159

مربی زنبورها

مربي النحل

ژانرها

وأخيرا قالت له: «إن هذا الطفل كان بمثابة نعمة لي يا جيمي؛ فقد خفف حبه ورعايته ما أعانيه في ذهني من توتر بدرجة كبيرة حتى إنني أجدني عاجزة عن شرح ما فعله لي. ولا أستطيع أن أتقاضى مالا مقابل العناية به. لا أستطيع حقا! لكن مع مرور الوقت، حين يحتاج إلى مزيد من الملابس أو تنشأ له حاجة، مثل حوض استحمام صغير بالشكل المناسب للأطفال، الأشياء التي لا بد له من الحصول عليها، فسوف أخبرك، وإنه من حقك واختصاصك أن تأتي بها، أما تقاضي المال مقابل ما أفعله له، فهو ما لا طاقة لي به. ونحن لن نتحدث في ذلك الأمر ثانية.»

فقال لها جيمي: «حسنا»، وخرج من المنزل وشرع في عملية تفقد أرض مارجريت بدقة ليكتشف ما يسعه القيام به في الحديقة التي صارت تهملها، وللزهور التي باتت ترويها على عجالة، وهو ما رأى أنه سيكون مكافئا لرعاية الطفل.

ما لبثت مارجريت أن أدركت أن هذا ما كان يحدث، وقد ناسبها الترتيب تماما. فقد ظلت بضعة أيام لا تأبه إن عاشت الزهور أو ماتت. ولم تكترث ما إن كان المنزل نظيفا ومنظما، أو إن كان الطعام في مكانه من أجل الطيور المحاكية والعصافير الوردية. لكنها الآن تهتم بكل هذه الأشياء اهتماما لا حدود له لأنه سريعا جدا ما سيكبر جيمي الصغير فيلاحظ الزهور الجميلة، ويلقي بالفتات للطيور، ولا بد دائما من حماية صحته بمراعاة النظافة التامة والظروف الصحية فيما حوله. وهكذا صارت مارجريت كاميرون أشد اهتماما بشئون المنزل وأقل ميلا إلى الخروج، ووجد جيمي مع الاستيقاظ كل صباح أنه اكتسب المزيد من البأس ليعينه على أن يضيف إلى أعمال يومه ما ينبغي إنجازه من مهام في المنزل المقابل للسياج الأبيض.

والتزم جيمي مواظبا بتناول عصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال في العصر، والحليب ليكون شرابه مع الوجبات، النظام الغذائي الذي طالما أكدت مارجريت كاميرون أن لديها كل الوقت لتحضيره له. وبدأ يشعر أنه أصبح رجلا بحق، شديد الثقة من قوته، شديد الاعتزاز بنسيج الجلد الذي صار أغمق لونا، وأكثر سمكا، ممتدا بأمان على جانبه الأيسر، شديد الاعتزاز بالدماء الحرة النقية المتدفقة في عروقه، شديد الامتنان لله على فرجه، على الفرصة التي منحه إياها، ومن ثم وجد شفتيه مضمومتين تصفران صفيرا خافتا كل لحن من الألحان التي يعرفها أثناء مباشرة عمله. كان بعضها من أغنيات الجيش، الألحان التي ينشدها الصبية في المعسكرات، لكن أغلبها أغنيات كان ينشدها في مدرسة الأحد أو أشياء سمع أمه تتغنى بها وهو صغير. كان أحيانا يحفظ الألحان التي يسمعها في الشارع أو وهو مستلق لينعم بالشمس على الشاطئ. فقد تنوعت مجموعة أغاني جيمي من «فلتسمعني يا يسوع، أيها المخلص الطيب!» حتى «لن تمطر السماء مرة أخرى»، وبينما هو يعمل الخرطوم للمساعدة في إنتاج أغزر محصول عرفه يوما من الثمار والزهور، وبينما يفكر في جانبه الملتئم والمعجزة النادرة التي حدثت بشفائه، بدا له أنه لن يفرق كثيرا سواء أمطرت السماء أم لم تمطر. إذ يبدو أن كاليفورنيا في خير حال من دون مطر.

لكن كل هذا كان سطحيا؛ فكلها أمور تجري لضروريات الحياة. لكن الفكرة الكامنة، الشيء المعتمل في أعماق قلب جيمي، الشيء الذي جعله في اضطراب وجعله يضرب أخماسا في أسداس منذ ذلك الحين، الشيء الذي لم يفهمه ولم يستطع أن يغفره، هو الشيء الذي خادعته فيه فتاة العاصفة.

