مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
ژانرها
وبطبيعة الحال فإن هذا القمع الرئيسي، الذي يتمثل في ذلك الإهدار «الدستوري» لأية فرصة أمام الشعب كيما يختار السلطة التي تحكمه، لا بد أن تتفرع عنه ألوان أخرى من القمع لا تقل عنه قسوة وضراوة، فحرية الكلام والتعبير عن الرأي مصادرة إلا في الحدود التي تساير النظام، وحرية السفر محظورة إلا للوفود الرسمية وفي ظل رقابة مشددة. ولقد كان لضياع هذه الحرية الأخيرة بالذات أسوأ الأثر في نفوس جماهير أوروبا الشرقية التي ترى كل بلد أوروبي غربي يكاد يفرغ سكانه خلال العطلات الصيفية لكي يوزعهم سياحيا على بقية البلدان، أما المركزية الشديدة للسلطة فتقضي تماما على قدرة الفرد على التصرف، ولو في أضيق الحدود، فأبسط مطلب يحتاج إلى قرار يمكن أن يمر على عشرات من الموظفين، حسب تدرجهم الهرمي، ولا يجاب إلا بعد وقت طويل وتعقيدات إدارية مملة. ولم تكن الأضرار التي يسببها سرطان البيروقراطية مقتصرة على جهاز الدولة، بل إنها كانت تولد خميرة سخط تتجدد دائما بين الجماهير.
ومن جانب آخر فإن الحزب الذي جاء من أجل القضاء على الفوارق بين الطبقات، قد صنع هو نفسه تفاوتا طبقيا صارخا بين أعضائه وبين بقية الشعب؛ إذ كان أعضاء «الحزب» يتمتعون بامتيازات مادية ومعنوية ملموسة، بل كان لهم في بعض هذه البلاد امتيازات خاصة حتى في ميدان التعليم، ومن أجل حماية هذه الأوضاع الجائرة كان لا بد من وضع نظام صارم يضمن إسكات الأصوات المعارضة، والتجسس على المواطنين عن طريق زرع عملاء السلطة في مواقع العمل العادية أو تجنيدهم من داخلها، وإقامة أجهزة صارمة للأمن تسهر على إقلاق راحة المواطنين وتضمن انضباطهم وتعاقبهم بقسوة لو خرجوا عن الخط المرسوم.
وليس ثمة شيء يثير نقمة الشعوب بقدر التناقض بين الشعارات المعلنة والممارسات الفعلية لحكامها، فحين ترى الشعوب كبار «الثوار» فيها يعيشون حياة الإقطاعيين المترفين، وحين ترى أساطين «الاشتراكية» ينعمون بأجمل الملذات «البورجوازية» عندئذ يتجاوز ذلك التناقض طاقتهم على التحمل، ولو كان النظام يعلن على الملأ أنه رأسمالي أو إقطاعي، ويعترف مقدما بالتفاوت الحاد بين الطبقات و«يفلسفه» على طريقته الخاصة، لتحملته الجماهير بمزيد من رحابة الصدر، فحين يعلن الأميركيون مثلا أنهم دولة رأسمالية تقوم على مجتمع الفرصة «وأن أساس نظامهم يقتضي أن يكون البعض من أصحاب الملايين والبعض الآخر من العاطلين المعدمين، ويسود لديهم شعار «كل واحد وشطارته»، عندئذ لا يكون سخط الناس عميقا حين يشاهدون مظاهر البذخ التي يعيش بها آل روكفلر أو آل ديبونت، بل ربما كانت هذه المظاهر ذاتها من عوامل تقوية النظام وتدعيمه؛ لأنها ترسخ في نفس كل إنسان «الحلم الأميركي»، وتوهمه بأن «نادي المليونيرات» ليس مغلقا، بل إن أبوابه المفتوحة ترحب بكل من يملك الموهبة المطلوبة، أو يتحين الفرصة الملائمة».
أما حين يعلن الحكام أنهم إنما جاءوا من قاع الجماهير الشعبية، وأنهم يمثلون مطالب الأغلبية المسحوقة ويجسدون أمنياتهم، ثم يراهم الناس يعيشون حياة مرفهة منعمة يتمتعون فيها بكل الملذات التي حرمت منها الجماهير ، فعندئذ تتراكم عوامل الثورة ويغلي الإناء المكتوم .
وبطبيعة الحال فإنني لا أقصد بهذه المقارنة القول إنه لا توجد أسباب للسخط بين الزنوج والملونين وغيرهم ممن يعيشون على حافة الفقر في «جنة الرأسمالية» (وهم أكثر مما يتصور معظم الناس)، بل إن كل ما أعنيه هو أنه حين يكون ذلك التفاوت بين الطبقات جزءا لا يتجزأ من الفلسفة المعلنة والمعترف بها للمجتمع، تكون دواعي السخط عليه أقل مما هي في المجتمعات التي يقوم نظامها على إلغاء الفوارق الطبقية، ويكون أصحاب السلطة فيهم هم أنفسهم أوضح تجسيد لهذه الفوارق.
