تمهيد
1 - الطبقات الاجتماعية
2 - الأرستقراطية
3 - العبودية والرق
4 - الديمقراطية
5 - الاشتراكية السلمية
6 - الاشتراكية الثوروية
7 - الفوضوية
8 - العدمية
9 - يتناقشون
10 - رسالة عارف
تمهيد
1 - الطبقات الاجتماعية
2 - الأرستقراطية
3 - العبودية والرق
4 - الديمقراطية
5 - الاشتراكية السلمية
6 - الاشتراكية الثوروية
7 - الفوضوية
8 - العدمية
9 - يتناقشون
10 - رسالة عارف
المساواة
المساواة
تأليف
مي زيادة
من ذا يخلصني من قسوة التمايز!
ميشليه
تمهيد
أما رأيت الثري؛ تنهب الأرض سيارته، كأن السعد أقام من الأبهة والرواء هالة بينه وبين سواه، وهناك في الزاوية يدب المعدم ويعتفي متأوها كأنه في تمرغه حشرة خبيثة تأنف الأرض مسها وتمقت انعكاس ظلها؟
أوما رأيت الحسناء ترتدي الثياب الفاخرة على أحدث هندام، وفي عنقها ومعصميها جواهر توازي ثروة وتصور نعيما؛ أما رأيتها تمر رشيقة معطرة أمام امرأة رثة الثوب تحمل طفلا هو آية ذلها في الغد كما هي علة ذله اليوم، والذباب يأكل من مآقيها ووجنتيها ما لا تستطيع إزالته لأنها فقيرة حتى من الماء الطهور؟
قد تخفي مظاهر البؤس مالا وعقارا، وقد لا تكون دلائل العز سوى فخفخة واستهتار غرور. على أن المشهدين يمثلان من سلم الكفاف أعلى الدرجات وأدنى الدركات، وبينهما تتحاذى الرتب على اختلافها بما يلازم ذويها من عوز منوع واحتياج لجوج.
إزاء هذين النقيضين حن الشعوريون إلى أخوة الروح تبدو بين طبقات المجتمع، وعمد المفكرون إلى المقابلة والاستنتاج، وقام المحرومون يصرون صريرا، وانبرى النظريون يعينون حقوق الناس على الناس، ومثل الشاعر الحماسي دوره فأرسل «هايني» زفرات كأنها المتفجرات هولا وتحريضا؛ حيث هتف: «ملعون هو الإله، إله السعداء ... ملعون هو الملك، ملك الأغنياء ... وملعون هو الوطن المجازف ببنيه!»
وليس جميع هؤلاء ليسلمون بأن شكايتهم تعارض نظم الطبيعة، بل هم يتسلحون بالحجة والبرهان مشيرين إلى الشمس تسكب النور والحرارة على الأشرار والصالحين، ويستشهدون بالهواء يسدي الحياة إلى الحيوان والإنسان ولا يكون على الجماد ضنينا، ويدلون إلى الأرض تعتش في حضنها المعادن وتكلأ المرعى لكل ذي نسمة يرتعي، ويومئون إلى منبسطات البحار تضم مختلف السمك والوحش المائي من كل فصيلة وحجم ولون، ويذكرون اللحد يحوي الموتى قاطبة على نمط واحد ليدفع بهم إلى الانحلال فريسة وإلى التحول مادة. فإذا أجزلت الطبيعة الهبات ودعت جميع بنيها إلى امتصاص ثديها المدرار، فأنى للكبرياء أن تخلق التمايز والتفاضل، وتجعل بين البشر فروقا وسدودا، فتشل عضوا لتقوي عضوا، وتحرم قوما لتمتع قوما؟
هم يتساءلون عما حلل هذا الجور المرهق، ويصيحون بقوة انفعالاتهم واحتياجاتهم: المساواة! إنما نطلب المساواة!
إن لم يتمرد العبيد بهذه الكلمة وبمعناها العصري، فإنما التوق المبهم إليها هو الذي اضطرهم إلى تكسير القيود، والخروج على سادتهم مرة بعد أخرى في تعاقب العصور القديمة، حتى باتت أثينا وروما من أولئك الثورات في خطر عظيم.
هي التي دمدمت في نفوس عشرين ألفا من العبيد أن يفزعوا إلى الإسبارطيين يوم احتلوا جانبا من بلاد الإغريق في الحرب البيلوبونزية؛ طمعا في الحصول، إن لم يكن على تحرير تام فعلى تحسين مبين.
هي التي نفثت العصيان في قلوب عبيد مناجم اللوريوم وقوت سواعدهم للفتك بحراسهم والمسيطرين عليهم، فاستولوا على حصن سونيوم وأنزلوا في أتيكا الجميلة خرابا ودمارا.
بإلهامها انقلب إسبارطقس التراقي زعيما لإخوانه العبيد في روما، فحارب على رأسهم جيوش الدولة النظامية يقودها الكبراء والنبلاء، ولم يكف عن النضال إلا بسقوطه صريعا بطعنة أرسلتها يد كراسس، أحد أعضاء الحكومة الثلاثية العليا. ثم أي قوة أقامت دولة المماليك في مصر إن لم يكن التطلع إلى المساواة؟!
لأجلها شبت الثورة الفرنساوية، وانبرت تعلن للإنسان حقوقه المدنية المرتكزة على الحقوق الطبيعية، فأثبتت في مطلع بيانها بندا أول يشاركها اليوم فيه العالم المتمدن، وهو أن «الناس يولدون ويظلون متساوين أحرارا إزاء القانون». فحذفت بهذا البند نظام الإقطاع القائم على تفاوت الحقوق والواجبات.
وباسمها اعتصمت المرأة فنهضت من تحت قدم السيد الساحقة ووقفت عالية الجبين إزاء مسالك الحياة وأعمالها. وفي سبيلها وضع ماركس كتابه الشهير صارخا «اتحدوا يا عمال العالم!» فتبارى الزعماء في تكوين الأحزاب، وسن القوانين، ونشر اللوائح، وإقامة المؤتمرات الثلاثة لاتحاد العمال الدولي. وهي هي التي هزت الروسيا من أقصاها إلى أقصاها، وأضرمت تحت سمائها شعلة الثورة المدلهمة.
اذكرها يتزاحم حولك جمهور دعاتها وكهنتها: ماركس، ولاسال، وإنجلس، وبرودن، وباكونين، وكروبتكن، وعشرات غيرهم يدحضون مذهب دارون وهوبس القائل بتنازع البقاء بمذهب التضامن والتعاون البادي بين جميع الموجودات.
بل اذكرها يضج حولك هتاف الشعوب، وصراخ المراتب الاجتماعية، وأنين المحتاجين والمتوجعين. هؤلاء لا يفقهون معناها تماما ويزعمون أنها مشاركة الغني بغناه، والوجيه بوجاهته، والمنعم بنعمته. وحسبهم أنها تخفي عنهم شبح غد غدار لا يضمن لهم ولذويهم الغذاء. أو يرون فيها انفراجا معتدلا لضيقهم، كذلك العامل الإنجليزي القائل: «أتريد أن تعرف ما هي المساواة؟ عشر شلنات في النهار يا سيدي.»
تكاد تكون المشاكل الدولية ألاعيب إذا ما قوبلت بالمشاكل الاقتصادية التي يسمونها اجتماعية. ومشكلة «المساواة» هي الآن أم المشاكل، واسمها يطن من كل صوب.
وإنها مع الحرية والإخاء لتهز نفسي، وقد لمستها منذ أن كان لي نفس تتحرك. غير أني وصلت إلى نقطة أود عندها تحليل كل شعور وكل تأثير.
ما هي المساواة، وأين هي، وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية دون اندفاع ولا تحيز، بل بإخلاص من شكلت من جميع قواها النفسية والإدراكية محكمة «محلفين» يستعرضون خلاصة ما تقوله الطبيعة والعلم والتاريخ، ليثبتوا حكما يرونه صادقا عادلا.
الفصل الأول
الطبقات الاجتماعية
أصل الخليقة في المثيولوجية الهندية أن بيضة الذهب الحاملة برهما كانت تطوف على وجه الغمر عندما انطلق منها الإله، فانفلقت قشرتها فلقتين كونت إحداهما السماء وكانت الأرض من الأخرى. ونشر برهما الأثير بين الأرض والسماء، ثم خلق الكواكب والنبات والأشجار والحيوان فتهيأت الأرض لسكنى النوع البشري. إذ ذاك سحب من رأسه رجلا يدعى برهمانا، وسلمه «الفيدا» أو كتب الهند المقدسة مستودع الحقيقة الخالدة. ومن برهمانا هذا ولد البراهمة الذين عهد إليهم في نشر الديانة وتعزيز أصولها. ثم أخرج برهما من ذراعه اليمنى محاربا يدافع عن الكاهن ويبقيه منيع الحوزة محمي الذمار، واستل من فخذه رجلا ثالثا هو الفلاح الذي يهيئ للجندي وللكاهن الغذاء، والتاجر الذي يمهد أمامهما وسائل الحياة ويضمن لهما موارد الرزق والثروة، وأخيرا انتزع من قدمه المقدسة رجلا رابعا هو أبو الصنائع وزعيم طبقة العاملين للآخرين؛ ومن هذه المخلوقات الأربعة المخترجة من جسم برهما تسلسلت شعوب الهند بمراتبها الاجتماعية، تضاف إليها طبقة الأسافل المتشردين (وما هي إلا حثالة الطبقات الأخرى) المختلفة عن أبناء برهما بما توعزه من رعب واحتقار؛ لأنها خلاصة القبح والتعاسة.
لقد ارتفعت قيمة الفكر الهندي في هذا العصر ارتفاعا كبيرا بما يرمي إليه من حقيقة علمية فلسفية وراء أسلوبه الشعري ومظاهره الخيالية؛ ومغزى هذا الرمز إلى الخليقة أن البشر - وإن كانوا أبناء إله واحد، مخلوقين على صورة واحدة - يستمدون الحياة من أصل واحد، ويعجن جسمهم من طينة واحدة تتماثل بها احتياجاتهم ورغباتهم، إلا أنهم في الوقت نفسه أسرى التنوع تكييفا، أسرى التنوع قهرا؛ يقيدهم هذا التنوع الأولي فيحبو كل فرد وكل طائفة منهم كفاءة تختلف عن كفاءة الآخرين، ويودعهم براعة وحذقا يتساويان قوة عند الجميع وإن تميزا مظهرا طبق العمل المطلوب.
وهل للاجتماع من انتظام لولا تنوع الطبقات وتنوع الكفاءات؟ وهل تبدو طلائع المدنية بلا تقسيم العمل طبقا لقابلية أفراد وجماعات ينجحون في فن ويرسبون في فن آخر؟ وأنى لنا العلماء والفلاسفة والفنانون والأبطال والاختصاصيون في كل صنعة لولا التميز والاختلاف؟ فلو أبدنا التنوع في أصوات الخليقة بحذف درجات السلم الموسيقي السبع أبدنا فن الموسيقى بحذافيره، وما بقي لحاسة سمعنا سوى نغمة تطرد الاستمرار على وتيرة فردة. ولو لاشينا الألوان السبعة من التحليل الطيفي فقد الشعاع خواصه وانتهت بنا واحدية اللون إلى الظلام. ولكن في الظلام نفسه درجات لأنه محبوك الطرفين بالشروق والغروب. أليس أن الشفق غير الغلس، وأن هذا وذاك غير انتصاف الليل الأدهم؟
ليس أمامنا سوى الكثرة والتعدد عندما نفتح أنظارنا على الكون فنرى الكواكب متألقة في فضاء يحتويها، ونرى الماء واليابسة، والجبال والوهاد، والأشجار والصخور، والمروج المخصبات والصحاري القاحلات، فضلا عن صنوف الحيوان، ثم لا نلبث أن نرد جميع هذه المظاهر إلى أصول أو أنواع كبرى ثلاثة، هي: النوع الجمادي، والنوع النباتي، والنوع الحيواني الذي يتناهى ارتقاء ودقة في الإنسان المدرك المرغم على تمثيل دوره في مأساة الوجود؛ لأنه جزء من هذا الوجود، وتسري عليه جميع نواميسه إن راضيا وإن كارها.
وكما أن الحياة الجمادية في دورها الهيولي كتلة عظمى لم ينمقها التكييف صورا وأشكالا، كذلك البشر في همجيتهم كل متماثل لا تنظمهم المراتب ولا كبير منهم ولا صغير؛ وهذا شأن بعض القبائل المتوحشة في أفريقيا وبين هنود أمريكا إلى أيامنا؛ هم يعيشون جماعات صغيرة ولا شاغل لهم غير ما يشغل الحيوان الأعجم. إلا أن لكثير من فصائل الحيوان فروقا اجتماعية؛ فعندها الملكية المطلقة، والأرستقراطية، وثوروية تتطلع إلى الهدم، وغيرها يطلب المساواة، وبالجملة فإن قضيتها الاجتماعية تكاد تشبه مثيلتها عند النوع البشري. وقد تسهل مراقبة هذه الفروق بين حيوان المنازل، كالنمل - مثلا - الذي يظهر عنده تقسيم العمل ظهورا تاما؛ فمن أعضائه العامل المنتج، ومنها المحارب المدافع، ومنها العبد الرقيق، وبعض العشائر تغزو بعضها فتقهرها وتستعبدها، إنما تعاملها برفق ولين. •••
ابتدأ دور تكوين الشعوب بانتشارها قبائل يتقارب منها الجوار بتقارب الأصل، ولكل قبيلة وسائلها الحيوية في موارد موطنها الطبيعية، التي هي بدورها ربت في أعضاء القبيلة ذكاء ومهارة موافقين لاستخدامها؛ فاصطنعوا لأنفسهم تلك الأدوات الحجرية والفخارية، واخترعوا القوس والنشاب، وآلات حرث الأرض وطريقة فلاحتها، واكتشفوا النار ووسيلة إضرامها، وكانوا يشتركون في استعمال هذه الأدوات والآلات عند الحاجة لأنها ملك الجميع الذي كان يعمل له كل فرد تحت مراقبة زعماء أكفاء، ويضمن له مقابل تعبه السكن والقوت والكساء في حالتها الأولى؛ فينجلي من هذا أن الاشتراكية سبقت كل نظام آخر في حياة البشر. ومع أن هذه الاشتراكية مشوبة بخلل كثير إلا أنها حسنة بالنظر إلى زمنها، ولأنها أول خطوة في عالم النظام والتدريب. وقد لاحت فيها أول بارقة من بوارق النبوغ الذي سيكشف أسرار الطبيعة ويتغلب على عناصرها في العصور التاليات.
تطورت حياة القبائل قليلا ونمت مدارك الأفراد فيها؛ فاتجهت تدريجيا نحو غاية واحدة وهم لا يعلمون. فتلك التي قطنت المروج اقتنت الغنم والخيل بعد تأنيسها، ونظمت القطعان للانتفاع بخيراتها من حليب وما يتأتى منه في حياتها، ومن جلد وصوف بعد أن تنفق، فتوفر لديها من ذلك ثروة طائلة. فطمعت في توسيع فلاحتها طلبا لثروة أعظم، وكان ذلك سببا لاختلاف القبائل فيما بينها على مسألة الحدود؛ فقامت المناوشات والمعارك، وانتصر هذا واندحر ذاك، فشعر الغالب لأول مرة بنشوة «السيادة»، ونهبت القبيلة المغلوبة وضم أعضاؤها إلى القبيلة الغالبة. إلا أنهم كانوا يحسون بفرق بين الجماعتين، وبكآبة مقابلة لنشوة «السائد»، ولم تكن تلك سوى كآبة «المسود»؛ وهذا منشأ الأوتوقراطية والرق.
وجرى مثل ذلك تقريبا في الأودية المخصبة؛ حيث عنيت القبائل بزراعة صنوف النبات والأشجار. والخوف من غارات القبائل المجاورة دفعهم إلى انتخاب زعماء حربيين يهيئون خطوط الدفاع إزاء هجمات العدو، فارتفع هؤلاء الزعماء - مع الوقت - إلى درجة سادة يسيرون الفلاحين ويتقاضونهم بدل الأرض التي يستغلونها، ويفرضون عليهم الضرائب، إلى أن أنشئوا الرق في أملاكهم من سلائب العدو وغنائم الحروب.
كذلك عند مصب الأنهار؛ فإن القرصان استوطنوا الشواطئ ليسهلوا العلاقات بين الفلاحين وقبائل الجبال، ولما تبينوا رعب الفلاحين ورغبتهم في صد الغارات عن حياتهم الهادئة نظموا قوة حربية، وانقضوا كالصاعقة على الضعفاء فسادوهم، وانقلب الأحرار عبيدا.
تم ما يشبه هذا بين القبائل القديمة يقودها جماعات وأفرادا ذلك الشعور العريق في قلب الإنسان، وهو الطمع في السيادة والسعي إلى التفوق. وسرعان ما عثروا على عماد السيادة وهو الملك، أو رأس المال كما يسمونه بلغة هذا العصر. وهذا الملك لم يكن ليتأتى إلا من الذكاء والمهارة، أو الامتياز بصفة أو كفاءة خاصة؛ فأخذوا يمتلكون الأراضي ويحشدون الثروة من المواد المنظور إليها كثروة في ذلك الحين. وكان ذلك الفصل الأول من تاريخ الاقتصاد البشري الدائر كله حول ذلك المحور الرهيب الذي يدعى الملك. فالحصول على الملك والاحتفاظ به من جهة، والرغبة في نزعه من جهة أخرى سببت هذا العراك المالي والاجتماعي الذي لا ينتهي؛ فكون الأرستقراطية والعبودية، وسبب المجازر والفظائع، ولأجله شبت الحروب، ونشبت الثورات، ودكت الحصون ودمرت أجمل آثار العمران، وتشكلت الأحزاب العديدة؛ فهذه ديمقراطية، وهذه جمهورية، وتلك اشتراكية ، وغيرها فوضوية. ومنها القائل بتمتع الفرد بأملاكه، ومنها المرتئي جعل الملك مشاعا للجميع، ومنها الضاحك من كل حزب بتفجر القنابل وهدم الصروح وإزهاق الأرواح. وقد أدى التزاحم والتقاتل إلى انتشار الأقوام، فسعوا في الأرض يروجون تجارتهم ويكثرون أرباحهم ليحفظوا لهم المكانة والوجاهة في جماعتهم. وتوطد نظام الوراثة لأن السيد العظيم كان يشرك أولاده في إدارة الأملاك؛ فيتمرن عادة الولد البكر على فن الإدارة والحكم، وينتهي إليه حق الإرث الأكبر. •••
وبدهي أن الأب كان يعامل أفراد عيلته كمعاملة زعيمه له، فإن ظلمه ظلمهم، وإن أنصفه كان لهم منصفا. وكذا تكونت الأرستقراطية في داخل الأسرة في حين كانت تتكون في الجماعة أو في الدولة؛ فكانت الأرستقراطية أو الأشراف يشمل عميد الأسرة ووالديه، ويليهم أعضاء الأسرة الآخرون، وتلي هذه درجة الخدم أحرارا وعبيدا. فهاك بلاد اليونان مثلا في زمنها الأقدم، أي العهد الملكي المطلق؛ حيث تجد طبقة مؤلفة من جميع رؤساء الأسر، وهم في الغالب نبلاء كالملك نفسه، وينتسبون للآلهة مثله، ويحملون لقب «ملك»؛ لذلك يذكر هوميرس ملوكا كثيرين في مدينة واحدة، يجتمعون لدى الملك ليسدوا إليه النصح في شئون الدولة أو ليسنوا له إرادتهم. وكانت الطبقة الثانية من ذوي القربى لأولئك الزعماء، وهم أرستقراطيون ولادة وحقوقا، يملكون الأراضي أحرارا أو يتمتعون بنتاج أراضي الأسرة المشتركة. وإن لم يكونوا يحضرون اجتماع الملوك فإنهم كانوا أعضاء جمعية أبناء الوطن العمومية. وخضوعهم الوحيد في امتثالهم لكبير الأسرة بينا هذا لم يكن ليمتثل لغير الملك. وتؤلف الطبقة الثالثة من خدم البيت المنقسمين إلى عبيد وإلى معتوقين، وعدد هذه الطبقة قليل لأن العمل اليدوي لم يكن محتقرا، ولم يكن أبناء «الملوك» ليترفعوا عن فلاحة الأرض ورعي المواشي. وكان هناك طبقة أخرى تحوي من لم يكن يخص أسرة كبرى من أهل الصنائع الدنيا والعمال والشحاذين وقطاع الطرق وأمثالهم.
وتعينت مع الزمن الفروق الاجتماعية واكتسبت كل من الطبقات صفات تنسب إليها وعيوبا خاصة بها. وتجبرت الطبقات العليا في سماواتها الوهمية وحسبت نفسها من طينة مختلفة عن طينة الآخرين، لها من ألقابها وثروتها وامتيازاتها ما يفتح لها أبواب الألوهية على مصراعيها. ونما الإدراك ونور الشخصية في الطبقات الأخرى شيئا فشيئا حتى وصلنا إلى حيث نحن اليوم؛ إذ لا بد بين البشر من تبادل المنفعة والتضحية، فإذا انتفع قوم دون أن يضحوا شيئا كانوا مغتصبين ظالمين، وإذا كانوا كثيري التفادي قليلي الانتفاع كانوا مظلومين مهضومي الحقوق. ولئن كمنت المصلحة الذاتية وراء جميع الأعمال فهذه المصلحة - أو الأنانية - موجودة في جميع أجزاء الكون كأنها عنصر جوهري لحفظ الوجود.
إن النوع البشري وإن امتاز عن الطبيعة المحسوسة بطبيعته الإدراكية والأخلاقية والروحية، فهو يظل مربوطا بها بجسمه واحتياجاته المادية، خاضعا لجميع نظمها، وفي ميوله ميول وحشها؛ فهذا قرد، وذاك ثعلب، وذلك عقرب، والآخر ثعبان، وأما التنوع بين الطبقات، وبين الأفراد، وبين مظاهر الطبيعة فأصلي، ولولاه لما كانت الخليقة. وأرجح أن أفلاطون يوم كتب «جمهوريته» ضرب صفحا عن هذه الحقيقة التي لا أدري كيف استطاع إغفالها.
لقد طال تأمل روسو في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود، وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أن الهمجي مستعبد بجهله الفادح وأن له من الخرافات سجنا لعقله، ومن الأوهام حجابا لروحه؛ فهو وإن كان حرا حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله وبقناعته - التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمن ما - فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها. وهيهات الرجوع إلى الماضي! إذ إن عودة النظام الشمسي المندفع بسياراته وأقماره نحو النجمة الكبرى من كوكبة الشلياق؛ قلت إن عودته إلى حيث كان منذ مائة ألف سنة توازي في نظام الكون تجريد النوع البشري مما اكتسبه بالألم والخبرة والبطش خلال تحدر الدهور.
خلفنا قوة نجهلها وتتجاهلنا، هي قوة الحركة الدائمة في جميع مناطق الحياة، تدفع بنا أبدا إلى الأمام فنسمي سيرنا ارتقاء. وقد يكون الارتقاء المزعوم تقهقرا في نقط شتى على أن ما لا مهرب منه هو السير المرغم، هو التحرك المتواصل، هو الاستطراد الذي لا راحة منه أمام القبر ولا وراءه.
يتعذر علينا فهم ما هو «الوراء» وما هو «الأمام» في معاني المكان والزمان والذهن، ورغم ذلك يمكن القول إن اتجاه التاريخ البشري بمعنى التقدم والتحسن وإن كثرت حركاته الرجعية واللولبية. «إلى الأمام ولو على الجثث!» ليست كلمة حماسة شعرية قالها غوتي الألماني فحسب، وإنما هي صوت الخليقة القاهر، هي صوت توالي الأشياء وتناسخ الموجودات، هي انبثاق الحركات من الحركات، والذراري من الذراري، والأنظمة من الأنظمة.
لا بد من تنوع الصور وتعدد الطبقات. فلولا التنوع والتعدد ما كانت المدنية ولا كان الوجود الحسي، ولو لم يكن للفروق من فضل سوى شحذ العزائم وإرهاف القوى والتسابق إلى الأولوية، لكفى لنقبلها محاولين عبورها بما أوتينا من عزم وكفاءة. والفوز للأصلح دواما.
الفصل الثاني
الأرستقراطية
لو كان هذا البحث تاريخيا لكنت بدأته بالكلام على الملكية أرستقراطية الأرستقراطية على نوع ما، أو أفضلية الأفضلية، لا سيما الملكية التيوقراطية أي المستمدة سلطتها من الله؛ فاستنجدت بالأساطير التي هي سجل الانتقال من واقع مجهول مأثور إلى واقع مزعوم منشور يقبله من أهل السذاجة من قبل واقتنع، ويكتفي الآخرون بالتمويه والمحاباة. استنجدت بها لطلب جرثومة تلك الأسر الشاهانية الجلى، فماشيتها في نشأتها التدريجية سائدة على العائلة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة بالقوة البدنية أو الفكرية، أو التدبيرية، حتى يمدها متلاحق الظفر بمطامع تتعدى أفرادها العصاميين إلى سلالة المستقبل.
أما والناموس الكوني ناموس بقاء الأفضل، يستخدم ولا يستخدم في ضمانة الأفضلية لتلك السلالة، فلا بد من صيانتها دون منافسة المزاحمين، ولا بد أن تملأ قبل الرماء الكنائن، ومن ثم التذرع بأقوى البواعث النفسية من عاطفة دينية وخشية ما وراء المنظور؛ من ثم استجارة الملك بالدين والدين بالملك لتبادل المنفعة، فيصبح الحاكم حامي حمى العقائد ورافع منار الفضائل، ويصبح الكاهن حامل لواء السلطة الفردية وأول شاهد بأنها آتية من الله. ولا يطول حتى تستهوي البدعة ملفقيها. وهل من عجب ما دام الاستهواء الذاتي شرطا أساسيا للاستهواء الغيري؟ فلا يستفز الخطيب حماسة إلا عند تحمسه، ولا يحدث الكاتب تأثيرا إلا بعامل تأثره . ومن ذا ينفي أن انجذاب الشهداء واستهواءهم الذاتي في مصرع العذاب بين الضواري الممزقة لحمانهم، واقتحامهم الموت بصبر الأمل وثقة الشجاعة؛ إنما كان أعظم نصير للمسيحية على الوثنية وأسمع داع إلى الانسلاك فيها؟
هكذا صار الفراعنة مع الزمن - على نحو ما وجد الفتح الإسباني بعدئذ زعماء القبائل في أمريكا الجنوبية - أبناء الشمس المنيرة. وهكذا صار زعماء الجرمان صنيعة فخذ «تهور» إله الحرب، فغدوا أحفاد «أودين» الإله الإسكندنافي الميثولوجي واهب البسالة وعلة المعلولات. وهكذا صار المهرجاه ثمرة تقمص من تقمصات ڤيشنو الأقنوم الثاني من الثالوث الهندي، فضلا عن أن جماعة من ملوك اليونان واللاتين وأبطالهم جاءوا من تزاوج البشر والآلهة عند مرور هؤلاء على الأرض. وصار من الملوك من إذا رؤي صعق رائيه كأن جلاله جلال المولى في عليقة موسى. وأوتي آخرون علما وحكمة خارقين كملوك فرنسا وإنجلترا يشفون الصرع والشلل وداء الخنازير وغيرها بمجرد اللمس الكريم. وظلت القرون الوسطى - بعد الأولى - ترى هالة الألوهية حول الملكية، وتحسب حبل سلطانها مشدودا بمتكأ العرش الصمداني.
حتى اليوم وقد استوضح التمحيص من خفايا الترهات والتقاليد الذميمة شيئا كثيرا، واتبع فن النقد الدماء الملكية في رحلاتها المتعرجة خلال الأنساب الجمة لتنتهي حتما إلى المصب المقصود؛ كأنها الرجل المستقيم لا يمنعه اعوجاج المحيط عن الاهتداء إلى الصراط السوي. اليوم وقد ناوش استقلال الشعب أثرة الفرد وتغلب عليها بالنظم الدستورية، فأبقى للفرد السلطة النظرية واجهة تزويق لبنيان فيه تتصرف الأمة بشئونها الإدارية والقضائية والسياسية. اليوم وقد قضت الحرب على البقية المتمهلة من الحكم المطلق بقضائها على قيصرية ألمانيا والنمسا والروسيا، بعد أن قضت الثورة العثمانية على الاستئثار الحميدي. اليوم ما زالت الجماعات تتهيب مظاهر الأبهة الملوكية؛ لأن الاستهواء الحسي الوقتي يضاف إلى الاستهواء الوراثي المتراكم الذي يتناول المرء كائنة حريته الشخصية ما كانت، ويعده للتأثر والاستسلام كما تتأثر القنبرة بضياء المرآة الساطعة فتجمد أو تستسلم.
