منقذ
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
ژانرها
3
ولا بد أن الأديان السماوية قد زادت الإحساس ب «المنقذ» وترقب عودته ليملأ الأرض عدلا ونورا بعد أن شبعت جورا وظلاما، أمل «أوغسطين» - وهو يرى تصدع الدولة الرومانية - في تحقيق مدينة الله، خرافة «المسيح الدجال» والخضر والمهدي المنتظر وعودة الحاكم بأمر الله، صورة الإمام المعصوم والقطب، الخاتم والدرويش والزاهد، والمستبد العادل والبطل القديس ... إلخ، التي صاحبت ثورات الإصلاح المتطرفة وحاولت تجديد ربيع الشجرة الذابلة بالرجوع إلى بذور الأسطورة «قيصر، والإسكندر، نابليون، وموسوليني، وهتلر، ثورات الخوارج والشيعة والمهدية، هيجل والبطل الذي يتحد وعيه الذاتي بالروح المطلق، حلم نيتشه بالإنسان الأعلى»، السوبر مان «وجيل المتفوقين المعانقين للأخطار، حلم الخلاص الأرضي والعلمي «المعكوس» في الجدل المادي الثوري عند ماركس، أحلام المعاصرين بالمغترب والمنبوذ واللامنتمي ... إلخ، الذي يفجر ينابيع الخلق والإبداع ويتحدى مجتمع الآلية والعقلانية وإرهاب الحساب وأجهزة العقاب والعذاب، أحلام الرومانتيكيين والتعبيريين والحدسيين وفلاسفة الحياة ... إلخ»، ربما كان لحلم أفلاطون عن المنقذ «الملك الفيلسوف» دور كبير في نشر هذه الأسطورة عبر التاريخ. غير أني حاولت في الصفحات السابقة أن أبين استحالة خرافة المنقذ، وان أحافظ مع ذلك على فكرة الإنقاذ التي أكد أفلاطون نفسه ارتباطها بالعلم والمعرفة والبصيرة والحكمة. لم أرسم صورة «المنقذ» الذي يبدأ دائما بداية شعبية فيختاره الشعب ويتصور أنه نصيره وحاميه، ثم لا يلبث بعد أن يتحول إلى طاغية أن يخيب أمله فيه. إن أفلاطون نفسه - بتجاربه الحية ورسالته السابعة ونصوصه المتناثرة في مختلف محاوراته - يبين بوضوح لا مزيد عليه أن مثل هذا المنقذ سرعان ما يتحول إلى طاغية. والألوان القاتمة التي رسم بها صورة الطاغية الفرد في الكتاب التاسع من الجمهورية واستمدتها ريشته من شخصيتي ديونيزيوس الأب والابن - حاكمي صقلية وأمل شعبيهما حينذاك - تصدق بوجه عام على «المنقذين» المزعومين منذ عهده إلى يومنا الحاضر.
إن الإنقاذ في عصر العلم الذي نعيش فيه لن يتم إلا عن طريق العلم. هذه هي الفكرة التي حاولت توضيحها. وهي فكرة لا تأتي بأي جديد؛ لأنها تستند إلى أفلاطون نفسه، كما أنها واضحة وضوح الشمس لكل من يفتح عيني جسده ووعيه على واقع هذا العصر. والعلم لا يزدهر إلا في جو الحرية. وبلوغ النظام الاجتماعي الممكن والمعقول الذي يزرع هذين الجناحين في روح الإنسان وضلوعه كي يعلو ويخاطر بحثا عن الحقيقة، هو الجهد المشترك لكل الحالمين العاملين من أجل تحرير الإنسان وسعادته، الإنسان الحقيقي الذي يحيا «هنا والآن»، ويسعى إلى تحقيق الممكن فلا يتشبث بخيوط مطلق أسطوري مضى ولن يعود، ولا ينجذب نحو مطلق مستحيل يوغل في المستقبل البعيد ...
وإذا كنا نجد عند أفلاطون قرائن عديدة تؤكد عداءه للديمقراطية «الأثينية المعاصرة له، لا للشعب بوجه عام!»، وحماسه في الدفاع عن حكم النخبة الأرستقراطية «بالفضيلة والحكمة لا بالذهب والفضة!»، بل إذا وجد البعض عنده بعض مظاهر الفاشية «كوصاية الحاكم على المحكومين، ووقوفه منهم موقف الراعي من القطيع، حتى ولو كانت عنده باسم العقل لا باسم الغوغائية وتملق غرائز الجماهير»، وإذا كنا أخيرا - بعد مرور أربعة وعشرين قرنا جرف فيها تيار الزمان مئات الأفكار والنظم والعقائد والقيم والتصورات - نستهجن فكرته عن الملك الفيلسوف، فإننا نستطيع مع ذلك أن نحتفظ بجوهر فكرة الإصلاح الذي لم يتوان عن تأكيد أهمية العلم والمعرفة في تدبير شئون الحكم، والإلحاح على أنه لن ينصلح حاله ما دام مبنيا على الثروة أو القوة الغاشمة، كما نستطيع في النهاية أن نضع المنقذ «العارف» الذي كان يحلم به - ولا نملك اليوم أن نتخلى عن الحلم بأن يأخذ مكانه في كل عضو من أعضاء الدولة الحديثة - في نظام ديمقراطي يقوم على المشاركة وتبادل الرأي والمشورة بين الحاكم والمحكوم، لا على الوصاية وفرض الرأي الواحد واستغلال الغرائز الوحشية والدعاية الرخيصة: «لا تنتظر «المهدي» ولا الدجال المفزع، فالمسخ الكاذب لن يرجع، ودموع إيزيس لن تنفع، والصقر الغائب حوريس، من جوف الظلمة لن يطلع، اهجر كهفك! اطرد شبح القيصر والإسكندر! - سقط الفارس في جوف التنين الأكبر، لم يترك غير الصمت وأشلاء خرافة - أنقذ نفسك! بالحرية والعلم المبدع، والعمل بكف شفافة، تبصر تبتسم وتسمع، أصوات النبع الأقدم، تهمس بالسر المفجع، عن عرق الأجداد المر ودمع الأحفاد المؤلم ...»
إن الفكرة الأساسية في محاورات أفلاطون - مع اختلاف موضوعاتها وأساليب تعبيرها - هي إيجاد الإنسان العادل الكامل في مجتمع عادل كامل. ولهذا كان «أولا وقبل كل شيء فيلسوف العدالة، لم يعش إلا لهذا الهدف، ولم يعمل إلا على تحقيقه، سواء في حياته أو في مؤلفاته»،
4
والواقع أن أفلاطون لم يصل إلى الفلسفة إلا عن طريق السياسة ومن أجل السياسة
5
ظلت الفلسفة الحقيقية عنده هي السياسة الحقيقية، والاعتبارات العملية هي أساس أفكاره الميتافيزيقية والأخلاقية والمعرفية والجمالية. إن فلسفته كلها موقف اجتماعي يتخذ صورة فلسفية هي ضمان الخير للدولة،
6
صفحه نامشخص