مرور در سرزمین هناء و خبری از دنیای باقی
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
ژانرها
وكانت أصحاب تلك الأصوات تتراءى كالأشباح من وراء السحب الشفافة بأثوابها البيضاء، وما أشبهني في هذا الوقت بصاحب الرؤيا الغريبة.
وفيما أنا على هذه الحالة سمعت من الجهة الخلفية صراخا وضوضاء، فأيقنت أن الثوار قد أقبلوا إلى هذا المكان، فارتعدت فرائصي، واضطربت بكليتي، وأصابتني في الحال قشعريرة، واستولى علي الخوف لوجودي منفردا في هذا المكان، فوقفت مكاني رافعا نظري إلى فوق، فشاهدت عن بعد سحابة بيضاء سائرة نحو العلى، ملتفة حول جوقة ترنم وتسبح بأصوات منعشة رخيمة، وكانت من أطرب ما سمعته أذني، وشد ما كانت دهشتي عندما ظهر لي من خلال تلك السحب راهبات جاثيات، متشحات بالبياض، وعلى رءوسهن الأكاليل، رافعات أيديهن إلى العلى، ومن شدة بهجتي وسروري بمرآهن الملائكي، صرخت وأنا على هذه الحالة المطربة، تعالي إلي أيتها العذارى الطاهرات، اقتربن مني وأبعدن عني الخوف والفزع، اقتربن يا من كنتن رحمة للإنسانية، فإن بقربكن شجاعة لي وقوة. ولما سمعن ندائي اقتربن قليلا، وهن ملتفتات إلي بوجوههن الطافحة بشرا ومحبة، وقلن: تشجع أيها الأخ ولا تخف، فإنك في مكان أمين.
وما كدن ينهين كلامهن حتى صعدن إلى الأعالي ببطء وهدوء، فرفعت يدي وصرخت بأعلى صوتي: قفن أيتها الصديقات، قفن لأمتع نظري بمرآكن المعزي، طوباكن يا ذوات الشفقة والحنان، أما كفاكن أتعابا على الأرض بحملكن مصائب البشر، حتى جئتن إلى هنا وكنتن سببا لتحفيف ويلاتي وتشجيعي. قفن قليلا لأسبح معكن الخالق لعله يستجيبني ويخلصني. مهلا أيتها النقيات، ولا تتوارين عن نظري بسرعة، مهلا يا من كرستن ذواتكن لفادي البشر، وكنتن على الأرض رحمة للعالم، إن السعادة لمثلكن، يا من وجدتن في محيط لا يعرف إلا كلمة أنا، أنا، كل شيء يتطلبه لنفسه، فلا يشبع ولا يرتوي، أعمته الأنانية، وجعلته يدوس أخاه في الإنسانية، ولا يبالي بسقوطه، فكنتن بين هذه الخشونة تنادين ليس لنا بل للفقير، لليتيم، للبائس، للمتوجع، للمنقطعين، للمرذولين من الهيئة، للإنسانية أجمع، لا تتطلبن شيئا إلا القوت.
آه ما أشرف عواطفكن وأرق إحساساتكن! كم جبرتن من القلوب المنكسرة بكلامكن المعزي! كم داويتن من المرضى الذين تركوا من أهلهم وأصدقائهم وكنتن لهم خير مواس وأكبر معين! كم وقفتن على الأبواب متسولات مستعطيات لتطعمن اليتامى الفقراء! كم كنتن تذهبن إلى المقابر، وتجثون على قبور المنقطعين وتصلين عن نفوسهم، وتضعن من زهور الحقل ضمات على تلك القبور العارية فتنعشنها! أنتن إذا نظر إليكن الجاحد الذي لا يؤمن بالثواب والعقاب يعود إلى الإقرار بذلك، إذ يسمع صوتا في قلبه يقول له: من المستحيل أن تذهب أعمال كأعمالكن في العالم الآتي بدون جزاء، فإذا كان لا يوجد ثواب وعقاب، فلا فرق إذن بينكن وبين من كرسن ذواتهن للرذيلة والفحشاء.