أقول الجماعات وأعني الأفراد كذلك؛ أعني أقوى الأفراد شوكة وأبقاهم أثرا، تنكسر شوكة الملوك ويظل صوتهم مسموعا ويعفي أثر القياصرة وهم أبدا خالدون، فڤولتر - أحد مهيئي الثورة الفرنساوية والهاتف باحترام الفكر وتقديس الحرية الفردية - يراسل رهطا من ملوك أوروبا ويقبل صداقتهم. ولا بأس بهذا، إنما الشيء الفري أنه يختم رسائله بوضع احترامه وتعلقه وولائه «تحت أقدامهم». وقاسم أمين المصلح الجريء يطمع في تقديم كتابه «تحرير المرأة» إلى سمو عباس الثاني. ورابندرناث تاغور الهندي نبي وحدة الوجود المثبت في قصائده أنشودة الحياة مترددة من كوكب إلى كوكب، ومن ذرة إلى ذرة، يحمل لقب «سير» أنعم به عليه جلالة ملك إنجلترا. وما هم جميعا في ذلك إلا من بني الإنسان! •••
ولو كان هذا البحث تاريخيا لدرست أحوال بلاد لا أرستقراطية فيها، كاليونان الحديثة ورومانيا وصربيا، وأحوال بلاد أخرى كانت فيها فألغتها مثل نروج والبرازيل، ولألمعت إلى السلطنة العثمانية والسلطنة المصرية حيث - عدا العائلة المالكة - لا أرستقراطية سوى أرستقراطية اللقب العرضي المنوط بالفرد دون ذريته. نعم، إن رشاش الباشوية يصل إلى الأنجال فينقلب بيكوية، ولكنه ينتهي عندهم ويفنى فيهم ولا ينتقل منه إلى أبنائهم شيء؛ فحفيد الباشا أفندي مجرد، إلا أن الأفندي الذي لا تحصي شجرة عائلته بيكا واحدا يستطيع هو - ومن دونه - أن يصير باشا إذا رمقته الأحوال بنظرة الرضى.
وإذن لكنت أقابل بين الألقاب الوراثية في الشرق والغرب وأستفهم عن اصطلاحات أحار في تفسيرها. منها أن البرنسس بتريسيا أوف كونوت ابنة عم جورج الخامس، وابنة أخ إدورد السابع، وحفيدة فكتوريا الملكة والإمبراطورة - تزوجت في العام الماضي بسماح الملك، ابن لورد بسيط أهلته لها شجاعة أبداها خلال الحرب، وتبادل عاطفة الحب التي تسوي بين الدرجات وتمحو فروقها فتشرف كل ما لمسته بأناملها الخفية. فتنازلت البرنسس عن لقبها ومرتبتها، وأصبحت بكل بساطة «لايدي رامساي» تدخل في الاحتفالات الرسمية وراء جميع البرنسسات والدوقات والمركيزات والكونتسات، إلى آخر ما هنالك من طغمات الألقاب، في دور لقب «اللادي» الضئيل الذي تحمله، بعد أن كان لها في هذه المواقف أقرب مكان في جوار الملكة. يخيل إلي أن هذا ينافي المعقول في أمة يجوز أن تحكمها النساء، وقد فعلن ؛ إذ كان المنتظر أن امرأة كالبرنسس باتريسيا إن لم تعط زوجها لقبا كلقبها، فهي تحفظ اللقب لنفسها - على الأقل - كما بقيت جدتها ملكة إنجلترا في حين أن قرينها لم يكن إلا برنسا ألمانيا فقط.
وبخلاف ذلك هنا في مصر؛ حيث لا تكون ولاية العهد والحكم إلا للذكور، فإن البنات الحاملات لقب برنسسات إذا هن تزوجن برجل ليس بذي لقب لا يفقدن لقبهن العائلي، ولا يفتأن يحملنه وينادين به. ينادين به ليس تزلفا أو مجاملة، بل هو حق لهن مدون في كتاب الألقاب الرسمية، معترف بإمارتهن من البلاط السلطاني.
ولربما هبطت دركة أخرى لأرسل نظرة في الألقاب اللبنانية المدهشة بإباحيتها؛ ففي جميع البلدان الكبيرة والصغيرة يرث لقب الشرف الابن البكر، ولأعضاء العائلة المالكة لقب برنس وبرنسس على شريطة أن يكونوا أبناء ملك أو أحفاده مباشرة من جهة الذكور. أما في لبنان حيث انقرض الحكم الوراثي منذ عشرات الأعوام، فأبناء المير أو الأمير يولدون أمراء، وأبناء الشيخ مشايخ كلهم، لا يتملص من هذا المقدور فرد أحد. فلو نفذنا هنا القانون الساري في جميع البلدان وأجرينا التصفية اللازمة لهذه الشيوعية المطلقة، فأي رياضي ينبئنا كم شيخ وكم مير يبقى من عملية الطرح الباهظة؟ لو اقتصر اللقب على ابن الحاكم الأصلي وحفيده، وظل فيما بعد متتابعا بالوراثة إلى البكر من الذكور، فكم ملقب يا ترى يفلت من عجاجة المعمعة اللقبية؟ ومما يلفت أن زوجة المير اللبناني كانت تعرف أيام حكمه ب «الست»، وما زالت بطاقة الزيارة لها على هذا النص بالعربية والفرنجية «مدام الأمير كذا كذا». ولكن يظهر أن «ارتقاء» بعض الأهالي في بيروت ولبنان وفي المهجر آل إلى كرم حاتمي بالألقاب، فصارت كل سيدة «أميرة» قبل زواجها وبعده! وفي هذه الحال الأخيرة يضاف اسم عائلة زوجها إلى اسم عائلتها! كل هذا والبرنسس باتريسيا حفيدة أعظم إمبراطورية وأعظم دولة عرفها التاريخ إلى الآن، تحمل لقب لايدي رامساي. •••
يرى بعضهم الملكية وأرستقراطية الحسب متلازمتين؛ إذا وجدت الواحدة قامت إلى جانبها الأخرى. وفي هذا القول صواب وخطأ؛ أما الصواب ففي احتياج الملكية إلى أرستقراطية تتكل عليها، وأما الخطأ فلأن الأرستقراطية في غنى عن الملكية تستطيع أن توجد وتنمو بدونها؛ لذلك نرى الأرستقراطية في تعريف أرسطو أقلية من ذوي الأهلية والفضل يسودون في جمهورية فيديرون منها الشئون، وينفذون القوانين الموضوعة بأمانة ودقة. ويقومون بعبء الحكم حبا بالمصلحة العامة والخير العام. ويضارعه تعريف شيشيرون في كتابه عن الجمهورية حيث يسمي الأرستقراطيين
optimates
وهي الترجمة اللاتينية الحرفية لكلمة
Aristoi
اليونانية، أي الأفضلين أو الأماثل. فمعنى الأرستقراطية الأصلي إذن هو حكم الأفضلين، أو حكم الأفضل.
طبعي أن يؤلف المرء لنفسه جماعة تتفق مصالحها مع مصالحه بقدر الإمكان، ويثق من مساعدتها عند الخطر المداهم. والملكية تتبع هذا النظام الطبيعي؛ إذ لا شيء ألزم للسلطة الوراثية من الارتباط بذوي الشرف الوراثي، وتتوقع أن تبقى لها عواطف الشكر والولاء في أسرة أغدقت عليها هي وأسلافها الألقاب والخيرات، ولكن طالما ضل هذا الأمل، ولئن وجد يوما من يدعى هندنبورج وغيره من كبار الضباط والقواد الذين ظلوا يسمون غليوم الثاني «ملكي وإمبراطوري» بعد محنته، وتطوعوا في تقديم نفوسهم عنه للمحاكمة الدولية؛ ففي التاريخ شواهد أخرى هي عبرة للمعتبر، كمعاملة أشراف إنجلترا للملك غليوم أوف أورنج وجورج الأول، ومثلها معاملة أشراف الملكية الفرنساوية لنابليون الأول، ونابليون الثالث، ولويس فيليب، وما كان بعد ذلك من سعي أشراف الإمبراطورية النابليونية (أي الأرستقراطية التي خلقها نابليون) لإرجاع البوربون وإجلاسهم على عرش فرنسا!
في البشر استعداد كبير لنكران الجميل والتملص من قيوده، والإيقاع بصاحب الفضل عليهم عند قضاء المصلحة. ورغم ذلك ما فتئ الملوك يوجدون الأرستقراطية اللقبية جزاء خدمة جليلة وأملا في ولاء مقيم. وإن لم يسلم ملوك الفكر من التقرب فليس من يتقن فنون التزلف ويبرع فيها كأولي العز التالد. فهذا الشريف الذي يزن نبرات صوته، ويعد خطواته، ويقيس إشاراته مع الخلق ومع نفسه تراه يتوق إلى خدمة الملك سرا وعلانية. وإذا أسعده الحظ بمحاذاة سيده في احتفال رسمي هرع يغسل يديه، ويقبل أنامله إن لم يمرغ جبهته عند موطئ قدميه ، وقدم له أطباق الطعام، وملأ كأسه خمرا أو ماء، وحمل أوامره إلى الآخرين؛ فهو بالاختصار يمثل دور «جرسون» قهوة أو مطعم، وهو بذلك فخور.
الأرستقراطية ضرورية لمنفعة الأمة. آه! إني أسمع زئيركم يا دعاة المساواة، وأرى ازوراركم أيها الأساتذة الديمقراطيون. إنها ضرورية للاحتفاظ بصفات هي جزء من ثروة الأمة، لأن لكل طبقة قوة حيوية اؤتمنت عليها. لست قائلة باحتكار القوى والكفاءات في بيئة دون بيئة، ولا أنا قائلة بذكاء ابن الذكي، وبفضل ابن الفاضل، وبأن ابن النصاب لا بد أن يعدم شنقا. ربما كان سر الوراثة أكثر الأسرار الطبيعية تنبيها لحب البحث في. ما أضمن تأثير الوراثة المباشرة من جهة، وما ألغاه من جهة أخرى! تقولون إنه لغو بتغلب الوراثة المتقطعة، أو الرجعى، أو الوراثة البعيدة على الوراثة القريبة! قولوا ما شئتم وأنا أبقي على اعتقادي حتى يتغلب عليه اعتقاد خير منه؛ وهو أن المواهب تظل متدفقة في ذلك التيار الرائع تيار الحياة الذي يخترق الأكوان، ويلقي نثرات منه أتم بهاء وسناء في أفراد دون أفراد بصرف النظر عن صيغة نعتهم الاجتماعي. غير أني أقول كذلك إنه إذا كان للتربية الشخصية والبيتية تأثير - ويتعذر نفي هذا؛ إذ نسد بنفيه باب التقدم والتحسن - فكيف بالتربية الوراثية الطويلة؟! لهذه القاعدة شواذها أيضا، ومن الأرستقراطيين من هم دون الخاملين ذلا ومهانة. ولكن هذا الشذوذ يثبت القاعدة التي هي أن رفيع الحسب يكون عادة مباهيا باسمه يطمع في صونه ناصعا ألمعيا، ويرغب في عظائم الأمور لأنه مسوق أبدا بكبرياء المولد. زد على ذلك أنه يشب على تربية حسنة، وذوق مصفى، ومعاملة جميلة، وتدبير مرضي، وعلم كثير، وعادات نبيلة، وميول سامية؛ جميع هذه الصفات يقتبسها عن محيطه الممتاز بعد أن تكون الوراثة المباشرة وغير المباشرة أثرت فيه تأثيرها؛ فيبتدئ حياته على استعداد تام. أكاد أقول إنه يبتدئها حيث ينهيها من لا اسم له، وتمهد له الحياة سبلا لا تفتح للوضيع، فكأن خدمة المصلحة العامة وخدمة الإنسانية أيسر له منها لغيره. له أولوية الشهرة وشهادة المجد يظل بها مكرما معززا أينما ذهب، بينما الآخر يضحى غالبا لأنه مجهول لا يعرفه أحد؛ فيصرف قواه ونشاطه في إقناع الناس بوجودهما عنده، وتتابع الخيبة والفشل قد يملأ قلبه مرارة ويفسد خلقه فيتحدر من يأس إلى يأس، ومن انكسار إلى انكسار حتى يهوي في لجة الارتياب من مقدرته وكفاءته؛ فيلقي السلاح، ويطوي اللواء، ويسلم تسليم المغلوب عندما ينطلق الأرستقراطي في سبيل السعي والمجد. وادخار هذه الشخصيات الموهوبة بحكم الوراثة إنما هو في مصلحة الشعب والإنسانية بلا جدال.
هو في مصلحة العموم لا سيما إذا كانت المرتبة شبيهة بالأرستقراطية الإنجليزية التي لها بين أرستقراطيات أوروبا مكانة فريدة. هذه بيئة تكونت ببطء متناه لتعادل السائد والمسود حضارة في تاريخ هاتيك البلاد. فاندغم النورمانديون بالسكسون على ممر الدهور فتألفت أفضلية ما زالت بتساهلها ورشدها تحفظ امتيازاتها في هذا الجيل العصيب؛ لأنها وهي من أكثر الأرستقراطيات محافظة على تقاليدها التي منها تفرد الابن البكر بحقوق الوراثة، فهي في الوقت نفسه حكيمة تعيش في أراضيها على مقربة من الفلاحين بعيدة عن التبذير والاستهتار، تتعاطى الصناعة والتجارة وغير ذلك من الأعمال، وتفتح بابها لكل ذي أهلية ومعرفة وثروة أو خدمة جليلة. وهي ذات أثر في معظم شئون الدولة تقبل الإصلاح، وتنبه إلى التعديل الضروري. وقد جاهدت مع الشعب لحمل الملكية على احترام القانون، وتحرير الكاثوليك، ومنح أيرلندا المساواة السياسية، وإعطاء اليهود حقوقهم المدنية والسياسية، وإنشاء النظام النيابي وما نحوها؛ فهي قليلة الأذى، قليلة الظلم، وهي مستودع صفات وعادات مستحسنة؛ لذلك ستبقى زمنا آخر لأنها قريبة إلى نظام الطبيعة. •••
أظن أن ذكر نظام الطبيعة - بعد هذه المرافعة الطويلة في تأييد الأرستقراطية - يشفع بي لدى السادة الديمقراطيين ويفرج من عبوسهم في النظر إلي. لا أقول إن الإشراف أو التفاضل ضروري في الطبيعة فحسب، بل أقول إنه من الطبيعة ولا يمكن حذفه؛ لأنه - كالانخفاض - جزء من أجزاء الوجود. لاشه تلاش ضده، وبملاشاة الضدين يمحي كل شيء. الإشراف والانخفاض من الوجود نفسه؛ إذ ليس سطح الأرض كله بالمنبسط، ولا النجوم كلها من قدر واحد. والذين يطلبون المساواة مسستشهدين بالشمس تسكب نورها على الصالحين والطالحين، وبالماء تسبح فيه جميع الأسماك على الإطلاق، ينسون أن الأسماك من طبيعتها التنوع حجما وصفة؛ فمنها المصفر ومنها القاتم، ومنها السردين ومنها الحيتان. وينسون أن العبرة ليست بالنور الذي ترسله الشمس، بل بالغاية المتنافرة التي يرمي إليها هذا وذاك، وبكيفية الاستفادة من النور والظلام لبلوغها. فكما أن سطح الأرض ينبسط هنا مروجا وسهولا، ويهبط هناك منحدرات وأودية، ويتشامخ هنالك جبالا وقمما، كذلك للطبيعة البشرية سهول وأودية وقمم.
وهاك استدراكا ينيلني حظوة في عيون جهابذة الديمقراطية، ويصح أن يكون متنا لكل بحث في تاريخ الاجتماع؛ وهو أن الأرستقراطية التي احتكرها ذوو الألقاب لبيئتهم ليست إلا جزءا من الأرستقراطية التامة المتشكلة من أرستقراطية الفضل (وهي التي يعنيها أرسطو وشيشرون) وأرستقراطية الحسب، وأرستقراطية العقار، وأرستقراطية المال، وأرستقراطية النبوغ. ومن المفكرين - مثل شوبنهور الفيلسوف الألماني - من لا يعترف بغير الأرستقراطية الأخيرة؛ إذ يرى الناس اثنين: عبقريا وخاملا، وبينهما هوة يستحيل عبورها؛ لأن الطبيعة الخاملة لا تتحول طبيعة عبقرية. وللعبقري كل الفضل في نظره لأنه هو مبدع كل جميل وعظيم. ولكن إذا صحت نظرية شوبنهور من حيث إرجاع الإبداع إلى العبقرية، فهذا لا ينفي أن للدرجات الأخرى فضلا متساويا مع استعدادها في تطور العمران. البذرة تلقى وهي أصل الشجرة، ولكن النمو يتطلب عناصر أخرى. الشرارة أصل النار، ولكن لا بد من مواد يتسع بها اللهيب وينتشر. والغريب هو شعور أهل الألقاب والجاه بضئولة ما لديهم فيسعون للحصول على الأرستقراطيات الأخرى، وإن لم ينالوها تظاهروا بحيازها. مثال ذلك رغبة الملوك والعظماء في الاشتهار بالعلوم والفنون وضروب الإنشاء. ومن لا يذكر ما جرى للويس الرابع عشر مع بوالو النقاد الفرنسوي الذي عرض عليه الملك يوما قصيدة من نظمه كأنه يلتمس مصادقته واستحسانه ليفاخر بهما أمام الأعوان، فكان جواب بوالو: «مولاي قادر على كل شيء؛ أراد نظم أبيات سقيمة فنجح كل النجاح.» وقد يخلط الناس فيحسبون أن من توفرت له أرستقراطية توفر له غيرها . كقول الشاعر عن أرستقراطية المال:
فهي الكلام لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا
نقبل هذه النظرية من شاعر فقير بلا ريب؛ لأن الواقع أن المال يبالغ في إظهار العي، ويزيد الجبان خوفا وجبنا. ولا يكون «الكلام» إلا لمن فطر على الفصاحة، ولا «السلاح» إلا في يد الفارس المقدام. ولا هو الارتقاء إلا لمن خلق ليرتقي متسلقا جبال الصعوبة فيصل إلى ذروة التفوق. أما القول بالحظ والنصيب فصائب إلى حد ما. بيد أنه من دلائل العجز أن يظل المرء مكتوف اليدين في انتظار «الظروف» ليتحرك. «الظروف» تخلق الشخصيات الضرورية لها، وتكون الأرستقراطيات الفردية والقومية المطلوبة، وتنبه النبوغ وتعززه. ولكنها في الغالب تختار ممثليها وأبطالها بين العاملين المتحفزين لا بين الكسالى الخاملين. وإن اختارت خاملا سهوا بدد عطاياها هباء، وظل الحظ فيه على نحو قول العامة «رمح يغرز في النخالة.»
قال شاعر عربي آخر:
كل من سار على الدرب وصل
وهذا الآخر يشفع في نظريته أنها منظومة. كلا، لا يصل كل من سار على الدرب؛ لأن المدعوين كثير، أما المختارون فقليل. ويقال إن فضل المجاهدين في انخذالهم أعظم، ولا بأس بنشر هذه الكلمة للتشجيع لا سيما وأن نتيجة الجهاد لا تعرف قبل البلوغ إليها. ولكننا نعلم أن الحياة لا تكرم وتكبر إلا من كافح فغلب. أما الآخرون الذين ينهكهم الجهاد فيقعون صرعى في طول السبل وعرضها، فتلقي عليهم نظرة الإشفاق ثم تنساهم؛ لأن وقت البطولة ضيق لا يسع التحسر على الفريسة والضحية. وستظل الأرستقراطية - أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد - ما دامت الطبيعة، ولو تحولت منها الأنواع وتغيرت المظاهر وتعددت الأسماء. سيظل التفوق موجودا ما بقي بين البشر جماعات وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلون على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين. سيوجد أبدا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية، مهما تقلبت الثورات والنظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح» وهو الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا.
الفصل الثالث
العبودية والرق
من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض: تجعل الأكمة الجرداء قرب البحر الزاخر، وخضرة الخمائل وخصب الواحات وراء رمال الصحاري وقحط القفار. حيال الذروة الأرستقراطية يزينها تاج الملكية تحفر البطاح لسيل العبودية الجراف؛ حيث تتزيف السجايا وتتلاشى المكرمات. ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا، وما جادت بنابه إلا بلت بمعتوه، ولا سلمت بوليد إلا ودعت بصريع.
ألا إنما الحياة غنية بالمال والذكاء والكرم والصلاح والحب والجمال والفخار. على أن في كفتها الأخرى ما يعادل الأولى من شقاء وفقر وخمول وقبح وكره وانحطاط. كأنها مرغمة على حفظ النظام في توازنها؛ إذا هي أسرفت في نقطة، تعقبت الإسراف بالاقتصاد فيما يحاذيها؛ فحيث يمتد الرخاء تنتشر التعاسة، وحيث يكثر الخير يقل، وحيث يتغلب قوم يندحر قوم. هنا القصور والصروح والأواوين، وهناك الأكواخ والخصاص والزرائب. حتى الصحة ذاتها قتل متتابع، وكأن نفس الطفل البريء معمل هلاك يفتك بمكروبات لو انتشرت في جماعة لأودت بهم.
ترى هل امتداد الكون المهيع مسافة محدودة إن نحن رأيناها لا تحد فلقصر النظر، وقواه كمية معدودة إن نحن زعمناها لا تعد فلضيق الإدراك؟ هذا سؤال يخرجنا من الاجتماع والتاريخ لتدخلنا محاولة الجواب عنه في الفلسفة واللاهوت، وما نحن منه إلا في دائرة تبتدئ عندها الأبحاث حيث تنتهي. •••
كتاب «مانو» هو أحد كتب الهند المقدسة وقد حوى شرح مذهب البراهمة وتاريخ مدنية الآريين منذ نشأتها، فجاء فيه أن أصل العبيد سبعة: أسير الحرب، ومعدم رضخ لمن يكفل معاشه، وابن العبدة المولود في بيت المولى، والفرد مهدى هدية أو مبيعا بيعا، والمنتقل بالإرث من الوالد إلى الولد، والمستعبد عقوبة على جناية ارتكبها، والمستعبد لعجزه عن تأدية دين أو ضريبة أو غرامة. وسواء ألم هذا الإحصاء بكل الأصول أو أغفل بعضها، فالعبودية قديمة كالحرب، والحرب من خواص الخليقة. لقد حاذت طبقة العبيد طبقة الأحرار منذ فجر العمران، وكأنها في تلك المحاذاة تقول:
هم جيرة الأحياء أما جوارهم
فدان، وأما الملتقى فبعيد
وكيف «يلتقي» اثنان يمتلك أحدهما الآخر امتلاكا لا يقصر على تضييق الحرية الشخصية شأن الرجل مع المرأة والمؤدب مع التلميذ، وإنما هو حذفها ليصير العبد آلة خضوع وعمل، تحصى من متاع المالك مع المواشي وما شاكلها.
مأساة دهرية يتألم لذكرها القلب الشفيق، بيد أن المؤرخ المفكر يراها فجرا محصحصا في ليل الهمجية، وأول بادرة من بوادر الرفق من حيث إدراك وجوب الاحتفاظ بحياة المغلوب والحرص عليها. هي دليل التقدم وإن نسبها هربرت سبنسر إلى الشبع بتقريره أن أول العبيد هم أسرى الحرب، وقد جرت العادة بأن يأكلهم الغالب في ولائم النصر. وأنه عندما كثر عددهم أجل قتل بعضهم للتلذذ بلحمانهم المشوية في وليمة آتية ليصير النصر الواحد نصرين؛ فاستخدموهم خلال هذه الفترة فانتبهوا للحال إلى أن حياة الأسير أنفع للغالب من موته.
وعلى كل، فإن الإبقاء على الأسرى يظل كبير الأهمية لإثباته أن النوع - حتى في تلك الهمجية القصوى - ذو نظرة صائبة وإرادة قوية تمكنه من ممارسة الإپيقورية قبل ولادة أسلاف إپيقورس، فيضحي اللذة الصغيرة للحصول على لذة أعظم ... وأهميته الكبرى في إيجاد العبودية وهي الفارق الأول للدرجات الاجتماعية، والمرتبة الأولى لتقسيم العمل الذي قامت عليه دعائم الحضارة. فلولا إناطة الأعمال الدنيا بأولئك القوم ما تفرغ المحارب لبسط سلطانه، ولا أبدع أعوانه ما تستلزمه فنون الحرب وتؤدي إليه من عمل زراعي وصناعي واقتصادي وسياسي. ولولا ذلك التقسيم وهذا الإبداع ما ظهرت الحقوق والواجبات، ولا كانت النظم، ولا توصل البشر إلى تخزين قوة وحذق يستحيل وجود مثلهما عند العشائر الأولى.
لقد عرفت العبودية شعوب الشرق قاطبة من الهند والصين إلى مصر ففينيقية فآشور، فالفرس الذين ضموا تحت لوائهم أمم آسيا الغربية؛ فاختبروا جميع صنوف العبودية في الحقول والمنازل والإيوانات، منذ أيام بابل إلى عهد اليونان. وحالة العبيد متماثلة في كل مكان يتصرف السيد بهم بيعا وحياة وتعذيبا وموتا، إنما يختلف هذا التصرف باختلاف فطرة الشعوب واستعدادها؛ فبينا حالتهم في الهند على أسوأ ما يكون، إذا بهم في الصين على هناء نسبي لا ينظر إليهم كأشياء أو آلات، بل كأناس يحميهم القانون جاعلا حياتهم في مأمن من الخطر وأعضاءهم سالمة من التشويه. وليس في تاريخهم ثورة واحدة على تجمع مئات الألوف منهم حتى اضطرت الحكومة غير مرة إلى إعتاقهم بالجملة، طغمة بعد طغمة، لتفسح مكانا للمستجدين من أسرى الحروب والجناة، والعصاة الثائرين على الحكم الأعلى. ومع أنهم ملك الأمة المشاع فهم يعيشون في العائلة كوضيع أفرادها، ولكل عبد أن يعتق بعد سن السبعين، ولكن كثيرين كانوا يأبون الحرية لتعلقهم بمواليهم. أما في منشوريا فلم يستعملوا إلا للزينة والأبهة في الأعياد القومية والاحتفالات الرسمية. ثم تدرجت العبودية إلى الرق بالعمل الحر؛ فكان التطور الاجتماعي في الصين غير متخلف عنه في الغرب.
أتصدق أن اليهود «شعب الله الخاص» كانوا يمتلكون بعضهم بعضا؟ إن الشريعة تبيح لهم استعباد أخيهم اليهودي ستة أعوام، أما غير اليهودي فعبد حتى الموت. ولا يفهم ما ورد في إنجيل يوحنا قولهم للمسيح «نحن لم نستعبد لأحد قط.» وهم خاضعون يومذاك للاحتلال الروماني، وقد بيعوا في أسواق أورشليم، واستبعد سلمنصر عشرة أسباط منهم، وظل سبطان آخران في قيود أهل بابل سبعين عاما. وقد جاهروا في كتاباتهم بأنهم استعبدوا سبع مرات في أرض الميعاد. ومن يجهل بيع عيسو بكوريته ليعقوب بأكلة عدس، أي بيع كل حقوقه وقبول العبودية لذراريه؟ ولكن العرب الذين ينتسبون إلى عيسو كادوا يمحون بسيادتهم وعظمتهم هفوة السلف الجائع. وقد باع بنو يعقوب أخاهم يوسف للتجار وباعه هؤلاء في مصر فخدمها في السنين الجوائح، وجر إليها ذووه فانتهى بهم الأمر إلى الرق. ولم يكن ليطلق سراحهم لولا الضربات العشر الذائعة الصيت. على أن العبودية عندهم أخف منها عند غيرهم. ترى بين العبد والمولى تبادل الأمانة والرعاية فيحفظان السبت سويا، وللعبد أن يتزوج وينشئ عائلته وحريته ميسورة بالمال. إن قتله مولاه يقتل، وإن جرحه أعتقه، فإذا انقضت السنة السادسة ورفض أن يتحرر قدم إلى قضاة الشعب فثقبوا أذنه عند باب سيده. ولقد كان ثقب الآذان رمزا للعبودية عند شعوب كثيرة. أفتعجبن بعد هذا يا سيداتي ، إذا أنا أذريت ما يشع في آذانكن من فرائد الدر والجوهر وما تهدل منها من الحجار الكريمة وغير الكريمة، لأحدق في ذلك الثقب الذي يشوه أذني أنا الأخرى، وإن كفيته عار الأقراط؟ إني لأتأمله عندكن وألمسه في مبتسمة خجلي. •••
حمل الفينيقيون نظام العبودية مع ما حملوه من الأنظمة والعادات إلى اليونان فجرى هؤلاء عليه، وكان العبيد عندهم أنواعا: نساء لخدمة البيت، ورجالا للفلاحة والزراعة وخدمة الجيش وسائر الأعمال الخشنة، وصبية متأنقين يكرمون الضيوف ويعدون المركبات ويرافقون ابن مولاهم في تنزهه وجولانه، ويشاطرونه دروسه وألعابه، كأنهم المماليك الصغار في بعض البيوت الشرقية. عوملوا برفق فأحبوا مواليهم، إن غاب أحدهم يوما تألموا لفراقه وانتظروه باكين، وإن عاد أقبلوا يلثمون يديه ووجهه فرحين، وإذا اكتسبوا ثقته بحسن سلوكهم ورجاحة عقلهم أطلق يدهم في ماله وشئونه وأنالهم عنده مكانة. قد يكون سبب ذلك أن اليونان كانوا يقدرون الأعمال اليدوية، حتى إن هوميرس ذكر العمال على مقربة من الأبطال، وقال إن الحدادين والمهندسين والنجارين كانوا يدعون مع الأطباء والعرافين والشعراء إلى ضيافة الملوك. وكان أبناء الأسيرات أحرارا، مثل تويسر المولودة من أسيرة؛ لم يكن من فرق بينه وبين أخيه أجاكس (المولود من حرة) ابن تلامون ملك أجين. ولا عجب والملوك والملكات كل يوم عرضة للأسر والاستعباد. مقدور لم ينج منه ولا الآلهة؛ إذ إن البشر أسروا أبولون ونبطون وڤولكان ومارس، فامتثل هؤلاء الآلهة وخدموا صامتين حتى رفقت بهم يد القدر.
