مروج الذهب ومعادن الجوهر
مروج الذهب ومعادن الجوهر
فلله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا فقالت سلمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، وقالت: شأنك وما أردت، فاقتاد بلقاء سعد، وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق، فركبها ثم دب عليها، حتى إذا كان بحيال ميمنة المسلمين كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، فأوقف ميسرتهم وقتل رجالا كثيرا من فتاكهم، ونكس آخرين، والفريقان يرمقونه بأبصارهم، وقد تنوزع في البلقاء فمنهم من قال: إنه ركبها عريا، ومنهم من قال: بل ركبها بسرج، ثم غاص في المسلمين، فخرج في ميسرتهم، وحمل على ميمنة القوم فأوقفهم، وجعل يلعب برمحه وسلاحه لا يبدو له فارس إلا هتكه، فأوقفهم، وهابته الرجال، ثم رجع فغاص في قلب المسلمين، ثم برز أم أمه م ووقف بإزاء قلب المشركين، ففعل مثل أفعاله في الميمنة والميسرة، وأوقف القلب حتى لم يبرز منهم فارس إلا اختطفه، وحمل عن المسلمين الحرب، فتعجب الناس منه، وقالوا: من هذا الفارس الذي لم نره في يومنا؟ فقال بعضهم: هو ممن قدم علينا من إخواننا من الشام من أصحاب هاشم بن عتبة المرقال، وقال بعضهم: إن كان الخضر عليه السلام يشهد الحرب فهذا هو الخضر قد من الله به علينا وهو علم بصرنا على عدونا، وقال قائل منهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحروب لقلنا إنه ملك، وأبو محجن كالليث الضرعام قد هتك الفرسان كالعقاب يجول عليهم، ومن حضر من فرسان المسلمين مثل عمرو بن معد يكرب وطلحة بن خويلد والقعقاع بن عمرو وهاشم بن عتبة المرقال وسائر فتاك العرب وأبطالها ينظرون إليه، وقد حاروا في أمره، وجعل سعد يفكر ويقول وهو مشرف على الناس من فوق القصر؛والله لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء، فلما انتصف الليل تحاجز الناس، وتراجعت الفرس على أعقابها وتراجع المسلمون إلى مواضعهم على بقيتهم ومصافهم، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصرمن حيث خرج ولا يعلم به، ورد البلقاء إلى مربطها وعاد في محبسه ووضع رجله في القيد، ورفع عقيرته وهو يقول:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكرمهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وليلة قاعس لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
وأنا رفدهم في كل يوم ... فإن عتبوا فسل بهم عريفا
فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ تعني سعدا، قال: وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فأصف القهوة وتداخلني أريحية فألتذ بمدحي إياها، فلذلك حبسني لأني قلت فيها:
ذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... روي عظامي بعد موتي عروقها
لا تدفنني بالفلاة فإنني ... خاف إذا ما مت أن لا أذقها
وهي أبيات.
وقد كان بين سلمى وسعد كلام كثير وجب غضبه عليها، لذكرها المثنى عند مختلف القنا، فأقامت مغاضبة له عشية أغواث وليلة الهرير وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته فترضته وصالحته، ثم أخبرته خبرها مع أبي محجن، فدعابه، فأطلقه وقال: اذهب فما أنا مؤاخذ بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم والله لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبدا.
يوعماس
صفحه ۲۹۷