذين قدر لمحاولاتهم التواصل والسيرورة والنماء. وفي مقابل هذا نجد ما قاله ابن خلدون فيما يختص بمسائل الطبيعة لا يساوي شروة نقير، ولا يستحق إضاعة أي وقت أو جهد، وابن خلدون هو السلف الحقيقي لفيكو (+ 1744)، ومشروعه العظيم لتأسيس العلم الجديد - علم الإنسان وتاريخه.
فابن خلدون وفيكو يترأسان معا المحاولات الطموحة في مجال الدراسات الإنسانية ، والتي تألقت طوال العصور الماضية، وإذا كانت لم تستطع أن تكون علما ذا قوة منطقية حقيقية، وصفية أو تفسيرية، فإنها كانت - على أي حال - أنضج كثيرا من الطبيعيات. وفي ذلك التفاوت الحاد بين مستوى التفكير في الإنسانيات ومستواه في الطبيعيات، طوال العصور القديمة، يقول جون بيرنت: «في الأيام الباكرة كان اطراد الحياة الإنسانية موضوعا للإدراك الجلي أكثر من سياق الطبيعة. وقد عاش الإنسان في دائرة خلابة من القانون والعرف، أما العالم من حوله فعلى ما يبدو ظل مفتقرا للقانون.»
5
ولنلاحظ أن القانون أساسا يخص مجتمع الإنسان، وفرض النظام عليه، وتحقق العدل والقسطاس فيه. وفور أن لوحظ أي اطراد في الطبيعة وصيغ، على الفور انسحب هذا المفهوم الإنساني الخالص «القانون
Law »، ليخلع على الطبيعة.
ولكن الفروق النوعية للظاهرة الإنسانية، وما قد تختص به من إسقاطات ذاتية حميمة أو عاطفية ومثاليات غائية ... إلخ، هي ربما التي جعلتها موضع الاهتمام الأكبر منذ الأزمنة البعيدة، وجعلتها من الناحية الأخرى تبدو مستعصية على أصوليات النسق العلمي النامي حديثا، فتنأى عنه، وتتخلف عنه مسيرته، وتنكشف قصورات المحاولات السابقة الجمة عن شروط ما هو علمي، «وحتى بدايات القرن التاسع عشر لم يكن أحد يفكر تفكيرا جديا في فكرة العلوم الإنسانية والأخلاقية.»
6
صفحه نامشخص