ثم كانت «الصياد»، وأخيرا كتاب «الجعبة» الذي استقبلته بترحاب يستحقه أسلوبه الحي الجذاب، وذكرني حومانه حول المرأة وأسلوبه الشخصي الظريف بأحمد فارس الشدياق، وقد قلت في ذلك يوم كان «الصياد» في بناية العسيلي: «وقد أعجبتني جدا غمزاته ولمزاته في سياحة إنكلترا، وذكرني بكشف المخبأ للشدياق، فأخونا سعيد وشيخنا الشدياق تشغل رأسهما المرأة دائما.»
وأخيرا شاء «الموجه الأعظم» أن يتجاورا، فقامت «دار الصياد» في الحازمية تطل على قبر الشدياق، وصح قول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فمن شاب هاجر إلى حلب الشهباء، فحلب أشطر الدهر بجهاده وطموحه وإيمانه برسالته إلى رجل مجاهد أمسى صاحب دار تنطح السماء بقرنها؛ فلا عجب إذن إن رأيناه ينتصر لجاره، ويأبى أن يمتهن قبره بمجاورته لواصا باشا، وابنة كوبليان أفندي، التي صح فيها قول النبي داود: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون!»
ذكرني ما جاء في مقال الأستاذ سعيد عن كوبليان:
أن الباشا واصا لم يكن من أهل اليسر، وكان مرتبه المورد الوحيد له.
فقلت: وهل كانوا يرسلون إلينا متصرفا من أصحاب الملايين؟ فأكثرهم كانوا كما قال الشيخ يوسف الخازن لبني عمه في مرسيليا - هذا غير الشيخ يوسف الخازن الكاتب والنائب - وخلاصة قصته أنه دخل دكان لحام في مرسيليا، وأطال القعود عنده يتحدث إليه ويتودد له، ونسي أن رفاقه ينتظرون في الشارع؛ «فندهوه» وقال له واحد منهم: الوقفة في أسواق مرسيليا غير الوقفة في ساحة جونية يا شيخ يوسف.
فهرول نحوهم والضحكة ملء فمه وقال: الحق علي، أنا تأخرت عنده من أجلك. أنت طالب وظيفة، ومن يدرينا أن هذا اللحام لا يصير عندنا قنصلا، فأغنيكم عن وساطة هذا وهذاك من رجال الدنيا والدين؟ ••• «وفي الماضي لمن بقي اعتبار.» هكذا قال المتنبي؛ ولهذا أراني عندما ألقي نظرة على المسافات التي قطعتها من صحراء الأزل، أرى الماضين يمرون أمامي كقافلة يتبع بعضها بعضا، وأشخاصها تكاد تكون مصبوبة في قالب واحد.
كانوا في لبنان، وخصوصا أبناء البيوت العتيقة الذين ذاقوا حلاوة الحكم، لا يتصارعون ولا يتنازعون إلا حول الوظيفة، تتحول إليها أبصارهم كيفما دارت، كما تتحول إبرة الحك نحو نجمة القطب، فلا عواصف ولا زوابع ولا تلبد الغيوم يضللها ...
صفحه نامشخص