أما الإسبارطيون فطبعوا العبودية بطابع شدتهم. العبيد هنا ملك الجمهور يلبسون جلود الحيوانات، ويسخرون لباهظ الأعمال بصرامة عسكرية، ويسكرون إلى درجة العربدة وفقد الشعور ليرى الأحرار كم يحط الشراب من قدر الشارب فيعرضون عن الخمر ويأنفونها. نحن تضحكنا حكاية جحا الذي أرسل ابنه يستقي ماء فأوصاه أن لا يكسر الجرة في الطريق وضربه ضربا مبرحا، فاعترض الجار لأن الولد عوقب قبل أن يغادر البيت وقبل أن يرتكب الذنب، فأجاب جحا: «وما نفع الضرب بعد كسر الجرة؟» كذلك اعتاد أهل إسبارطة ضرب العبيد ضربا عاما لا لإثم جنوا، وإنما ليذكروا دواما أنهم عبيد أقل ما يتهددهم السياط. ويحظر عليهم حتى القوة البدنية فيقتلون القوي منهم، أو يؤدي مولاه ضريبة لأنه لم يوقف نموه. وكثرة الانتصارات والفتوحات مورد عبودية متدفق كان يضاعف عددهم على عدد الموالي سبعا أحيانا؛ فيفتك بهم بأساليب مختلفة تخلصا من شرهم. وروى ثوسديدس - أعظم مؤرخي اليونان - أن الموالي سألوا عبيدهم مرة عن الألفين الأشد بينهم بأسا والأقوى شكيمة ليعتقوهم، فقام العبيد بانتخاب ذينك الألفين، وتناولهم السادة فزاروا بهم الهياكل ثم اختفوا ولم يعد يظهر لهم من أثر.
وكم من تحالف للعبيد مع أعداء إسبارطة! وكم من ثورة جعلت السادة في خطر مقيم! وقد تلظلظوا مرة وكان تهديدهم مخيفا فاضطر الأحرار إلى طلب الهدنة والمساومة مع الزعيم دريماكس، ثم عادوا فاغتالوه بعد عقد الاتفاق؛ فاستأنف الثوار هياجهم وأقاموا له مذبحا جعلوا عليه هذه الكلمات «إلى البطل المحسن». ويقال إن هيكل أفسس يعود تشييده إلى اتفاق - عقب ثورة - بين الموالي والعبيد. بيد أن تلك القلاقل والاضطرابات وتدخل العبيد في جميع الأعمال بالتدريج قضت على الجمهوريات اليونانية وهيأت البلاد للفتح الروماني.
وما كان أشبه حالتهم عند الرومان بها عند الإسبارطيين فعمدوا إلى العصيان والحروب، وكادت حرب إسبارطقس تؤدي إلى خراب روما لولا قتل العبد الزعيم الذي قضى مجدفا على اسم روما الممقوتة.
جاء دور التحرير تحت تأثير الفلاسفة، فأخذ العبيد يتعاطون جميع أعمال التجارة وتيسرت لهم المناصب السياسية؛ فارتفع بعضهم ارتفاعا عظيما مثل نارشيسس مستشار الإمبراطور كلوديس الذي حرض على قتل الإمبراطورة مسالينا. واشتهر آخرون بالشعر والفلسفة مثل ترانتسيوس الشاعر الهزلي، والشاعر هوراتسيو، وإبكتتس الفيلسوف الرواقي وغيرهم. وكانت كلما علت مكانة العبيد هبطت الدرجات العليا؛ إذ إن أولئك لم يكونوا يطلبون المساواة للمساواة وإنما يرمون إليها ليصيروا هم سادة ويمسي الموالي لهم عبيدا.
والمدهش في كل هذا أن الفلاسفة لم يقبحوا العبودية ولم ينكروها، بل أقروها مع أن منهم من ذاق مرارتها كديوجنس الكلبي، وإبكتتس السابق ذكره، وأفلاطون الذي ظل أسيرا في مصر وصقلية حتى فداه أحد أصدقائه. وكل ما امتاز به أفلاطون هذا أنه لم يضرب عبده بيده؛ لأن الفلسفة والشعر رققا منه النفس ولطفا الشعور فحملاه على أن يوكل إلى سواه تنفيذ العقوبة في مملوكه! •••
يوصلنا هبوط روما إلى مطلع القرون الوسطى التي تكيفت خلالها الطبقة السفلى تكيفا خاصا. لم تلغ العبودية، بل بالعكس بقيت منتشرة في البلدان المختلفة ولها في ليون بفرنسا، وفي روما بإيطاليا، أسواق عامرة بالتجارة الآدمية من السود والبيض. ومرت العصور، فاكتشف كولمبس القارة الأمريكية في أواخر القرن الخامس عشر، ولم يهمل هذا المرفق التجاري بل كانت له أهميته، ونظم بعدئذ الإسبان والبرتغاليون المتاجرة ببني الإنسان تنظيما دقيقا بين العالمين.
لم تلغ العبودية إنما امتازت القرون الوسطى بشيوع الرق الملازم لنظام الإقطاع في أنحاء أوروبا. لقد تسايرت العبودية
Slavery, esclavage
والرق
1
Serfdom, servage
في جميع فصول التاريخ، فاختلط معناهما والتبسا في اللغات المختلفة وحسبهما الناس مترادفين لمعنى واحد. أما الفرق بينهما فهو أن العبد يملكه سيد وهو لا يملك شيئا. وأما الرقيق فملك سيد يملكه أرضا مقابل ما يفرضه عليه من ضريبة وخدمة وطاعة قصوى. العبد ينزغ من بلده وأهله ويتبع سيده المطلق. أما الرقيق فيظل في ديار جدوده وسيادة المولى تحددها العادة والمصلحة؛ إذ ما نفع أرض لا يد تعمل فيها؟! فمن مصلحة الشريف أن تعمر الأرض وتنتج له الخيرات، ومن مصلحة الرقيق أن يشتغل في أرض يحبها وله من نتاجها ما يكفي - ولو بالإجهاد - لإعالة بيته وأولاده. فضلا عن أن الإغارات الخارجية وقلة الأمن في تلك الأيام كانت تقضي بالانتماء إلى سيد عظيم والاحتماء بحماه. والرق في ذاته أنواع، وظل يخف بالتدريج خلال الزمن حتى فقد في فرنسا صفته السياسية وصار مرجع الأمر إلى الملك، ولم يبق منه للأشراف غير الميزة الاجتماعية، ولكنهم ظلوا منطلقين في الظلم والإجحاف؛ فاهتاج الشعب غير مرة وهم يقمعون الهياج بقسوة متناهية، ثم زاد واتسع في المرة الأخيرة، ورأى العالم الطبقات الاجتماعية تمتزج وتتساوى على دوي سقوط العروش، وانهيار جدران البستيل، وفصل أعناق الملوك في ذلك الزلزال الهائل المدعو بالثورة الفرنساوية.
قضت الثورة على الاسترقاق الذي كان ألغي قبلئذ في إنجلترا، وظل يحذف في دولة بعد دولة، وفي مستعمرة تلو مستعمرة إبان القرن المنصرم. واستفادت أمريكا بدروس العالم القديم واختبارها الشخصي، فألغته الولايات المتحدة سنة 1865 والبرازيل سنة 1888. وهتف الكتاب والخطباء أن لطخة العار غسلت عن جبهة الإنسانية بفضل الثورة الفرنساوية وهمة مفكري إنجلترا.
يخيل إلينا - نحن أبناء اليوم - أن امتلاك الإنسان للإنسان من خصائص الزمن الخرافي، مع أننا نعلم أن النفوس كانت تحصى في عقود البيع بلبنان مع الغنم والخيل وآلات الفلاحة منذ عهد قريب، وأن دولة المماليك المؤلفة من عبيد الأمس ارتفعت إلى أوج الحكم فكان لها جيش من العبيد الغرباء، ثم جاء نابليون الشرق محمد علي باشا فغلبها على أمرها، ونظم جيشا كبيرا منه فرقة أو فرق بأكملها من السود النوبيين، وكادت المتاجرة بزنوج أفريقيا تشوه جيلنا، وهي من أفظع أنواع الاستعباد؛ إذ لا أسر، ولا دين، ولا جريمة تبررها، وما هي غير اقتناص البشر للبشر طمعا بالمال، لولا أن مطاردتها واكتساحها من أشرف ما تفاخر به بريطانيا العظمى.
ترى، ألم يكن للنصرانية والإسلام من أثر في القلوب لتحملها على الرحمة والعطف؟ لا شك في تأثير الدين أيا كان، وإذا أحصيت العوامل الكبرى كان الدين في مقدمتها لتكييف النفوس. وقد انتقى السيد المسيح تلاميذه من الخاملين ومضى ينادي بالمساواة والغفران وحب الأعداء؛ لأن الجميع أبناء الله يدعون. وعزز مذهبه العظيم بمثله في حياته الطاهرة، وصار النصارى يرددون هذا النداء الجميل في الصلوات والاحتفالات؛ ففعل فعله وملأ القلوب أملا وتعزية. على أن الدين المسيحي أقرب إلى النظريات، وعلى نقيضه الإسلام؛ فإنه نظري وعملي معا؛ وجد العبودية عند شعوب سبقته فاقتبلها ولكنه لطفها أيما تلطيف، وعلى مقربة من تعاليمه العالية ونصائحه الحكيمة أوصى باليتيم والضعيف والرقيق، وكان الطائع الأول النبي العربي ذاته الذي بكى عبده الميت كما يبكي الكريم صديقا عزيزا؛ فكانت حالة العبد في دين محمد من أحسن حالات أمثاله. أما الإعتاق والدعوة إليه فمن أمجد صفحات تاريخ الإسلام .
يرمز المصورون إلى العبودية برسم رجل بائس رسف في قيوده، ولو أنصفوا ما كان غير المرأة رمزا. الرجل عبد مرة وهي عبدة مرات. قيمة الرجل في استقلاله النفسي وطموحه إلى بعيد الغايات. والمرأة إن هي أبدت ميلا إلى الانعتاق من الأوهام القديمة والتحرير من العادات المتحجرة نظر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا؛ ذلك لأنهم اعتادوا استبعادها ليس بالجور والضغط والتعذيب فقط، بل باللطف والتدليل والتحبب. وإلا فماذا تعني هذه الحلي وهذه الجواهر؟ بل ماذا يعني تغني الشعراء بجمال الوجه وملاحة القوام؟ النساء المسكينات يتهن دلالا أن يكن محبوبات لجمالهن، ولو تفكرن قليلا لأدركن ما في ذلك من معنى التحقير لجميع قواهن، حتى الأنثوية نفسها، ولكفى أن يتقدم إليهن رجل بامتداح حسنهن وحده ليرفضنه زوجا. وهؤلاء هن اللائي بعد أن يشترين بالمال والحلي والتملق - وقد عنى سكوتهن قبول نير العبودية والرضى عنه - ينبرين فجأة مطالبات بحقوقهن مناديات بالاستقلال والتحرير. وأنا التي أكتب هذا يشوك الآن ساعدي سوار دار حوله، فأنظر إليه وأضحك ولا أزيحه عني. لقد توارثت النساء حمل القيود في صورة الحلي حتى عشقتها، إن هي لم تثقل حركتهن لغرض ما وضعن مكانها ما يشير إليها لغير سبب.
تشكون من زواج هذا العصر وتستصغرون الذي يتزوج البائنة ويقبل صاحبتها معها، بدلا من أن يتزوج المرأة ويقبل معها بائنتها. ولكن أتظنونه أفظع من زواج يؤدي فيه الرجل مهرا؟ إذا شاء شراء المرأة زوجها فكيف يحسن ابتياع الرجل زوجته؟ الزواج عقد اجتماعي يأتي فيه الشريكان برأس مال حسي ومعنوي: المال والكفاءة الشخصية؛ فالمال يجعل المرأة مثيلة الرجل، والكفاءة الشخصية تؤهلها لأن تكون زوجة معتبرة وإما محبوبة. تزعمون - أنتم النظريين المتطرفين - أن صفاتها تكفي لإسعاد رجل نشيط يتكل على جده واجتهاده! ألا فادخلوا هيكل أسرار العائلة وقفوا على ما هناك من نكد وويلات أصلها فقر عائلة المرأة! لا أنكر أن الكفاءة الشخصية تفوق المال أهمية، وأن المال لا يدوم إلا حيث تكون الكفاءة، ولكن أواثقون أنتم من أن كل امرأة تنصف زوجها ولا تختلس نتاج جهوده أو بعضه؟ أبي النفس يخاف أن تستعبده المرأة الغنية، فهل هو للفقيرة أقل استعبادا؟ وعلى كل، فعبيد اليوم كعبيد الأمس ليس أمامهم للتحرير من سبيل غير ذينك السبيلين القديمين: المال والكفاءة الشخصية. •••
هذه هي الخطوط الكبرى في خريطة العبودية التاريخية، فرغت من تعدادها بانشراح من نفذ من تحت جبل ووقف يتمتع بمحاسن الرياض.
لقد اتفقوا على أن العبودية كانت وانقضت، وأظنني كتبت منذ هنيهة أن عصرنا يفخر بإلغاء متاجرة الإنسان بالإنسان، وقد استجمعت فكري للمرة الأخيرة قبل أن ألقي بالقلم جانبا فتململت في حافظتي جميع معاني الأسى، ورأيت أشباح الذل متجمهرة في رحاب خيالي، كشرت عن أنيابها تهددني، ومدت بمخالبها نحوي لتفترسني، جيش عرمرم من أرواح العبودية والرق أخذ يصفق بأجنحته السوداء صارخا: «نحن أحياء نتألم فكيف تذكرين الموتى وتنسيننا؟» فدنوت من جماعة وقلت: «من أنتم؟» فصاحوا: «نحن نزلاء الليمانات وضحايا الأشغال الشاقة، أحجار الصوان تحني ظهورنا، وأزيز السياط يمزق أجسامنا، ما نحن إلا عبيد إسبارطة.» قلت: «وكيف يكفي الاجتماع أبناءه شركم؟ لقد سرتم في وسطه فكانت الجرائم منكم بعداد الخطوات.» فتنهدوا وقالوا - وتنهدهم وكلامهم مقذوفات براكين: «ما نحن إلا عبيد إسبارطة.»
وسرت نحو جمع آخر انحنى يشتغل والعرق يقطر من ذرات وجهه فصرخ: «نحن الشعوب المغلوبة، وما غرامة الحرب إلا رق القرون الوسطى.» فقلت: «وهل من وسيلة أخرى ليستعيض الظافرون عما خسروه من مال ورجال؟» فهزوا أكتافهم وانحنوا على الأرض متظلمين: «ما هذا إلا رق القرون الوسطى.»
وتحولت إلى جهة أخرى، وإلى أخرى وإلى أخرى، وأنى توجهت لاقيت أقواما ينبعث من صدورها التظلم والعويل، وتخيم فوقها الأجنحة السوداء. رجال ونساء، شيوخ وأطفال، مثرون ومعدومون، عبيد الوراثة، وعبيد العاهات، وعبيد الأمراض، وعبيد الجهل، وعبيد الأوهام، وعبيد الطمع، وعبيد الحاجة، وعبيد الحياء الإنساني، وعبيد الغرور، وعبيد الكذب، وعبيد الحسد، وعبيد الأهل، وعبيد الأبناء، وعبيد الغرباء؛ يزحفون جميعا من كل ناحية كالجحافل الجرارة، وهدير شكواهم كهدير العباب المتلاطم؛ فصرخت جزعا: «من أنتم، من أنتم؟» والعبيد - جميع العبيد، عبيد الماضي والحاضر والمستقبل - أجابوا كجوق رهيب: «نحن العبودية الدائمة!» قلت: «كلا، كلا! لقد ألغيت العبودية وأنتم أحرار، ارفعوا أيديكم لا سلاسل فيها! حركوا أقدامكم لا قيود تثقلها!» فقالوا: «السلاسل والقيود أقل رموز العبودية هولا، القيود في دمائنا وأهلنا وأوطاننا، القيود في رغباتنا وحاجاتنا، القيود في بشريتنا.» فصرخت بملء صوتي: «أقول لكم أنتم أحرار ولا عبودية في القرن العشرين!» فقالوا: «إذا محيت من العبودية صورة رسمت أخرى؛ لأن أصل العبودية باق على كر الدهور، نحن العبودية الدائمة، نحن أودية الحياة المجوفة عند أقدام الرواسي.»
واختفت الجماهير في لحظة فوجدتني مقلبة صحائف هذا الفصل، وقد وقفت أقرأ كلمات الاستهلال «من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض ... ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا ...»
الفصل الرابع
الديمقراطية
استعرض ما شئت من فصول التاريخ الطبيعي تجد بين الحيوان والحيوان مصارعة مطردة، وبين النبات والنبات مقاتلة سرية أو علنية بلا تباطؤ ولا مهادنة. ومثلها في تاريخ علم طبقات الأرض؛ فهنا الصخور والمعادن تتزايد وتتناقص، وهناك تراجعت الأمواج في محيطها فاستحالت أرض غارت تحت تقلب الأواذي مدينة آهلة. ومثلها في تاريخ الفلك حيث تتكون عوالم وتزول عوالم. وليس التاريخ البشري ليختلف عن تلك التواريخ. غير أن الإنسان يمتاز على سائر الكائنات بالعقل والغريزة الاجتماعية؛ فهو يطبع كل ما يقتحم من خطر، ويشهر من حرب، ويركب من هول بطابع هاتين الميزتين. ولما كان تنازع القوى الطبيعية ينتهي دواما بصعود الغالب وهبوط المغلوب كانت نظم الإنسان ومبادئه وأحزابه أبدا في ارتفاع وانخفاض.
لم يهتد زعماء الإصلاح إلى أنظمة سياسية غير الثلاثة التي ذكرها أرسطو، وهي: الملكية أو حكومة الفرد، والأرستقراطية أو حكومة الأماثل، والديمقراطية أو حكومة الشعب. ولئن دانت المدنية المتأخرة بالديمقراطية فإن جل المدنيات المتقدمة - إن لم يكن كلها - نما وترعرع ثم توارى في حضن الملكية. ألأن الشعب الرازح تحت أثقال العبودية كان في غيابات جهله مدفونا؟ ألأن تلك المدنيات شرقية، وشعوب المنطقة الحارة أقرب إلى الملكية لميلهم إلى عدم التفكر وتثاقلهم عن حمل المسئولية - كما يزعم المؤرخون؟ ألأن الأمة في دورها الابتدائي تحتاج إلى سيد احتياج الطفل والقاصر إلى معلم ومرشد؟ ليس البت بالأمر الميسور، وإنما ما يتحتم البت فيه - بعد نظرة سريعة في المدنيات البعيدة - هو أن الشعوب لم تكن عقيمة في ظل الملكية بل أنتجت ما لا نزال نستفيد منه حتى في هذه العصور - عصور الإبداع المتواصل.
فمدنية مصر العظيمة تكونت في عهد ست وعشرين أسرة مالكة يوم كان فرعون سيدا مطلقا يسن القوانين وينفذها، ويسهر على الراحة والأمن، ويسعى في تنظيم البلاد وتجميلها، وإليه مرجع الأمور الدينية والمدنية جميعا؛ فأسفرت تلك الحضارة السحيقة عما ما زلنا نعجب به ونستوحيه من بدائع هندسية، وفنون إدارية، وفلسفة روحانية.
أما الحضارة الكلدانية الآشورية، فكانت عظيمة في هندستها عظمتها في علمها؛ لأنها - مع تلك الأسوار الضخمة، والأبنية الفخمة، والحدائق المعلقة المحسوبة من العجائب السبع في القدم - جاءت بفنون الحرب وما يتبعها من تدريب الجيوش، وحفر الخنادق، وخد الأراضي، واختراع مركبات الهجوم والدفاع، وأساليب التدمير النظامي، وإعدام الأسرى، ونقل المعدات والأسلحة؛ هذا من جهة، وكانت عاكفة من جهة أخرى على التمرين العقلي، والبحث الفكري، فوضعت القواعد لعلوم الحساب والفلك، وأوجدت المكاييل والمقاييس والموازين الأولى، وميزت بين السيارات والثوابت، وأحصت كسوفات الشمس وخسوفات القمر، وعينت دائرة البروج مسمية كلا من علاماتها باسمها، ووقتت أجزاء السنة، واخترعت الساعة الشمسية، وهي التي وضعت أصول التنجيم، وكشف طوالع السعد والنحس، وتركيب التعازيم والتعاويذ والطلاسم والتمائم والحمائل وعقاقير الغرام.
أما اليهود فمعروف مجدهم الحربي في عهد داود ومجدهم التجاري في عهد سليمان، فضلا عن أنهم حبوا العالم بكتاب التوراة الجليل.
وأحدث الفينيقيون فن سلك الأبحر وما يجر إليه من استعمار، وتجارة دولية، وصناعة تمد تلك التجارة؛ فأنشئوا المصارف في الأنحاء المختلفة، وأذاعوا مع مدنيتهم مدنية كل بلاد يرودونها، ونشروا مع مصنوعاتهم الأبجدية التي اختزلوها من الهيروغليفية، وأساليب المعاملة المالية والاقتصادية، وعلم مسك الدفاتر.
ولما قام الفرس يبسطون شوكتهم على العالم الشرقي ويخضعون الشعوب المغلوبة لصولجان ملكهم، اقتبسوا عن الأقوام زبدة حضاراتهم فجمعوا بين الإدارة المصرية، والهندسية الآشورية، والعلوم الكلدانية، والبحرية الفينيقية متوسعين في التصرف والتكييف ليطبعوا تلك المدنية المختلطة بطابع فارسي. وقد بدأ بهم تأثير الآريين - وهم من أصل آري - في التاريخ المعروف، وأخص ما جاءوا به حكمة زرادشت القائلة بحرب بين عنصر الخير أرمزد، وعنصر الشر أريهمان؛ حرب تبقى إلى منتهى الزمن حيث يتغلب عنصر الخير فيعم النور والحقيقة.
كذلك في الشرق الأقصى كالصين مثلا حيث شيد السور الأكبر قبل المسيح بأربعة قرون، وحفرت الترعة الكبرى في القرن التالي مما يدل على تقدم الهندسة. وقد عرف أبناء مملكة «ابن السماء» علوما وفنونا جمة كالكتابة ومبادئ علم الهيئة، واخترعوا الحك (البوصلة) والمطبعة والبارود، وتعالت جدران معابدهم في الفضاء، وكست الحرائر النفيسة الرجال منهم والنساء، وشربوا الشاي في فناجين الصيني الثمين أيام كان الغرب في همجية قصوى. وإذا أخذنا ببعض ما وصل إلينا من كتاب كنفوشيوس المدعو «تشو-كنج» علمنا أن مبادئهم الأخلاقية من عبادة الآلهة وحب العائلة واحترام الموتى ... إلخ، لا تقل جمالا عن أسمى المبادئ المعروفة لدينا.
وقد تأثرت اليابان في القرن الرابع ق.م بمدنيتي الصين والهند، كما تأثرت أوروبا فيما بعد بمدنية اليونان واللاتين. وبعد كفاح عنيف بين المولى والأشراف، يشبه كفاح الأرستقراطية والملكية في القرون الوسطى، اعتنق ذلك الشعب الشرقي المتوقد مدنية الغرب الحديثة بأكملها، وصار - وهو القزم في عالم القياس - يخطو خطوات جبار في عالم التقدم والرقي.
كذلك كانت الملكية حسنة العائدة في القرون الوسطى مع شارلمان. وإذا ماشيناها إلى أيامنا مع بسمارك - وهو أكثر ملكية من الملك، كما يقولون - ومع الإمبراطور غليوم الثاني، وجدنا أن ألمانيا في عهد هذه القيصرية الحربية المطلقة جرت خلال نصف قرن شوطا أجفلت له الدول قاطبة.
على أن بقع الظلام الواسعة تحاذي خيوط النور في تاريخ هاتيك المدنيات التي لم تكن تحسب لحياة الفرد حسابا، وإنما خلدت بعدها أسماء أشخاص اشتروا عظمتهم بدماء الجماعات وجثث العبيد. •••
ثم حصحص بصيص الكرامة الإنسانية في بلاد اليونان التي تناولت قبس الحضارة من يد الفرس بعد أن تغلب ملتيادس على داريوس في مرج ماراثون، وأغرق ثمستوكليس أسطول العجم في خليج سلامين؛ فأنشأ اليونان يكررون أصول تلك الحضارة وينقونها ويرتبونها ليجعلوها ترضي الذوق منهم والعقل، وهم الفنانون والفلاسفة قبل كل شيء؛ فحبوا وطنهم في قرنين اثنين بصيغ جديدة في القانون والعلم والفن والفلسفة. وهناك أخذ الفرد يعرف حقوقه وواجباته، هناك أشرق فجر الديمقراطية ولم تكن الحروب المتتابعة لتظلمه، ولا زحف الرومان وظفرهم ليلاشيه، بل ظلت أثينا المغلوبة مهذبة العالم.
لم تقم في روما حكومة ديمقراطية محضة، ويرى بوليبيس المؤرخ اليوناني أن النظام الروماني كان مزيجا بديعا من الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. غير أن العنصر الديمقراطي كان كبير النفوذ راجح الشوكة بعد أن صارع الطبقات العليا فتساوت جميع المراتب في الخضوع لسيد واحد هو قيصر. وكما كان العالم القديم شديد الإعجاب ببسالة الجيوش الرومانية، كذلك كان الإعجاب بالوحدة الإمبراطورية من الشدة بحيث بقيت تلك الوحدة مثلا أعلى تنشده الملوك في العصور التالية؛ فأقام شارلمان دولته على منوالها، وطمع نابليون في إعادتها إلى الوجود بعد كر العصور.
شطرت دولة الرومان في آخر القرن الرابع للمسيح شطرين: إمبراطورية الغرب وعاصمتها روما، وإمبراطورية الشرق وعاصمتها بيزنطة (الآستانة اليوم). ولم يطل حتى تدفقت الشعوب الآسيوية واشتركت مع شعوب زحفت من أوروبا الشرقية والمتوسطة، فتبارى المغول والسلاف والجرمان في الإغارة على روما واكتساحها وإيساعها تخريبا وتدميرا زمنا يناهز قرنا، وطفقوا بعدئذ يقتبسون عادات الأمم المغلوبة وقوانينها، فألفوا منها نظاما قام عليه فيما بعد التشريع الإقطاعي.
وتجاذبت السياسة في القرون الوسطى نزعتان: الوحدة الدولية أو المركزية، والتخصيص القومي أو اللامركزية. فمن قائل بإخضاع الشعوب وتوحيد قيادتها كالإمبراطورية الرومانية، ومن قائل بتوزيع القيادة وإطلاق كل أمة تنظر في أمورها وتنمي مدنيتها وفقا لمطالبها القومية وممكناتها الطبعية. فتغلبت النزعة الأولى بصيرورة شارلمان إمبراطورا على الغرب، وهو الذي عهد إلى الأشراف بإدارة المقاطعات تحت مراقبة مفتشين اختصاصيين، على أن يكون إليه مرجع الأحكام جميعا حتى في الأمور الدينية. وسادت بعد ذاك النزعة الأخرى يوم تقاسم الدولة أحفاده الثلاثة في معاهدة فردون (في منتصف القرن التاسع)، التي أوجدت كلا من ممالك فرنسا وألمانيا وإيطاليا ذات كيان سياسي مستقل. ثم تناولها النظام الإقطاعي في القرن العاشر فظلت إلى القرن الثاني عشر عجاجة دويلات وإمارات ودوقيات وكونتيات لا عداد لها، وبين صاحب الأرض والرقيق تبادل حقوق وواجبات تتنوع بتنوع الأمزجة الشخصية والعادات المحلية. والمرجع النهائي إلى الملك الذي لم تقم فوق إرادته غير إرادة الله.
وكان حجر الزاوية في صرح تحرير الأمم الحديثة تلك البراءة الملكية التي نالها الإنجليز من ملكهم في مطلع القرن الثالث عشر، وقد منحتهم مبادئ الحرية الدستورية التي ستتكيف الأحوال منذ الآن فصاعدا لتنشرها في جميع أقطار الغرب. من تلك الأحوال أن البرابرة عادوا إلى التفجر من مجاهلهم كما فعلوا منذ عشرة قرون فتدفقت سيولهم على الشرق والغرب، واكتسح التتر فيما اكتسحوه الدولة البيزنطية - تلك الدولة التي كان لجأ إليها أسمى عناصر الدولة الرومانية المقهورة وأجملها. ومن هذه الكارثة العالمية الكبرى، ومن اختلاط الشعوب وامتزاج المدنيات تكونت حضارة جديدة ازدهرت على الأطلال والأنقاض كما تنبت الأزهار في ميادين القتال وعند زوايا القبور؛ ذاك أن البيزنطيين عادوا بكنوزهم الفكرية والفنية إلى إيطاليا فألقوا فيها شرارة ما لبثت أن شبت نارا امتد منها اللهب في أنحاء الغرب؛ فخلقت فيه حياة جديدة وروحا جديدا - وذلك هو عهد الانبعاث أو النهضة.