إذ ظن مما قالته أنها بحاجة إلى مساعدته من أجل نفسها، وقد منحها إياها في الحال، بلا مقابل. لكن لم يعجبه أن يكذب عليه. لم يعجبه أن يخدع. لقد تزوج من فتاة، ودعي لتولي مسئولية تربية طفل لفتاة مختلفة تماما. لم يكن هذا تصرفا عادلا. ولم تكن تلك أمانة. إذا كان خاتمه وإذا كان عقد الزواج الذي حرر له من أجل فتاة العاصفة قد أعطيا لفتاة أخرى في محنة بحيث تستخدمه حتى لا يزعجها الأطباء والممرضات، فبإمكانه أن يفهم فيما كان استخدامهما. لكن إذا كان الاسم الذي وثق به الزواج لم يكن الاسم الحقيقي للفتاة التي تزوجها، فالزواج لم يكن شرعيا، ومن يدقق في الأمر يجد أن الطفل الصغير طفل خطيئة بعد كل ما حدث. لقد جرت المسألة بأسلوب أحمق. كان جيمي، بالحال التي كان عليها آنذاك، وبالمشاعر التي اعترته، سيعطي اسمه لأي امرأة بحاجة إليه في أي مكان. أخرج جيمي الخطاب الذي يعتز به من جيبه ووضعه بعيدا. فلم يعد من المقتنيات الشخصية. فالمسألة برمتها ليست منصفة.

وحين بلغ سخطه الذروة، وفاق غضبه الحدود، نشأ في قلبه شعور قوي نابض ومتدفق وطاغ بالراحة. فمهما كان كذبها، وأيا كان دافعها إلى خداعه، فقد ظلت حقيقة واحدة في أفق جيمي. لقد كان ظنه في فتاة العاصفة في محله. إذ لم يشعر أن امرأة يعبق شعرها بعبير المريمية وتفوح رائحة زهور رعي الحمام الرملية وزهور الربيع حول ركبتيها مثل البخور وقد فاحت بهذه الروائح ملابسها الليلية، لم يخطر له أن الشعر الحرير الذي التصق بوجهه، وأن القوة البدنية، والردود الحاضرة الواثقة، لم يخطر له أن هذه الأشياء قد تقترن بامرأة سوء. وكان على استعداد لقبول أي عذر، وتصديق أي شيء. أما الآن فلا يوجد شيء ليصدقه عدا أنه قد كذب عليه، لكن في العالم من الكذب ما كان نبيل القصد نوعا ما على أي حال. وثمة احتمال ضئيل أن تكون هذه الكذبة، ذلك الشيء الذي حدث، وراءه سبب ربما يجد استعدادا لقبوله. وهكذا أمضى جيمي جل أيامه وبعض لياليه ممزقا بين عواطف متضاربة.

الفصل العشرون

تمرد الكشافة

حل منتصف الصيف في الحديقة، وجاءت أيام الإجازة الطويلة المشمسة. وأصبح النحل مزدهرا. حيث امتدت أسراب لا حصر لها في صفوف القفائر على جانبي الحديقة، بل تخطت حدودها، فبدأ جيمي يشعر بأنه يجب أن يستغني عن بعضه بحلول الموسم التالي وإلا فسيصبح لديه أكثر مما يستطيع السيطرة عليه. وازدهرت الزهور في استعراض صاخب للألوان. وأصبحت الأشجار محملة بالثمار. وقد اقترب هو من الشفاء التام حتى إنه بدأ يستخدم ذراعه اليسرى وهو يكاد لا يشعر بشيء من استخدامها. كان يدهن جلده الرقيق بالزيت بحرص. وهو ما زال يحميه بضمادة خفيفة . كما أن الأربطة خفيفة للغاية حتى إنه لم يكن يشعر بها ولا بالإسار الخفيف الممتد حول كتفيه ليبقيها في مكانها. كان كل يوم هو يوم عمل يهواه في موقع يحبه. وفي كل مساء يجد ملاذا في الكتب التي علمته الأشياء التي يجب أن يعرفها لإتقان مهنته الجديدة، وقد بدأ الآن يتفرع لتلك الكتب الأخرى، إبداعات أنبغ العقول في أقدم الأعمال الأدبية المجمعة.

صفحه نامشخص