هز جيمي رأسه بالنفي. «في غرفة المعيشة، حيث كانت العمة بيث تجلس على كرسي متحرك، منذ عرفتها، وضعت الزهور في كل مكان. إذ أرسلها كل أفراد أسرتنا، وأرسلها كل الجيران، وأرسلتها كنيستها، وأرسلها أناس لم نسمع عنهم قط؛ لأن الكل كان يحب العمة بيث. قالت أمي إنها كانت أكبر من يكذب كذبات بريئة في العالم بأسره. فقد كانت في الأيام التي تراها فيها وهي تتلوى من الألم، تنظر في عينيك مباشرة وتقول إنها بخير. كانت دائما بخير. وكان لديها منزل غاية في الطرافة. فكلما ذهبت لزيارتها تمنحني كعكة بها قطع الحلوى، أو عيدان نعناع حمراء، ولديها دائما أفضل زبيب. يا للروعة، لا يوجد قط زبيب بحلاوة مذاق الذي كان لديها! وأحيانا ما تجد فشارا أو فطائر الدونات، وحين كنت هناك آخر مرة، منحتني كعك زنجبيل توابله قوية جدا؛ حتى تذكرك رائحته بمنطقة مضائق الهند!
ومن ثم دخلنا إلى غرفة نوم العمة بيث، حيث وضع على فراشها غطاء ساتان أرجواني، بينما هي مستلقية على وسادتها وكان شعرها ناعما ومموجا؛ وهو شعر مموج كثيف ولونه بني لامع. وقد بلغت من العمر السابعة والثمانين ويمكنك أن تجد في رأسها شعرا رمادي اللون. كانت خصلاته ناعمة حريرية ملتفة منسابة على نحو بديع جدا.
وقد مضى الموت وأضفى عليها سحرا. فلم يكن ثمة تجعيدة في وجهها، وعنقها ممتلئ، وشفتاها باسمتين. يا للروعة، لقد كانت بديعة للغاية! وبدا ثوبها كأنه قد فصل من سحب رمادية ناعمة، والكمان وواجهة الثوب حتى أسفله من الدانتيلا الرقيقة، والمعصمان مربوطان في عقدتين صغيرتين أنيقتين.
وقد وقفت نانيت تنظر إليها وأخذت تتسلل مقتربة وهي تنظر وتنظر، ثم أمسكت بذراعي وقالت: «عجبا، لقد ظننت أنها ستبدو مثل الرجل الذي رأيته!»
عندئذ اكتشف أبي واكتشفنا كلنا لأول مرة أن نانيت كانت تعتقد أن كل الموتى في كل مكان يبدون مثل الرجل الذي لبث في الماء بين السلاحف وما إلى ذلك، ودعني أخبرك بشيء، لقد كنا سعداء حينذاك أننا قد أحضرنا نانيت لترى العمة بيث! فقد كانت جميلة جدا، حتى إن نانيت أرادت أن تفك العقد التي في معصميها وتربطها بالطريقة التي أحبتها، وقد جعلني ذلك أريد القيام بشيء من أجلها، فسألت ما الذي يمكنني فعله، فقالوا إن بإمكاني إلباسها خفيها. ومن ثم أزاحوا الغطاء الدانتيلا ذا البطانة الأرجوانية الذي كان يغطيها، فوضعت في قدميها خفيها الرماديين الصغيرين ذوي الفراء الأبيض. كانا صغيرين وفي غاية الروعة! ثم هندمت تنانيرها الداخلية، وتنورتها الساتان الرمادية التحتانية، وثوبها الدانتيلا، وأصلحت نانيت هندام كميها ودثرناها وقبلناها قبلة الوداع، وغادرنا ولم يعد بمقدور أحد أن يخيفنا من الموت!