انتعشت الفنون والآداب، واستنارت الأفكار، وتقدمت العلوم، واكتشف كولمبس القارة الأمريكية؛ فأدركت العقول من العالم صورة غير التي رسخت فيها، والتفت الناس إلى كرامة الفرد وأهليته وأخذ الاجتماع الحديث يتمخض بمبادئ تنافي مبادئ الاجتماع القديم. وشفعت هذه وغيرها من عناصر «النهضة» بثورة دينية بدأت في ألمانيا بزعامة لوثر. وكانت تلك الثورة ابنة النهضة الفكرية وحليفتها إلا أنهما افترقا بعد حين، وتسرب الإصلاح الديني إلى حيث لم تصل النهضة الفكرية؛ فكثر أتباعه في ألمانيا وسويسرا وفرنسا واسكتلندا وإنجلترا. ولئن أنتج معارك دموية فظيعة، فقد ساعد في تحرير الفكر لأنه أطلقه من القيود الدهرية، وأظهر إمكان النقد للفلسفة الدينية؛ فسمت بذلك قيمة الإيمان نفسه؛ لأن إيمانا يمتن ويرسخ بعد الامتحان بمحك النقد العلمي خير من إيمان يقوم على الجهل والوهم والتسليم. واختراع المطبعة وسهولة الطباعة يسرا إذاعة الآراء بين أهل البلد الواحد وشعوب البلاد الأخرى.
وبينا نظام الإقطاع يسود في ألمانيا وغيرها من بلاد الغرب، وبطرس الأكبر وخليفته كاترينا العظيمة يحولان الروسيا من مملكة شرقية إلى إمبراطورية ذات صبغة غربية؛ إذا بسويسرا عاكفة على تحسين نظامها الجمهوري الذي ساعدها بعدئذ نابليون على التمتع به في أكمل حالاته. وإذا بإنجلترا تعدل دستورها وتخطو به خطوة جديدة في ربوع الحرية فلم تنجح في ثورة 1648، ولكنها نجحت سنة 1688 دون هدر قطرة دم واحدة. وانتهت المناقشات السياسية مع زعم الملكية بتناول حقوقها من الألوهية، وتفرغت الحكومة للشئون الخارجية فأقامت هذه الإمبراطورية التي لا مثيل لها في التاريخ المثبوت. وسارت في طليعة دول تنيرها بقبس دستورها، ومضى الفلاسفة والمصلحون يستقون من منهل حريتها. وإذا بفرنسا تفوز بالوحدة الوطنية في عهد لويس الرابع عشر، إلا أن الأهالي كانوا في استياء من انقسام الأمة إلى ثلاثة أقسام: قسم الإكليروس، وقسم الأشراف، وقسم غير الأشراف. في استياء لأن هناك جماعة تتمتع بجميع الامتيازات ولا تحمل مسئولية، بينما جماعة أخرى ترهقها المسئولية، ويضعفها الكدح المتتابع، وتثقل كاهلها الضرائب. وليس يتساوى الجماعتان في غير الرضوخ لإرادة الملك.
لم تطل الحال، بل انبثق فجر آراء جديدة في التساهل والمساواة بفضل الفلاسفة والاقتصاديين والإنسكلوبيذيين، وظلت هذه الآراء كالشرارة تدنو من بارود السخط العام الذي دوى قاصفا في الثورة الفرنسية فأعلنت «حقوق الإنسان» لإزالة ما بين البشر من حدود وفروق. أو تقررت سراية القانون عليهم جميعا من غير ما جور أو تحيز، ولهم أن يقلدوا وظائف الحكم والتشريع والقضاء وفقا للكفاءة منهم والمقدرة. فإذا صح أن فرنسا درست الحرية على إنجلترا، فإنها مع أمريكا أشبعت العالم بفكرة الحرية فتبعت الدول آثارها تدريجا؛ لأن الديمقراطية، وكل نظام آخر يتغير بتغير طبيعة بلاد ينفذ فيها. ولقد جاهد الغرب حتى إنه بعد إعدام قيصر روسيا وانهيار عرش ألمانيا والنمسا، لم يبق في أنحائه ملكية مطلقة واحدة، وأن الديمقراطية عمت العالم المتمدن. وإن لم تكن البلاد جمهورية كأمريكا، فهي ممالك دستورية كإيطاليا وإسبانيا ... إلخ. ولا يعلم إلا الله ما يختفي وراء تلك العروش المترنحة من دسائس البلشفية، وقنابل الفوضوية، ومدمرات الشيوعية. •••
فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، وتسوية الحقوق والواجبات بين أفراده، فلا مناص مما يحمل الجماعة على المطالبة بهذه التسوية وذاك الحكم. فأي محرك يا ترى بعث على إلغاء الملكية والأرستقراطية وإحلال الدساتير الديمقراطية محلها؟ نعم، إن بين القوى الإنسانية ترابطا متينا، وائتلافا تاما؛ بحيث إن التيقظ إذا بدا في قوة لا يلبث أن يمتد فيتناول القوى جميعا. على أن هذا لا ينفي أن لكل حركة باعثا رئيسيا تتفرع منه بواعث جمة؛ ففي الماضي كان الجيش اليوناني يتألف من الأشراف الذين لم يكونوا ينازلون العدو إلا على الخيل أو في المركبات، وقد لاحظ أرسطو أن جيشا يرجح فيه الفرسان لجيش حكومة أرستقراطية. ولكن الحروب المتزايدة في الداخل والخارج ثلمت صفوف الفرسان إزاء مهاجم عتي؛ فأرغم الأشراف على تعزيز الجيش بفيالق المشاة من الشعب، وإمدادها بالسلاح والمعدات، وتدريبها على القتال والدفاع؛ فشعر هؤلاء بضرورتهم لحفظ كيان الوطن، وانبروا يبثون في البلاد الثورة والشقاق حتى ظفروا بالمساواة المدنية والسياسية. كذلك في روما التي لم يكن لها من شاغل سوى الفتح والاستعمار، وأشرافها يربئون بأنفسهم عن التجارة والصناعة والفلاحة وغيرها مما أقبل عليه الشعب فأصبح صاحب الثروة. وترامي أطراف الإمبراطورية، واحتياجها الشديد إلى زيادة جيوشها البرية والبحرية أوجب ضم الشعب إلى صفوف الفاتحين والمحاربين، ومنحه من الامتيازات ما لم يطل أن تمتعت به الأمة جميعا؛ فصار لها مجلس نيابي يتكلم بصوتها، وانقسمت الإمبراطورية إلى حزبين: حزب الأشراف وحزب الشعب كما يوجد في عصرنا الرأسماليون والعمال. فكان إن استأثر مجلس الأشراف برأي امتنع مجلس الشعب عن التصويت ورفض مساعدته لتتميم الأعمال - وفي ذلك صورة للإضراب في هذا العصر. ولم يوفق بين الحزبين إلا بعد قرن ونصف قرن ؛ إذ تنازل الأشراف عن الامتيازات السياسية أولا والدينية بالتالي؛ لأن الوظائف الدينية كانت سياسية أيضا.
اشتراك الشعب في الحرب هو إذن مصدر الديمقراطية القديمة. وأما الحديثة فمصدرها اثنان متلازمان هما؛ أولا: الاختراعات الآلية والاكتشافات العلمية، وثانيا: تعميم المعرفة وسهولة التعليم. ففطن الذين كانوا بالأمس يذعنون غير متذمرين - وربما مسرورين شاكرين - فطنوا إلى أهمية عملهم في هذه الأساطيل التي تمخر البحار وتدني ما شسع من الأمصار، وتلك السكك الحديدية التي تشق الأطواد وتطوي القفار وتطوق الكرة بنطاق مكين، وهاتيك الآلات البخارية والكهربائية والهوائية التي تفيض على العالم النضار وما يمثله من ثروة، وتحبو الناس بأسباب الرغد والهناء. وبينا الثروات الباهضة تقيم السدود بينها وبين الفقر المدقع إذا بالمعرفة تزيل الفروق وتقرب بين الطبقات؛ فتنبهت الأطماع العامة وأحدثت في النفوس غليانا أثارها على التقاليد الموروثة، فنادى الجمهور بالديمقراطية ملخصا مطالبه في بندين جوهريين، أحدهما سياسي والآخر اجتماعي، وهما: أن الديمقراطية قائمة على أكثرية العدد التي يستمد منها القانون قوته، وأنها تقضي بحذف الفروق الاجتماعية، أو على الأقل بتحويلها إلى أقلها ليتمكن جميع الأفراد من إنماء مواهبهم وإظهارها بلا ضغط أو مقاومة.
ولقد لمست موجة الديمقراطية شواطئ الشرق الأدنى، وأول من هتف بها في مصر لطفي بك السيد، يوم كان بعضهم يطلقون عليه مزاحا لقب «الفيلسوف الديمقراطي». ولم تقف المسألة عند حد المزاح، بل هو لاقى من اعتناق الأفكار الحديثة مصائب واحتمل سخافات؛ منها أنه يوم كان مرشحا لعضوية الجمعية التشريعية سنة 1914 حاربه أحد مزاحميه بما لو فهمه القوم لكان للطفي بك لا لخصمه حجة. قال الخصم: «يبقى نائب عنا ازاي؟ دا راجل ديمقراطي!» فأرعبت الناخبين هذه الكلمة الأعجمية وأولوا معناها بأسوأ ما يتموهمون. بيد أن التغير ناموس الكون، ولم تمض خمسة أعوام حتى صار لمصر الفتاة حزب يدعى «الحزب الديمقراطي المصري» تنتسب إليه فئة من أرقى الشبان المتعلمين في أوروبا، العائدين من مدارسها العالية بمعتبر الشهادات ومحترم الألقاب. وهنا الوقائع التاريخية تقضي بالاعتراف أن اسم الديمقراطية جديد في هذه البلاد ولكن معناها غير جديد؛ لأن الإسلام كان أبدا ديمقراطي المبادئ ديمقراطي الأساليب. وهل من ديمقراطية أتم من أن نرى الملوك يتخذون لهم من الجواري زوجات شرعيات ويرفعونهن إلى مراتب الملكات؟ أوهل من ديمقراطية أوفى من أن يخرج من الطبقة الدنيا قوم يرتفعون بكفاءتهم الشخصية ورجاحة عقولهم فيحملون أعظم الألقاب ويقلدون أجل المناصب؟ ولكن على مقربة من هذا التساهل والإنصاف تقوم أرستقراطية مزدوجة؛ لأن موقف الأجير المصري إزاء صاحب الأرض يكاد يكون - فضلا عن موقف العامل المصري إزاء الممول - موقف الرقيق إزاء الشريف في نظام الإقطاع. وكانت الحال على ذلك في سوريا وفلسطين حتى الحرب العظمى. أما في لبنان فالديمقراطية نافذة منذ أن حور النظام الأساسي في سنة الستين.
وليس هو الإسلام وحده، وإنما قالت بالمساواة قبله البوذية والنصرانية. على أن مؤسسي هذه الأديان جاءوا باستثناء واستدراك؛ إذ ذكر بوذا التناسخ، وأن من البشر من هم (بذلك التناسخ) أكبر سنا، وأعظم فضلا، وأوفر طهرا. وقال السيد المسيح: «المدعوون كثيرون والمختارون قليلون.» وجاهر النبي العربي بأن الله يهدي من يشاء. وكيف لا يرى هؤلاء المشرفون على أسرار النفوس فروق البشرية تفصل بين هؤلاء الذين تجمعهم جامعة الروح العليا؟! فجاءت السياسة تؤيد ما لم تفلح في توطيده الأديان ولا فازت بتثبيته حضارة اليونان والرومان.
وأما الفرق بين الماضي والحاضر فهو أن الديمقراطية القديمة قامت على العبودية فظلت الطبقة السفلى مسخرة للأعمال الدنيا والخدمة، لتتفرغ الطبقات العليا للحكم والقضاء. كان الفرد ينتمي أبدا إلى سيد أو قبيلة أو عشيرة (على ما نرى اليوم بين الأعراب أهل البادية وسكان الريف)، فيفاخر بقوله «نحن» كأن لا رأي له ولا قيمة في ذاته منفصلا عن جماعته. على نقيض هذا العصر وفخر الفرد فيه أن يقول «أنا» وأن يكون قيما في نفسه، مجردا عن أي أحد، وأيا كان حسبه ونسبه. الفرد اليوم يقوم مقام المجموع، وليست نقابات العمال وشركات التعاون لتثبت غير ذلك. الواحد للكل، نعم، ولكن على شريطة أن يكون الكل للواحد. وهي ميزة تفرد بها هذا العصر ولم تعهد من قبل ، ولئن قبلناها من غير دهشة فلأننا نحياها. أما مؤرخو المستقبل فسيتخذونها محور أبحاثهم، ويرون فيها ما لا بد أن تكونه: فاتحة عهد جديد. •••
وبعد كل هذه الحرية وكل هذا التقدم، ترى هل حصل الفرد على السعادة المنشودة؟ وهل تم للمجموع السلام والهناء؟ هل جاءت الديمقراطية بكل ما ينتظر منها؟
هناك ميزة تلازم ميزة «الفردية» العصرية، وهي طلب التوسع والاستعباد على الطرز الحديث. مفهوم أن الأمم الكبيرة تقول برغبتها في إنهاض الأمم الصغيرة من جهلها وخمولها، وتسييرها وإياها جنبا إلى جنب في موكب الحضارة العظيم. ولكنه مفهوم أيضا أن هذا القول أسلوب من أساليب البيان السياسي، وأن تلك الأمم لا خلاص لها مع هذا التزاحم الدولي والأزمات الاقتصادية في غير استغلال المستعمرات وتصريف تجارتها فيها. وما استعدت ألمانيا نصف قرن وفاجأت - أو زعموا أنها فاجأت - أوروبا بالحرب الضروس إلا توصلا إلى انتزاع ما يمكن انتزاعه من عدو حسبت اندحاره أمرا واقعا. ولكن ألمانيا هي التي اندحرت ولو إلى حين، والشعوب المرجو استغلالها واستنتاج أراضيها بدأت تتحرك وتأبى أن تستعمر وتستغل. دع عنك الخطر الأصفر الذي اكتسح الغرب مرتين في مطلع القرون الوسطى وفي آخرها، وطالما تخوفته أوروبا قبل الحرب الكبرى، وما زالت تخشى منه إغارة جديدة تجيء أشد هولا وأفتك بطشا.
هذه مظاهر الديمقراطية في الخارج، وما حال تلك الحكومات في داخلها؟ أي صنوف المساواة يسري بين مراتبها الاجتماعية وبين أفرادها؟ أزالت الفروق من بينها ولم يعد فيها صغير أو حقير؟ يخيل إلينا أن أقرب الأمم إلى الديمقراطية هي الأمة الأمريكية لقلة ما وراءها من التقاليد؛ فهل حالت المساواة دون ما يقابل به البيض السود من ازورار واحتقار؟ هل حالت الحرية والمساواة دون هدر الدماء والتشنيع والتفاضل؟ إن تلك القدرة الهائلة التي تغلي فيها جميع عناصر الدنيا ما زال يؤبه فيها لفروق الجنسية والثروة والذكاء والعلم والتربية، ما زال يؤبه لتلك الفروق بالفعل وإن نفيت بالقول، بل ما زالت الانتقادات تملأ صحفهم، وتعدد الأحزاب يقسم مجالسهم، وقرب ثروتهم القارونية نرى العوز الأقصى والحرمان الوجيع. فإذا كانت الديمقراطية الدواء الناجع، فما هذا الذي نسمعه من صخب الشكاية والتهديد؟ ما هذه البراكين الفائرة ضمن أنظمة المساواة التي سنت بدماء الأنام؟ وما بال موقف العمال إزاء أصحاب الأموال يشبه موقف الشعب إزاء الأرستقراطية في القرن الماضي؟
سئل صولون الشارع اليوناني يوم وضع أسس الديمقراطية: «أتظن أنك أعطيت أهل أثينا أحسن نظام ممكن؟» فأجاب: «بل أعطيتهم أحسن نظام يوافقهم.» وقيل إنه لم يكن يطمع في نفوذ نظامه أكثر من مائة عام. وقال آخرون بل كان يتوقع تغييره بعد عشرة أعوام. ويحسب صولون من حكماء اليونان السبعة، فلا عجب إذا هو لم يثق من دوام القانون لأنه يعلم - وهو الحكيم - أن طيبة الإنسان فردا كان أو جماعة، متبدلة متحولة متكيفة مع الأحوال، وأن القوانين توضع للأفراد وليس الأفراد بموضوعة للقوانين.
وإزاء حركات الدول في داخلها وفي خارجها، إزاء حرب الأحزاب وسخط المراتب وتربص الطبقات، إزاء حاجة المدنية وإنتاجها وما تفنيه من جديد وتحييه من قديم، إزاء الفروق الجوهرية والكره الطبعي وضرورة الحرب والمناضلة، يقف المفكر متأملا، وإذ تتعالى إليه أصوات الهاتفين وضجيج الغاضبين، ترتسم في الفضاء أمامه صور الشارعين يكتبون الأنظمة، ويسنون القوانين متفائلين مستبشرين. فينظر إليهم صامتا وفي نظره هذا السؤال الذي لا جواب عليه: «أين المساواة التي تدعون؟»
الفصل الخامس
الاشتراكية السلمية
طالما كانت النظريات المجردة والمذاهب الفلسفية مستودعا لمختلف الآراء يستخرج منها ما لا يتفق مع مرماها الأساسي أو ما يناقضه. ومن الأدلة على ذلك أن الاشتراكية مقتبسة من مذهب «هجل» الفيلسوف الألماني. وما الفلسفة الاشتراكية أو المادية الماركسية - كما يسمونها أحيانا - إلا تحريف الفلسفة الهجلية تحريفا قد يكون مقصودا ليتلاءم وحجة ماركس الكبرى في ثقته بفوز الاشتراكية التي أقامها على ما دعاه المادية التاريخية أو الأساس المادي التاريخي
matérialisme Historique
وهاك شرح هذه المادية التاريخية التي شاد عليها ماركس عقيدته:
سبقه المصلحون فقالوا بتدرج العالم ورقيه بالعوامل الفكرية والأدبية والأخلاقية، فنفى ماركس ذلك ليثبت أن كل تطور في السياسة والتشريع والأخلاق والفكر ناتج عن التكيف الآلي والتحول الاقتصادي. أي إنهم أرجعوا الرقي المادي إلى أصل معنوي، فقال هو بالعكس وجعل التغير الداخلي وكل تغير سواه آتيا من التطور الآلي والاقتصادي؛ لأن مبدع الأحوال ومحدث الانقلابات هو الاحتياج البشري؛ ذلك الاحتياج الذي يستنبط صنوف التصرف ويستخدم وسائل القوة ليظفر بتنظيم الاجتماع على ما يقضي به الزمان والمكان. فالفن والصناعة على أنواعهما من لوازم الحياة العمرانية وهما يفرضان بتقسيم العمل، فينتج عن هذا تغاير الوظائف الموجد المراتب الاجتماعية. وتتطور النظم في التاريخ على هذا النمط فتسود كل مرتبة - خلقتها الوظيفة طبعا - في أشد أدوار الاحتياج إليها؛ لذلك ساد رجال الدين وذوو الشرف الموروث يوم كان الدين كل شيء، وكان الملك سليل آلهة تخاطب العباد من وراء ستار الهياكل، وتنفذ الأوامر، وتسن الشرائع على لسان الكهنة والعرافين. وتسلط رجال الحرب يوم كانت البلاد في خطر إزاء هجمات الغازي لا يرده غير اليد المسلحة بالقوة والنار. وغلب أهل المال يوم استولوا على موارد الخير ومصادر الثروة. أما سيادة الغد فلليد العاملة التي لولاها لوقف اليوم دولاب الصناعة فشلت حركة العمران.
هذه هي «المادية التاريخية» التي تضمن لماركس وقومه تغلب الاشتراكية في المستقبل على الأنظمة الأخرى. ثم إن حركة المعاش تدور بالإنتاج، وما الإنتاج العالمي الضخم بعمل فرد أو جماعة أو شعب، بل هو عمل جيش العمال المنتشر في جميع أنحاء الكرة الأرضية ينتج الثروة ويمون العالم. وهو أمام هذا الخير الفائض فقير تعس شاظف العيش، ضئيل الممكنات، محروم الوسائل، يعمل ويكد وليس بواثق من قوت غده. فإذا كان الطور جديدا، والإنتاج جديدا، والثروة جديدة، فلماذا تظل شروط العمل قديمة؟ وإذا كان الإنتاج مشتركا، فلماذا تكون الاستفادة منه فردية؟ لماذا تشتغل الألوف والملايين ليتنعم الآحاد والعشرات؟ لماذا تتلامس الثروة والفاقة، والبذخ والعري، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء؟ إن في هذا التناقض رأس الأوجاع الحاضرة ومصدر المشاكل الاجتماعية المختلفة. فقام دعاة الاشتراكية يعالجون الأمراض ويحلون المشاكل إنصافا لبني الإنسان وتعزيزا ل «المادية التاريخية». وأنشئوا يكونون شركات التعاون ويؤلفون نقابات التضامن لمحاربة الأثرة الرأسمالية. حتى إذا ما توفرت لديهم القوة الكافية لم تعد الاشتراكية حكومة في الحكومة كما يسمونها الآن، بل أصبحت الحكومة الوحيدة القائمة على أساس المساواة بين الجميع، وحذف فروق الدرجات والمراتب، وتكسير قيود الوطنيات والأديان والثروات والامتيازات. •••
يؤاخذها كثيرون - حتى المعجبون بما فيها من المبادئ السامية - بما يشينها من أوهام ونظريات تحول دون صيرورتها نظاما شاملا نافذا. غير أنها تظل عملية في بعض أغراضها. ولكن دعنا حينا من العمليات والنظريات؛ فالاشتراكية أقدم من ماركس وهجل والقرن الذي تتابعا فيه، إنها موجودة في الطبيعة، هي والفردية والنظم الأخرى جنبا إلى جنب. لقد ابتدأت الوحدات الإثنوغرافية بها حياتها الاجتماعية يوم كان أفرادها في غفلة الفطرة لا يرون ما بينهم من تعاريف الفروق، ثم تطورت إلى الملكية فما عداها. ولكن إن اعترى الاشتراكية الكسوف وراء النظم السائدة على تعاقب الغير فقد ظلت الفكرة منها ترود أدمغة الفلاسفة والكتاب. هي التي أوحت إلى أفلاطون كتاب «الجمهورية» فكانت فيه أرستقراطية يتساوى عندها المحاربون والأماثل والموالي. وأما طائفة العبيد وما حاذاها من الطبقة الدنيا فمنهمكة طبعا في الأعمال الحقيرة، غريبة عن الكمال الأخلاقي الأسمى الذي ينزع إليه أهل «الجمهورية» وقد ترابطوا للوصول إليه بروابط الاشتراكية والمساواة. هم جماعة حكماء لا يقيدهم متاع الدنيا ولا يربطهم نسب أو قربى، تخلصا من تلك الأنانية العائلية التي تخلق الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالأمة فالوطن، وتتسع هنا وهناك حتى يصير الاحتكاك بين مظاهرها منشأ الخلاف والحروب.
ومن تلك الكتب الشهيرة «يوتوبيا» ثومس مورس و«مدينة الشمس» لتوماسو كمبانلا، و«اليوتوبيا الجديدة» لويلز الإنجليزي معاصرنا الذي ما فتئنا نطالع طلي كتاباته الجامعة بين حقائق العلم وبدائع الخيال مما يشوق المفكرين.
ولم تكن الاشتراكية خيالا في الكتب فحسب، بل نفذت قانونا خضعت له جماعات وقفت حياتها للفلسفة أو العلم أو العبادة أو حب الإنسانية. منها المدرسة الفيثاغورية في بلاد اليونان، وجماعة الهشنيين على شطوط البحر الميت، والترييث؛ أي زهاد اليهود في مصر، والغنوستيون، وكثير من الجمعيات الرهبانية وغير الرهبانية ذات الصبغة الدينية أو المختفية وراء المظاهر الدينية. ومنها في الشرق المزادقة والخوارج والإسماعيلية والقرامطة والحشاشون والوهابية ... إلخ. وإن كانت هذه الجمعيات الأخيرة أقرب إلى الفوضوية منها إلى الاشتراكية، أو هي الوسط بينهما. بيد أن الاشتراكية لم تظهر قبل اليوم، كما هي اليوم دستورا منظما تنظيما علميا دقيقا في جميع فروعه، يجاهر بغايته الرهيبة التي هي قلب الحكومة، ونقض النظام، وهدم المجتمع الحالي من أساسه. ليس في بلد أو في شعب أو في جنس أو في قارة، بل في جميع البلاد والشعوب والأجناس والقارات ليقيم على الأخربة نظاما جديدا، ويمد سلطانه إلى جميع أنحاء المعمور فتخضع له الأمم قاطبة مترابطة بالوحدة الاشتراكية الشاملة وأخوة المساواة التامة. إن هذه المضاربة الاجتماعية الكبرى لأول مضاربة من نوعها في التاريخ، ولا يعادل الطمع فيها إلا إقدام أتباعها القائلين بصلاحيتها ومشروعيتها التي يزعمونها المشروعية الطبيعية الوحيدة، وأن ما عداها تعسف وطغيان واستغلال الإنسان للإنسان.
أقول الاشتراكية حاصرة في هذه الكلمة جميع المذاهب المدعوة باسم موجديها في الغرب، بل باسم الذين أحدثوا فيها بعض التغيير والتعديل. وسواها من المذاهب ذات الفروق المهمة ومنها ما يرمي إلى اشتراكية الأملاك ورءوس الأموال فقط، ومنها ما يعمل لشيوعية رءوس الأموال وشيوعية استهلاكها جميعا؛ لأن جميع هذه المذاهب تتفق في المسألة الجوهرية، وهي هدم الملكية الفردية وإقامة الملكية الشيوعية؛ فيمسي الفرد غير مالك بصفته فردا مستقلا، وإن أصبح مالكا من حيث هو جزء من مجتمع تتوزع الخيرات بين أفراده على قاعدة التسوية. أما نزعات طالبي تحقيقها فعلى كثرتها تنقسم إلى قسمين رئيسيين، أحدهما أقوى من الآخر كثيرا، غير أن قوته لا تنفي وجود نده، وهما: النزعة الألمانية الثوروية، أو الماركسية التي انقلبت في الروسيا بلشفية، وموجدها ماركس العظيم؛ والنزعة السلمية التي يجوز أن تنعت بالفرنساوية لأن جل أهلها أفرنسيون - وإن وجد بينهم من قرب إلى الماركسية، أو من شغل الوسط بينها وبين دعاة الإصلاح السلمي. •••
الاشتراكية السلمية كالثوروية ترمي إلى تغيير النظام القائم ولكن بوسائل غير حادة، بل بإدخال أعضائها في الهيئات النيابية والإدارية والقضائية يعدلون ما أمكن تعديله، ويكثر عددهم مع الزمن حتى تصبح يوما أعنة الشئون في أيديهم، فيسنون نظامهم وينفذونه دون استباحة أرواح وسفك دماء. ولقد ولدت الروح الاشتراكية الجديدة مع الديمقراطية الجمهورية في الثورة الفرنساوية التي استفزت في آن واحد الحماسة الوطنية وحماسة توحيد جميع الأوطان. وظلت تلك الروح نامية في فرنسا وسويسرا وإنجلترا وألمانيا حتى خطا بها لوي بلان - صديق فكتور هوغو - خطوة واسعة سنة 1839 إذ أعلن أن غايتها هي حماية العامل من جور صاحب العمل، وجعله قادرا على الإنتاج مستقلا فيما سماه «المعمل الاجتماعي». وأنشأ برودون بنك التعاون المدعو «بنك الشعب» سنة 1849 فانضم إليه عشرون ألف مساهم في ستة أسابيع، ولكن لم يطل أن حكم على برودون بالسجن عقابا على بعض كتاباته، فهرب إلى جنيف فهبط بهربه مشروعه؛ ومنذ ذلك الحين وزعماء الاشتراكية الفرنساوية يتعاقبون معدلين من المذهب ما لا يتفق مع أحكامهم دون أن يتحولوا عن الغاية الجوهرية وهي القضاء على رأس المال والتسوية بين جميع أفراد المجتمع.
وتنضم إلى هذا الحزب السلمي الاشتراكية الأمريكية وزعيمها هنري جورج الذي لم يجد لإزالة الاضطراب الاجتماعي من وسيلة أفضل من إثقال كاهل أصحاب الملك بضرائب تعادل إيراداتهم تقريبا، كأنهم «محصلون» لخزينة الحكومة. على أن تجعل هذه الضرائب رأس مال للعمال يستغلونه في معامل اشتراكية فتتعطل الصناعة الفردية شيئا فشيئا لنقص الأيدي العاملة. غير أن هنري جورج لم يقل لنا هل يقبل أصحاب الملك تأدية تلك الضرائب، وهل تقبل الحكومة فرضها على الذين يملئون خزائنها؟ وإذا هي قبلت، فهل تتنازل عن مثل تلك الثروة لترسمل من غير ربى تلك الطبقة التي تحاربها في قوتها العظمى؟ ولو رفضت الحكومة ورفض أصحاب الملك فماذا يكون؟ أليس أنه إذن يدوي صوت ماركس الرهيب وتخفق الألوية الحمراء فوق جماهير الثائرين؟ •••
ويصح أن يذكر في سياق الكلام على الاشتراكية السلمية «الحزب الاشتراكي المصري» الذي أعلن بروغرامه في شهر أغسطس المنصرم، فكان مسالما إلى حد أغاظ الأستاذ عزيز ميرهم - سكرتير الحزب الديمقراطي - من جهة ، وتخوف لتكونه المحافظون وعلى رأسهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني - شيخ السادة التفتازانية - من جهة أخرى؛ فقامت بين هذه النزعات الثلاث مناقشة أسفرت عن أمر واحد، هو أن جميع المتناقشين محقون فيما يدافعون عنه؛ فالمحافظ محق في محافظته، والمعتدل مصيب في اعتداله دون أن يكون تطرف المتطرف بمستهجن؛ لأن مذاهبهم هذه ومئات المذاهب الأخرى وجوه للفكر الإنساني يختفي وراء كل وجه منها قسط من الحقيقة، وأجزاء من كلية الحياة ذات ألوف الأنحاء والمناهج. فالرأي الواحد يعبر عن احتياج فرد أو جماعة، وما كانت الحقيقة يوما محتكرة لفرد، ولا الإنسانية محصورة في جماعة.
