وأما الفرات فمبدؤه من بلاد قاليقلا، ومقدار جريانه من بلاد الروم إلى أن يأتي بلاد ملطية مائة فرسخ، وأخبرني بعض إخواننا من المسلمين ممن كان أسيرا في أرض بلاد النصرانية أن الفرات إذا توسط أرض الروم تحلبت إليه مياه كثيرة منها نهريخرج مما يلي بحيرة الماذرمون، وليس في أرضي الروم بحيرة أكبر منها، وهي نحومن شهر، وقيل: أكثرمن ذلك طولا وعرضا، تجري فيها السفن، وينتهي الفرات إلى جسر منبج، وقد اجتاز تحت قلعة سميساط، وهي قلعة الطين، ثم ينتهي إلى بالس ويمر بصفين موضع حرب أهل العراق وأهل الشام، ثم ينتهي إلى الرقة وإلى الرحبة وهيت الأنبار، ويأخذ منه هناك أنهار مثل نهر عيسى وغيره، مما ينتهي إلى مدينة السلام، فيصب في دجلة، وينتهي الفرات إلى بلاد سورى وقصر ابن هبيرة والكوفة والجامعين وأحمد أباد والفرس والطفف، ثم تنتهي غايته إلى البطيحة التي بين البصرة وواسط، فيكون مقدار جريانه على وجه الأرض نحوا من خمسمائة فرسخ، وقد قيل أكثر من ذلك، وقد كان الفرات الأكثر من مائة ينتهي إلى بلاد الحيرة ونهرها بين إلى هذا الوقت وهويعرف بالعتيق، وعليه كانت وقعة المسلمين مع رستم، وهي وقعة القادسية، فيصب في البحر الحبشي، وكان البحر حينئذ في الموضع المعروف بالنجف في هذا الوقت، وكانت تقدم هناك سفن الصين والهند ترد إلى ملوك الحيرة، وقد ذكر ما قلنا عبد المسيح بن عمروبن بقيلة الغساني حين خاطب خالد بن الوليد في أيام أبي بكر بن أبي قحافة رضى الله عنه حين قال له: ما تذكر؟ قال: أذكر سفن الصين وراء هذه الحصون، فلما انقطع الماء عن مصبه فى ذلك الموضع انتقل البحر برا؟ فصار بين الحيرة وبين البحر في هذا الوقت مسيرة أيام كثيرة، ومن رأى النجف وأشرف عليه تبين له ما وصفنا، وكتنقل الدجلة العوراء فصار بينها وبين الدجلة في هذا الوقت مسافة بعيدة، وصارت تدعى ببطن جوخى، وذلك من جهة مدينة فارس من أعمال واسط إلى دنوقاء إلى نحو بلاد السوس، وكذلك ما حدث في الجانب الشرقي ببغداد من الموضع المعروف برقة الشماسية وما نقل الماء بتياره من الجانب الغربي من الضياع التي كانت بين قطربل ومدينة السلام، كالقرية المعروفة بالقب والموضع المعروف بالبشرى والموضع المعروف بالعين، وغير ذلك من ضياع قطربل، وقد كان لأهلها مطالبات مع أهل الجانب الشرقي ممن ملك رقة الشماسية في أيام المقتدر، بحضرة الوزير أبي الحسن علي بن عيسى، وما أجاب به أهل العلم في ذلك، وما ذكرناه مشهور بمدينة السلام، فإذا كان الماء في نحومن ثلاثين سنة قد ذهب بنحو من سبع ميل، فإنه يسير ميلا في قدر مائتي سنة، فإذا تباعد النهر أربعة آلاف ذراع من موضعه الأول خربت بذلك السبب مواضع وعمرت، وإذا وجد الماء سبيلا منخفضا وانصبابا وسع بالحركة وشدة الجرية لنفسه، فاقتلع المواضع من الأرض من أبعد غايتها، وكلما وجد موضعا متسعا من الوهاد ملأه في طريقه من شدة جريته حتى يعمل بحيرات وبطائح ومستنقعات، وتخرب بذلك بلاد، وتعمر بذلك بلاد، ولا يغيب فهم ما وصفنا على من له أدنى فكر.
