مرور در سرزمین هناء و خبری از دنیای باقی
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
ژانرها
أما الاستقلال الذي يتبجحون به ويتشدقون بذكره، فهذا اسم لغير مسمى؛ لأن القانون الذي هو حبر على ورق لا يصنع وحده استقلالا إذا كانت الرجال صغارا، فلو كنت وجدت في لبنان رجالا أعزاء النفوس، أصحاب حزم وعزم، ذوي أمانة ومحبة لوطنهم، لا تهمهم الوظائف، لكنت أعضدهم وأعمل معهم على حفظ استقلالهم، وأعيش وإياهم إلى آخر حياتي، وأستغني عن الأستانة وعن كل بلاد غير لبنان، الذي هو أشرف بقعة، وأجمل موضع في الشرق كله، وأهنأ عيشا من سواه، ولكن أهل البلاد متغافلون، لا يطالبون بحقوقهم المعطاة لهم من أعظم دول الغرب، والذي لا يطالب بحقوقه تضيع لا محالة، فلماذا يجعلون علاقتهم مع الأستانة وحدها؟ لماذا يخولون الحق للمتصرف وحده بمخابرة الباب العالي في كل أمور لبنان؟ مع أن مجلس الإدارة هو فوق المتصرف، وعلاقة حكومة لبنان بالأستانة كعلاقتها بحكومة فرنسا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا تماما، فإهمال نواب الأمة هذه الواجبات وهذه الحقوق، وانشغالهم بالمفاسد والوشايات، وتزاحمهم على الوظائف، يجعل للدولة حقا شرعيا بالمداخلة في شئونهم ومعاملتهم كمعاملة باقي رعاياها، مع أن استقلال لبنان مكفول من الدول المار ذكرها ، ولا يتعين حاكم إلا بمصادقتها جميعا.
هذا وللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر وأميركا جرائد قد أنشئوها في ديار غربتهم؛ خدمة لمصالحهم وصالح الوطن الذي أقاموا فيه، وقد جعلت أكثر اهتمامها بشئون لبنان، ولما تعينت متصرفا، أظهرت كل شهامة وعزة نفس، ولامت الشعب على مظاهراته بإكرامي قبل أن يرى أعمالي، وهي مهتمة بالجبل وحكومته أكثر من المقيمين فيه، ولكنها في أكثر الأحيان تبني أقوالها وانتقاداتها على الوهم، فتارة تسلقني بألسنة حداد، وطورا تمدحني وتثني على أعمالي، ثم تعود إلى ذمي تبعا لما يتراءى لها عن بعد، وقد تدرج كل ما يردها من الأخبار إن كان كذبا أو صحيحا، وتبني عليه العلالي والقصور، ولكنها جاعلة الحق كله على مجلس الإدارة، فكثيرا ما طعنت على أعضائه وانتقدتهم انتقادا مرا جعلهم صغارا في عيون نفوسهم، ولا أنكر أن كلام تلك الصحف قد أفاد وجعل بعض التأثير.
ولا خفاك أن المال الذي كنت أجمعه من الرشوة والهدايا والعطايا من سراة اللبنانيين وكبارهم، الذين يمتصون دم الشعب اللبناني، ويسلبون أمواله من طريق الرشوة والاستبداد، كنت أدفع فائضه إلى الأستانة؛ لأنها تعلم حالة الجبل وأهله، فتفرض علي إيفاء «البركة» أي العشر.
فهل تجد بعد هذا الإيضاح أيها المأمور الكريم أنني مذنب ومستحق القصاص؟ والله لو كنت مكاني في متصرفية لبنان، محاطا بالمفاسد والمخاصمات، لكنت تفعل فعلي، وتقول: «اللي من إيده الله يزيده»، وتجمع الأموال التي تأتيك عفوا، وتتنعم بها إلى ما شاء الله.
فهذه هي مصيبتي في لبنان واللبنانيين، فعسى أن تكون هذه الإيضاحات كافية لتبرئتي، وإعفائي من هذا القصاص الشديد الذي حكمت علي به، فقد أظهرت للمأمور العادل كل دقائق الأمور، وتبين له أن الحق على اللبنانيين أنفسهم لا علي.
فأجابه المأمور بعد أن فرك جبهته: إن كل هذه الأعذار التي قدمتها لا تبرئك من تبعة المسئولية، فإن الحاكم يجب عليه أن يكون مخلصا للشعب، محبا له، شفوقا عليه، غيورا على مصالحه، وإذا كان الشعب على الحالة التي ذكرتها عنه، فيجب عليك تربيته بصرامة القانون، لا أن تجاريه وتسير معه في طريق الغش والفساد، وتساعد على سقوطه. ثم صرخ المأمور بالجنود، وأمرهم بتنفيذ القصاص، فحالا سقطوا على المتصرف المسكين بالجلد، فوقع على الحضيض فاقد الرشد، وصرخت أنا صرخة الفرح، وقلت: «سلم دياتكم»، فإنه باستحقاق نال هذا الجزاء؛ لأنه كان يعد كثيرا ولا يفي، بالقول فتح ميناء جونيه، وعمر البلاد، ووسع نطاق الزراعة، وأنشأ المعاهد العلمية، وجعل لبنان جنة، وبالفعل خرب لبنان، وجعله كإحدى الولايات العثمانية.
فالتفت المأمور إلى الجهة التي صدر منها صوتي، وقال: من هو الذي تجاسر على الكلام؟ أحضروه إلى هنا، فحالا رأيت حنوش ومنوش سائقي إلى أمام المأمور، فقال: اجلدوا هذا الإنسان جلدة واحدة؛ لأنه كثير الغلبة. «فنفضوني» جلدة، يا الله، حسيت روحي طلعت من أظافر رجلي «ريتو ما حدا يدوق» موت أحمر، ثم أرجعوني إلى مكاني مقطوع الظهر، ومنوش من جهة يقول لي: تستاهل «يا ديوس». •••
أخيرا حمل الجنود المتصرف التعيس إلى الداخل، وهو بحالة تنفطر لها الأكباد، ثم رجعوا ومعهم رجل على رأسه عمامة وعيناه «معمصتان»، وعليه هيئة السرساب، وقد عرفت لأول نظرة أنه أحد إخواننا مشائخ الإسلام، ولما اقترب من المأمور صرخ فيه: تحضر لاستقبال القصاص أيها المذنب نحو وطنك، والعامل على تفريق قلوب الشرقيين، بحثك أولادك الإسلام على عدم الاتحاد مع إخوانهم المسيحيين، وتبشيرك بالجامعة الدينية بدلا من الجامعة الوطنية، قد حكمت عليك بثلاثين جلدة من يد سطانائيل الجبار، بقضبان ملتهبة من نار الانتقام.
فلما سمع الشيخ بهذا القصاص شهق شهقة، وغاب عن الصواب برهة، ثم عاد فأفاق وهو يفرك عينه ويبكي وقال: أيها المأمور الشفوق، إن هذا الحكم الذي صدرته علي لهو جائر لا يحتمل، وأنا لست أول من نادى بالاتحاد الديني، فقد تعلمت من الذين سبقوني أن لا أمان لغير المسلم؛ فلذلك حرضت أولاد جنسي على ألا يؤمنوا لغير المسلمين؛ ولهذا يعود الذنب على الأولين، ولو كنت أعلم أن هذا التعصب ذنب لكنت عدلت عنه.
فأجابه المأمور: لا بد من تنفيذ الحكم. وأمر سطانائيل بالجلد، فرفع هذا يده، ونزل على الشيخ، ومن أول جلدة سقط المسكين لا حراك به.
صفحه نامشخص