منقذ
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
ژانرها
كل ذلك لم يكن في الحقيقة، ولن يكون في المستقبل، إلا نوعا من إساءة الفهم أو سوئه. فصورة العصر الذهبي التي رآها أفلاطون بعيون إسبرطية أرستقراطية لم تكن من الاشتراكية ولا الشيوعية في شيء؛ لأنه قد قصر «الشراكة» أو المشاعية في تملك السلع والنساء والأطفال، على الطبقة العليا في دولته. ووقع التابعون في الوهم الشديد بأنه سحب اشتراكيته على الجميع، كما تصوروا خطأ أنه هو الأب الشرعي لليوتوبيا الاجتماعية الخالية من الطبقات، بينما كانت دولته المثلى - في الحقيقة - تنظيما إسبرطيا تسلطيا أقرب ما يكون إلى تصور الدولة الكنسية والعسكرية في العصور الوسطى المسيحية، لقد وضعت تلك الدولة على جسدها رقعا صغيرة متناثرة من ثوب الاشتراكي ولم تترك لسكانها «الإسبرطيين» سوى حرية أن يكونوا أعمدة أو أسوارا أو نوافذ تقوم بوظائف التغذية والحماية والرقابة والتوجيه في بنائها الصلب العنيد ...
علينا أن نسأل الآن بعد كل ما ذكرناه من عيوب وعناصر سلبية: ألم تحتفظ دولة أفلاطون أو مدينته الفاضلة - على الرغم من كل ما ذكرناه - بالعنصر «اليوتوبي» الكامن فيها، هذا العنصر الذي جعلها بحق أول «يوتوبيا» بالمعنى الشامل الدقيق في التاريخ، كما جعل كتاب اليوتوبيات اللاحقين - كما سبق القول - يتأثرون بها ويرجعون إليها بصورة أو بأخرى، سواء أساءوا فهمها أو عرفوا عيوبها؟
لقد اعتدنا سماع اسم أفلاطون من كل من يقول باستهانة أو بشيء من السخرية عن فكرة من الأفكار: إنها يوتوبية، فإذا سألناه: ماذا تعني؟ قال ببساطة: إنها فكرة أفلاطونية حالمة ... ومع أن اليوتوبيا والتفكير اليوتوبي قد وضعت عنها مكتبة ضخمة لا تقل عما كتب عن أفلاطون نفسه، فلا بد هنا من وقفة عابرة عند معنى اليوتوبيا لنقول باختصار شديد ومخل إن «اليوتوبي» عنصر مكون لماهية الإنسان نفسه ككائن مستقبلي لا يرضى أبدا عن واقعه، يحلم ويريد على الدوام أن يتجاوزه إلى واقع أفضل وأسعد وأعدل. ربما تختلف النظرة اليوتوبية بين الالتفات إلى الماضي الذهبي السعيد والاتجاه إلى المستقبل، بين الحلم الذهبي الغامض المجرد وبين التفكير والتدبير لواقع ممكن التحقق، وذلك منذ الحكايات الشعبية القديمة عن بلاد العسل واللبن والحياة الرخية المسالمة البسيطة الخالية من الجهد والعمل، وبين التخطيطات المتوالية لإبداع واقع يوتوبي أفضل على هذه الأرض نفسها. ومع ذلك فلا بد من التفرقة بين اليوتوبيات المجردة واليوتوبيات الواقعية الممكنة. فالأولى - وتمثلها اليوتوبيات الاجتماعية بأسرها - كانت مجردة وسابقة على عصرها، كما أن اتجاهات العصر ونزعاته وظروفه وإمكاناته الواقعية لم تكن لتسمح لها بالتحقق. هل ينطبق هذا على «يوتوبيا» أفلاطون كما ينطبق على اليوتوبيات الاجتماعية منذ يوتوبيا توماس مور إلى يوتوبيات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأشكالها العلمية والصناعية المختلفة؟ وهل نقول إن مدينة أفلاطون أو دولته المثالية ما هي إلا من نبت خياله ونبع قلبه وتخطيط عقله، وإنها تفتقد الوعي بالتاريخ والواقع المعاصر لها؟ - إذا صح هذا كله، فلا يصح أن نبالغ في اتهامها بالتجريد أو التفكير «الفانتازي» الخيالي الغامض؛ فبالرغم من أن أفلاطون نفسه كان على وعي تام بصعوبة تحقيق مشروعه أو حلمه نتيجة خبرته بالواقع السياسي والاجتماعي في عصره، وإن بقي على اقتناعه بأن المشروع نفسه ليس وهما ولا أملا مستحيلا - كما سبق القول أكثر من مرة - فينبغي أن نتذكر أن البرنامج التربوي والتشريعي المفصل الذي قدمه في كل من «الجمهورية» و«القوانين» يحمل الكثير من خصائص ومكونات عصره ومجتمعه السلبية في محاولة دائبة لرسم النموذج المضاد لواقعه وأحوالها الفاسدة التي جربها بنفسه وعانى منها،