ولعل الكثيرين من الجيل الأوسط والأكبر في مصر وكثير من الأقطار العربية يذكرون اسم «الشيخ عاشور»، الذي كان إماما غير متميز في أحد مساجد الإسكندرية، وانتابته في إحدى خطبه، خلال الستينات، نوبة غضب فتحدث عن الاتحاد «الاشتراكي» الذي يركب قادته المرسيدس وترتدي نساؤهم أغلى أنواع الفراء ... إلخ ... فوقع عليه اضطهاد من السلطة (اختلفت الآراء في نوعه ومداه). ولكن ما يهمنا من القصة هو أن هذا الرجل، بإمكاناته المحدودة، حين رشح نفسه بعد سنوات لعضوية المجلس النيابي فاز فوزا ساحقا، بلا مجهود، واكتسح مرشحين أنفقوا في حملتهم الانتخابية ألوفا مؤلفة، وحين عاد إلى ممارسة هوايته في النقد الصريح والساذج داخل المجلس، طردته منه الحكومة «بالقانون» (!)، فحاول ترشيح نفسه مرة أخرى، وكان واضحا أنه سيكتسح الدائرة للمرة الثانية، فاضطرت الحكومة إلى «تفصيل» قانون يحول دون إعادة ترشيحه. والنتيجة التي أريد أن أخلص إليها من هذه القصة هي أن الجماهير تتعاطف بقوة وعفوية مع كل من يفضح التناقض بين الشعارات المعلنة لأنظمة الحكم وبين ممارستها الفعلية.
ولكي تبرر تلك الأنظمة الاشتراكية الممسوخة تصرفاتها، لجأت إلى نشر الدعوة إلى الزهد بين الجماهير، على نحو يذكرنا كثيرا برجال الكنيسة في العصور الوسطى، الذين كانت مواعظهم كلها تدور حول العزوف عن متع الدنيا والعمل من أجل الآخرة، بينما كانوا هم أنفسهم يعيشون حياة يستمتعون فيها بكل ما تقدمه «الدنيا الفانية» من ملذات. وتجسدت هذه الدعوة على شكل عقيدة معادية للاستهلاك ، فنجحت في إقناع عقول كثيرة بأن الاستهلاك يتعارض مع شعور المواطن بالمسئولية. وتبنى هذه الدعوة عدد كبير من مثقفي العالم الثالث، حتى اتخذت لدى البعض طابعا مضحكا مبكيا، حين أخذوا يلومون شعبا كالشعب المصري، مثلا، على إفراطه في استهلاك الخبز!
وبطبيعة الحال فإن أبعد الأمور عن ذهني أن أدافع عن نمط الحياة الباذخة، الذي يجعل من الاستهلاك الترفي لسلع مادية معقدة وغير ضرورية على الإطلاق، هدفا أساسيا لحياة الإنسان، ولا سيما حين يكون معظم أفراد مجتمعه محرومين من الضرورات الأساسية في الحياة، فمثل هذه الحياة المفرطة في الترف ظالمة؛ لأنها تتم دائما على حساب شقاء الآخرين، فضلا عن أنها تافهة؛ لأنها تستعيض عن الجوهر الداخلي العميق بالمظهر الخارجي السطحي. ومع ذلك فليس من العدل أن يتطرف مذهب من المذاهب في التنديد بالاستهلاك إلى حد يولد شعورا بالذنب لدى كل من يمارسه في حدود ضيقة؛ ذلك لأن الاستهلاك هو، في نهاية المطاف، أحد المؤشرات الهامة للنصيب الذي يناله الإنسان من الدنيا، ومن الظلم البين أن نخدع الناس فنوهمهم بأنهم يخونون مجتمعهم حين يتطلعون إلى نيل نصيبهم هذا، لمجرد أن السياسة الخرقاء التي يتبعها نظام ما جعلته عاجزا عن أن يضمن لشعبه مستوى آدميا للمعيشة.
المهم في الأمر أن القهر المعنوي والفقر المادي كانا يسيران، في تلك التجربة، جنبا إلى جنب؛ ولذا فإن من غير المجدي أن نحاول فصل أحدهما عن الآخر، ومن هنا كانت الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان، في تلك المجتمعات، أن يقاوم النظام، ويعبر عن احتجاجه على ممارسته، هي أن يتلكأ في عمله ويقلل إنتاجيته، وكان ذلك - كما قلت - أحد الأسباب الرئيسية لضعف الاقتصاد في الدول الاشتراكية، بل إن تبادل التأثير بين القهر المعنوي والفقر المادي يؤدي إلى حلقة جهنمية، تظل تدور بلا نهاية. فمقاومة القهر السياسي والاجتماعي، عن وعي أو بغير وعي، باللجوء إلى التراخي في العمل، تؤدي إلى مزيد من النقص في موارد المجتمع ككل؛ مما يزيد من شحن طاقة السخط لدى الجماهير، فيترتب على ذلك اشتداد القمع والقهر، وتظل القصة تتكرر إلى ما لا نهاية.
على أن من الخطأ الفادح أن يترك الكاتب في هذا الموضوع لدى قرائه انطباعا بأن الصورة كانت قاتمة كلها، فقد حققت التجربة الاشتراكية، حتى في أحلك نماذجها، إنجازات: المجانية الكاملة في التعليم والعلاج الطبي مع رفع مستواها باستمرار، وحل مشكلات معقدة كالمواصلات والإسكان بأساليب تخفف الأعباء عن عاتق الطبقات الشعبية، حتى لو كانت بعيدة مع معايير الترف كما تفهمها الشعوب المحظوظة، ورعاية الدولة للثقافة مع إتاحتها لقاعدة جماهيرية واسعة. ولعل أعظم الإنجازات جميعا هو ذلك الأمان الذي يحيط بالإنسان في عمله وحياته: فالمجتمع لا يعرف البطالة، والشيخوخة مؤمنة (بتشديد الميم)، ووفاة العائل لا تعني تشريد أسرته، والأسعار المحددة مقدما، والموحدة في كل مكان، تعطي المشتري أمانا لا يحس به إلا من عانى خداع البائعين ومناوراتهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الاشتراكية في المعسكر الشرقي قد طبقت في بلاد كانت كلها - باستثناء تشكوسلوفاكيا - تمثل «الريف» الأوروبي، أمكننا أن ندرك أن هذه الإنجازات لم تكن بالأمر الهين على الإطلاق.
صفحه نامشخص