بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم المراح فِي المزاح الْحَمد لله على جميل أفضاله، وجزيل بره ونواله، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على أشرف الْخلق سيدنَا مُحَمَّد وَصَحبه وَآله. وَبعد فقد سُئِلت قَدِيما عَن المزاح، وَمَا يكره مِنْهُ وَمَا يُبَاح، فأجبت بِأَنَّهُ مَنْدُوب إِلَيْهِ بَين الإخوان، والأصدقاء والخلان. لما فِيهِ من ترويح الْقُلُوب، والاستئناس الْمَطْلُوب، بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ قذف وَلَا غيبَة، وَلَا يُحَرك الحقود الكمينة ثمَّ طلب مني بعد مُدَّة السَّائِل، بسط الْكَلَام فِي ذَلِك وإيضاح الدَّلَائِل، فَقلت مستعينا بِاللَّه ومتوكلا عَلَيْهِ، ومفوضا جَمِيع أموري إِلَيْهِ:
1 / 35
قد ورد فِي ذمّ المزاح ومدحه أَخْبَار، فحملنا مَا ورد فِي ذمه على مَا إِذا وصل إِلَى حد المثابرة والاكثار. فَإِنَّهُ إزاحة عَن الْحُقُوق، ومخرج إِلَى القطيعة والعقوق. يصم المازح، ويضيم الممازح. فوصمة المازح أَن يذهب عَنهُ الهيبة والبهاء، ويجريء عَلَيْهِ الغوغاء والسفهاء، وَيُورث الغل فِي قُلُوب الأكابر والبنهاء. وَأما إضامة الممازح فَلِأَنَّهُ إِذا قوبل بِفعل ممض وَقَول مستكره وَسكت عَلَيْهِ أَحْزَن قلبه وأشغل فكره، أَو قَابل عَلَيْهِ جَانب مَعَ صَاحبه حشمة وأدبا، وَرُبمَا كَانَ للعداوة والتباغض سَببا، فَإِن الشَّرّ، إِذا فتح لَا يستد، وَسَهْم الْأَذَى إِذا أرسل لَا يرْتَد. وَقد يعرض الْعرض للهتك، والدماء للسفك. فَحق الْعَاقِل يتقيه، وينزه نَفسه عَن وصمة مساويه. وعَلى ذَلِك يحمل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: المزَاحُ استِدرَاجٌ مِنَ الشَّيطَانِ وَاختِدَاعٌ مِنَ الهوَى وَقَوله ﷺ: لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تُمَازِحهُ
1 / 36
وَلاَ تَعِدهُ مَوعِدًا فَتُخِلفُهُ. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: اتَّقوا المزاح فَإِنَّهَا حمقة تورث ضغينة. وَقَالَ: إِنَّمَا المزاح سباب إِلَّا أَن صَاحبه يضْحك وَقيل: إِنَّمَا سمي مزاحا لِأَنَّهُ مزيح عَن الْحق. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: المزاح من سخف أَو بطر. وَقيل فِي منثور الحكم: المزاح يَأْكُل الهيبة كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: من كثر مزاحه زَالَت هيبته، وَمن كثر خِلَافه طابت غيبته.