ومنذ ذلك الحين لم تنتفض نانيت ليلا، ولو مرة واحدة. فقد عرفنا أن هناك أنواعا متعددة من الموت. فهناك من كان قلبه شريرا وتحدث بغير الحق وأخذ أشياء لا تخصه، ولم يطع الله، ولم يحترم حكومته البتة، وبالطبع، لا يمكن أن يبدو مثل ذلك الشخص بمظهر جيد سواء كان حيا أو ميتا بينما بداخله مثل تلك الأشياء. علاوة على ذلك، ثمة حوادث من الوراد أن تحدث لأي شخص؛ منها البقاء في الماء مدة طويلة مع السلاحف، أو الاحتراق إثر اندلاع حريق أو انفجار مصنع. إن هذا لمن سوء الحظ. أما إن مت في المنزل، بأن تخلد للنوم في هدوء في فراشك ليلا لا غير، في وداعة شديدة حتى إنك لا ترفع يديك عن صدرك أبدا، وحين ترى الرب تزحف إلى وجهك ابتسامة صغيرة عذبة؛ مرحى! إنني على يقين أن الرب وكل الملائكة كانوا في غاية من البهجة لرؤية العمة بيث حين جاءتهم تسير بجسد ممشوق ومستقيم وشاب تماما في ثوبها الرقيق الشبيه بالسحاب! لقد وضعت نانيت في يديها زهور أذن الفأر وبنفسج بارما ورقيب الشمس وهي تربط معصميها ربطة مناسبة. إن ظلت تحملها معها عند بلوغها السماء، فلا بد أن الهواء حولها سيعبق برائحة الزهور. لم يرد أحد منا أن تذهب. فقد كنا جميعا نحب أن نرعاها. كنا جميعا نحب أن نأخذ إليها الفاكهة والزهور والكتب والصحف. كان كل منا يدخر كل ما يصادفه من قصص طريفة ليخبرها بها، لكننا رغم ذلك كنا مسرورين نوعا ما برحيلها؛ لأن عظامها كانت تؤلمها بالطبع، ولم تكن تقول الحقيقة حين تخبرنا دائما أنها بخير؛ لأنها كانت تضطر إلى الاستسلام وترى الطبيب أحيانا على كراهة ذلك لها.»
وقف الكشافة الصغير بيدين ممدودتين إشارة إلى النهاية. «بعد ما أخبرتك به، لك أن تتخيل كيف قد يبدو سيد النحل في حال قرر الرب أن يخلد إلى النوم ليلا، وألا يعاني مزيدا من الألم في جانبه ولا يتساقط المزيد من العرق من أنفه. إنني متأكد أن كل الآلات الموسيقية من هارب وأبواق في السماء سوف تعزف «زووم! زووم!» وكل الملائكة ستأتي محتشدة إذا دخل سيد النحل من البوابات! أراهن أن الرب نفسه سوف ينهض واقفا حين يأتي سيد النحل بقامته شديدة الاستقامة فارعة الطول ليؤدي له التحية؛ إذ كان ممن شاركوا في الحرب يوما ما، في مكان ما. فلديه زي رسمي رائع ويستطيع أداء التحية بأسرع ما يمكن! لقد كان جنديا وأراهن أنك أيضا كنت جنديا؛ لأنك تبدو مثل الجنود وتمشي مثل الجنود، وأعتقد أنه من السيئ أنك لا ترتدي بذلتك الرسمية. كم تروق لي البذل الرسمية!»
وعندئذ فغر جيمي فمه واتسعت عيناه. ثم اندفعت يد محذرة إلى الوراء ناحيته. وباغت أذنيه هسهسة صفير يراد به التنبيه على التزام الصمت. ثم مال الكشافة الصغير إلى الأمام، في هدوء، وخطوة خطوة، باسطا ذراعه أمامه من أجل التوازن، ودافعا الأخرى إلى الوراء لتوخي الحذر، زحف منحنيا في الممشى، وقد تطلع بعينيه بثبات إلى الأمام. وحين انحنى جيمي ليصبح بمحاذاته، رأى نحلة طنانة كبيرة وهي تتسلق البتلة الخارجية المؤدية إلى بوق إحدى الزهور البوقية. ورأى الكشافة الصغير وهو يقيس مسافة معينة، ويجثو، ثم سريعا، أسرع من قدرته على استيعاب ماذا يجري، انطلق سيل من اللعاب مباشرة وأصاب النحلة، ليوقعها من حيث استقرت. وثب الكشافة الصغير في الهواء وأطلق صيحة كان بمقدورها أن تثير الرعب في واحد من قبيلة الأباتشي وهو في طريقه للقتال. وبينما هو يدور ويصيح في اندفاع، ملوحا بيديه، صاح الصغير، بصوت صبياني حاد: «أصبتها؟ يا للهول! لقد أصبتها! لقد ضربتها طاخ!»
ثم استدار الجسد الصغير، وهرع تجاه جيمي وأمسك كلا من ركبتيه بيد من يديه. «اسمع، هل ستخبر بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذا الوجه الملائكي، إذا جئت بهم؟ هل ستخبرهم أنني فعلتها؟ إذ إن بيننا رهانا. وسوف أفوز بموجبه بخمسة وعشرين سنتا. سوف أوسعهم ضربا إن لم يصدقوني، لكن سيصبح بإمكاني التفاخر أكثر بمراحل إن أخبرتهم أنك رأيتني.»
أخيرا هيأ جيمي فمه ليقول قولا إنجليزيا مفهوما.
صفحه نامشخص