قلت إن الأستاذ عزيز ميرهم قام يؤدب الاشتراكية المصرية ويحثها على «استكمال اشتراكيتها»، ليس بصفته سكرتيرا للحزب الديمقراطي، ولكن بصفته الشخصية المجردة (وقد يكون في هذا ما يخطر الحزب الديمقراطي بانفصال أحد أعضائه عنه عندما تنضج الاشتراكية في هذه البلاد)، ولقد أجاب سلامه أفندي موسى - أحد أعضاء الحزب الاشتراكي - بما يدل على تصميم الاشتراكيين المصريين على المسالمة وعلى أن رائدهم الإصلاح التدريجي:
ومع تمنينا نجاحهم (البولشفيين) في تجربتهم العظيمة فإنا لن ننصح بالطفرة، وسيكون رائدنا التدرج والتطور. ولا شك أن الاشتراكية المصرية ستكتسب لونا خاصا بتأثير الوسط المصري والمزاج المصري لا يمكننا ولا نرغب في تعيينه الآن، وإنما نأمل أنها تسير في خطة تواد الطبقات فيها أكثر من نصيب التباغض؛ فلا ينبغي أن يفهم الغني من حركتنا أنه خصم لنا نسدد إليه سهامنا؛ فإن الغنى والفقر نتيجتان للنظام الحاضر، والاشتراكية بإنقاصها من حقوق الغني من الجهة الواحدة ستزيد في حقوقه من الجهة الأخرى؛ فهي ستضمن له حياة خالية من هموم العيش ولا تكلفه سوى شغل ساعة أو ساعتين في اليوم، وأظن أنه من الممكن أن نقنع طبقة كبيرة (!!!)
1
من الأغنياء الحسني النية بأفضلية الاشتراكية على النظام الرأسمالي الحاضر، فلا يحتاج الاشتراكيون إلى اتخاذ خطة عدائية نحو الأغنياء.
وأما ما سألنا عنه الأستاذ هيكل عن كيفية تطبيق الاشتراكية على الأراضي في مصر، فهذا مما يسهل الجواب عليه: فإن في القطر المصري نحو خمسة ملايين فدان مغل يشتغل فيها نحو عشرة ملايين نفس، فلو فرضنا أن بضعة من أغنياء أمريكا ذوي الملايين ألفوا شركة واشتروا جميع أراضي القطر المصري، أكانوا يرضون بتشغيل عشرة ملايين عامل لاستغلال هذه الأرض، أما كانوا يكتفون بمليون عامل أو أقل من هذا العدد فيستخدمونهم بواسطة آلات بخارية عظيمة للزرع والري والحرث والحصيد؟ فهذه الشركة المفترضة هي الحكومة الاشتراكية، فإن القطر المصري يكفي زراعته نصف مليون عامل تقريبا إذا اعتمدنا في زراعته على الآلات وفرضنا أنه عزبة واحدة يملكها مالك واحد.
ومن البديهي أننا في نظام اشتراكي لا نخصص نصف مليون عامل للزراعة ونترك سائر الأمة في بطالة إجبارية، فإن تعميم التربية سيمنع عددا كبيرا من شباب الأمة وصبيانها عن الشغل، ثم إن زيادة السكان المطردة ستضطرنا إلى الصناعة، وهذه ستتطلب عددا كبيرا من العمال لا يمكن الحصول عليه الآن؛ لأن الزراعة بكيفية ممارستها الحاضرة تحول بينهم وبين مزاولة أي عمل آخر.
فالنظام المنشود للاشتراكية الزراعية هو النظام الميكانيكي، وبواسطته يخف عبء العمل الزراعي ويتحرر عدد كبير من العمال يستطيعون بذلك الشغل في المصانع، وطريقة الملك الفردي الحاضرة تحول دون الانتفاع بالآلات الحديثة. والفرق بيننا الآن وبين نظام اشتراكي هو الفرق بين رجل يعتمد في رحلته على ركوب الجمل وآخر على ركوب القطار؛ فزيادة الإنتاج التي تطلبها زيادة السكان لا تكون إلا باستعمال الآلات الكبيرة، وهذه لا يمكن استعمالها إلا في نظام اشتراكي.
2
هذا ما يقوله الاشتراكي المصري الذي حذا حذو هنري جورج وسائر الاشتراكيين المسالمين - ابتداء من سان سيمون إلى أوسيب لوريه - في الاستكانة عند أمله بنجاح مساعيه ولم يزد. ترى لو لم تقنع تلك «الطبقة الكبيرة من الأغنياء» فماذا يحدث؟ أوتراهم لم يزيدوا لأن السكوت أفصح من الكلام في بعض المواقف؟
الفصل السادس
الاشتراكية الثوروية
خرجت الاشتراكية الثوروية من دماغ ماركس كتابا بين سطوره بقع الدماء ولهب الحرائق ونار المقذوفات، كما خرجت بالاس أثينا آلهة الحرب والحكمة غادة مدججة بالسلاح من دماغ أبيها جوبتر إله الآلهة. ذلك الكتاب المدعو «رأس المال»
Das Kapital
هو إنجيل الاشتراكية الحديثة، ولم يبدعه مؤلفه إبداعا بل استخرج أهم عناصره من الفلسفة الألمانية ومن الاشتراكية الفرنساوية، يضاف إليها تأثير الجمعية الشيوعية البركسلية السرية التي كان ماركس هو ورفيقه إنجلس ينتمي إليها بعد إبعاده من باريس، وإلى الجمعية الديمقراطية الدولية العامة، فضلا عن كتابات الاقتصاديين الإنجليز وتطور حركة العمال في إنجلترا، التي ابتدأت بتأثير روبرت أون
Owen ، مؤسس الاشتراكية الإنجليزية، وهو رجل وقف ثروته البالغة اثني عشر مليونا لتحقيق نظرياته.
ماذا يبغي ماركس وأصدقاؤه إنجلس ولاسال وويتلنج وغيرهم المنادون بالجمهورية الاشتراكية، الموجدون بين الطبقات حربا ما فتئت تذكيها بلاغتهم النارية، والتي ستفضي حتما إلى زلازل اجتماعية فظيعة؟ ما هي غايتهم من إلغاء فروق الوطنيات، ومحو حدود البلدان، وتكوين اتحاد العمال في جميع الأقطار؟
الاقتصاد دولاب تدور به آلة الحياة الاجتماعية بفروعها ومظاهرها المختلفة. وليس الاقتصاد هنا ليعني التوفير، ولكنهم يريدون به - حسب الاصطلاح الحديث - طريقة الإنتاج والتبادل. ينتج المرء ما يستطيع إنتاجه ليبدله بما يحتاج إليه من ضروري ويصبو إليه من كمالي؛ فيتمكن بعدئذ من الاستمرار على الإنتاج في نوع العمل الذي يجيده. ولقد كان التبادل يحصل مباشرة بلا وسيط في الجمعيات الأولى، غير أن تقدم الحضارة جعل المال من الأهمية بحيث أصبح واسطة التبادل الوحيدة التي يستحيل بدونها الحصول حتى على أهم الضروريات، وتفنن الناس في حشده لا سيما عن طريق الصناعة التي ارتقت آلاتها ارتقاء عظيما، واستولى أهل رأس المال على منابع الإنتاج فصاروا لا هم لهم سوى سرعة الإنتاج والإنتاج بأبخس الأثمان لتزداد الثروة بالأرباح السريعة؛ وهذان الشرطان متوفران في استخدام الآلات؛ فغدا العامل بذلك مرغما على قبول أحد اثنين: فإما الموت جوعا لضيق اليد، وإما العمل بأقسى الشروط ليعيش عيشة كلها كد وحرمان وظلام. •••
لقد مرت الأمم والجماهير في قرون العبودية فلم يبق منها على الأرض غير آثار الملكية والأرستقراطية، حتى هب الشعب في الثورة الفرنساوية يطالب بالمساواة مفاجئا المستأثرين بالسيف والنار، وانبرى نابليون الديكتاتور يلقي بذور الثورة أينما حل ويوسع من دوائر الحرية ما يسر انبساط شوكته. قبله لم يكن يحارب إلا الأشراف، ولم يكن يدخل البلاط إلا الأشراف، ولم يكن يرشح للمناصب الرفيعة إلا الأشراف؛ فرفع الصغار من ذوي الكفاءة إلى أعلى الدرجات، وجعل من ذوي البسالة والمهارة الحربية مارشالية وقوادا عظاما، وخلق ألقاب الشرف للممتازين بمواهبهم الطبيعية؛ فشعرت الأمة - بما فيها طبقة العمال - بأن الحرية السياسية التي اعترف لها بها سنة 1789 متحققة.
بيد أن النظام الديمقراطي قصر على تعريف المساواة بين الطبقات والأفراد في الحقوق وأمام القضاء، ونادى بالحرية النظرية التي تحرم الاستعباد النظامي على ما كانت تجوزه القوانين في الماضي، ولكنه فاته أن هناك عبودية اقتصادية أشد هولا من أية عبودية سياسية. وماذا عسى تنفع الحرية السياسية من ليس لديه ما يؤهله للتمتع بها؟ عبودية الأمس ضمنت له الغذاء والسكن والكساء، أما حرية اليوم فسلبته هذا الضمان ولم تنله ما يحتاج إليه. وما كانت قيمة المرء الاجتماعية والسياسية إلا لتوازي قيمته الاقتصادية؛ أي ما يملكه من مصادر الثروة؛ لأن الذي لا شيء عنده عبد لمن عنده شيء، وهو يواصل العمل ساعات طويلة، ويفني قواه في الكد والإجهاد، فلماذا يبقى عبدا؟!
يبقى عبدا لأن الحكومة اهتمت إلى اليوم بالإنتاج وأهملت التوزيع، وليس النقص في قلة الإنتاج فهو موفور، إلا أن سوء التوزيع يمنح قوما فيصبحون موالي، ويحرم قوما فيمسون عبيدا؛ أولئك يتنعمون ولا يعملون، وهؤلاء يبذلون حياتهم في العمل بلا أمل ولا عزاء؛ لذلك أشهر الاشتراكيون الحرب على جميع القوانين السارية لينيلوا الذين حررتهم السياسة في ثورة الأمس الحرية الاقتصادية في ثورة اليوم، وذلك بالتوزيع على الجميع سواء بسواء؛ فالتوزيع إذن قلب قلب النظام الاشتراكي، وغاية غايته. ولما كان توزيع نتاج العمل ذاته غير مفيد لمنتجه في كل الأحوال، فقد جعلوا التبادل على قاعدة ما سماه ماركس «الوقت الاجتماعي»؛ أي عدد الساعات المستهلكة لإنجاز العمل، وحذفوا المال واسطة الاحتكار والاستغلال وعامل الطغيان الأكبر - على ما يرون - وقضوا على الثورات الفردية وما لها من مصارف، وشركات مالية ، وصناديق توفير، وبورصات ... إلخ، ليوحدوا الثروة في يد الحكومة أو المجتمع، وشعارهم هو هذا «لكل ما يخصه ولكل نتيجة عمله»، ولكنهم علموا أن مثل هذه المساعي لا تنجح في بلد واحد سوى نجاح وقتي، وأنه لا تلبث الحكومات الأخرى أن تزاحم الحكومة الاشتراكية في أسواق التجارة وتتألب عليها فتقضي على أنظمتها وتطارد مؤيديها حتى الهلاك؛ ولهذا قرروا نشر دعوتها في جميع أنحاء المعمور لتتم بها تلك الثورة الدولية الكبرى والانقلاب العام العظيم الذي تنبأ عنه كروبتكن الروسي منذ أكثر من ثلاثين عاما، فقاموا ينادون باستقلال الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها، وما هذا الاعتراف إلا تمهيد للاتحاد العالمي الشامل تحت راية الشيوعية المطلقة. •••
أما الواسطة لبلوغ هذه الغاية فهي القوة؛ لأنهم يرون أن النظام الحاضر يحول دون الإصلاح المنشود بمحافظته على الحقوق الفردية وتأييده امتيازات أصحاب المال والعقار الذين يملئون خزائنه بالضرائب، والأنانية الحيوية تحمل هؤلاء وذاك على استخدام كل وسيلة ممكنة للاحتفاظ بممتلكاتهم؛ فالقوة وحدها تتغلب عليهم، ولتنظيم هذه القوة أنشئت شركات التضامن ونقابات التعاون، وغرضها الدفاع عن حقوق العمال حتى إذا آن الأوان قاموا بالحركات الثوروية المطلوبة. وقد استحسن ماركس الديكتاتورية لتخويل هذا الانقلاب الواسع ما يحتاج إليه من الشدة والإتقان، بل رأى أنه يتحتم حصر الأمر والنهي في يد زعيم مطلق. ولا شك أن ماركس استنبط المنصب الديكتاتوري لموافقته لفطرته ومكانته؛ هو الذي كان ديكتاتور الاشتراكيين يوم أسس الإنترناسيونال
1
الأولى، وإنما انفض الأشياع يومئذ من حوله لمغالاته في الاستئثار والطغيان.
بين الناس اليوم شعور قوي بأن اليهود هم الذين ابتدعوا الاشتراكية وما والاها؛ انتقاما من الشعوب والأجناس والأديان التي حملت عليهم واضطهدتهم عشرين قرنا لم يكن لهم فيها حرية ولا وطن ولا كيان، وسعيا لنشر سلطانهم على العالم، فعملوا في تأسيس الإنترناسيونال التي سميت المؤتمر الدولي الأحمر، وأقاموا إزاءها في فيينا تحالف الممولين الذي دعي المؤتمر الدولي الذهبي - ذلك ليقبضوا على ناصيتي القوة في المعمور: وفرة العدد ورأس المال. ويستشهد الناس على صدق شعورهم بأن كبار زعماء البلشفية من اليهود، كما أن كبار الممولين في العالم يهود يمدون البلشفية بالمساعدة السرية رغبة في نشرها وبقصد ابتزاز المال أيضا؛ لأن الثورة العامة مضاربة مالية وسياسية فيحاء تروج سوقها الصحافة العالمية بلهجات متناقضة - وزعماء الصحافة يهود كذلك.
فيدافع اليهود عن نفوسهم قائلين إن رئيس الشركة الصحافية الكبرى المستر أستون ليس يهوديا، وأن «شركة الأنباء البرقية الأمريكية» ليست إسرائيلية، وأن مستر هرست صاحب سلسلة الصحف والمجلات ليس يهوديا، وأن اللورد نورثكليف قطب أقطاب الصحافة البريطانية ليس يهوديا، ومثله صاحبا «الشيكاغو تريبيون» وغيرهما كثيرون. وإذا كان هناك ممولون من اليهود فلماذا لا يذكر حيالهم روكفلر ومورغن وريان ودوبون وهنري فورد وويرهاوز، و15 ألفا سواهم من الأمريكان أصحاب الملايين الذين ليسوا يهودا؟ وإذا كان بعض زعماء البلشفية يهودا، فألوف من صغار تجار اليهود فقدوا أموالهم ولاقوا حتفهم في الثورة الروسية بعدما ذاقوا في عصر القيصرية من الإهانة والعذاب والتجرد من الحقوق السياسية والقضائية؛ فإن هم ثاروا فإنما فعلوا كمرتبة اجتماعية وليس كطائفة دينية، وإذا كان تروتسكي وسڤرولوف وغيرهما من البلشفيين يهودا، فليس في لنين وتشيتشرين وكراسين وكلينين قطرة دم إسرائيلي. وأكثر قادة المنشفيك - أعداء البلشفيك الألداء - يهود، ومثلهم زعماء الديمقراطية الدستورية المنافسة حكومة السوفييت. وإن البلشفيين يكرهون اليهود لأنهم ينظرون إليهم كمحافظين على النظام الرأسمالي، وأن اليهود محبون للقانون وهم في البلاد اللاتينية - حيث تراعى الحرية الدينية - أقرب الناس إلى حفظ النظام وأشدهم تعلقا بالعائلة والفردية والملكية.
ذكرت هذا الاتهام والدفاع لأنه نقطة ذات أهمية خاصة في هذا الاضطراب الشامل، ليس استجلاؤها بالممكن في الحاضر ولن يكشف أسرارها إلا المستقبل. •••
بينا كانت دول الحلفاء قائمة في وجه دول الوسط تهتف باسم الديمقراطية والحرية، قال الكونت أوكوما - أحد كبار ساسة اليابان - إن المدنية الأوروبية التي يزعم الحلفاء الدفاع عنها آخذة في التهدم والانهيار تحت معاول الاشتراكية. نعم، العالم يرى اليوم انتهاء طور وابتداء طور آخر. وقد قامت الديمقراطية المتطرفة تكتسح الديمقراطية المعتدلة التي لم يطل عمرها أكثر من قرن واحد بعد قرون الملكية؛ لأن الأمم نضجت بسرعة في هذا العصر، ولا شك أن سرعة النضج ستتزايد في العصور المقبلة.
لا بد أن تزول حضارة اليوم كما زالت كل حضارة سبقتها، ولا بد أن يحور النظام الحاضر كما حور كل نظام قبله. ها إن ظل الاشتراكية يمتد فوق هذا الجيل ونجد آثارها حولنا أنى نظرنا ففكرنا. لقد انتشرت شركات التعاون في كل مكان حتى في أقاصي اليابان، وهبت الشعوب تتسابق في الإنتاج الصناعي وفي التهذيب الفكري جميعا. واهتزت الأجناس لعاطفة الكرامة القومية؛ فعقد حتى زنوج أفريقيا مؤتمرا في لندن لتقرير المطالبة بما تطالب به أرقى أمم الجنس الأبيض من سيادة قومية واستقلال. ولقد كثرت جيوش العمال العاطلين في الشرق والغرب، وتعددت فتن الشيوعيين المهاجمين صرح الحضارة بفئوس الثورة والعصيان. ومهما جد النظام الحالي في الترميم، فالبناء متداع سيسقط في مستقبل قريب أو بعيد؛ لأن روح الاشتراكية انطلقت إلى أعماق النفوس واستقرت فيها منها المطامع والآمال.
يا للمطامع والآمال المتشابهة في قلب الإنسان! عند كل انقلاب وكل تحول يأتينا النظريون بالإصلاحات المنمقة والدساتير المزركشة مستشهدين بالعلم والفلسفة والتاريخ، وضامنين لنا بتنفيذ قوانينهم عصرا ذهبيا يدر على العباد لبنا وعسلا. ولكن هذا التاريخ وهذه الفلسفة وهذا العلم الذي يستهوون باسمه ألبابنا ويلطفون آلامنا، هو الذي ينقض وعودهم وينكرها. إن في «المادة التاريخية» التي يستند إليها ماركس وأصحابه أكبر مكذب لأماني الاشتراكية؛ لأنها إذا صدقت من حيث ظهور المرتبة الضرورية للاجتماع على المراتب الأخرى، فهي كذلك تثبت بلا إثبات وجود التغاير الملاصق للإنسانية في جميع تطوراتها.
إن تقسيم العمل ملازم لأنواع العمل ولدرجة عقول الناس ودرجة كفاءتهم، وهذا التقسيم المحتوم هو الذي يخلق المراتب المختلفة؛ لذلك كان هذا المذهب القائل بالمساواة أظلم ماحق لها، وكان هذا المذهب الداعي إلى الإنصاف أشد الطغاة طغيانا. أترى المساواة في سبك العسجد والطين في قالب واحد؟ وهل الإنصاف في تجريد الغني ليعطى المعدم؟ وهل الحرية في توحيد العقل الكبير والقلب النبيل مع الفكر السخيف والنفس الزحافة؟ وهل يقوم حسن التوزيع باستبدال صك بصك وعهد بعهد؟ وما هي لوائح «الوقت الاجتماعي» التي سيبدل كل بواسطتها نتيجة عمله؟ ما هي إلا شكل جديد من الأوراق المالية! ومن هم أولئك الموزعون؟ أهم ملائكة؟ فالملائكة سقطوا! أهم آلهة لتضمن لنا نزاهتهم وعدالتهم؟ وإذا كانوا على ذلك الكمال، فكيف ينظرون إلى ماركوني - مثلا - وإلى الخامل الذي يتطفل على الناس، بعين واحدة؟ ولو فعلوا فسووا بين النسر والضفدع، أفلا تكون هذه المساواة أعظم خيانة لأرقى صفات الإنسان، وأسخف ظلم لما هو فخر الإنسانية وشرفها؟
يقولون إن الشيوعية لم تنجح في الروسيا لأن الشعب ليس على رقي. التاريخ وراءكم أيها الفلاسفة الكلاميون، التاريخ القاسي والوراثة القاهرة. وهل الشعب فرد واحد ليرتقي كله على نمط واحد وفي درجة واحدة؟ ولماذا لم يتطور على هذه الصورة في عصور الملكية وما تلاها؟ ألأنه لم يتعلم؟ وهل كل من يتعلم يعلم؟ وهل كل من يدرس يحفظ؟ وهل كل من يحفظ يحسن التصرف بمحفوظاته وممتلكاته؟ إذن ماذا تفعلون بالفروق الشخصية؟ ماذا تفعلون بوجوه العقول ووجوه الاستعدادات، ووجوه الملكات التي لا تقل اختلافا عن وجوه الأجساد؟ لماذا لستم جميعا مثل لنين وكروبتكن وماركس ولاسال، حتى أنتم الأذكياء المتعلمون المخلصون؟ وماذا تفعلون بالأجسام العليلة، أتساوون بينها وبين الصحيحة؟ وماذا تفعلون بالأعضاء البتراء، أتقولون إن الفردية شوهتها؟
إن أكبر ما تعاب به الاشتراكية المتطرفة هو نفخ الخامل والكسول والجبان، وإيهامهم أنهم في الدنيا الكل في الكل. تعاب بالقضاء على تلك المكرمات الإنسانية وتلك الصفات النبيلة؛ صفات القناعة والنزاهة والخضوع والرقة والتهيب أمام الأشياء العظيمة الجليلة التي هي أثمن إرث في متحف العصور، والمناداة بصلاح ما يناقضها. المخلصون من دعاة هذا المذهب ينسبون خمول الخامل وكسل الكسول وجبن الجبان إلى جهله وعدم توفر وسائل التقدم له لينهض من دركته الفكرية والأخلاقية. وقد يصح ذلك في بعض الأفراد، ولكن ماذا نقول في الذين هم على هذا الانحطاط المعنوي والحسي رغم علمهم أو توفر أسباب العلم لهم، ورغم وجاهتهم وعظمتهم الاجتماعية؟ إن الذل الأخلاقي موجود بين الملوك وجوده بين الصعاليك، فما شأن المساواة في ذلك؟! نعم، إن عيوب الاجتماع كثيرة، نعم، إن الأوجاع الحالية مريرة، ولكن الدواء سيكون أمر والإصلاح أوجع؛ لأنه سيظلم كثيرين من الأبرياء ويقضي على جمال كثير. غير أني من الذين يثقون بالمستقبل أيا كانت أغلاط الحاضر؛ لأن التحول رائد الكون.
الغد للاشتراكية بلا ريب، ولكنها ستغلب على أمرها بعد أن تنيل الاجتماع ما تستطيع أن تأتي به من التعديل. الغد للاشتراكية، ولكنها لن تكون أوفى من الديمقراطية في تتميم عودها. الغد للاشتراكية، ولكن من بين الطبقات المتساوية بالمساواة الجديدة ستنهض فئة فتعلو وتطفو على الطبقات الأخرى، طبقة أرستقراطية المستقبل التي ستخلقها الكفاءة الشخصية وتقسيم العمل المحتم اليوم والأمس وفي الغد. الغد للاشتراكية، ولكن الفردية ستظل منتصبة قربها على الدوام. الغد للاشتراكية، ولكن ما بعد الغد لنظام آخر سوف ينبثق من قلب الاشتراكية التي هي مذهب إنساني؛ فهي بذلك خاضعة لطبيعة الإنسان تملأها الحسنات والسيئات ويستحيل فيها الكمال، إلا إذا بقي لها ذلك الكمال مثلا أعلى تتبعه ويظل هاربا أمامها إلى منتهى الدهور.
الفصل السابع
الفوضوية
نشرت جريدة «التيمس» في أوائل يوليو سنة 1920 رسالة بتوقيع كروبتكن الروسي أنكر فيها أعمال البلشفية التي دعاها «ديكتاتورية حزبية» جازما بفشلها؛ فسارعت الصحف العالمية المنددة بالبلشفية إلى تناقل هذه الرسالة مستعملة إياها كوسيلة لبث الدعوة ضد السوفييتية، ومعلقة عليها بما يعني أن كروبتكن الذي قضى عمره مضطهدا منفيا لخروجه على حكومة القيصر انفض عن شيوعية وطنه، وأخذ يناهضها بعد أن كان نازعا منزعها مواطئا لها. وفي هذا التلميح من أرباب تلك الصحف أحد اثنين: فإما تضليل لمن لا يعرف وجوه الاختلاف بين المتمردين السياسيين، وإما جهل محض توحدت عنده الاشتراكية والفوضوية.
لأنه على مقربة من الثوروية الاشتراكية ثوروية فوضوية هي أقل من تلك شيوعا ولكنها أشد حرارة وأقوى وحشية. وكلاهما انبثق من الديمقراطية شاعرا بألم العمال ومرجعا أصل الشقاء إلى استبداد صاحب رأس المال بالمأجور؛ ذلك الاستبداد الذي هو - على قولهما - مبعث افتقار المجاميع في سبيل تنعم أقلية ظالمة جائرة. وكلاهما يجاهر بتعذر إصلاح هذا المجتمع القائم على الملكية الفردية، ويقول بوجوب تقويضه وقلب النظام الحالي رأسا على عقب. إلى هنا يتفقان ثم يظهر بينهما الخلاف في أساليب التقويض وفي كيفية تنظيم المجتمع المقبل. الاشتراكية تريد تسخير الحكومة وإرهاب رأس المال لتقليل ساعات العمل وتحسين حالة العامل ريثما يتم لها القبض على زمام الحكم، والفوضوية تريد الفتك بذوي المناصب لا لسبب آخر سوى أنهم ينفذون قانونا يكرهه الفوضويون. الاشتراكية تعظم المجموع وكأنها لا تهتم بالفرد إلا لأنه جزء من مجموع هو كل شيء في تقديرها، والفوضوية تقول باستقلال الفرد استقلالا تاما يكاد يتلاشى المجموع حياله. الاشتراكية تريد قلب النظام الرأسمالي لتوطد مكانه نظامها الاشتراكي، والفوضوية تريد قلب النظام الرأسمالي وكل نظام سواه، تريد إلغاء كل قانون على الإطلاق أخلاقيا كان أم سياسيا أم اجتماعيا. هي الفوضى؛ أي التفويض إلى الفرد إدارة شئونه دون مراقبة أو سيطرة. وتنظر إلى الاشتراكية كنوع جديد من الثكن والأديرة ودور الحكومات فتنازلها مثلما تنازل الأرستقراطية والديمقراطية، ولعلها في نظرها أشد الأنظمة خطرا واستئثارا. فلئن كانت الاشتراكية نقدا للمجتمع الحاضر فالفوضوية نقد النقد وهدم الهدم وزلزال الزلزال. فهل من عجب بعد هذا إذا ما استنكر كروبتكن تلك «الديكتاتورية الحزبية» وهو الفوضوي المقاتل كل سلطة شيوعية كانت أم قيصرية؟ •••
ترى أي المفكرين نصدق، أروسو الهاتف بالعودة إلى الطبيعة لأن الإنسان خير بطبيعته ولكن المجتمع أفسده بأنظمته، أم هوبس المصرح بأن الإنسان ذئب للإنسان وأنه طوي على الفوضوية لا يقمعها ويحسن ضبطها فيه سوى الحكم المطلق: الحسن دون سواه؟
إذا تحرى الباحث أحوال العالم بلا مشايعة ولا تحزب، وجد من الناس الصالح والطالح، الذكي والأبله، المسالم والمتحامل، الخائن والوفي، فوجب عليه قبول كلا المذهبين كمتمم أحدهما للآخر. وليس هوبس بالغبين ولا بالمتعسف؛ لأن اللانظام ساير النظام في جميع أدوار التاريخ. وليست الفوضوية لانظاما موقوتا، بل هي حنق وعصيان متتابع يرمي إلى نقض أركان المجتمع؛ فنجدها في اضطرابات آلت إلى تغيير النظم في بلاد اليونان والرومان يتخللها ذلك الطور الخاص المدعو بالديماغوجيا ؛ أي حكومة الرعاع، وهو في نظر أرسطو خامس أنواع الديمقراطية.