1 / 37
وَقَالَ بعض البلغاء: من قل عقله. كثر هزله. وَذكر خَالِد بن صَفْوَان المزاح فَقَالَ: يصك أحدكُم صَاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الْخَرْدَل، ويفرغ عَلَيْهِ أحر من الْمرجل، ثمَّ يَقُول: إِنَّمَا كنت أمازحك. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: خير المزاح لَا ينَال، وشره لَا يُقَال، فنظمه السابوري فِي قصيدته الجامعة للآداب فَقَالَ وَزَاد: شرُّ مُزاح المرءِ لَا يقاُل ... وخيرُه يَا صاحِ لَا ينُاُل وَقد يُقال كَثْرَة المزاحِ ... من الْفَتى تَدْعُو إِلى التَّلاحي إِن المزاحَ بدؤه حلاوه ... لكنّما آخرُه عَداوَه يَحقِد مِنْهُ الرجلُ الشريفُ ... ويجتري بسُخفه السَّخيفُ وَفِي معنى هَذِه الْجُمْلَة الْأَخِيرَة قَول شيخ
1 / 38
الْإِسْلَام الْوَالِد فِي منظومته فِي التصوف: وَلَا تمازحِ الشريفَ يحقِد ... وَلَا الدنّي يجتري وَيفْسد وَمَا أحسن مَا قَالَ أَبُو نواس: مُت بدآء الصمت خيرٌ ... لَك من دآءِ الْكَلَام إِنما السَّالم من أَل ... جم فَاه بلجام رُبمَا يستفتح المز ... حُ مغاليق الْحمام والمنايا آكلاتٌ ... شارباتٌ للأَنام وحملنا مَا ورد فِي مدح المزح على مَا سلم مِمَّا ذكر، فَإِنَّهُ قل مَا يعرى من المزاح من كَانَ سهلا، فالعاقل يتوخى بمزحه إِحْدَى حالتين: إِمَّا إيناس المصاحبين، والتودد إِلَى المخاطبين، وَهَذَا يكون بِمَا أنس من جميل القَوْل، وَبسط من مستحسن الْفِعْل كَمَا قَالَ سعيد بن الْعَاصِ لِابْنِهِ: اقتصد فِي مزحك فَإِن الإفراط فِيهِ يذهب الْبَهَاء، ويجرئ السُّفَهَاء، وَإِن التَّقْصِير فِيهِ يغض عَنْك المؤانسين، ويوحش مِنْك المصاحبين.
1 / 39
وَإِمَّا أَن يَنْفِي بالمزاح مَا طَرَأَ عَلَيْهِ من سأم، أَو حدث من سأم، أَو حدث بِهِ من هم وغم. فقد قيل: لابد للمصدور أَن ينفث وَأنْشد أَبُو نواس: أُروّح الْقلب بِبَعْض الهزلِ ... تجاهلًا منّي بِغَيْر جهلِ أَمزح فِيهِ مزحَ أَهل الفَضل ... والمزحُ أَحيانًا جِلاء العقلِ وَأنْشد أَبُو الْفَتْح البستي أفِد طبعَك المكدودَ بالجِدّ رَاحَة ... يَجِمَّ وَعلله بِشَيْء من المزحِ وَلَكِن إِذا أَعطيتَه المزح فَلْيَكُن ... بِمِقْدَار مَا تُعْطِي الطَّعامَ من الملحِ قَالَ الابيرد: إِذا جدّ عِنْد الجِد أَرضاك جدُّه ... وَذُو باطلٍ إِن شِئْت أَلهاك باطله
1 / 40
وَقَالَ أَبُو تَمام: الجِدُّ شيمتُه وَفِيه فكاهةٌ ... طورًا وَلَا جِدُّ لمن لم يلْعَب وعَلى هَاتين الْحَالَتَيْنِ كَانَ مزح رَسُول الله ﷺ وَأَصْحَابه وتابعيه وَالْعُلَمَاء وَالْأَئِمَّة. روى بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ أَنه ﷺ قَالَ: إِنّي لأَمزَحُ وَلاَ أَقُولُ إِلاَّ الحَقّ. وَفِي روايةٍ إِلاَّ حَقًّا. وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُول الله إِنَّك تداعبنا قَالَ: إِنّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا. وَقد سُئِلَ سُفْيَان: المزاحُ هُجنَة؟ فَقَالَ: بل سنة لقَوْله ﵇ إِنِّي لأمزح وَلَا أَقُول إِلَّا الْحق
1 / 41
