منقذ
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
ژانرها
وانطوت عشرون سنة. مات ديونيزيوس الأول سنة 367ق.م وخلفه في الحكم ابنه ديونيزيوس الثاني، الذي كان الأب قد فرض عليه الجهل والحياة في الظل. ولم يكن الملك الشاب مجردا من الموهبة والاستعداد الفطري، ولكنه كان - في نفس الوقت - إنسانا ضعيفا عاجزا عن الاستقلال بنفسه، سهل الانقياد لكل همسة في أذنه. وتصور ديون أن الفرصة قد جاءت ليصنع منه الحاكم الفيلسوف الذي حلم به تحت تأثير أفلاطون. ويبدو أنه نجح في إقناع ابن شقيقته بأفكار أفلاطون السياسية، وسرعان ما تحمس لها الملك الشاب ورحب بدعوة أفلاطون الذي استجاب لتوسلات صديقه الشاب بعد تردد، وحضر إلى صقلية سنة 366ق.م ليسانده في تحقيق حلمه «وترويض» الطاغية الجديد الذي لم يكن يحسن الظن به كثيرا. واستقبل الفيلسوف بالحفاوة والتقدير. ولم تمض ثلاثة شهور على وجوده في صقلية حتى آتت دسائس البلاط ثمرتها المرة. فقد نشب الخلاف بين ديون وديونيزيوس، وفوجئ أفلاطون بنفي صديقه وتلميذه من صقلية. وبقي بعد ذلك فترة قصيرة على أمل أن يتمكن من التأثير على الملك الشاب، ولكن الشر الذي استشرى في نفسه وفي البلاط كانا أقوى منه، وتكسرت سهام الحكمة والإقناع على جدران الاستبداد والفساد. ولما يئس الفيلسوف من إصلاحه وتأكد من فشله في مهمته اقتنع بضرورة الرحيل. ولم يكن ذلك بالأمر اليسير على طاغية يخشى على سمعته من اتهام الرأي العام اليوناني بسوء معاملة الفيلسوف. ولهذا وعده أفلاطون بالعودة إلى سيراقوزة حالما تتغير الظروف السياسية وتعقد معاهدة السلام مع القرطاجيين، ووافق ديونيزيوس الذي كانت لا تزال لديه بقية من الوفاء والعرفان، وتمكن أفلاطون من مغادرة الجزيرة والرجوع سالما إلى بيته.
تجددت الدعوة سنة 361ق.م واستجاب لها الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية الشاب واكتشافه أنه أخلف وعده بالموافقة على رجوع ديون من منفاه. ويبدو أن أفلاطون لم يشأ أن يضيع على نفسه الفرصة الأخيرة لتحويل ديونيزيوس إلى طريق الفلسفة، ولم يفقد الأمل في مساعدة ديون والوقوف بجانبه، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامة دستور عادل يحل محل الحكم المستبد ويساعد على النهوض بمستوى الأخلاق وإعادة تعمير المدن المخربة، غير أن الزيارة الأخيرة تحولت إلى كارثة. فلم يف ديونيزيوس بشيء من وعوده، ولم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مرة واحدة. ووجد أفلاطون نفسه سجينا كالطائر الحبيس في قفصه. وتأزم الموقف حتى تعرضت حياته للخطر، وحاصره التهديد بالقتل في كل لحظة. ولولا مسارعة صديقه أرخيتاس بالتوسط له عند الطاغية لما قدرت له النجاة من الموت ...
هكذا رجع أفلاطون في سنة 360ق.م إلى بلده وهو يطوي في صدره الشعور المرير بخيبة الأمل. فقد كان من الطبيعي أن تثير المغامرة الفاشلة أحاديث الناس وتفتح عيونهم على الحقيقة المؤلمة التي أبرزتها حوادث صقلية، وتقنعهم - آخر الأمر - بغرابة الأفكار السياسية التي ينادي بها الفيلسوف وبعدها عن الواقع. وكان من الطبيعي أيضا أن يكون هذا الفشل ضربة قاسية للمعلم ومدرسته. وزاد من مرارة الصدمة أن الطاغية الشاب لم يقتصر على إساءة معاملته، بل حاول كذلك أن يحشر نفسه في ثياب فلسفته ويدعي شرف الإحاطة بها! فلم تكد تمضي شهور قليلة على رحيل أفلاطون حتى ذاع بين الناس أنه نشر كتابا فلسفيا من تأليفه. صحيح أنه لم يزعم فيه أنه يعرض مذهب أفلاطون، ولكنه كان يطمع - على أقل تقدير - أن يكون شاهدا على قدرته على فهمه واستيعابه. وتتناول الرسالة السابعة هذه القصة بأسلوب لا يخفي غضب الفيلسوف واستنكاره. ويزيد من هذا الغضب والاستنكار ما يؤكده عن نفسه من تهيب الكتابة عن الأمور المتصلة بالحقيقة، وإيمانه بأن القضايا الأساسية في الفلسفة تستعصي على التدوين في الكلمات الجامدة والحروف الصماء؛ لأن شرارتها الحية لا تتقد إلا إذا احتك رأي برأي، واتصل حوار بحوار ...