4
ويكفي أفلاطون أنه حدثنا باسم واقع يوتوبي قادم وطبقة اجتماعية ستأخذ على عاتقها مهمة تنظيمه وتوجيهه وترشيده، مهما رفضنا اليوم كل ذلك التنظيم الشمولي الصارم وقلنا باستحالته ومجافاته لطبائع البشر، واستبداده وافتقاده للحرية الفردية والديمقراطية ... يكفيه أن توافر لديه الضمير والمعرفة اليوتوبية اللذان لا يقلل من شأنهما تقصيره في التبصر بشروط الواقع، كما لا يدحضه ذلك الواقع الفاسد نفسه دحضا نهائيا؛ إذ سرعان ما ترتبت عليه وبنيت على أساسه يوتوبيات أخرى اختلف حظها من التجريد والخيال أو من مراعاة ظروف الواقع والتاريخ
5 ... ولنتذكر في النهاية عبارة الشاعر ف. شيلر - على الرغم من مثاليتها ومرارتها! - التي يقول فيها: إن ذلك الذي لم يتحقق في أي مكان، ولن يتحقق، هو وحده الذي لن يتقادم عليه العهد أبدا ...» يكفيه أخيرا أنه فطن إلى المبدأ اليوتوبي الكامن في الليس-بعد ... في الأمل المستقبلي الذي لا يفتأ يطالبنا بأن نعقد العزم - بالإرادة والمعرفة والخبرة - على تحقيقه ... الأمل في مجتمع خال من الاستغلال والشقاء، مجتمع إنساني يمكن أن تثبت فيه العدالة والكرامة ... بالرغم من كل العقبات التي تقف في طريقه، بالرغم من زمن المحنة الذي نحيا ونشقى به وفيه ...
لقد وصف أفلاطون بأنه يعتبر من بعض النواحي أعظم الثوريين، كما يعد من نواح أخرى أكبر الرجعيين ... ولعل الأدق من ذلك أن نقول إنه أكبر ممثل للنزعة الشمولية، وإن نصيب الحرية في مدينته أو دولته المثالية أقل بكثير مما كان عليه بالفعل في بعض المدن اليونانية، سواء في عصره أو قبل عصره، ولو كانت بلاد اليونان القديمة جمهورية شمولية - كما تخيل أفلاطون - بدلا من أن تكون اتحادا فيدراليا بين مدن حرة، لما استطاع رجال مثل هوميروس وسوفوكليس وأرسطوفان - بل لما استطاع أفلاطون نفسه - أن ينتجوا روائعهم الأدبية والفكرية،
6
ولعل من حسن حظ بلاد اليونان نفسها أنه لم يقيض لإحدى دولها - أو دول المدن فيها - أن تحاول تطبيق جمهورية أفلاطون ولا قوانينه، وأنها لم ترزق بأي ملك فيلسوف مثل تلميذه ديون الذي تشرب منه الفلسفة، فلما تمكن من الإمساك بزمام السلطة في سيراقوزة تحول إلى طاغية دموي لم تر جزيرة صقلية نظيرا له في دمويته، مما اضطر واحدا من أصدقائه إلى اغتياله، كما اضطر أفلاطون نفسه - في رسالته السابعة - للدفاع غير المقنع عنه ...
ربما كان الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد محقا في قوله: «إن تاريخ الفلسفة الغربية كله يوشك أن يكون تعليقات على فلسفة أفلاطون، أو هوامش وتعقيبات عليها صادرة من ثراء أفكاره الأساسية.» والواقع أن كل إنسان يمكن أن يجد عند أفلاطون جوابا على الأسئلة الفلسفية التي تؤرقه وتعنيه. فالوجودي - مثل كيركجورد - يهتم بشخصية سقراط ووجوده الذاتي، والتحليلي، يعنى بدقة مفاهيمه أو عدم دقتها في بعض الأحيان، والمهتم بالفكر السياسي لا يمكنه أن يتجاهل دولته المثالية، والجدلي يمكنه أن يغوص في محاورتي بارمنيدز والسفسطائي ويحاول فك ألغازهما الجدلية. ولا يستطيع أحد تجاهل نظرية المثل التي ما زالت تتحدى الجميع - لا سيما في مرحلتها الرياضية العسيرة في تطورها الأخير - بل إننا لنسمع اليوم من يقول (مثل هوبرت درايفوس): «إن الذكاء الاصطناعي في برامج الحاسب (الكمبيوتر) قد وصل بالعقلانية الأفلاطونية إلى ذروتها الرفيعة ...»
صفحه نامشخص