1
ذلك الطور الموجد عهد الطغاة
Tyrans
وقد بدأ في بلاد اليونان خصوصا في القرن السابع والسادس قبل المسيح. وكثيرون من أولئك الطغاة أمثال بيزيستراتس وأرثاغوراس وبيرو وبوليكراتس كانوا أولا زعماء الفتنة ودعاة التحريض ضد حكم الأماثل أو الأقلية، ثم وصلوا إلى الحكم الديكتاتوري الأعلى؛ فكان عهدهم مقدمة لعهد الديمقراطية المعتدلة. أما الطاغية - باليونانية
Tyrannos - فكان في فجر التاريخ محاربا في الغالب يكبره الشعب؛ لأنه أنقذه من غارة المهاجمين وحفظ له حرمة الوطن، فلا يطول حتى يختاره زعيما يتكلم باسمه في مناقشة العظماء والكبراء. ثم تغيرت الحال وصار الزعماء يبلغون أعلى المراتب بفصاحتهم البيانية - موهبة ما فتئت ترفع ذويها إلى الأوج. ولدينا من ذلك في هذا العصر أمثال الدكتور ويلسن ولويد جورج وبلفور وسواهم من فطاحل الخطابة الجليلة الشأن.
وظل الاضطراب الديماغوجي يقلق هاتيك البلاد بدافع التنازع الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، حتى وضع له الفتح اللاتيني حدا بتأييد الممولين؛ لأن نظام البلديات الذي قامت به الإدارة الرومانية كان نظاما تيمقراطيا؛ أي إنه كان يرتب الناس وفقا لثروتهم، وبديهي أن يخص الفاتح ذوي اليسار بالحكم والمسئولية. غير أن الأمة الغالبة لم تسلم من هجمات الديماغوجيا لأنها دهمت هي أيضا بتنافس الطبقات؛ فتعددت في سجلاتها أسماء الطغاة، حتى إن المؤرخين يعتبرون إصلاحات الأخوين الطاغيين طيبيريوس وكابوس جراكس استهلالا للدور الثوروي الذي تخطى بالجمهورية الرومانية إلى الإمبراطورية أو القيصرية.
تتالت جماعات الخوارج عند مختلف الشعوب مظهرة استياءها بصنوف جمة من التمرد والمقاومة إلى أن وصلت الفوضوية إلى طورها العصري. ويرى أهلها في فلاسفة الفردية في القرن الثامن عشر كروسو وسواه المخبرين والمبشرين، ويكادون يستخرجون شعارهم من بيتين كتبهما ديدرو أحد مؤسسي الإنسكلوبيذيا الفرنساوية ومفادهما: «لم تصنع الطبيعة من الناس الخادم والمولى، وأنا لا أريد أن أسن الشرائع ولا أن تسن لي.»
2
ولكن صاحب الوجه النظري من هذا المذهب هو الذي يدعوه كروبتكن «أبا الفوضوية الخالد»، هو برودون الفرنسوي الذي أنكر الملكية الفردية والملكية الشيوعية جميعا، قائلا إن الأولى هي استبداد الأقوياء بالضعفاء، وإن الثانية هي استبداد الضعفاء بالأقوياء، وإن حكومة تقر الملكية أيا كانت وتحافظ عليها لحكومة لا يطلب إصلاحها بل يجب قلبها. برودون يرمي إلى هدم السلطة في جميع دوائرها وأشكالها زمنية كانت أم روحية؛ فلا جيوش ولا محاكم ولا إدارة ولا كنيسة، يريد إبدال التقوى بالعدل والتدين بحسن الأخلاق. ومتى ألغيت السلطة حل محلها التعاقد الحر الاختياري فينظم المجتمع نفسه هيئات مركزية لأصحاب الحرف والفنون والصنائع، ويرتبط بروابط معرضة أبدا للحل والتبديل دون الخضوع لقوة غربية. وهو يستحسن الفقر لأنه يحث على العمل. وليس ليرى الرقي في الهناء والرخاء المفسد بل فيما يكتسبه المرء من صفات الرجولة وما يعززها من استقلال ذاتي وإدراك حصيف لمعاني العدل والمساواة؛ فيعيش الفرد عندئذ حرا مستقلا فينتج حسب استعداده ويستهلك حسب احتياجه، وكذا تسير الإنسانية في سبيل التقدم لا تقيدها شريعة ولا يذلها أمر ولا نهي.
أما نظرية «قيمة العمل» فواحدة عند برودون وماركس جميعا، إلا أن هذا سخر بذاك؛ لأن الماركسية وإن خيلت منادية بالمساواة، فهي في الجوهر نظام ديكتاتوري له صرامة القضاء والقدر وقسوة التطور المحتوم الذي تقوم عليه، فتبدو إزاءها الآراء البرودونية في الحرية والمساواة والعدل خواطر شعرية روائية شفافة تذوب كالضباب عند شروق الشمس.
ماركس يقول بالثورة الصريحة بلا مداورة، أما برودون فتختلط عنده الثورة بالإصلاح ويتغلب هذا أحيانا، ولا سيما عندما ينصح للعمال أن يتصافوا وأصحاب رأس المال. إلا أن هذا لا ينفي أن برودون ذا المواهب النادرة والنفس المتلظية هو الذي شوش العقول وألهب القلوب وأطلق مسموم السهام، وأن من فوضويته النظرية العلمية تولدت الفوضوية العملية المحسوسة؛ فوضوية سار باكونين الروسي في سبيلها فاندفع وراءه المندفعون. كان شعار برودون: «لا إله ولا سيد.» فأضاف إليه باكونين: «ولا عقيدة ولا شريعة.» •••
ظهرت بوادر الفوضوية العصرية في الإنترناسيونال المنعقدة مؤتمراتها بمدينة لاهاي في أواخر سنة 1872؛ وذلك بانسحاب أحد الزعماء - باكونين - الذي عيب الاشتراكية أن تكون حكومة ذات مجلس عام له سلطة ديكتاتورية مطلقة على اللجان الفرعية. تعود إليه هذه للبت في شئونها، ومرجع الأحكام إلى ماركس القائم على رأس التحالف زعيما لا مرد لقضائه؛ فانحلت الإنترناسيونال، وتشتت شمل الأعضاء فمالأ بعضهم الزعيم الألماني، وشايع آخرون الزعيم الروسي. وكما ظل ماركس منطلقا في تتميم مشروعه انبرى باكونين ينشر دعوته؛ فأوجد التآلف الحر وانضم إليه كثيرون من مختلف البلدان وأصدروا صحيفة «الطليعة»
Avant-Garde
التي لم تكن أن عطلت؛ فأصدر كروبتكن بالاشتراك مع إليزه ركلو الفرنسوي صحيفة «المتمرد» ذات الأثر الشديد في نشر الدعوة الفوضوية في أوروبا وأمريكا سنة 1878، لما كان عليه كروبتكن من مقدرة كتابية وبلاغة مستعرة، فضلا عن أنه ذو مذهب قيم في ذاته ينم عن طبيعة طويت على الخير وحب بني الإنسان؛ فكانت شديدة الثقة بالمستقبل.
كروبتكن كجميع الفوضويين يقول بالتحرير من النير الاقتصادي والحكومي والديني، وليس ذلك التحرير عنده حلما من أحلام الغواية بل هو نتيجة سيفضي إليها اتجاه الاجتماع الحالي. أما وسيلة التحرير فهي الثورة - الثورة الجديدة المختلفة عن كل ثورة سبقتها. تلك لم تتعد بلادا شبت فيها، أما الثورة الجديدة فإذا شبت في بلد امتدت بسرعة إلى ما يحيط به وألهبت أنحاء العمران. وهو يؤثر الثورة على الإصلاح لأن في الإصلاح قبولا مضمرا للماضي الذي يتعدل بالإصلاح قليلا أو كثيرا؛ بينا الثورة تسير إلى الأمام سابقة لتنصب على محجة المستقبل أعلاما. ولما كانت الجرائم لا تقترف إلا ضد الملك ورأس المال (؟) فبإلغاء العلة تلغى النتيجة. والأخلاق الفوضوية تجعل الناس أذكياء أحرارا صالحين عادلين (؟) وإذا بقي هناك أشرار يميلون إلى الأذى، فالطب يصدقك الخبر وهو القائل إنهم مرضى ومجانين. فبدلا من العقوبة والسجن عالجهم بالمؤاساة والإخاء، ودع الجميع في راحة واستقلال يرتفعون إلى آفاق معنوية مجهولة.
وهكذا تطور ذلك التمرد الذي كان عند روسو حنقا على الشرائع، وعند ماركس سخطا على رأس المال لا على أهله، فانقلب عند باكونين هتافا بالحرية الطليقة مع كره للفتك، وبدا عند كروبتين إدراكا لطبيعة الثأر دون أن يحكم له أو عليه، إلى أن قرر المؤتمر الفوضوي المنعقد في لندن سنة 81 شرعية كل وسيلة لإبادة النظام الحالي واغتيال أئمته. ويقال إن صحيفة «الحرية» في أمريكا كانت ترشد الخدم إلى كيفية تسميم مواليهم حتى عن طريق الأحذية!
على أن الفوضوية كجميع الميول البشرية تصطبغ بصبغة الشعب الذي يقبلها؛ فبينا هي حادة لجوجة في تشيكوسلافيا - مثلا - وإيطاليا وإسبانيا، إذا بها هادئة مسالمة في أسوج ونروج والدانمارك. ومع أن في لندن جماعة فوضوية صغيرة كانت تصدر منذ أعوام صحيفة «الفوضوي» الأسبوعية، ومع أن إنجلترا وسويسرا ما فتئتا كعبة الفوضويين الأجانب ينشئون فيهما الأندية، وينشرون الصحف بلغات متعددة لبث الدعوة في أوطانهم؛ فإنهما لم تقاسيا من هذا المذهب ما قاسته الدول الأخرى؛ ذلك لأن طباع أهليهما باردة عملية تنزع خصوصا إلى الإصلاح الاقتصادي. وليس الشيوعيون في إنجلترا بالفوضويين. والمظاهرات التي جرت هناك منذ شهور ناتجة عن كثرة العمال العاطلين الذين وفر عددهم وتفاقم خطرهم في أكثر الممالك الكبرى. أما الفتن والاعتصابات فمتعلقة بالمسائل الاشتراكية، أو راجعة إلى أسباب محلية خاصة. غير أن الفوضوية تتفق وطبيعة العامل الأمريكي؛ لذلك شاعت بين أولئك القوم، واشترك أعضاؤها في عقد المؤتمرات وتهيئة الاعتصابات الفرعية تمهيدا للإضراب العام الشامل. •••
ولعلها مزاج أكثر منها مذهبا، تلك الفردية المضخمة المثبتة نفسها بالخروج على كل شريعة، الجاحدة حتى مجالس النواب؛ لأن الشعب بالإنابة والتمثيل إنما يقيم عليه موالي. «وهل يكون الثور حرا إذا هو اختار جزاره؟» فجمعياتها بلا رؤساء وبلا هيئة تنفيذية، ولا يجمع بين الأعضاء سوى وحدة المشرب والمطلب والرغبة في تداول الصحف الفوضوية، والاحتفال حينا بعد حين بأعياد «شهدائهم».
ولقد فحص لمبروزو كثيرين من فوضويي شيكاغو وسواهم، فرأى أن حالة الفوضوي المجاهد حالة عجز وسقام، وما ظهوره بمظهر الجسارة والمفاداة سوى من «وثبات» الضعفاء المتهورين؛ فمنهم المبتلون بالأمراض المزمنة، ومنهم ذوو العريكة الخشنة الوعرة التي يعتاص عليها التطبع بطبائع الوسط، ومنهم ذوو الجمود الأخلاقي غير الشاعرين بهمس الضمير ودبيب الوجدان، ومنهم الجاني حبا بالجناية كالفوضوي الألماني موست الذي يرى فيه لمبروزو المذكور أحط أنواع الجناية، ومنهم أهل الباطنية والروحانية، وأهل الوحي والرفعة مثل باكونين وكروبتكن، ومنهم الفدائي المقتنع بأنه إنما يضحي بنفسه خدمة لبني الإنسان.
وليفسحوا مجال الدخول إلى الفردوس الموعود تراهم يكردسون الجثث على الجثث، ويجندلون الصريع فوق الصريع!
إن الفوضوية مذهب محزن مروع، وهو على حداثة نشأته ذو تاريخ مضرج بالدماء.
الفصل الثامن
العدمية
العدمية
Nihilism
اسم قديم كان وما زال يطلق على المذاهب الفلسفية القائلة بأن لا شيء موجود ولا شيء يمكن أن يعلم - على نحو مذهب غورغياس اليوناني أستاذ ثوسديدس كبير المؤرخين، ومذهب فيختي الألماني تلميذ كنت وأستاذ شلنج. وقد أنالها تورجنيف الروسي معنى جديدا؛ إذ نعت بها في رواياته أشخاصا تناولتهم الحالة الفكرية الشائعة يومئذ في طبقة المتعلمين الروس. ولئن ألف الناس الخلط بين الفوضوية والعدمية والنظر إليهما سويا كمنتهى التطرف والحدة الثوروية، فلأن حكومة القيصر الأوتقراطية أوجدت هذا الخطأ وأذاعته لتبرير ما تأتيه من ضغط ومقاومة، فوحدت في أحكامها جماعة المتنورين الأحرار ودعاة التهويش واللانظام.
على أن العدمية في وجهها الأولي غير الفوضوية وإن أشبهتها. أما وجه الشبه ففي كونهما معا مغالاة في إثبات الفردية وإنكارا لكل سلطة وقيد وشريعة، وأما وجه الاختلاف ففي أن العدمية بدأت مسالمة بعيد جلوس القيصر إسكندر الثاني سنة 1855 وبقيت فكرية معنوية إلى سنة السبعين. وكان القيصر المذكور ارتقى العرش مجاهرا بميله إلى الإصلاح والتسوية بين رعاياه، فما تم له في سنوات حكمه الأولى إخراج بلاده من حروب اشتبكت بها مع الدول حتى تحول إلى الإصلاح الرئيسي الذي طالما نادى به وهيأه كتاب الروس في القرن المنصرم، فجاء لوطنهم أهم حوادث التاريخ في ذلك القرن؛ وهو أن القيصر ألغى نظام الاسترقاق سنة 1861، والثلاثون مليونا الذين كانوا يعملون للموالي ولا أرض لهم ولا حرية أصبحوا مستقلين عن سادتهم، ورأى الأحرار في ذلك فاتحة عهد جديد فبعثت المواهب والقوى، وبرزت العقول الراجحة، وكثر عدد المفكرين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والشعراء والروائيين، وقاموا يحاربون ليس الأثرة السياسية بل الأثرة الأدبية في جميع أنواعها، ويحررون الفرد من قيود الدين وطغيان المجتمع ومزاعم الوسط ، بما فيها المزاعم الثوروية الذائعة يومذاك في أوروبا الغربية. وبعد أن هاجموا العقيدة والاصطلاح هاجموا العيلة مشعرين المرأة التي قضت حياتها أمة بأن جميع صنوف الحرية - ابتداء من حرية الحب - حل لها. •••
ومن أساطين هذا المذهب ومن أنبلهم غاية وأكثرهم بديعية بطرس لفروف، الذي يرى أن الحوادث الاجتماعية في تطورها العلمي أو الأخلاقي والفلسفي الثلاثي إنما منها ما يظل في نمو مستمر، ومنها ما يقف جامدا فيتقهقر إلى رجعية الانحلال والفساد. وبين ذلك النمو الحي والبقاء الميت يتعدى الماضي على المستقبل فيختل التوازن، ويظهر في ذلك الطور حدث جديد هو ما يسمونه المرض الاجتماعي. وليس لعلوم الاجتماع من غرض سوى معالجة هذا المرض وضبط التوازن في آلة المجتمع. ولقد كان حكماء الماضي يرون الخلاص بالاحتفاظ بالتقاليد، وإذا بالأحفاد يجدون في ذلك العلة الكبرى؛ إذ لا جمود في الخليقة. ولما كان المجتمع تابعا للطبيعة في سنة التحول تحتم عليه إحداث نظم تلائم احتياجات معقولة هي كل يوم في ازدياد.
يهدم التطور صورا قديمة ويبدع صورا جديدة على يد أشخاص يخلقهم التطور نفسه وقل من فهمهم في محيطهم، وكلما تعالوا إلى المثل الأعلى أفرط العامة في الاستخفاف بهم ودفعهم عنهم؛ لأنهم «لا يشبهون جميع الناس». على أن نفوذ هؤلاء الأفراد وفوزهم النهائي إنما يتعلق بما عندهم من شجاعة وإقدام واعتقاد بأن الحرية الفردية المطلقة يجب أن تكون دعامة المدنية الجديدة الحقة؛ لأن الإنسان حر، ولو كانت فكرة الحرية وهما لوجب الأخذ بها لأنها وهم ضروري للرقي.
وللرقي عنده وجهان: النظري والعملي. والعمل على غير معرفة وبال؛ فيجب تفهم الرقي في معانيه كلها سواء أوجدت عندنا أم رأيناها حوالينا، حتى إذا ما تشبع الفكر منا معرفة واستنارة انضممنا إلى أقلية المجاهدين في اتجاه معين ضد سخافة العصر واستئثار الماضي.
الفردية في هذا المذهب عظيمة أهميتها خالد أثرها؛ فالأفراد أحدثوا الحاضر الذي كان بالأمس يخال مستحيلا وقد أصبح اليوم وقوعه عجيبا؛ فعلى كل أن ينهض مناديا بفكرته قائما بتنفيذها بنشاط وقوة، ولتحمل بعد ذلك موجة القدرية التاريخية شخصيته ونتائج أعماله إلى محيط الشخصيات والأعمال العامة؛ فذلك لا ينفي أن إقدام الفرد الواحد أو إحجامه إنما هو في بناء المستقبل جزء لا ينحل.
ومع اعتراف لفروف بأن المشاكل الحاضرة موفورة التعقيد صعبة الحل، وأن الشرط الأعظم للإصلاح هو تبديل النظام الساري بنظام يرضي مطالب العمال وسواهم؛ أي إنه مع قوله بالحرية والمساواة في معناها العصري، فهو يعلق على الوحدة العائلية أهمية كبيرة. ورغم إنكاره جميع أنواع الحكم ومجاهرته بأن السيطرة الدينية لن تعود إلى ما كانت عليه، فهو أبعد المفكرين عن حذف الأخلاق الحميدة من الحياة الاجتماعية، بل هو يدعو كلا إلى تثقيف نفسه وإصلاحها لتكون حياته مثالا ولترى نظرياته محققة في أعماله. أما غرضه من تعظيم الفرد في فرديته وخبرته وعمله واستقلاله، فهو تهيئة عيشة حسنة هنيئة لملايين الأشخاص الضئيلة المجهولة المؤلفة المستقبل طوعا أو كرها. وهو لا ينفك عن مخاطبة الفرد قائلا: «جاهد لذلك المستقبل ولا تنس أن المندحر إنما هو ذاك الذي يعترف باندحاره.»
جهاد الأفراد لخير الإنسانية دين وغاية عند لفروف. وهو وإن كان عدميا متطرفا، إلا أن مبادئه الأخلاقية ومثل حياته الشخصية غيرت معنى العدمية التي لم تعد تعني النفي والإنكار على الإطلاق، بل نفي «المرض الاجتماعي» الحاضر وإنكار «تعدي الماضي على المستقبل». بيد أنه راسخ الإيمان يثق بمستقبل خير فيدعو إلى تهيئته بصوت محرض مقنع.
وأي متعلم زكي في هذا العصر وفي كل عصر لا يكون عدميا بعض العدمية على طريقة لفروف؟ أي مستنير يعلم أن التطور ناموس الحياة ولا يبصر الجثث الاصطلاحية التي ينحني المجتمع أمامها، والزوائد الخرافية التي تشين الأديان، والخلل في محاسن القوانين والشرائع؟ أي نفس تتألم وترى الآخرين يتألمون فلا تنهض محتجة سرا أو علنا؟ ومن ذا الذي يسميه الناس عظيما فتتناقل ذكره الأجيال إن لم يكن ذاك الذي يقضي على قديم ضار ويوجد جديدا نافعا في عالم الأدب أو العلم والتشريع والاجتماع والاختراع؟ ولكن ما كل جديد بالنافع ولا كل ثائر بالصائب؛ فكم من تمرد ليس إلا تطاولا ومباهاة! وكم من معدم كالجزار أو الجلاد يفعل ليتقاضى الأجرة! وكم من مدمر لا يسوقه سوى ما دفع ذلك الخامل إلى إحراق هيكل أفسس البديع يوم ولادة الإسكندر! •••
ولئن لم يكن جميع دعاة الثورة وأشياعها من درجة لفروف، فإن تلك العدمية لم تكن من الروس مكابرة وتعنتا، بل نتيجة لازمة لما قاسى الشعب من الجور وهضم الحقوق، ولم تجئ سنة السبعين حتى انتهى للعدمية طور الفكر وابتدأ طور العمل؛ ذلك أن الإصلاحات التي وعد بها القيصر ظل بعضها حبرا على ورق، ونفذ البعض الآخر تنفيذا ناقصا جاء بآلام جديدة دون أن يشفي الآلام الماضية؛ فأخذ العدميون ينتشرون في المدائن والقرى مختلطين بالشعب ليحيوا حياته ويطلعوا على احتياجاته فيبتون بينه روح الثورة بالمنشورات والخطب والأحاديث والتعاليم. بينا كان المنفيون اختيارا أو إرغاما يوصلون إلى الأمم صوت الشعب طالبا الانعتاق من نير الأوتقراطية. وقد انضمت النساء إلى الرجال في نشر المذهب الجديد وإنهاض تلك الجماهير الكثيفة من هوة الذل المألوف والعبودية المقبولة. وتعددت مراكز التآمر في أنحاء أوروبا، ومن أهم تلك المراكز مدينة زوريخ؛ حيث كثرت الطالبات الروسيات الثائرات، فجاءهن الأمر القيصري بمغادرة سويسرا والعودة إلى الروسيا، فعدن يذعن تلك الآراء المهيجة في الداخل، وكانت دعوتهن الممتزجة بدعوة الرجال صراخا وعويلا يستحث النفوس على الكفاح لخلاص الوطن وخلاص الإنسانية؛ فالتهبت القلوب، واستبسلت الجماهير، وامتدت تلك العدوى الوطنية إلى الكهول والشيوخ من ذوي الوجاهة والحيثية والمستقبل المكفول كالقضاة والضباط وسواهم.
وخشي القيصر تفاقم الشر فأوقف تنفيذ المشروعات الإصلاحية مطلقا يد الحكومة في الضغط والمقاومة لقمع الهياج؛ فاشتدت العدمية من جهة أخرى لا سيما بتأثير باكونين محرض الفلاحين على المطالبة بإتمام الإصلاحات الدستورية، وعصيان بولونيا، وانتشار الاشتراكية في أوروبا؛ فإذا بالعدمية فوضوية مجازفة مستهترة، وإرهاب دموي جنوني يناصب الكيان السياسي، غير متبصر ولا هائب في ارتكاب الجنايات، واغتيال ذوي المكانة، والتدمير والفتك المعتزم. وقد بلغ حده الأقصى في مقتل القيصر نفسه سنة 1881.
ومرت الأيام والعدميون يرهبون بالاغتيال والهدم والتشويش ويرهبون بالتعذيب والنفي والإعدام، وبقيت الحكومة تطاردهم ذرافات ووحدانا وتقضي على الزعماء والرؤساء منهم، حتى أدركوا الحقيقة القاسية وهي أنهم في هذا الصراع الهائل مغلوبون؛ فقل عددهم شيئا فشيئا، وضعفت حدتهم، واختفت حركتهم متوحدة والحركة الفوضوية إزاء الرأي العام.
ولكن أيعني الاختفاء الفناء؟ ترى ألم يبقوا عاملين سرا في الروسيا وفي مختلف البلدان بعد انسحابهم من ميدان الإرهاب العلني؟ ألم يكن لهم ولو يد خفية تجهيزية في الانقلاب الأعظم الذي لم تستجل منه بعد العوامل الكثيرة المشتبكة؟
منذ نصف قرن تقريبا كتب محرض كبير من محرضي الروس - وأعني به هرزن الذي توفي في باريس - كتب يقول ما معناه: «إن مطلب الروسيا هو مطلب أوروبا بأسرها؛ الثورة الاجتماعية. غير أن أوروبا التي نفدت حيويتها في نهضتين عززت بهما تاريخها لا تعيش الآن إلا بعلاقتها بالماضي الذي تتعثر فيه أنى توجهت؛ فلن تصطلح حتى يصلحها أحد بلدين؛ فإما ولايات أمريكا المتحدة، وإما الروسيا التي دخلت حديثا في ميدان التاريخ، والمستقبل لهذه حتما لأنها طليقة من التقاليد ولم تنم بعد النمو الموافق لطبيعتها، ولسوف تغتنم الفرص لإظهار ما عندها من القوى الفتية والمقدرة المدهشة فيبتدئ فيها الإصلاح والتعديل.»
من ذا يعرف لهرزن هذا الرأي ولا يحسبه نبوءة بعد الانقلاب البلشفيكي؟ لست لأزعم أن البلشفية أصلحت العالم، ولكنها من الحول والتهديد بحيث قبلت أن تفاوضنا وتتعاهد معها الحكومات الأخرى ومنها الملكية المحافظة. وكيف لا يجيء بمثل هذه النبوءة من وقف على طبيعة الشعب الروسي وممكناته المتنوعة المكنونة؟ أذكر أني حضرت خلال الصيف المنصرم في كازينو سان استفانو حفلة خيرية لمساعدة المهاجرين الروس، وقد تشكل جوق رجال منهم لينشدوا بلغتهم بعض الأناشيد القومية. من ذا يستطيع التعبير عما تلازب في ذلك الإنشاد من جموح وشكيمة، وفاعلية وانفعال، وغم وذل ونصر باهر؟ من ذا يستطيع وصف تلك الوجوه يبدو فيها تارة الخشوع والتوسل، وطورا العتو والوعيد؟ تهب من أصواتها الأعاصير وتنفجر الصيحات، فيتزلزل المكان وتكاد تخر الجدران، فيدربها ترنيم هادئ على وتيرة واحدة كله حزن وتجلد وخضوع . ولا تلبث الريح الزعزعان أن تعود إلى الصعق والعصف الشديد ممثلة هدير البحار، وولولة العناصر، ووعورة المنحدرات، ورعب الآفاق الجوفاء. ولعلي أدركت في تلك الساعة - بل في لحظة من تلك الساعة - قوة النفس السلافية المصطخبة الصاخة، ولعلي فهمت في تلك اللحظة من الاضطرابات الثوروية والحدة البلشفية والأهوال النهلستية ما لا تشرحه المجلدات. وقد يكون أننا في تلك اللمحات السريعة نسبر من غور النفس ما لا نصل إليه عن طريق الاستقراء والتدليل. •••
كلا، ليس المتفائلون بالمغبونين ولا المتشائمون بالمتعسفين؛ فإن كل جماعة عكفت على جانب من الفطرة البشرية الكثيرة التناقض والتنوع. ألا ترى أن ذاك القائد الذي لا يأبه لمشهد الأشلاء يغمى عليه إذا شم رائحة الجبن، وذاك المحارب الذي اعتاد النوم على الصخور والحصى يأرق إذا تاهت وريقة ورد على أنسجة فراشه الوثير، وذلك المحرض الذي لا يرتوي إلا بدم الأبرياء يقضي ضحية امرأة لعوب مثل غامبتا ولاسال وغيرهما. ومن لا يذكر وقفة إمبراطور ألمانيا على مرتفع ينظر إلى ساحة القتال في غد معركة كبيرة، وما وقعت عيناه على الخراب والقتلى حتى هطلت دموعه قائلا: «لم أرد هذا!» فدعت صحف الحلفاء تلك الدموع ب «دموع التمساح». ولكنها ربما كانت دموعا صادقة كما صدقت بعدها حملات الألمان على أراضي بلجيكا وفرنسا؛ لأن التناقض في الطبيعة ولأن الحرب هي الحرب. هي صورة الحياة في أشد الهيجان والحدة فالصراع صارم لجوج. وإن أنت تمهلت رحمة بعدوك سبقك هو إلى الفتك بك دون رحمة ولا تمهل!
اجتمعت بعد الصلح بكاهن توفر فيه الصلاح والذكاء والعلم، كان حارب على خط النار ونال الميداليات والأوسمة. وإذ قلت له إنما كنت أتأثر له بنوع خاص بين أخبار الحرب هو خبر التطاعن بالسلاح الأبيض؛ ابتسم وأخذ يصف لي لذة الطعن والتجريح عندما تخترق الحربة جسم العدو، وأن من ذاق هذه اللذة مرة أو مرتين لا يستطيع الإمساك عن البحث عنها بهوس في المعارك غير مبال بالخطر. وزاد بما يؤيد الرأي القديم، وهو أن الإنسان إن لم يكن له من الدين أو من الأخلاق الفردية أو من القانون وازع وتمكن من أخيه، فالضواري دونه فظاعة وحيلة في ابتداع أساليب التعذيب، ليس للدفاع عن نفسه أو للانتقام والتشفي فحسب، بل أحيانا للذة القسوة والإيلام، أو لمجرد اللهو وقتل الوقت. وإن أكبر آفات الحرب المشروعة في نظره هي إطلاق تلك الغريزة الوحشية في الإنسان، وتشجيعه على إرضائها وتشديدها بمختلف صنوف التشجيع.
