فدان، وأما الملتقى فبعيد
وكيف «يلتقي» اثنان يمتلك أحدهما الآخر امتلاكا لا يقصر على تضييق الحرية الشخصية شأن الرجل مع المرأة والمؤدب مع التلميذ، وإنما هو حذفها ليصير العبد آلة خضوع وعمل، تحصى من متاع المالك مع المواشي وما شاكلها.
مأساة دهرية يتألم لذكرها القلب الشفيق، بيد أن المؤرخ المفكر يراها فجرا محصحصا في ليل الهمجية، وأول بادرة من بوادر الرفق من حيث إدراك وجوب الاحتفاظ بحياة المغلوب والحرص عليها. هي دليل التقدم وإن نسبها هربرت سبنسر إلى الشبع بتقريره أن أول العبيد هم أسرى الحرب، وقد جرت العادة بأن يأكلهم الغالب في ولائم النصر. وأنه عندما كثر عددهم أجل قتل بعضهم للتلذذ بلحمانهم المشوية في وليمة آتية ليصير النصر الواحد نصرين؛ فاستخدموهم خلال هذه الفترة فانتبهوا للحال إلى أن حياة الأسير أنفع للغالب من موته.
وعلى كل، فإن الإبقاء على الأسرى يظل كبير الأهمية لإثباته أن النوع - حتى في تلك الهمجية القصوى - ذو نظرة صائبة وإرادة قوية تمكنه من ممارسة الإپيقورية قبل ولادة أسلاف إپيقورس، فيضحي اللذة الصغيرة للحصول على لذة أعظم ... وأهميته الكبرى في إيجاد العبودية وهي الفارق الأول للدرجات الاجتماعية، والمرتبة الأولى لتقسيم العمل الذي قامت عليه دعائم الحضارة. فلولا إناطة الأعمال الدنيا بأولئك القوم ما تفرغ المحارب لبسط سلطانه، ولا أبدع أعوانه ما تستلزمه فنون الحرب وتؤدي إليه من عمل زراعي وصناعي واقتصادي وسياسي. ولولا ذلك التقسيم وهذا الإبداع ما ظهرت الحقوق والواجبات، ولا كانت النظم، ولا توصل البشر إلى تخزين قوة وحذق يستحيل وجود مثلهما عند العشائر الأولى.
لقد عرفت العبودية شعوب الشرق قاطبة من الهند والصين إلى مصر ففينيقية فآشور، فالفرس الذين ضموا تحت لوائهم أمم آسيا الغربية؛ فاختبروا جميع صنوف العبودية في الحقول والمنازل والإيوانات، منذ أيام بابل إلى عهد اليونان. وحالة العبيد متماثلة في كل مكان يتصرف السيد بهم بيعا وحياة وتعذيبا وموتا، إنما يختلف هذا التصرف باختلاف فطرة الشعوب واستعدادها؛ فبينا حالتهم في الهند على أسوأ ما يكون، إذا بهم في الصين على هناء نسبي لا ينظر إليهم كأشياء أو آلات، بل كأناس يحميهم القانون جاعلا حياتهم في مأمن من الخطر وأعضاءهم سالمة من التشويه. وليس في تاريخهم ثورة واحدة على تجمع مئات الألوف منهم حتى اضطرت الحكومة غير مرة إلى إعتاقهم بالجملة، طغمة بعد طغمة، لتفسح مكانا للمستجدين من أسرى الحروب والجناة، والعصاة الثائرين على الحكم الأعلى. ومع أنهم ملك الأمة المشاع فهم يعيشون في العائلة كوضيع أفرادها، ولكل عبد أن يعتق بعد سن السبعين، ولكن كثيرين كانوا يأبون الحرية لتعلقهم بمواليهم. أما في منشوريا فلم يستعملوا إلا للزينة والأبهة في الأعياد القومية والاحتفالات الرسمية. ثم تدرجت العبودية إلى الرق بالعمل الحر؛ فكان التطور الاجتماعي في الصين غير متخلف عنه في الغرب.