وَقَالَ أنس بن مَالك: كَانَ رَسُول الله ﷺ من أفكه النَّاس. وَقَالَ ﷺ: رَوّحِوُا القُلُوبَ ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ. وَمن مزاحه ﷺ مَا رَوَاهُ أنس قَالَ: إِن كَانَ رَسُول الله ﷺ ليخالطنا حَتَّى يَقُول لأخ لي صَغِير: يَا أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير؟ كَانَ لَهُ نغير يلْعَب بِهِ فَمَاتَ. وَمَا رَوَاهُ الْحسن قَالَ: أَتَت عَجُوز من
1 / 42
الْأَنْصَار إِلَى النَّبِي ﷺ فَقَالَت: يَا رَسُول الله ادْع لي بالمغفرة فَقَالَ لَهَا: أَمَا عَلِمتِ أَنَّ الجَنَّةَ لاَ يَدخلُهُاَ العَجَاَئِزُ وَفِي روايةٍ العجوزَ وَفِي رِوَايَة لاَ تَدخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ فَبَكَتْ وَفِي رِوَايَة فصرخت فَتَبَسَّمَ رَسُول الله ﷺ وَقَالَ لَهَا: لَستِ يَومَئذٍ يِعَجُوزٍ أَمَا قَرَأتِ قَولَهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَنشَأنَاهُنَّ إِنشَاءَ فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكاَرًا عُرُبًا أَتَرابًا) . وروى زيد بن أسلم أَن امْرَأَة يُقَال لَهَا أم أَيمن جَاءَت النَّبِي ﷺ فِي حَاجَة لزَوجهَا فَقَالَ لَهَا: مَن زَوجُكِ؟ فَقَالَت فلَان فَقَالَ: الذِي فِي عَينِهِ بَيَاضٌ؟ فَقَالَت أَي رسولَ اُلله مَا بِعَيْنِه بَيَاض قَالَ: بلَى إِنَّ بِعَينِه بَيَاضًا فَقَالَت: لَا واللهِ فَقَالَ النَّبِي ﷺ: وَمَا مِن أَحَدٍ إِلاَّ بِعَينِهِ بَياَضٌ وَفِي رِوَايَة فَانْصَرَفت عَجلى إِلى زَوجهَا وَجعلت تتأَمّل عَيْنَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا شأنكِ؟ فَقَالَت: أَخبرني
1 / 43
رسولُ الله ﷺ أَن فِي عَيْنَيْك بَيَاضًا فَقَالَ لَهَا: أَما تَرين بياضَ عَيْني أَكثَر من سوادها؟ . وجآءته امْرَأَة أُخْرَى فَقَالَت: يَا رَسُول الله احملني على بعير فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: احمِلُوهَا عَلَى ابنِ البَعِير فَقَالَت: مَا أَصنع بِهِ؟ مَا يحملني فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: وهَلِ مِن بِعَيرٍ إِلاَّ اُبنُ بَعِيرٍ؟ فَكَانَ يمزح مَعهَا. وَعَن أنس أَن رجلا استحمل فَقَالَ رَسُول الله ﷺ فَقَالَ: إِنّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فَقَالَ: مَا أَصنع بِولد الناقةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: وهَل تَلِدُ الأبِلَ إِلاَّ النُّوقُ؟ . وَعَن جَابر قَالَ: دخلت على النَّبِي ﷺ
1 / 44
وَالْحسن وَالْحُسَيْن على ظَهره وَهُوَ يمشي بهما على أَربع وَيَقُول: نِعمَ الجمَلُ جَملُكُمَا وَنِعمَ العِدلاَنِ أَنتُمَا. وَعَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة قَالَت: دخلت على النَّبِي ﷺ وَهُوَ يغْتَسل، فَأخذ حفْنَة من مَاء فَضرب بهَا وَجههَا وَقَالَ يالَكَاِع. وَعَن أنس أَن النَّبِي ﷺ قَالَ لَهُ: يَاذَا الاُذُنينِ. وَعَن بِلَال أَن النَّبِي ﷺ رَآهُ وَقد خرج بَطْنه فَقَالَ: أمّ حُبَينِ تَشْبِيها لَهُ بهَا وأُمّ حُبَين دُوَيبةَ عَلَى خلقِة الحربآء عَظِيمَة الْبَطن وَيُقَال: هِيَ أُنْثَى الحرابي وَقد تكلم الفقهآءُ فِي حِلّها.