إن أهل المذاهب التدميرية يريدون للجميع ما حرم على الأكثرين؛ فهم ككل اختصاصي لا يرون من الأشياء سوى نقطة واحدة يحسبون بها الخلاص وبدونها الهلاك، والغاية عندهم تبرر الواسطة، وقد يوجد بينهم الثوروي الفاضل المدفوع بعاطفة حب الإنسانية؛ فتكون الأحوال وحدها مسئولة عن حدته، وعما يأتيه أو يشير بإتيانه من الجرائم؛ لأن من الناس الصلاح لا خوفا ولا طمعا بل بنزوعهم الفطري إلى الصلاح نزوع الموسيقي إلى الموسيقى والشاعر إلى الشعر، والرياضي إلى الرياضيات. ولكن أولئك أقلية صغيرة هي خميرة الدهور، والأكثرية الساحقة تحتاج إلى قانون يلجمها ويهذبها. إن الأنانية مصدر كل عمل، ولا يعقل أن ينفع المرء ويجاهد لمصلحة الآخرين دون أن يفكر في مصلحته الشخصية. وعندما يهتدي إلى ذلك الموضع الحساس من حياته فكثيرا ما يجاهد لنفسه باسم الجمهور؛ ذلك لأن الحسد يجاور الحاجة في الإنسان، وكما أن في قلبه جوعا إلى التودد والإعزاز وتوقا إلى أن يكون محبا محبوبا، ففيه كذلك قوة كبيرة للكره والتنافس؛ فقد يتمرد ويشكو ويثور لأنه مظلوم يطلب حقه، وقد يفعل أيضا لأنه خامل تلهبه الغيرة ولا يستطيع الوصول إلى مرتبة من هو فوقه، فيجرب المشاغبة والنقض والحرق والتشنيع، فإن نال بغيته فذاك، وإلا فقد حرم غريمه من النعمة؛ وذاك في النفس المنتقمة سرور كبير. وحتى بين المتآمرين على الهدم ترى كلا يشد الحبل إلى جهته.
حسن أن نعطف على التعساء وأن نتوجع للفواجع التي تمرر حياة الآخرين وحياتنا أيضا. حسن وواجب أن نسعى كل في بابه لإسعاد إخواننا وتحرير أنفسنا، على شريطة أن نعرف الطبيعة البشرية ونلم بكيفية معالجتها؛ إذ لا منفعة بحسن النية إذا هي قرنت بالجهل؛ فمرض الولد وسوء أخلاقه كثيرا ما ينتج عن حب الوالدة الجاهلة، وحب الدين مع التعصب أشعل المحرقات وأجرى الدماء، وحب الوطنية والإنسانية عند روبسبير وسواه جز أعناق النساء والأطفال والشبان والشيوخ. فهل جنت الإنسانية والوطنية والعقائد من وراء ذلك رقيا خصوصا؟
ذلك هو الإنسان. وتعاليم الأديان الكبرى السبعة لم تصقل منه بعد عشرات الدهور غير القشرة الخارجية. ونظرة إلى أحوال العالم ترينا كبائر الطمع والحسد والنهب والتضليل حبا بالأذى وطلبا للسيادة سواء بين الأفراد والأفراد، والجماعات والشعوب، والأحزاب والدول. وإن كان هناك من يحب الانزواء والمسالمة بفطرته فمن ذا يكفي الناس شر الناس؟ من ذا يكفي العقلاء شر المتطاولين إن لم يكن النظام وممثلوه؟ أي نظام؟ النظام الاجتماعي المقارب لنظام الطبيعة! فإن عنصر الحياة نفسه تدفق وانتظام معا، وإذا تعذر تعريف نوع النظام فهذا لا ينفي أن استبداد الفرد الواحد يؤثر على استبداد الجميع بالجميع. •••
أعترف بضعف هذا المنطق ووهن هذه الحجة إزاء إغارات الساخطين، وأعترف بضرورة الثورات أحيانا؛ ففي السلم لا تجرؤ الأفراد على العمل مهما رثت الأنظمة وبليت، وبعض المشاكل الاجتماعية لا يحل بغير هجمات الكواسر، كما أن بعض الأمراض المزمنة لا يشفى بغير العمليات الجراحية؛ فعند وضع دعائم المستقبل على أنقاض الماضي لا بد من قوة أولئك العتاة ووحشيتهم التي لا تتأثر لدموع النساء، ولا تخجل بضرب الفئوس.
تأتي الأزمات فترى الأمة نفسها عند هوة فاغرة؛ فينصح الحكماء والعقلاء بالرجوع إلى الوراء والسير بتبصر حول حرف اللجة، ولكن المجموع يتدافع هدادا كالبحر فيقتحم الحواجز والسدود، وتقع منه الصفوف الأولى فتملأ الهاوية ويسير الباقون فوق الجثث. والإنسانية غير ضنينة بأبنائها لأن قواها غير متناهية.
الثورات ضرورية لجرف النظم البائدة، الثورات ضرورية لتجديد القوى وإيحاء الجرأة والإقدام، ولكنها لا تنفع لغير ذلك. إن المذاهب الثورية من الاجتماع بمثابة الزعازع من الطبيعة والزلازل والطوفانات. ولئن كان لكل من هذه القوى فائدته في الخليقة رغم ما يجر من خراب ودمار ، فهل يمكن أن تكون مقذوفات البركان الفوار نظاما للساكنين حواليه؟!
كروبتكن! كروبتكن! أنت الذي كنت من أهل الوحي والرؤيا قبل أن تصير مليك المؤامرات السياسية، وتناسيت مرتبتك لتمتزج بالشعب شاعرا بجوع الجائع، ووحشة المنفى، ويأس المحكوم عليه، وعار المرأة الساقطة! أنت الذي عرفت أبهة بلاط القياصرة
1
وإكرام المجامع العلمية قبل أن تسجن في الحصن المطل على نهر النيڤا، وتهرب مجازفا بحياتك إلى حيث عشت فقيرا محتاجا تبتاع قوتك بعمل يدك! لقد أنكرت البلشفية، فهل قضيت راضيا عن المذاهب الفوضوية؟ هل ظللت على يقينك حتى حافة القبر؟ هل قضيت راضيا واثقا بأن المستقبل لجماعتك؟
وهمان كبيران يقودان الحياة؛ في أحدهما يحسب المرء نفسه حرا في العبودية على شرط أن تغير اسمها وشكلها - وإن ظل جوهرها ثابتا لا يتغير. وفي الآخر يعتقد المرء بصلاح البشر الفطري اعتقادا مطلقا. فهل تستطيع أن تقول الآن بعد أن شفت بصيرتك بنور الخلود أي الوهمين أقل خطرا؟ وأنت الذي كنت زعيم الوهم الثاني، هل تستطيع أن تنبئنا لماذا لا نفتأ نؤلم بعضنا بعضا؟ ولماذا - ما دام الناس صلاحا - قضيت أنت عمرك في محاربة «الصالحين»؟
الفصل التاسع
يتناقشون
الأشخاص:
السيدة جليلة:
معلمة مي في الماضي، فطنة، معتدلة الرأي.
مي:
تلميذة السيدة جليلة، وكاتبة مقالات «المساواة».
بلانش وأنتوانت:
فتاتان على أحدث طرز، رفيقتا مي في المدرسة، تتكلمان الفرنسوية دواما.
عوني:
نجل السيدة جليلة، اشتراكي متحمس، وذو قلب مخلص نبيل.
عارف:
أديب عرف الناس وتألم؛ فأدت به المعرفة إلى شيء من الجمود، ولكنه يخفي وراء مظاهر القسوة والتهكم طبيعة حارة صادقة خيرة.
الأستاذ سامي:
عالم فيلسوف.
سعيد بك:
من الوجهاء، ورئيس جمعية خيرية.
زكي أفندي:
من المتأدبين، لا فكر له أو له فكر يحجبه اعتناق كل رأي عابر وامتداح جميع الناس على السواء.
الزمان والمكان:
حوالي الساعة السابعة مساء في ردهة الاستقبال بمنزل والدي مي.
السيدة جليلة (وقد دخلت منذ هنيهة مع ولدها عوني، تعدل جلوسها باحثة في سرها عن كلمة تبدأ بها الحديث، شأن من يصل إلى مجلس صمت فيه المتحادثون عند مجيئه. والآخرون ينتظرون ببعض الارتباك وراء علامات التأدب ليستأنفوا الكلام. فتبتسم السيدة جليلة لمي ثم تدير الطرف في الحاضرين وتقول) :
كانت لهجتكم عند دخولي لهجة متناقشة ومجادلة، فأي المشاكل العالمية كنتم تحلون؟ (يبتسم الجميع الابتسامة الاجتماعية المناسبة ويتململون).
مي :
وصلت يا سيدتي عند احتياجي إلى دفاعك عني؛ لقد كان هؤلاء السادة يحاولون أن يحلوا بإنصاف مشكلة التغاير والتفاضل التي لا تحل، أما والظلم حليف العدل في الإنسان فكانوا يمرنون ظلمهم علي.
زكي أفندي (مسرورا باغتنام الفرصة ليتكلم) :
أشهد الله العظيم أنك أنت التي ربطتنا جميعا.
السيدة جليلة :
على ذكر التغاير والتفاضل أقول إني قرأت مقالاتك عن «المساواة» بمنتهى الاهتمام، وأنتظر الباقي منها لأدرك النقطة المعينة في فكرك، وقد هيأت من الاستنتاج والاستدلال ما هيأت لإيصالنا إليها.
مي :
النقطة المعينة؟ إذا دل بحثي على أن لدي شيئا معينا أقوله فقد فشلت حتى في التعبير عن رغبة ساقتني إلى معالجة هذا الموضوع الجموح.
سعيد بك :
جاهرت في كلمة التمهيد باستعراض خلاصة ما تعلنه الطبيعة والتاريخ والعلم لتستخرجي حكما مجردا من غير ما تحيز ولا اندفاع. أليس في ذلك تعيين لنقطة ما؟
مي :
بل في ذلك إعلان رغبة ومعاهدة إخلاص، ولكن ...
عوني :
ولكن؟
مي :
ولكن كم من رغبة نبديها مخلصين ونحسبها معقولة مقبولة ثم تمر الأيام فندرك غرورا تكونت منه تلك الرغبة، وحماسة لا يشفع بها إلا ذلك الإخلاص! (تأمل قصير)
كيف زعمت أن أستعرض خلاصة ما تعلنه الطبيعة والعلم والتاريخ، وأي إله أنا ليتبين لي ذلك؟ (خجلى)
ولكني عوقبت بغروري نفسه؛ إذ إني بتوغلي في البحث تحدو بي أبدا تلك الرغبة الحارة، كنت أزداد شعورا بأن ما أتلمسه من الخطوط التاريخية والعلمية والاجتماعية لن يوصلني إلى شيء (ضاحكة)
سوى إلى تلقي رسائل التعنيف والتقريع من حضرات القراء الذين يريد كل منهم أن أذهب مذهبه وآخذ برأيه. (تعود إلى التأمل)
حسبتني مقبلة على موضوع لي أن أعالجه على ما أريد، فإذا بالموضوع يعالجني قاذفا بي من تيار إلى تيار ، ومن حيرة إلى حيرة، ومن لجة إلى لجة. وها أنا ذا أردد سؤالا ألقيته على نفسي مرارا خلال هذا البحث: أين أنا الآن؟ أين أنا؟
عارف :
أي إنك تتساءلين: أين المساواة؟ أين أعثر على خيال المساواة؟
مي :
قد يكون هذا معنى سؤالي. قد وسعت دائرة البحث حتى ضاع فيها الخيال الذي أنشده. أو أن الدائرة التي أزعمها وسيعة اختنق فيها الخيال لضيقها فحلق فوقي وفوقها هازئا فلم أعد أراه وأسمع صوته.
بلانش (تتثاءب وتسأل رفيقها بالفرنساوية) :
عن أي شيء يتكلمون؟
أنتوانت :
عن الشيء الذي كانوا يتكلمون عنه عند مجيء السيدة جليلة.
عوني (هادئا في الظاهر، ولكن اهتمامه يبدو في نظره ولهجته) :
أتريدين أن تلمحي خيال المساواة أيتها الآنسة؟ أتريدين أن تسمعي أصواتا تناديها بلجاجة؟ إذن أقفلي باب مكتبك وانسي ما كتبت عنها وما يكتبون، ولا تكتفي بالنظر إلى السابلة من وراء سجوف النوافذ؛ فما تلك الحياة الظاهرة إلا حاشية بعد صفحة الحياة. اتركي كل ذلك وانزلي إلى ميدان الحياة السوداء حيث القلوب تدمى، والعيون تدمع، والقوى تضيع جزافا. امتزجي بذوي الأطمار البالية، جوعي مع الجائعين، احتاجي مع المحتاجين، وأصغي إلى الشكاوى والتوسلات تنطلق من بين شفاه الفقراء والمرضى والمحرومين انطلاق الدم من الكلوم البالغة. تفحصي عقولا تطلب من المعرفة والنور غذاء ولكن البؤس أقفل في وجهها أبواب المدارس، وحرمها الكتب والفنون وجميع مشاهد الجمال والرقي التي أوجدها الفكر الإنساني، (بشيء من التحمس)
وعندما ترين كل ما يتمتع به الكسالى الظالمون الذين احتكروا الصحة والهناء والرخاء لنفوسهم، عندما ترين جهود العمال وذكاءهم ونبل أعمالهم في الحرمان؛ إذن لا تسألين «أين أنا من المساواة؟» بل تعلمين أن الطبيعة خلقتك لتكوني اشتراكية وعينتك لتوقفي قواك في سبيل الإنسانية المرتفعة إلى عظمة المطالبة بحقوقها.
عارف (يصفق ضاحكا) :
أعد، أعد يا عزيزي عوني ليطول إعجابي بك! أؤكد لك أنك بموهبتك الخطابية هذه المقرونة برأسك الذي يشبه بانحنائه رأس زعماء الباطنية في القرون الوسطى، تستطيع أن تكون واعظا دينيا مفلقا يأتي بالخطب الرائعة في أتفه المواضيع الممكنة.
عوني (يخاطبه بمودة وإن ضمنت لهجته لوما) :
أتسمي موضوع البؤساء والمظلومين والمحرومين المطالبين بحقوقهم موضوعا تافها؟
عارف (بشيء من التهكم) :
ومن هم أولئك البؤساء والمظلومون والمحرومون الذين ما فتئتم تتاجرون باحتياجهم المزعوم؟ من هم أولئك الذين تحاولون إقناعنا وإقناعهم بأنهم تعساء وأن لهم حقوقا؟
سعيد بك :
سلني أنا أيها الفتى؛ فمركزي في الهيئة الاجتماعية، والوظيفة التي أشغلها في جمعيتنا أرتني ما لم يره الآخرون. البؤساء والمظلومون والمحرومون هم المرضى والعجزة الذين لا ملجأ لهم، هم الأرامل واليتامى الذين لا عائل لهم، هم الآباء الذين فرغت أياديهم وبيوتهم ولا عمل منه يرتزقون، آه! لقد رأيت ما يفطر القلوب!
عوني (تزعجه هذه الأوصاف التي لا أثر فيها لسند الاشتراكية الأعظم) :
المحرومون هم خصوصا الذين يعملون ليل نهار ليديروا حركة العالم، ويستغلوا موارد الثروة، ويقيموا بهجة العمران فتتنعم طائفة المحتكرين والأنانيين على حسابهم.
زكي أفندي (يحبذ هذا الكلام كما يحبذ كل كلام) :
صحيح، صحيح.
عارف :
لقد سمعنا هذا مرارا وتكرارا، فهل من جديد؟
عوني :
الحاجة واحدة لا تتغير، والفقر قديم لا تنوع فيه. البؤساء والمظلومون والمحرومون هم البؤساء والمظلومون والمحرومون، أفهمت يا عزيزي؟
عارف :
طبعا فهمت، فهمت وقنعت! أنا الفاهم رغما عنه، (يضحك)
أنا المقتنع رغما عنه، ومن ذا الذي لا يقنع بهذه الحجة المفحمة؟ (ينقلب جادا فجأة)
ولكن الحجة لا تفلح في الإقناع، وإلا أقنعتكم أن تدعوا الناس وشأنهم ولا تشجعوهم على الوقاحة والتطاول يوما بخطب رثائية، وبحيل كاذبة مغلوطة يوما.
سعيد بك (ينظر إليه من أعالي ثقته بأنه رئيس جمعية تعول المحتاجين) :
يظهر يابني - أدامك الله راتعا في بحبوحة الهناء - أنك قضيت عمرك سعيدا رغيد العيش فلم تذق أنانيتك ذل الحاجة والجهاد، كما أنك لم تبتهج بلذة الإحسان ومسح دموع الحزين.
عارف (تتجمع أفكاره على فكر واحد فيشتعل وجهه وتتألق عيناه) :
وكيف عرفت ذلك يا سيدي؟ من يدريك أني لم يكن لي يوما مثل سذاجتكم هذه - عفوا عن هذه الكلمة الجريئة! - من يدريكم أني ما تحجرت إلا لأن الناس استغلوا ليني حتى أمحق، وعالجوا عطفي حتى الاستنزاف؟ إنكم باسم الإحسان تبتزون المال من الأقوياء النشيطين كما تبتزونه من الكسالى المترفهين لتعطوا الذين لا حق لهم به، فتنسون أن في ذلك تملقا للخمول وتحبيذا للمذلة، وتنسون أن المرء إذا كان له من يعوله مجانا قل اتكاله على نفسه وفرغ عقله إلا من الانحطاط والدعوى.
سعيد بك (مشفقا على الذين لا يفهمون) :
لو كنت أبا وكان ابنك عريانا، لو كنت زوجا وكانت امرأتك جائعة، لو كنت ابنا وكانت أمك مريضة وفقرك يحول دون الطبيب والدواء، ولو كنت فتاة وحيدة دون أهل والدراهم حاجتها لتبتاع ضروريات العرس؛ إذن لفهمت معنى إغاثة الملهوفين.
عارف (يصغي إلى هذا الكلام بانتباه وكأنه يولد فيه صورا يتناقض أثرها في نفسه، ثم يرفع رأسه ببطء) :
إني أنحني أمام الحاجة الصميمة ويأخذني الخشوع أمام الألم الصادق. ومن هذه الوجهة أقدر أعمال الجمعيات الخيرية وأرى فيها تمهيدا لجمعية مقبلة كبرى تحتضن الذين يلزم المجتمع بإعالتهم، ولكن (يهب فجأة كأن سوطا ألهبه)
ولكن ما لا أحتمله هو أن الذين لا يخجلون دنسوا بحقارتهم حتى معنى الألم العظيم، واتخذوا كلمات الاستعطاء وأسماء اليتامى والأطفال والجائعين إعلانا فعالا لتموين الكسل والمعايب؛ صارت دعوى الجوع والعري مرسحا من مراسح التمثيل وأسلوبا من أساليب النصب والمضاربة. لقد رأيت دموعا كاذبة في العيون المتوسلة، وسمعت المحسن إليه يلعن الكريم الذي أعطاه بلا حساب، وشهدت حوادث الاحتيال تتتابع للضحك من البلهاء والتطاول عليهم. رأيت ذلك ففهمت أن للمساعدة المجانية أغلاطا فادحة، وأن أعمال البر كثيرا ما تنتج شرا.
السيدة جليلة (مصادقة على ما في كلام عارف من الإصابة) :
صدقت يا عارف أفندي؛ فإن دعوى الحاجة كثيرا ما جففت قلب الكريم فسدته حتى أمام العوز الأكيد، ونكران الجميل من أفظع ما يحتمل.
بلانش (تهمس لأنتوانت بالفرنساوية) :
عارف لطيف لا بأس به، أتعلمين؟
أنتوانت :
لا بأس به لولا أن حذاءه كثير اللمعان؛ ليس من المعقول أن حذاء يشع من تلقاء نفسه على هذه الصورة. ومن عيوبه أنه يتكلم (محاولة اتقان اللفظ بتهكم أنيق)
بلغة الحاء والخاء والعين.
عوني :
مع تقديري لخدمات الجمعيات الخيرية أقول إننا في هذا العصر نأبى استماع كلمات الإحسان والمحسنين. لقد مل الناس فضل الناس كما مل المتفضلون التفضل. والإنسانية التي تبذل حياتها في سبيل الإنتاج لا تمد يدها للاستعطاء؛ لأنها تعلم أن المسئولية تنيلها حقوقا، وهي بتلك الحقوق تتذرع لتعمل على توطيد المساواة. لقد ذكر عارف تمثيل الألم وتعمل الاحتياج، وما الدافع إليهما سوى هذا النظام الذي يسمن قوما ويهزل قوما؛ فيعمد المحرومون إلى أية الوسائل ليتمتعوا. النظام القائم مبعث الشرور وخالق الكذب والغش والتهجم. استبدله بنظام يسوي بين الجميع تختف المعايب والمفاسد والمخازي التي لم يوجدها سواه.
عارف :
ما سمعتك متكلما، يا صاحبي عوني، إلا رسخ اعتقادي بأنك ولدت لتكون رئيس مدرسة إكليريكية تهيئ المرسلين للوعظ والإرشاد ... إذن كيف تفسر النصب والاحتيال من الغني السري؟ إن في النظام القائم لعيوبا جمة يتحتم إصلاحها. ولكني بينه وبين الليمان العالمي الشامل الذي تعدنا به الاشتراكية متردد، ويكاد يكون ضلعي معه. إن المساواة التي تطلبونها بجلجلة وضجيج موجودة في العالم، ولكن العقول المتنوعة لا تدركها على نمط واحد، وهي الطبائع المختلفة التي تنبذها هنا وتحضنها هناك. في مدرسة واحدة تتخرج أجيال الطلبة فينبري واحد منهم ينتقل اسمه وفكره على جناح الدهور، ويظل مئات رفاقه بين التوسط والخمول متراوحين. هواء واحد تنشره الطبيعة فيقضي على أناس ويحيي أناسا. قانون واحد يفسره من المحامين مئات وألوف فيكون في يد الفذ براءة امرئ تألبت لاتهامه القرائن. عوز واحد يعض الجماعة فيتشدد به العبقري ويسمو بينا الآخرون يظلون في هوة المذلة والشكوى. فرصة فريدة تسنح لأخوين فيستفيد بها الواحد ويفيد، ويهبط بها الآخر ويؤذي. وتعودون بعد ذلك إلى المناداة بالمساواة؟ أما ذكرت في الحكايات القديمة كيف تملأ الغرف التسع والخمسين الآلات المختلفة والأسلحة والأمتعة الثانوية، ولا يوجد الشيء الجوهري إلا في الغرفة الستين؟ ذلك شأن الناس؛ إذ ليست جميع الأقفال لتخفي كنوزا وإن أخفت أشياء لها أهميتها النسبية.
زكي أفندي :
صحيح يا ناس، كلام جميل في محله !
عوني :
ليست الاشتراكية مسئولة عن إيجاد النبوغ في الأفراد، ولكن غايتها تمكين كل فرد من إنماء مواهبه الطبيعية إلى حدها الأقصى والتمتع بثمرة أتعابه على ما يحتاج. إن شركات الاحتكار وطغيان رأس المال يرهق بني الإنسان، ومزاعم الدول وتكالبها على الاستعمار ضيق الحياة على السائد والمسود جميعا، جاعلا أبدا أمام عيونهم شبح الحرب الهائل. وهذا المرض الفعال لا يشفيه سوى عملية الاشتراكية التي تلاشي استغلال الأفراد والجماعات؛ فتتكاتف الدول والأجناس، وتظهر العبقريات الكامنة آتية بمختلف الاختراعات والاكتشافات في العلوم والفنون، وتستخرج من الأرض خيرات جديدة لخير الجميع؛ فلا نعود نرى الأكواخ قرب القصور والموت جوعا قرب البذخ والترف؛ إذ ذاك ينفذ في العالم أجمع ذلك البند النظري الذي وضعته الثورة الفرنساوية: «خلق الناس أحرارا متساوين».
زكي أفندي :
وهذا أيضا كلام جميل يا ناس!
عارف :
بل إذ ذاك يزيد التفاوت ظهورا ... آه! ليتك يا صديقي تنفث في شيئا من إيمانك وقبولك لتلك المعاني المتعاكسة المتنافرة كشيء تقرر وقوعه. إن الثورة لم توجد نظرية المساواة؛ لأن المساواة كانت نافذة بين الأشراف الذين كانوا يعاملون بعضهم بعضا كأشباه متماثلين. ولكن ذلك البند أراد التسوية بين المراتب أمام القانون لا غير، وقد ألحقوه باستدراك خطير إذ حرموا من تلك المساواة القانونية القصر والنساء والمجانين والمحكوم عليهم؛ فيكون المتساوون والحالة هذه أقل من نصف الأمة، فأين المساواة؟
عوني :
وليس ذلك بالشيء القليل في دولة خرجت مباشرة من دور الملكية والأرستقراطية. وتلك التسوية القانونية برهان جليل على أن المساواة حل للناس، وأن لأبناء الأجيال الآتية أن يتناولوها بحقوقهم وينشروها قانونية واقتصادية واجتماعية بين إخوانهم أجمعين.
عارف :
والحرية! والعدل! ماذا تفعل بالحرية والعدل اللذين هما من أقدس معاني الإنسانية؟ كيف تسوي بين العظيم والحقير؟ بين العبقري الذي تقتله هذه المساواة والأبله الذي تفسده، ألا تذكر كلمة سكينة قبل موتها: «إنني أفاخر بأن أموت شنقا موت الرجال»؟ كذلك فهمت سكينة المساواة! وكم بين النساء والرجال من سكينة! وكم بين الناس من جان لا عن حاجة، بل لأن الجناية غريزة فيه! بل كم بين الفقراء من حكيم قنوع لا يطلب أكثر من سترة الحال! إن جرمكم الأكبر أيها الاشتراكيون في تجاههم الطبيعة البشرية، وحسبان الإنسانية محصورة في الطبقة العاملة. تحسبون أنفسكم منزهين عن وراثة بني الإنسان وتريدون بتلك المساواة الآلية أن تضمنوا القوت للجميع بكمية متعادلة لتقتلوا ما هو فوق القوت؛ لتقتلوا التفوق عن طريق المباراة التي كانت وستظل دواما الحاث الأعظم. ألا إن السر في البذرة لا في الأرض التي تحرث وتهيأ، وذكاء الناس وقوتهم نار كامنة تحتاج إلى النضال، تحتاج إلى احتكاك الحديد والصوان لتقدح شرارتها. وهل كانت تستطيع العمل ملايين الأيدي لولا العبقرية الواحدة التي كشفت سرا من أسرار الطبيعة؟ فكيف تريدون أن تسووا بين ذلك النور الإلهي في فكر، وبين عمل يد عملا ميكانيكيا لا إجهاد للعقل فيه؟ بل كيف تزعمون أن الرخاء ينمي النبوغ بينا نرى ذوي النبوغ غالبا من الفقراء والمعوزين؟
عوني (يبتسم بطيئا) :
يفكهني أنك تناقض نفسك، وأنك أنت المعارض للاشتراكية من أعظم المعترفين بضرورتها.
عارف :
أنا أعارض الاشتراكية؟! إني من أول القائلين بإنصاف العمال ووجوب الإصلاح، وأن للاشتراكية المعقولة دورا لا بد أن تمثله، ولكني أقول باستحالة المساواة التي لا ينتج عنها سوى الظلم والتهويش، وطعن الحرية طعنة جديدة. الناس في الحياة متساهمون، ولكنهم غير متساوين في براعة التصرف بأسهمهم. والضغط إلى درجة معينة على القاصر والجاهل والشرير خير للمضغوط عليه ولمحيطه جميعا. أما الضغط على الرفيع الحر الكبير فجناية عليه وعلى محيطه. في العالم اليوم آلام وفواجع لا تطاق وستؤاسى على وجه ما، ولكني أقول إن الاشتراكية لن تنجح أكثر من النظم السابقة؛ لأنها نسخة جديدة منها كما أن جميع المعاجم الجديدة نسخ عن المعاجم القديمة. لن تنجح أكثر من النظم السابقة وستأتينا بويلات مستحدثة. ومما ينذر بتلك الويلات اختلاف زعماء الاشتراكية فيما بينهم؛ لأنه أيا كانت النظم والهيئات الحاكمة فما يجب الالتفات إليه في تنظيم المجتمع هو الفروق القائمة بين الناس، لا وجوه التشابه بينهم. وهل يصير الصغار أقل صغرا إذ انكمش الكبار إلى مستواهم؟
عوني :
نحن لا ننكر أن بين الناس فروقا وأن كلا من الناس ميسر لعمل ما، ولكننا نريد أن نقلل من جور الطبيعة ونسهل الحياة للجميع، نريد إصلاح ظلم الصدف جهد المستطاع، نريد معالجة الأمراض البشرية ما أمكن، ونريد إدخال الجميع ميادين الرقي والنور لتنال الإنسانية سعادة ما فتئت تجري وراءها منذ فجر التاريخ.
عارف (يبتسم مشفقا) :
ما أقرب تحول الأرض إلى سماء عند الإصغاء إلى إخواننا الاشتراكيين! وما أسهل حذف المرض والانفعال والموت! قل لي يا عوني، هل تلاشون من قلب الإنسان الشوق الملهب إلى الحب والكره القتال المدمر الذي لا حد له؟
بلانش (لأنتوانت بالفرنساوية) :
ماذا يقول عن الحب؟ أف، ما أطول هذه الجلسة!