ولنبدأ بذكر دجلة ومبدأ جريانها ومصبها، فنقول: دجلة تخرج من بلاد آمد من ديار بكر، وهي أعين ببلاد خلاط منأرمينية، ويصب إليها نهر اسريط وساتيد ما يخرج من بلاد أرزن وميفارقين وغيرهما من الأفهار كنهر دوشا والخابور الخارج من بلاد أرمينية، ومصبه في دجلة بين مدينة باسورين وقبر سابور، من بلاد بقردى وبازبدى وباهمداء من بلاد الموصل،وهذه الديار ديار بني حمداد، وفي بقردي وبازبدي يقول الشاعر:
بقردي وبازبدي مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السلسبيل برود
وبغداد، ما بغداد أما ترابها ... فجمر، وأما حرها فشديد
وليس هذا الخابور خابرو النهر الذي يخرج من مدينة رأس العين من أعينها ويصب في الفرات مدينة قرقيسياء، ثم تمر دجلة بمدينة بلاد الموصل، ويصب إليها نهر الزاب، وهو من بلاد أرمينية وهو الزاب الأكبر بعد الموصل، وفق الحديث مدينة الموصل، ثم يصب فيها زاب آخر فق مدينة السن يأتي من بلاد أرمينية وأذربيجان، ثم ينتهي إلى مدينة تكريت وسر من رأى ومدينة السلام، فيصب إليها الخندق والصراة ونهر عيسى، وهي الأنهار التي ذكرنا أنها تأخذ من الفرات وتصب في دجلة، ثم تخرج دجلة من مدينة السلام فيصب فيها أنهار كثيرة، مثل النهر المعروف بدالي ونهر بين ونهر الروان مما يلي بلاد جرجرايا والسيب وتلي النعمانية، فإذا خرجت دجلة من مدينة واسط تفرقت في أنهار هناك أخر إلى بطيحة البصرة، مثل بردود اليهودي ومسامي والمصب الذي ينتهي إلى القطر، وفيه تجري أكثر سفن البصرة وبغداد وواسط، فمقدار مسافة جريان دجلة على وجه الأرض نحو من ثلثمائة فرسخ، وقيل: أربعمائة.وقد أعرضنا عن ذكر كثير من الأنهار إلا ما كبر واشتهر؛ إذ كنا قد أتينا على ذكر ذلك الإشباع في الكتاب المترجم بأخبار الزمان، وكذلك في الكتاب الأوسط، ونذكر في هذا الكتاب لمعا مما سميناه من الأنهار، ومما. لم نسمه.
وللبصرة أنها ركبار: مثل نهر شيرين، ونهر الرس، ونهر ابن عمر، وكذلك ببلاد الأهواز فيما بينها وبين بلاد البصرة، أعرضنا عن ذكر ذلك، إذ كنا قد تقصينا الأخبار عنها وأخبار منتهى بحر فارس ألى بلاد البصرةوالأبلة وخبر الموضع المعروف بالجرارة وهي دجلة من البحر إلى البر تقرب من نحو بلاد الأبلة، ومن أجلها ملح الأكثر من أنهار البصرة ولهذه الجرارة اتخذت الخشبات في فم البحر مما يلي الأبلة وعبادان، عليها اناس يوقدون النار بالليل على خشبات ثلاث كالكرسي في جوف الليل خوفا على المراكب الواردة من عمان وسيراف وغيرها أن تقع في تلك الجرارة وغيرها، فتعطب، فلا يكون لها خلاص، وقد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتبنا، وهذه الديار عجيبة في مصبات مياهها واتصال البحر بها، والله أعلم.
صفحه ۳۹