1 / 45
وَعَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا قَالَت: سابقني رَسُول الله ﷺ فسبقته، فَلَمَّا حملت اللَّحْم سابقني فَسَبَقَنِي فَقَالَ: هذِهِ بِتِلْكَ. وَقَالَ ﷺ للشفآء بنت عبد الله: عَلّمِيِ حَفصَةَ رُقيَةَ النَّملِة كَمَا عَلَّمتها الكِتَابَة والنملةُ قروحٌ تَخرج فِي الْجنب ورُقيَتُها شيءٌ كَانَت تستعمله النِّسَاء يعلم كلُّ من يسمعهُ أَنهُ كلامٌ لَا يضّر وَلَا ينفع وَهُوَ أَن يُقَال: العرسُ تحتفل، وتختضب وتكتحل، وكلَّ شَيْء تفتعل، غير أَن لَا تَعْصِي الرّجُل، أَرَادَ ﵇ بِهَذَا الْمقَال تأنيبَ حَفْصَة لِأَنَّهُ ألْقى إِليها سِرًّا فأفشته فَكَانَ هَذَا من المُزاح ولغز الْكَلَام. وَعَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ اسْتَأْذن أَبُو
1 / 46
بكر ﵁ على النَّبِي ﷺ فَسمع صَوت عَائِشَة عَالِيا، فَلَمَّا دخل تنَاولهَا ليلطمها وَقَالَ: لَا أَراكِ ترفعين صوتَك عَلَى رَسُول الله ﷺ، فَجعل رَسُول الله ﷺ يَحجُزُهُ وَخرج أَبو بكر مغضبا فَقَالَ النَّبِي ﷺ حِين خرج أَبُو بكر: كَيف رَأيتِني أَنقَذتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: فَمَكثَ أَبُو بكر ايامًا ثمَّ اسْتَأْذن فوجدهما قد اصطلحا فَقَالَ لَهما: أدخلاني فِي سِلمِكما كَمَا أدخلتماني فِي حربكما فَقَالَ النَّبِي ﷺ: قَد فَعَلنا. وَعَن أنس أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ فِي بَيت عَائِشَة فَبعث إِلَيْهِ بعض نسآئه بقصعة فدفعتها عَائِشَة فألقتها وكسرتها، فَجعل النَّبِي ﵇ يضم الطَّعَام وَيَقُول: غَارَت أُمُّكُم فَلَمَّا جآءت قَصْعَة عائشةَ بعث بهَا إِلَى صَاحِبَة الْقَصعَة الَّتِي كسرتها وأَعطى عائشةَ الْقَصعَة الْمَكْسُورَة.
1 / 47
وَعَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب قَالَ: قَالَت عَائِشَة: كَانَ عِنْدِي رَسُول الله ﷺ وَسَوْدَة فصنعت خزيرا فَجئْت بِهِ فَقلت لسودة: كُلِي فَقَالَت: لَا أُحبّه فَقلت: وَالله لَتأكلين أَو لاَلُطخنّ وَجهك فَقَالَت: مَا أَنا يباغية، فأَخذت شَيْئا من الصحَّفة فلطختُ بِهِ وَجههَا ورسولُ الله ﷺ مَا بيني وَبَينهَا فخفض لَهَا رَسُول الله ﷺ رُكْبَتَيْهِ لِتَستقِيدَ مني فتناولت من الصحَّفة شَيْئا فمسحت بِهِ وَجْهي وَجعل رسولُ الله ﷺ يضْحك فِي حديثٍ أَكبِر من هَذَا.