طوباكن، طوباكن يا من كنتن قدوة طاهرة للفتيات. طوباكن يا من أنكرتن ذواتكن ونذرتن الفقر الاختياري حبا بالله والقريب. اصعدن إلى الأعالي واجلسن في الأماكن المعدة لكن، اصعدن وصلين لأجل أبي الأجران هذا الخاطئ الرافع يديه الآن نحوكن؛ لكي يكون معكن يوما يسبح الله ويمجده، صلين لأجل أخي فنيانوس كي لا يحيد عن سبل الحق. اطلبن من الرب؛ لأن طلباتكن مستجابة لكي يلهم من بيدهم الأمر والنهي في العالم ليتجنبوا أسباب الحروب المخيفة. اطلبن على الأخص لكي يسكب على قلوب ولاة أمورنا نعمة العدل؛ لترتفع عن عاتق الرعية المظالم والمغارم. تضرعن لأجل المهاجرين السوريين المتفرقين في أربعة أقطار المسكونة؛ كي لا تنطفئ في قلوبهم نار المحبة لبلادهم، حتى يعودوا يوما إليها، ويشفوا قلوب والديهم من لوعة الفراق. اطلبن للشبان منهم سلامة من الأشراك المنصوبة لهم التي تجلب الأمراض والعاهات؛ ليعودوا أيضا إلى أرض لهم فيها من هن بانتظارهم ليكن لهم شريكات في الحياة ...؟
تضرعن لأجل وقوف المهاجرة السورية عند حد، فقد أصبحت البلاد خالية خاوية من الرجال، وكل ذكر من سن الخامسة عشرة إلى سن الخمسين قد هجر البلاد، إنها لحالة مخيفة ومحزنة معا لم يدون مثلها المؤرخون.
ولبثت رافعا نظري وباسطا يدي، ومناديا إلى أن توارين عن عيني، فالتفت إلى الوراء وأنا أمسح دموعي المتساقطة، وأتنهد تنهدات عميقة، وقد نشف ريقي من كثرة النداء، فرأيت حنوش قادما، ولما وصل ورآني على هذه الحالة المؤثرة سألني عما أصابني، فأخبرته بالأمر، ثم قال: هيا بنا لنعود إلى المكان الذي كنا فيه كي تنتظر المحاكمة، وأخبرك أن الثوار قد فازوا ببعض مطاليبهم، وعين مأمور جديد غير ذلك الذي سبب الثورة بكثرة ضغطه وقساوته، واعلم يا أخي أبا الأجران أنه لولا الثورات لما استقامت حكومة، فإن الثورة في أكثر الأحيان تكون دواء شافيا من مرض الظلم والجور، أنا لا أنكر أن ذلك المأمور المعزول كان طيب القلب، ولكنه كان قاسيا لا يرحم ولا يشفق، وقد استعمل الضرب والجلد في الوقت الذي أبطل في كل مكان، واستعيض عنه بالعقوبات غير المؤذية.
وقبل أن نترك هذا المكان سمعنا أصواتا كالأصوات السابقة، صادرة من بين الغيوم، فالتفت إلى مصدر الأصوات، فرأيت أجواقا محمولة على السحب رافعة أعلام الصليب الأحمر، فصرخت ثانية وبسطت يدي نحوهم وقلت: أنتم أيضا تستحقون السعادة، أنتم يا من انضممتم تحت رسم الصليب، وخضتم الحروب لتخففوا ويلاتها، باستحقاق وعدل نلتم السعادة يا من خدمتم هذه الراية الشريفة، هذا الرسم الذي تطمئن لرؤيته القلوب، وترتاح إليه النفوس، فسلام وألف سلام على مبادئكم السامية الشريفة وعواطفكم الرقيقة. •••
ثم رجعت مع حنوش إلى المكان السابق الذي كنا فيه، فوجدنا الحالة قد انتظمت وعاد كل شيء إلى مجراه، وكانت الجنود في تلك الساعة تستعد لاستقبال المأمور الجديد الذي يرجى أن يكون رحوما شفوقا، حتى لا أنال منه ما كنت أتوقعه من المأمور السابق؛ لأنني - كما تعلم - كنت من الذين تعاطوا المسكرات ومن محبي «الدمعة».
وقد هيأت هذه الرسالة وتوسلت إلى حنوش لكي يوصلها إليك، فقبلها بعد أن تردد طويلا، ولي تمام الثقة بوصولها ليدك.
صفحه نامشخص