والتقى أفلاطون بصديقه وتلميذه ديون في الألعاب الأوليمبية وروى له القصة بأكملها، وصمم ديون على الثأر للظلم الذي حاق بمعلمه وبالفلسفة، ولم يحبذ المعلم فكرة اللجوء إلى العنف، ولكنه لم يستطع أن يمنع نفرا من الشباب - ومن بينهم عدد من تلاميذه في الأكاديمية - من الالتفاف حول ديون والانضمام إلى صفوف الحملة الصغيرة التي بلغت شواطئ صقلية سنة 357ق.م ونجحت نجاحا لم يتوقعه لها أحد. واستقبله سكان سيراقوزة بالفرح والهتاف، وتمكن من السيطرة على المدينة دون مقاومة تذكر. وتحصن ديونيزيوس فترة في قلعة «أورتيجيا» ولكن ديون تمكن بمساعدة المرتزقة من طرده من الجزيرة، فلجا إلى أملاكه في جنوب إيطاليا واستمر ديون في حكم الجزيرة أربع سنوات. غير أنه فشل فشلا ذريعا في تحقيق برنامجه الإصلاحي الذي تشيد به الرسالة، وأثبت عجزه عن استرضاء الناس وإدارة شئون الحكم. واضطر محرر الجزيرة أن يتحول إلى أقسى طاغية عرفته. وكانت النتيجة أن أقصاه عن السلطة أحد قواد الجنود المرتزقة الذين مكنوه منها. وانتهى الأمر باغتياله سنة 353-354ق.م بيد أحد قوادهم، وهو صديقه الأثيني «كاليبوس» الذي وضع ثقته فيه ... ولم يكن القاتل - لحسن الحظ - من تلاميذ أفلاطون في الأكاديمية. ولهذا نجد الفيلسوف يتبرأ منه ويبرئ مدينته من جريمته. ولجأ حلفاء ديون إلى مدينة «ليونتيني»، وأرسلوا إلى أفلاطون يسألونه النصح والمشورة، فكان رده هو هذه الرسالة السابعة. لم يكن في إمكانه أن يكتفي بالنصح والإرشاد. فقد أثارت المناسبة كوامن أحزانه وفتحت جروح ذكرياته، ولم يستطع القلم أن يسيطر على آلامه فاندفع مع تيار الكتابة على هذا النحو الذي لا يخلو من التعثر والغموض، وترك لنا معضلات لا يسهل فهمها أو حلها.
ولا بد لنا قبل الكلام عن الرسالة نفسها من تتبع أحداث صقلية إلى نهايتها. فقد انضم «هيبارينوس»، وهو ابن ديونيزيوس الأول من شقيقة ديون وأخو ديونيزيوس الثاني غير الشقيق، إلى صف حلفاء ديون، وتمكن من طرد «كاليبوس» من سيراقوزة والاستيلاء على الحكم. غير أن الأمور ظلت مضطربة، ولم يستطع أن يثبت أقدامه في الجزيرة. وتقع الرسالة الثامنة في هذه الفترة الحرجة بين انضمام «هيبارينوس» إلى حلفاء ديون وسقوطه بعد ذلك بسنتين على أثر اغتياله بيد شقيقه نيزايوس. ويبدو أن أتباع ديون توجهوا مرة أخرى إلى أفلاطون طلبا للنصح والمعونة. ولهذا نجده - في الرسالة الأخيرة - يقترح عليهم أن يقدموا تضحية «أفلاطونية» أصيلة. كان خطر تدخل القرطاجيين يهددهم من ناحية، وأخبار الهجوم المتوقع من ديونيزيوس الثاني تؤرقهم من ناحية أخرى ... ولهذا اقترح عليهم أفلاطون أن يستدعوا ديونيزيوس لتولي الملك في سيراقوزة، وحاول أن يخفف عنهم وقع المفاجأة فأشار عليهم بأن يتولاه بالاشتراك مع ملكين آخرين أحدهما هو هيبارينوس نفسه «قبل اغتياله» والآخر هو أحد أبناء ديون الذي لم يذكر اسمه ويبدو أنه ولد في السجن بعد موت أبيه.
غير أن اقتراح المصالحة كان أبعد ما يكون عن واقع الجزيرة التي تحولت إلى ساحة صراع وحشي على السلطة. فلم يلبث ديونيزيوس أن غزا الجزيرة ونشر عليها ظلال استبداده، ولم يدم هذا الاستبداد طويلا؛ إذ توجه أهالي سيراقوزة سنة 345ق.م - أي بعد موت أفلاطون بسنتين - إلى مدينتهم الأم كورنثة طالبين النجدة، فسيرت إليهم حملة بقيادة «تيموليون»
3
المشهور. ونجح هذا القائد الشجاع في إقرار السلام والأمن في ربوع الجزيرة التي مزقتها الحروب. أما ديونيزيوس فقد عاش بعد ذلك حياة رجل عادي وإن كانت الحكايات الشعبية قد جعلت منه في النهاية معلما أو ناظر مدرسة ... •••
يبدأ أفلاطون بإعلان استعداده لمساندة حلفاء ديون وأتباعه، وذلك بشرط أن تكون آراؤهم وأهدافهم متفقة مع الآراء والأهداف التي آمن بها ديون وسعى لتحقيقها. فقد قامت خططه السياسية على الأحاديث التي جرت بينهما أثناء زيارته الأولى لصقلية؛ وهو لذلك أقدر من غيره على الحكم عليها . ويستغل الفيلسوف هذه المناسبة للحديث عن تطور أفكاره السياسية، واهتمامه في صدر شبابه بالمشاركة في شئون الحكم، ثم عزوفه عنها بعدما رآه من تخبط نظم الحكم الفردية والشعبية على السواء، والجريمة التي ارتكبتها بإعدام أستاذه وحبيبه سقراط. وفي هذا الجزء من الرسالة نجد العبارة المشهورة التي يسجل فيها يأسه من الأحوال السياسية التي توالت على بلده، واتجاهه إلى الفلسفة التي أصبحت أمله الوحيد في «إنقاذ» البشر، وتحوله بعد ذلك إلى التعليم والتربية:
وهكذا وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقة والتأكد من أنها هي وحدها التي تمكن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة، وأن الجنس البشري لن يتخلص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء.
صفحه نامشخص