1 / 48
وَعَن عَائِشَة قَالَت: لما قدم النبُّي ﵇ الْمَدِينَة عرس بصفية فَأَخْبرنِي قَالَت: فتنكّرتُ وتنقّبتُ فَذَهَبت أَنظرُ، فنظَر رَسُول الله ﷺ إِلى عَيْني فعرفني فأَقبل إِلَّي فَانْقَلَبت رَاجِعَة فأَسرع المشَي فأَدركني فاحتضنني فَقَالَ: كَيفَ رأَيتِ؟ قلتُ: يَهُودِيَّة بَين يهوديات. وَعَن عَائِشَة أَنه ذكر عِنْدهَا مَا يقطع الصَّلَاة الْكَلْب وَالْحمار وَالْمَرْأَة فَقَالَت: عَائِشَة قد شبّهتمونا بالحمير وَالْكلاب؟ وَالله لقد رأَيتُ رَسُول الله ﷺ يصلّىِّ وإِني عَلَى السرير بَينه وَبَين القِبلة مُضْطَجِعَة الحَدِيث. وَعَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: قَالَت عَائِشَة: مَا يقطع الصَّلَاة؟ قَالَ: فَقُلْنَا: المرأَةُ واُلحمار فَقَالَت: إِنَّ المرأةَ لدابة سَوء، لقد رأَيتُني بَين يدَي رَسُول الله ﷺ مُعْتَرضَة كاعتراض الجَنِازة وَهُوَ يصلى.
1 / 49
عَن ابْن أبي عَتيق قَالَ: تحدثت أَنا وَالقَاسِم (يَعْنِي ابْن مُحَمَّد) عِنْد عآئشة حَدِيثا وَكَانَ الْقَاسِم رجلا لحانة وَكَانَ لامّ ولد فَقَالَت لَهُ عَائِشَة: مَالك لَا تَحَدَّثُ كَمَا يتحدّث ابنُ أَخي هَذَا؟ (يَعْنِي ابْن أبي عَتيق) أَما إِني قد علمت من أَين أَتِيتَ، هَذَا أَدَّبته أمّه، وأَنت أَدّبتك أَمُّك قَالَ: فَغَضب الْقَاسِم وأَضبَّ عَلَيْهَا (يَعْنِي حَقِد)، فَلَمَّا رأَى مائدة عائشةَ قد أَتي بهَا قَامَ، قَالَت: أَيْن؟ قَالَ: أُصلي قَالَت: اجْلِسْ قَالَ: إِني أُصلي قَالَت: اجْلِسْ غُدَر إِني سمعتُ رَسُول الله ﷺ يَقُول: لاَ صَلاَة بَحَضرَةِ الطَّعَامِ وَلاَ هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخبَثَانِ (روى الثَّلَاثَة مُسلم) . وَعَن أنس أَن رجلا من أهل الْبَادِيَة اسْمه زَاهِر بن حرَام وَكَانَ يهدي للنَّبِي ﷺ من الْبَادِيَة فيجهزه رَسُول الله ﷺ إِذا أَرَادَ أَن يخرج فَقَالَ النَّبِي ﷺ إِن زَاهَرًا بَاديَتُنا وَنَحنُ حَاضِرُوه، وَكَانَ النَّبِي ﷺ يُحِبهُ وَكَانَ دميمًا فأَتى النَّبِي ﷺ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيع متاعة فَاحْتَضَنَهُ من خَلفه وَهُوَ لَا يبصر
1 / 50
قَالَ: أَرسِلني، من هَذَا؟ فَالْتَفت النَّبِي ﷺ فَجعل لَا يألوما أَلزق ظَهره رَسُول الله ﷺ حِين عرفه وَجعل النَّبِي ﷺ يَقُول: مَن يَشتَري العَبدَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِذًا وَالله تجدني كاسدًا، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: لَكِن عندَ الله لَستَ بَكاَسِدٍ. قصَّة دات النحيين.