أتصدق أن اليهود «شعب الله الخاص» كانوا يمتلكون بعضهم بعضا؟ إن الشريعة تبيح لهم استعباد أخيهم اليهودي ستة أعوام، أما غير اليهودي فعبد حتى الموت. ولا يفهم ما ورد في إنجيل يوحنا قولهم للمسيح «نحن لم نستعبد لأحد قط.» وهم خاضعون يومذاك للاحتلال الروماني، وقد بيعوا في أسواق أورشليم، واستبعد سلمنصر عشرة أسباط منهم، وظل سبطان آخران في قيود أهل بابل سبعين عاما. وقد جاهروا في كتاباتهم بأنهم استعبدوا سبع مرات في أرض الميعاد. ومن يجهل بيع عيسو بكوريته ليعقوب بأكلة عدس، أي بيع كل حقوقه وقبول العبودية لذراريه؟ ولكن العرب الذين ينتسبون إلى عيسو كادوا يمحون بسيادتهم وعظمتهم هفوة السلف الجائع. وقد باع بنو يعقوب أخاهم يوسف للتجار وباعه هؤلاء في مصر فخدمها في السنين الجوائح، وجر إليها ذووه فانتهى بهم الأمر إلى الرق. ولم يكن ليطلق سراحهم لولا الضربات العشر الذائعة الصيت. على أن العبودية عندهم أخف منها عند غيرهم. ترى بين العبد والمولى تبادل الأمانة والرعاية فيحفظان السبت سويا، وللعبد أن يتزوج وينشئ عائلته وحريته ميسورة بالمال. إن قتله مولاه يقتل، وإن جرحه أعتقه، فإذا انقضت السنة السادسة ورفض أن يتحرر قدم إلى قضاة الشعب فثقبوا أذنه عند باب سيده. ولقد كان ثقب الآذان رمزا للعبودية عند شعوب كثيرة. أفتعجبن بعد هذا يا سيداتي ، إذا أنا أذريت ما يشع في آذانكن من فرائد الدر والجوهر وما تهدل منها من الحجار الكريمة وغير الكريمة، لأحدق في ذلك الثقب الذي يشوه أذني أنا الأخرى، وإن كفيته عار الأقراط؟ إني لأتأمله عندكن وألمسه في مبتسمة خجلي. •••
حمل الفينيقيون نظام العبودية مع ما حملوه من الأنظمة والعادات إلى اليونان فجرى هؤلاء عليه، وكان العبيد عندهم أنواعا: نساء لخدمة البيت، ورجالا للفلاحة والزراعة وخدمة الجيش وسائر الأعمال الخشنة، وصبية متأنقين يكرمون الضيوف ويعدون المركبات ويرافقون ابن مولاهم في تنزهه وجولانه، ويشاطرونه دروسه وألعابه، كأنهم المماليك الصغار في بعض البيوت الشرقية. عوملوا برفق فأحبوا مواليهم، إن غاب أحدهم يوما تألموا لفراقه وانتظروه باكين، وإن عاد أقبلوا يلثمون يديه ووجهه فرحين، وإذا اكتسبوا ثقته بحسن سلوكهم ورجاحة عقلهم أطلق يدهم في ماله وشئونه وأنالهم عنده مكانة. قد يكون سبب ذلك أن اليونان كانوا يقدرون الأعمال اليدوية، حتى إن هوميرس ذكر العمال على مقربة من الأبطال، وقال إن الحدادين والمهندسين والنجارين كانوا يدعون مع الأطباء والعرافين والشعراء إلى ضيافة الملوك. وكان أبناء الأسيرات أحرارا، مثل تويسر المولودة من أسيرة؛ لم يكن من فرق بينه وبين أخيه أجاكس (المولود من حرة) ابن تلامون ملك أجين. ولا عجب والملوك والملكات كل يوم عرضة للأسر والاستعباد. مقدور لم ينج منه ولا الآلهة؛ إذ إن البشر أسروا أبولون ونبطون وڤولكان ومارس، فامتثل هؤلاء الآلهة وخدموا صامتين حتى رفقت بهم يد القدر.
أما الإسبارطيون فطبعوا العبودية بطابع شدتهم. العبيد هنا ملك الجمهور يلبسون جلود الحيوانات، ويسخرون لباهظ الأعمال بصرامة عسكرية، ويسكرون إلى درجة العربدة وفقد الشعور ليرى الأحرار كم يحط الشراب من قدر الشارب فيعرضون عن الخمر ويأنفونها. نحن تضحكنا حكاية جحا الذي أرسل ابنه يستقي ماء فأوصاه أن لا يكسر الجرة في الطريق وضربه ضربا مبرحا، فاعترض الجار لأن الولد عوقب قبل أن يغادر البيت وقبل أن يرتكب الذنب، فأجاب جحا: «وما نفع الضرب بعد كسر الجرة؟» كذلك اعتاد أهل إسبارطة ضرب العبيد ضربا عاما لا لإثم جنوا، وإنما ليذكروا دواما أنهم عبيد أقل ما يتهددهم السياط. ويحظر عليهم حتى القوة البدنية فيقتلون القوي منهم، أو يؤدي مولاه ضريبة لأنه لم يوقف نموه. وكثرة الانتصارات والفتوحات مورد عبودية متدفق كان يضاعف عددهم على عدد الموالي سبعا أحيانا؛ فيفتك بهم بأساليب مختلفة تخلصا من شرهم. وروى ثوسديدس - أعظم مؤرخي اليونان - أن الموالي سألوا عبيدهم مرة عن الألفين الأشد بينهم بأسا والأقوى شكيمة ليعتقوهم، فقام العبيد بانتخاب ذينك الألفين، وتناولهم السادة فزاروا بهم الهياكل ثم اختفوا ولم يعد يظهر لهم من أثر.
وكم من تحالف للعبيد مع أعداء إسبارطة! وكم من ثورة جعلت السادة في خطر مقيم! وقد تلظلظوا مرة وكان تهديدهم مخيفا فاضطر الأحرار إلى طلب الهدنة والمساومة مع الزعيم دريماكس، ثم عادوا فاغتالوه بعد عقد الاتفاق؛ فاستأنف الثوار هياجهم وأقاموا له مذبحا جعلوا عليه هذه الكلمات «إلى البطل المحسن». ويقال إن هيكل أفسس يعود تشييده إلى اتفاق - عقب ثورة - بين الموالي والعبيد. بيد أن تلك القلاقل والاضطرابات وتدخل العبيد في جميع الأعمال بالتدريج قضت على الجمهوريات اليونانية وهيأت البلاد للفتح الروماني.
وما كان أشبه حالتهم عند الرومان بها عند الإسبارطيين فعمدوا إلى العصيان والحروب، وكادت حرب إسبارطقس تؤدي إلى خراب روما لولا قتل العبد الزعيم الذي قضى مجدفا على اسم روما الممقوتة.
صفحه نامشخص