عارف (متمما دون أن يسمع كلام بلانش) :
وهل تلاشون لذة الحرب، والشغف بالحرب، وفنون الحرب في مظاهرها المختلفة؟ أتقتلون الأمل؟ أتقتلون القنوط؟ أتفعلون كل ذلك لتأتونا بسعادتكم الموعودة؟ وهل من سعادة بعد محق جميع تلك العناصر المكونة كلية السعادة ...؟
مي (مخاطبة الفيلسوف المصغي إلى هذه المناقشة باهتمام وسكون تام) :
لماذا لا تسمعنا صوتك يا أستاذ؟ لماذا لا تفضي إلينا ببعض ما يفيضه الوحي عليك في خلواتك؟ (يبتسم الفيلسوف ابتسامة مبهمة صغيرة. مي تطلب بإلحاح)
قل لنا رأيك! اذكر لنا الطريق التي على الإنسانية أن تسير فيها لتفوز بالسعادة المنشودة.
الأستاذ سامي (يبتسم ابتسامة كلها عطف) :
البحث عن السعادة! ربما كان هذا ضلال الإنسانية الأكبر.
مي :
وكيف ذلك؟ إنك تسلبنا أملا جميلا يا أستاذ!
الأستاذ سامي :
إن للإنسان حقا في البحث عن الأمر المستحب لا سيما إذا كان واسطة لنموه، ولكن التاريخ يرينا أن الإنسانية إلى اليوم مريضة؛ مريضة بأطماعها وأشواقها وحاجتها وطبيعتها، ومرضها هو الحياة بعينها؛ فتتقلب على فراش المرض بتغير النظم وتبديلها حاسبة بنومها على هذا الجانب الراحة والطمأنينة - أو السعادة إذا شئتم - فلا تلبث دقائق أو أعواما حتى تشعر بالتعب كالأول، فتتقلب على الجانب الآخر؛ أي إنها إنما تغير النظام، وهي لكذلك إلى الأبد.
زكي أفندي (معجبا دهشا) :
كلام الأستاذ أستاذ الكلام! (باسطا ذراعيه بافتتان)
دام فضلك ينبوعا نستقي منه يا أستاذ! (تدق يده بكتف أنتوانت التي تتبعد مستاءة)
آه، بردون مدموازل! كيف بدرت مني هذه الإساءة؟! ما أجمل هذا الثوب وما أدق ذوقك! (تحدث حركة بين الحاضرين فيتململون للنهوض).
أنتوانت (متثائبة) :
حقا، إن من الرجال من هم بلا لطف، كأنهم لا يشعرون بوجود السيدات والفتيات معهم. لن أزور مي بعد هذه المرة إلا يوم تكون وحدها، أو يوم يكون المجتمعون أقل ثقلا وغطرفة! (تنظر بدلال إلى تطريز ثوبها).
بلانش (ضاحكة) :
مع أن زكي أفندي امتدح جمال ثوبك وحسن ذوقك!
أنتوانت (متأففة) :
هذا لا أريد منه إطراء ولا ثناء. (بتأفف مزج بشيء من الدلع)
لقد قررت في سري ألا أتزوج إلا رجلا ذكيا، حتى إذا شاء أن يمتدحني فعل ببلاغة، وإذا أراد أن يذمني ذم بكياسة وأناقة.
بلانش (وقد نهضت كما نهض الجميع للانصراف واشتبك الحديث بينهم. تضحك من كلام أنتوانت) :
ولكن لا تستطيعين أن تقولي إن هؤلاء الرجال الثلاثة غير أذكياء! فلو خيرت بينهم فمن تختارين؟ الفيلسوف بأسرار عينيه وابتسامته المتمنعة؟
أنتوانت :
كلا! هذا قديس، لا أريد أكثر من أن أشعل أمامه شمعة وأضع طاقة أزهار.
بلانش :
إذا عوني؟ أو الآخر؟
أنتوانت :
عوني؟! هذا الذي يريد أن أن يوزع ما عند الواحد على جميع الناس، كما يقولون؟ تأملي حالي إذا هجم يوما على ثيابي وحلاي ليفرقها على نساء لم يتعبن بابتياعها! تأملي حالي إذا تبرع بثوبي الأزرق؛ ثوب الرقص ... لا لا! هذا لا أريده.
بلانش :
بقي الآخر!
أنتوانت :
هذا يقوم حذاؤه اللماع بيني وبينه سدا منيعا! كيف لا أهزأ برجل صغير القدمين إلى هذا الحد؟ (تضحكان ويمتزج صوتاهما بالأصوات الأخرى.)
عارف (متمما حديثه مع الفيلسوف) :
إن كلامك ليعبر عن كثير من أفكاري يا أستاذ، وأعتقد أن اختلاف الكائنات الحية وتغايرها شرط أساسي لكل نمو وكل كمال نسبي. وما هو تنزاع البقاء - ذلك المصدر الفياض للتنوع والثروة الحيوية - ما هو إن لم يكن في تطوره إثباتا مستمرا للاختلاف والتفاوت؟ وظهور الفرد الموهوب تحريض للنوع بأسره وحث سريع لجوج. (يختفي صوته وراء جلبة التحيات.)
السيدة جليلة (مودعة مي) :
إلى الملتقى يابنتي. مهما احتدم الجدال فمثل هذه الاجتماعات يشحذ القرائح، وأحسن ما يوحيه إلينا كاتب أو محدث هو أن ننتهي من الإصغاء أو المطالعة وفي نفسنا استفهام جديد. لقد سررت بهذا الاجتماع كثيرا!
أنتوانت (إلى بلانش بالفرنساوية دواما) :
هيا بنا مع السيدة جليلة.
عوني (مودعا) :
شكرا أيتها الآنسة، واسمحي لي أن أردد التعبير عن ثقتي بأنك منضمة إلى صفوفنا بحكم فطرتك ونزعتك الفكرية. بي اقتناع بأن السعادة النسبية ممكنة لبني الإنسان، لا سيما وأن فكرة الارتقاء والسعادة وليدة العصور المتأخرة بعد أن تعاونت الأديان والفلسفات على إقناع الإنسان أنه دودة صغيرة تتمرغ في التراب أمام وجه الخالق ... والثورة أبدع مظهر من مظاهر الاستياء، وشرف المرء قائم في الاستياء من الرث البائد والبحث عما يفضله. شرف الإنسان قائم بإنصاف الآخرين كما ينصف نفسه. والنفوس الكبيرة قلقة أبدا لا ترضيها غير اللانهاية.
عارف (يدفعه بكوعه دفعة خفيفة) :
وهكذا تبدأ بالوعظ والإرشاد وتنتهي بالوعظ والإرشاد! الحياة بحر يا صاح، تتدافع فيها الأمواج واللجج والأنظمة والثورات، وإذا استبقيت أنظمة أكثر من سواها فلأنها أنفع للناس وأصلح، ولكن السعادة ليست غايتها ولا الكمال كعبتها! ما غاية الإنسانية إلا الإنسانية، وما كعبة الحياة إلا الحياة. أليس الأمر كذلك يا أستاذ؟
الأستاذ سامي (بصوته الهادئ) :
كما تدور الأحقاب تدور الأنظمة، والبقاء للذي لا يموت ولا يتغير (يخرج ووراءه زكي أفندي يمتدح كل واحد بدوره).
مي (تودع الزائرين وتعود إلى الغرفة الخالية حيث تتراجع أصداء الأصوات التي تكلمت هناك منذ حين. وبعد إطفاء الأنوار تخرج إلى الشرفة تحت القبة المدلهمة، تسند رأسها إلى الحائط وتفكر صامتة ثم تبسط يديها نحو الفضاء، نحو خيالات الأشجار، نحو أشعة النجوم، نحو هدير الأصوات وهدوء السكوت، وتقول بلهجة المبتهل) :
ها أنا ذا وحدي أيها الليل فأفهمني ما علي أن أدرك! ها أنا ذا مستعدة أيتها الحياة، فسيريني حيث يجب أن أسير !
الستار
الفصل العاشر
رسالة عارف
إلى مي
وأنا أيضا كالسيدة جليلة، تتبعت مقالاتك عن «المساواة»؛ فرأيتك تارة تهيمين بين الانقلابات العمرانية، وطورا تهبين لتطلقي في أحد فروع الموضوع حكما جزئيا لم يكن ليتوقع سواه قارئ أول فصولك عن «الطبقات الاجتماعية»، بل لا يتوقع سواه ذو عينين تبصران ولب يعقل.
خططت العنوان وأدرت الطرف فيما حولك فشاهدت تعدد الموجودات وتمايز الأنام فنقلت قسرا تلك الصورة المتجددة في البرية؛ صورة التطور من أدنى الكائنات إلى أرقاها، وخضوع الوحدات الصغيرة للوحدات الكبيرة، ووجوب الفناء لاستمرار البقاء؛ وهو الغاية المثلى التي تضمحل في سبيلها الصور والآجال.
كذلك قرأت باهتمام تدوين مناقشتنا الأخيرة منتظرا منك الحكم النهائي. ولقد ذكرت أنك شكلت من قواك «هيئة محلفين»، ولكن نسيت أن مثل تلك الهيئة لا تنهي القضايا على الوجه الذي اخترت، وإنما عليها أن تهيئ حكما ما، للدائرة العليا نقضه أو إبرامه.
بيد أني أفهم أن الأبحاث التاريخية والمواقف الأدبية هي غير المحاكم والقضاء، وأفهم كل الفهم معنى ابتهالك لليل والحياة. ولكم ناديت الليل واستغثت بالحياة عند التباس المسالك واشتداد الخطوب! ولكم أحبطني العي والقنوط عندما جاءت الوقائع تكذب ما أنا في حرارة إخلاصي عضدته وعززته! فعقب فشل آمالي الشك الأليم وصرت أود سحق المخادعة والرياء سحقا. أما التحمس الصادق فله مني مزيج اعتبار وشفقة؛ لذلك أقدر تحمس عوني وأشفق عليه جميعا - وإن حاولت إخفاء مشاعري وراء نبرات التهكم والمناوشة.
لقد تألم صديقي شديدا، وكيف لا يتألم في محيطنا الأناني من كان له من عوني رقة العواطف ونبل الفكر وسمو الميول؟ غير أن ألمه ناقص؛ لأنه جاءه من فئة واحدة من الناس؛ فئة العظماء والأغنياء والأشراف. فتخيل أن الرذيلة تحصنت في القصور وأن الفضيلة استوطنت الأكواخ، وحسب السعادة حيث الرغد، والتعاسة حيث الشظف، ولم يفهم الحرمان بغير معناه الظاهر؛ ومن هنا مبعث خطئه وتحمسه معا.
وكنت في البدء مثله هو وجماعته؛ أرى الحاجة كل الحاجة في فراغ اليد فأنادي بالمساعدة دون حساب ، وأتمنى أن يكون لحمي للجائع قوتا ودمي للظامئ شرابا، والخلل حولي كنت أظنه خللا في فقط، وزعمت جميع النفوس من درجة واحدة فمضيت أجاهد لإعلائها إلى أوج قطنته تلك النفوس القليلة التي وضعتها الحياة على طريقي فأثار النبل منها احترامي وإعجابي.
شببت فإذا بي مخطئ، وأن ما في من خلل منشؤه الطبيعة البشرية المتوازنة أجزاؤها نقصا وكمالا، ورأيت أن أنانية تسربلت بالحرير ليست بأطمع من أنانية ارتدت الأطمار، وأن كبرياء بدت في التشامخ والصمت والتأله ليست بأكره من كبرياء توارت في التذلل والتوسل والنحيب. وتبينت في كل مرتبة أثرة وتحيزا واستعدادا قصيا للجور والطغيان، بل تبينت ذلك في كل فرد من أفراد المرتبة الواحدة والأسرة الواحدة. وعلمت أن بعض العقول قفر، وبعض القلوب صخر، وبعض النفوس رموز حية لليأس والنكد، وبعض الصور البشرية انعكاس لتمثال الشقاء الدائم، وأدركت للحرمان معاني جمة.
لقد تيسرت معالجة العوز المادي فتنظمت الجمعيات الخيرية تطعم الجياع وتكسو العراة وتعلم أبناء الفقراء. وها جمعيات التعاون تحرر العامل من تحكم صاحب رأس المال - أعني أن الأدوار تبدلت وأن التحكم صار الآن للعامل. ولكن، أي جمعية وأي شيوعية ترغم الطبيعة على بسط يدها إن منعت، وتغيير نظامها إن جارت؟ هاك زهرة نضرة في حقل الشوك والعليق، فما ذنبها؟ هاك شجرة فريدة وسط الصحراء، فلماذا تشقى؟ كل يرحم من قضى جوعا، ولكن من ذا يرحم قلبا جائعا إلى الحب العظيم، وفكرا له من يفهمه ويقدره، ونفسا طويت على الحنان وبذل الذات تترقب مجيء من تسعد بالتضحية لأجله فلا يجيء، كأن نهر الأعمار جرفه في تيار قديم؟ أي تفطر لمن صانع فلم يكافأ بغير التهجم ونكران الجميل؟ أي تعاسة لمن لا يؤذي الناس متعمدا فيحرم الصحة مثلا، أو النظر، أو النطق، أو يسلب عزيزا؟ وذاك الوالد الصالح الرصين، لماذا ابتلي بولد مستهتر أبله؟ وذاك الثري المحسن لماذا يحرم هو وزوجته نسلا قد يحسنان تنشئته، بينا ذلك السافل الشرير يستعمل أسماء أبنائه آلة للاحتيال وإرضاء الأهواء؟
هذه حرمانات قليلة من حرمانات عديدة خرساء لا اسم لها. ولقد قال بركليس زعيم الديمقراطية اليونانية: «عندنا لا يخجل أحد بفقره، وإنما يخجل إذا هو لم يكافح الفقر بالنشاط والعمل.» فإذا تيسرت معالجة الفقر - ولو معالجة نسبية - بالنشاط والعمل، فكيف تعالج حاجات أخرى ليس لموهبة أو صفة مهما شرفت وسمت أن تتغلب عليها؟ وما هذا النظام الذي يزعمون فيه الإنصاف والمساواة، وهو لا يتناول سوى الظاهر الممكن تعديله بلا سلب ولا فتك، في حين تظل جميع الحرمانات الأخرى تنشب في القلب أظافرها؟
قد تقولين الآن إن اليأس من شفاء المرض الواحد لا يبرر إهمال المرض الآخر، وهذا صحيح. وقد تقولين ما ينسبه إلي بعض أصحابي الاشتراكيين، وهو أني أرستقراطي النزعة وأن أحكامي العامة تقوم على اعتبارات خاصة. أما أني أبني أحكامي على مشاهدات شخصية فأسلم به، وأود أن أسأل كل ذي رأي، بل أود أن أسأل الذين سنوا الشرائع والأنظمة، وكونوا الجمعيات والأحزاب، وأحدثوا الثورات والإصلاحات ... أود أن أسألهم: هل يمكن الاقتناع بغير الاختبار الشخصي، وهل يكون اليقين يقينا إن لم يبن على اقتناع فردي؟
وأما أرستقراطيتي المزعومة فينقضها أني أكاد أرى رأي ذلك الكاتب الأمريكاني الذي أثبت بالأدلة التاريخية أن أكثر رؤساء الولايات المتحدة ورؤساء الجامعات في هاتيك البلاد، ومديري المصارف والشركات، وزعماء الأحزاب ... أن أكثرهم ينتسبون إلى شارلمان ملك الفرنسيس. وأقول معه إن الشعوب المختلفة لو عادت مئات السنين إلى الوراء لوجدت جدودا واحدة وسلفا واحدا؛ فنكون جميعا أبناء ملوك، وإن تاهت منا الأسماء خلال تشعب الأنساب. ومع تسليمي بصدق الوراثة على قياس خمسين في المائة تقريبا، فإني أذكر كذلك الامتيازات الفردية التي لم تجعل الإمبراطور ماركس أوريليس أنطونيوس أعظم من أخيه في الرواقية والنبالة الأخلاقية العبد أبكتتس، وأذكر أن أمونيوس ساكاس مؤسس الأفلاطونية الجديدة - التي ربما كانت أكبر مدرسة فلسفية عرفها التاريخ - كان حمالا، وأن فاراداي أحد أعاظم العلماء المكتشفين كان ابن معدمين وحصل قوته أعواما طويلة من بيع الصحف عاري القدمين في شوارع لندن ... وهلم جرا.
لقد تألمت في حياتي لأمور كثيرة ومن مختلف المراتب، وتألمت من مجموع الوراثات المتجمعة في التي أسميها «نفسي». وأعرف من جهة ظلم المجتمع، وظلم الحياة من جهة أخرى. وإني لمن الصائحين عاليا بالثورة على كثير من الأنظمة والعادات والاصطلاحات كما أني من الصائحين عاليا بوجوب الامتثال لأنظمة أخرى وقبول عادات واصطلاحات موافقة في تقديري. أعرف الحياة صالحة محسنة جميلة من الجانب الواحد، وخادعة غادرة قبيحة من الجانب الآخر. إلا أني «زرادشتي» من حيث إيماني بأن الغلبة النهائية للخير والصلاح والجمال. ولو أردت أن أعرف الحزب السياسي أو الاجتماعي الذي أنتمي إليه، لقلت إني أرستقراطي، ديمقراطي، اشتراكي سلمي، اشتراكي ثوروي، فوضوي، عدمي ... إلى آخره. كل ذلك دفعة واحدة وبوقت واحد. وإذا خطر لك أن تضحكي ذكرتك برينان الذي كتب يوما ائتوني بصفحة لأحد كتابنا فأبرهن لكم أنه في السطور العشرة الأولى ذو نزعة تختلف عن نزعته في السطور العشرة التالية، كما تختلف هذه عن السطور الأخرى. وما ذلك إلا لأن جميع النزعات موجودة في كل منا وإن تغلبت إحداها على الأخريات. وهذا التغلب وحده هو الذي يبرز منوعا في مختلف الأفراد فيسم الواحد منا بوسمه، ويضع له العنوان الذي يعرف به.
لو كنت ذا كلمة مسموعة بين حكومات العالم لجعلتها تعرض عن اصطخاب الأحزاب التي خلق كل منها لنفسه بيانا ذا ألفاظ يتمثل فيها قرع النواقس، ودوي المدافع، وخفوق الأعلام، وتنضيد الإعلانات، وحفر الخنادق، وحركات الهجوم والدفاع. كلهم يشكون الظلم وكلهم ظالمون، كلهم ينادون بسقوط الجاني وكلهم جانون، لكن أولئك الظالمين الجانين مظلومون أيضا بحكم الوراثة والأحوال والقدر؛ فهم لم يخلقوا أنفسهم مختارين، بل خلقتهم حوادث دهرية لم يكن لهم فيها يد ولها فيهم كل النفوذ. ولقد طال جهاد الإنسانية للتحرر من ظلم ما ورثت من غرائز غير مدركة، كما تطلب التحرر من طغيان الطبيعة واستبداد الأقوياء وبطش السلطات وسفالة الجبناء وحسد الخاملين؛ فصرنا اليوم في عصر الكلام الرنان تتلاطم فيه ألفاظ «الشرف والعظمة والحرية والاستقلال والمروءة والإحسان والتعاون»، وإنما هي ألفاظ فارغة قلما فكر مرسلوها في معانيها. كلنا نطالب ب «حقوقنا » وليس منا المهتم بتأدية واجبات تشرى بها الحقوق. ولعلنا حيال الثورة على رأس المال نحتاج إلى ثورة على الدعوى والغرور؛ ثورة حصيفة - إذا جاز نعت الثورة بالحصافة - تحدد الكفاءات، وتقسم العمل، وتعرف الواجبات، وتضع الناس في مراكزهم لا عن تحيز لامتيازات الوراثة ولا تملقا للمال أو مراعاة لآراء الأكثرية، بل وفقا للكفاءة الطبيعية الملزم المجتمع بإنمائها وتعهدها والاستفادة منها عند جميع أعضائه.
قلت إني لو كنت ذا كلمة مسموعة لسننت القوانين الآتية وأحكمت تنفيذها قبل إصلاح الشوارع وإنشاء المعارض وبناء المتاحف وإقامة الاحتفالات ونصب التماثيل، وهي:
أولا:
إيجاد مطاعم عمومية ومنازل للمبيت؛ فعار على المدنية أن يموت فيها أفراد من الجوع والبرد، وعار أشد أن يستعطوا قوتهم ويناموا على قارعة الطريق، أو أن يعمدوا إلى السرقة والنصب والتهجم على المثقلين بإعالة نفوسهم وإتمام أعمالهم العسيرة. ويجب ضبط النظام في تلك المطاعم لمنع الاحتيال؛ لأن الاستعطاء ليس دواما حاجة غذائية، بل كثيرا ما يكون فطرة وغريزة.
ثانيا:
منع التسول بتاتا؛ فالصالحون للعمل يجب أن يعملوا للحصول على قوتهم. وأما الآخرون المرضى والعجزة وذوو العاهات الجسمية فيأوون إلى الملاجئ القائمة على نفقة الحكومة أو المجتمع.
ثالثا:
جعل التعليم الأولي مجانيا، على أن لا يكون متماثلا للجميع، بل يتعلم كل وفقا لاستعداده ما يحتاج إليه وينفعه في عمله؛ فتاجر الأثاث لا يحتاج إلى النظريات الفلسفية، وصانع الأحذية لا يحتاج إلى الهندسة الزراعية، والمهندس لا يحتاج إلى قرض الشعر. وطبيعي أن لكل أن يتوسع بعدئذ فيما يميل إليه من المعارف الكمالية - على نفقته الخاصة.
رابعا:
إيجاد مكاتب عمومية تمتحن فيها الكفاءات وتوزع فيها الوظائف والأعمال حسب الاستعداد؛ فمن الظلم الفادح أن يطلب المرء عملا به يفيد ويستفيد فيرى جميع الأبواب مقفلة في وجهه؛ إذن لا يعود الكسالى يتذرعون بإحدى تلك الحجج المكذوبة «لا أجد عملا».
خامسا:
إيجاد معاهد كبيرة يأوي إليها من الأبناء من شاء أو من كان شقيا بين والديه فيضطرب بينهما فكره، أو تعتل صحته، أو ينغص عيشه أو - ما هو أخطر من هذه جميعا - يفقد صفاته الحسنة وتتلاشى نزعاته الطيبة؛ فقد وجد الطلاق بحق ليفصل بين المتزوجين الذين ليسوا على وفاق ويريحهم. ولكن كيف يعيش الابن الشقي بين أبويه؟ ولمن يشكو همه؟ وماذا يقول؟
سادسا:
أن تكون عيادة الأطباء والصيدليات والمستشفيات والتمريض مجانية للجميع على نفقة الحكومة أو المجتمع؛ فمن العار أن يموت أناس لأنهم ليس عندهم أجرة الطبيب وثمن العلاج، أو نفقات العملية الجراحية والمستشفى. كذلك يكون نقل الموتى والدفن مجانيا ومتشابها للجميع؛ فإن الأبهة في الجنازات لمن الأمور المرسحية التي تشوه هيبة الموت. فما دام الناس متساوين في تسليم النفس الأخير فليكن دفنهم مظهرا للمساواة لا مجلى لفروق المراتب في تلك المركبات المنمرة «بريمو» و«سكوندو» و«ترسو».
سابعا:
نفقات المرافعات والدفاع والقضايا المختلفة تكون على الحكومة أو المجتمع. وفي ذلك - فضلا عن المنافع الجمة - رادع عن الرشوة في بلاد تستعمل فيها الرشوة، ورادع لجشع بعض المحامين الواسعي الضمير.
ثامنا:
أن يفرق في السجون بين المساجين حسب مراتبهم وأخلاقهم؛ فإن الثمرة الصالحة لا تعدي الثمرة الفاسدة، ولكن فساد الثمرة الواحدة يمتد إلى مئات الأثمار الصالحة. ولما كان الغرض من السجن كف أذى الجاني عن المجتمع، كان من الظلم أن يكون السجن مفسدة للجاني؛ فلا يجوز أن تمنع عنه الكتب والصحف وما يطلبه من وسائل التثقيف سواء في العلم والفن والمهنة. ويجب أن يشتري طعامه ولباسه بعمله في السجن شأنه في المجتمع، وألا يحقر ويذل، بل يكون هناك في خلوة فيها يشعر بأنه أخطأ دون أن يرى في النوع الإنساني بأسره عدوا وجلادا، لئلا تنقلب قوى نفسه خوفا وكرها، ومرارة ورغبة في الفتك والانتقام.
تاسعا:
يقولون إن العضو الفاسد في المجتمع يقطع. نعم، على شريطة أن يصيب الطبيب في الحكم بالفساد، لا أن يعود يبرأ المسكين بعد تنفيذ الإعدام فيه كما وقع في بلاد كثيرة. ثم فليجرد الإعدام من مظاهر القسوة التابعة له، كإيقاظ المحكوم عليه من رقاده الأخير لأن ساعة التنفيذ دنت، وإلباسه تلك البذلة القرمزية، وإحاطته بجميع تلك الأمور الرهيبة، وتلاوة الحكم عليه في آخر لحظة من حياته فلا يرى حوله إلا وجوها صارمة، ولا يلمس إلا اليد الفاتكة؛ كل ذلك لم ينفع إلى الآن في ردع أحد، لا سيما وأن تلك الرهبة لا يراها سوى المحكوم عليه؛ فليكن الإعدام إذن بالكهرباء، أو بطريقة سريعة جدا تقضي على الجاني بلحظة دون أن ينتظر وقوعها دقيقة بعد أخرى ويوما بعد يوم. هذا بعد إبلاغه الحكم بمدة كافية ليهيئ نفسه للموت، ولتعيد المحكمة نظرها في القضية فتكون على ثقة من صلاحية الحكم.
أما المبالغ الضرورية للقيام بالنفقات المذكورة في الاقتراحات الأولى، فيؤتى بها من ضرائب سنوية تفرضها الحكومة باعتبار الثروات. وكل يؤدي الضريبة راضيا إذا ضمنت له ما قد يبذل المبالغ الطائلة عن الحاجة إليه.
لا أزعم أن فكري تم نضوجه، بل أرجو أن يظل قابلا للرقي والتطور طول حياتي. ولكن لا أشك في أن هذه الإصلاحات ستتم في المجتمع عاجلا أو آجلا على وجه ما؛ لأني شاعر بأن لا غنى عنها وأن إهمالها جرم متجدد مع الأيام. المجتمع ينيل الفرد حياة لم يطلبها هو؛ فعلى المجتمع إذن أن يهيئ للفرد إمكانية هذه الحياة حسيا واجتماعيا ومعنويا، ثم فليفتح له ميدان المسابقة لتبرز بها ملكاته ومواهبه. وأعتقد أن الإحسان إلى الناس لا يقوم بإعطائهم مالا وقوتا وأثوابا يتمتعون بها بلا تعب فيحسبون الحصول عليها من حقوقهم، بل الإحسان إليهم هو في فتح عيونهم على المقدرة الكامنة فيهم، وتنبيههم إلى وجوب تبادل الحقوق والواجبات، وإفهامهم أن الذي لا يؤدي واجبا فلا حق له.
بين الأستاذ سامي الذي ينكر السعادة، وصديقي عوني الذي يرى كل السعادة في حذف رأس المال ومحو الفروق بين المراتب، أقف أنا قائلا بأن هناك سعادة ممكنة؛ فقد سعدت في حياتي أياما وأسابيع، وكل الناس عرفوا طعم السعادة وطعم الشقاء. ولعل السعادة والشقاء مزاج أكثر منهما حالة نفسية؛ فمن البشر من خلق سعيدا أو تعسا، كما أن منهم الباسم والعابس، الشره والقانع ، البدين والهزيل، ولكن يتحتم أن يؤدي المجتمع كل ما يمكنه أن يؤديه لأعضائه، وهو إلى الآن غير فاعل. المجتمع أيضا يطالب بحقوق كثيرة ويؤدي واجبات قليلة. فلا غرو أن يحذو أعضاؤه حذوه.
ها أنا ذا وقعت فيما اتهمت الأحزاب به، وخلقت لي لغة مسهبة لأقول شيئا قليلا. ثم ما منفعة اقتراحاتي - على أهميتها ولجاجتها - في هذا الزمن العصيب؟ إن الأرض لترتج تحت أقدامنا والهواء يحمل إلينا ما قد يكون لهيبا ودخانا لحريق سحيق. فالنظم الاجتماعية تتطور ككل شيء حيوي - كما قلت في مقالاتك وكما هو الواقع - فلننتظر إذن ما هو كائن؛ لأني أرى الإنسانية الآن كالأفعى تغير ثوبها، أراها كالجو يتعاقب فيه السكون والزوابع، الصفاء والغيوم، النجوم والأمطار. كفانا أن نرقب سير الحوادث متكلين على نفوسنا، محدقين في وجه الحياة بلا وجل، مستعدين لتبين الصلاح والحقيقة. ونحن أبدا كالأرض أمنا التي تقبل البذور الصالحة ثم ترسلها غلة وخيرا، وإذا هوت عليها الأشجار اليابسة تجمدت في حضنها مادة للنار واللهيب. ولنكن أبدا مطلقين هذا الهتاف الجامع بين الإخلاص والحيرة، بين الزفير والابتهال: ها أنا ذا وحدي أيها الليل، فعلمني ما يجب أن أعلم! ها أنا ذا مستعد أيتها الحياة، فسيريني حيث يجب أن أسير!
عارف
صفحه نامشخص