1 / 51
وَعَن ربيعَة بن عُثْمَان أَنه بلغه أَن خوّات بن جُبَير كَانَ جَالِسا إِلَى نسْوَة من بني كَعْب بطرِيق مَكَّة فطلع عَلَيْهِ رَسُول الله ﷺ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبدِ اللهِ مَالَكَ مَعَ أُولآء النِسوَةِ؟ قَالَ: يَفتِلنَ ضفُيَرًا لجملٍ لي شَرُودٍ قَالَ: فَمضى رَسُول الله ﷺ لِحَاجَتِهِ ثمَّ طلع علّي فَقَالَ: أَبَا عَبدِ اللهِ مَا تَرَك ذلِكَ الشّرِاَدَ بَعدُ؟ قَالَ: فَسكت واُستحيَيتُ فَكنت بعد ذَلِك أَتفرد مِنْهُ كلما رأَيته حَيَاء مِنْهُ حَتَّى قدمت الْمَدِينَة وَبعد مَا قدمت الْمَدِينَة حَتَّى طلع علَّي وأَنا أُصلي فِي الْمَسْجِد إِلَّي فطولت
1 / 52
فَقَالَ: لاَ تُطَوّل فَإِنّي أَنتظركَ فَلَمَّا فرغت قَالَ: يَا أَبَا عَبدِ اللهِ مَا تَرَك ذلِك الجَمَلَ الشّرِاَدَ بَعدُ؟ قَالَ: فَسكت واستحيَيتُ، فَقَامَ فَكنت أتفرد مِنْهُ حَتَّى لَحِقَنِي يَوْمًا وَهُوَ على حمَار وَأَنا أُرِيد قُباَ، وَقد جعل رجلَيْهِ فِي شقّ وَاحِد فَقَالَ: أَبَا عَبدِ اللهِ مَا تَرَك ذلِكَ الجَمَل الشّرِاَدَ بَعدُ؟ قلت: وَالَّذِي بَعثك بالحقّ مَا شَردَ مُنْذُ أَسلمتُ قَالَ: اللهُ اكبر اللَّهُمَّ اهد أَبَا عبد الله قَالَ الرَّاوِي: فَحسن إِسْلَامه وهداه الله وَله الْحَمد. وَذكر غير وَاحِد أَنه ﷺ لما قَالَ لَهُ: مَا فعل جملك الشرود قَالَ: عقله الْإِسْلَام يَا رَسُول الله. وَهُوَ خوّات بن جُبَير بن النُّعْمَان بن أُميَّة بن امرىء الْقَيْس وَهُوَ البرك بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس، كسر أونهش فِي غَزْوَة بدر فَرده النَّبِي ﷺ وَضرب لَهُ بِسَهْم وَشهد الْمشَاهد كلهَا بعد وعاش حَتَّى كف بَصَره
1 / 53
وَمَات فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فِي أول ولَايَة مُعَاوِيَة وَله عقب. وَكَانَ مُعَاوِيَة عَنهُ منحرفًا. عَن الْوَاقِدِيّ قَالَ: قَالَ خوّات بن جُبَير: فعلت ثَلَاثَة أشيآء لم يفعلهن أحد قطّ: ضحِكت فِي مَوضِع لم يضْحك فِيهِ أحد قطّ، ونمت فِي مَوضِع لم ينم فِيهِ أحد قطّ، وبخلت فِي مَوضِع لم يبخل فِيهِ أحد قطّ. انْتَهَيْت يَوْم أحدٍ إِلَى أخي وَهُوَ مقتول وَقد شقّ بَطْنه وَقد خرجت حشوته، فاستعنت بِصَاحِب لى عَلَيْهِ فحملناه وختل الْمُشْركين حوالينا فأدخلت حشوته فِي جَوْفه وشددت بَطْنه بعمامتي وَحَمَلته بيني وَبَين الرجل، سَمِعت صَوت حشوته رجعت فِي بَطْنه فَفَزعَ صَاحِبي فطرحه فَضَحكت، ثمَّ مشينا فحفرت لَهُ بِسِيَةِ قوسيى وَكَانَ عَلَيْهَا الْوتر فحللته وبخلت بِهِ مَخَافَة أَن يَنْقَطِع فحفرت لَهُ فدفنته، فَإِذا أَنا بِفَارِس قد سدد رمحه نحوي يُرِيد أَن يقتلني فَوَقع عَليّ النعاس فَنمت فِي مَوضِع مَا نَام فِيهِ أحد قطّ، فانتبهت فَلم أر فَارِسًا وَلَا غَيره وَلَا أَدْرِي أَي شيىء كَانَ ذَلِك.
1 / 54