إهداء
تمهيد
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
المونادولوجيا
إهداء
تمهيد
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
المونادولوجيا
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
تأليف
ليبنتز
جمع وترجمة
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى أستاذي الدكتور عثمان أمين
الذي علمني كيف أحب نصوص الفلاسفة، وأتعاطف مع أفكارهم ونبضات قلوبهم.
عبد الغفار مكاوي
تقديم
بقلم فؤاد زكريا
حين يمعن المرء النظر في فترات النهوض الفلسفي على مر العصور، يجد بينها جميعا سمة مشتركة تبرز أمامه بوضوح كامل، هي العناية بالنصوص الفلسفية؛ فالنهضة الفلسفية العربية التي أثرت الحضارة الإنسانية بفكر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، سبقتها وعاصرتها فترة نشطة من الترجمة، نقلت إلى اللسان العربي ذخائر الفكر اليوناني، فحدث ذلك الامتزاج بين طريقتين في التفكير وأسلوبين في النظر إلى العالم، كان أحدهما وثنيا عقليا منطقيا، وكان الآخر مستندا إلى إيمان ديني متفتح، وأثمر تزاوج هاتين الطريقتين في التفكير فلسفة لها طابعها المميز، وأسلوبا في البحث لا يزال، حتى اليوم، يحتل مكانة رفيعة في التراث العالمي.
كذلك كان عهد الحركة الفلسفية الخصبة التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر، والتي كان أقطابها عمالقة للفكر من أمثال بيكن وديكارت وإسبينوزا، مسبوقا بجهد ضخم يهدف إلى نشر النصوص الفلسفية القديمة، من العصر اليوناني بوجه خاص، بين أكبر عدد ممكن من المثقفين. وبفضل هذا الجهد، الذي اضطلعت به مجموعة من الباحثين الممتازين فيما يعرف بحركة «النزعة الإنسانية» عرفت أوروبا في مطلع العصر الحديث نماذج حقيقية للفكر القديم، لم تشوهها تحريفات مفكري العصور الوسطى وتأويلاتهم، واكتسب العقل الأوروبي فائدة لا تقدر من الاطلاع على نمط فكري مخالف للنمط اللاهوتي الذي ظل مسيطرا على الأذهان طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام، فكانت حصيلة ذلك كله تلك الانطلاقة الرائعة التي أثمرت، مجموعة متلاحقة من المذاهب الفلسفية العميقة، فاقت في تنوعها وخصبها ما أنتجته خمسة عشر قرنا سابقة، وهيأت الأساس العقلي لحضارة تلائم تطلعات الإنسان الحديث.
هذان إذن مثلان يقطعان بأن إحياء النصوص الفلسفية الأصلية، ونشرها على أوسع نطاق هو شرط ضروري يمهد لنهضة الفكر الفلسفي. وقد يبدو في هذا الفرق نوع من المفارقة، إذ يخيل إلى المرء للوهلة الأولى أن الرجوع إلى النص الأصلي يقيد من انطلاقة العمل الخلاق؛ إذ يضعه أمام نماذج فكرية رفيعة يشعر المرء إزاءها بالتضاؤل، وبأنه لا يملك أن يضيف المزيد إلى ما قاله العباقرة من أصحاب هذه النصوص، ولكن حقيقة الأمر أن الصحبة المباشرة للمفكرين الكبار - لا تلك الصحبة التي تتم بتوسط المفسرين والشراح - تعطي العقل الفلسفي دفعة هائلة إلى الأمام؛ إذ تطرح أمامه الأسئلة الأصيلة في الفلسفة، وتقدم إليه نماذج لإجابات عبقرية عنها، وتدعوه إلى أن يعيد طرحها من جديد، وتحفزه إلى أن يبحث بنفسه ولنفسه - كما بحث هؤلاء - عن إجابات تتمشى وطبيعة عصره ومجتمعه، وترضي نزوعه الشخصي إلى إضفاء صبغة معقولة على العالم.
إن النص الفلسفي إنما هو دعوة للقارئ إلى التفكير الحر، سواء في فهم النص وفي تأويله وفي الكشف عن دلالته، وهو قبل ذلك كله دعوة له كيما يجد لما يقرؤه مكانا في عالمه العقلي الخاص، ويدمجه في تصوره العام لحياة الفكر على العصور. ومن هنا كانت القراءة الخلاقة للنص أبعد ما تكون عن حالة التلقي السلبي أو الخضوع الممتثل. والدليل الواضح على ذلك تلك الاختلافات الهائلة بين الشراح - وبين القراء - في فهم النص الواحد. فمعايشة الفيلسوف من خلال كتاباته تختلف كل الاختلاف عن قراءة بحث يضع فيه العالم خلاصة كشف جديد توصل إليه؛ إذ إنك في الحالة الأخيرة مدعو إلى أن تقتنع بالنتائج التي يعرضها عليك، وتقبلها - بعد اقتناعك - قبولا تاما. وإنما يجد العقل المتفتح هذه المعايشة أقرب ما تكون إلى تذوق عمل فني كبير، يقدم إليك من الإيحاءات أكثر مما يقدم من المعاني الثابتة، ويدعوك (بل يتحداك) إلى أن تجرب قدرتك على تفسيره، واتخاذ موقف منه، أكثر مما يدعوك إلى قبوله والتسليم بعظمته في سلبية وخشوع.
وإني لأرى لزاما علي في هذه الكلمة التي أقدم فيها سلسلة من النصوص الفلسفية تتيح للقارئ العربي أن يطلع، بلغته القومية، على الفكر الحي لعدد من أقطاب الفلسفة، أن أشير إلى ما نأمل أن يحققه نشر النصوص الفلسفية من نهضة فلسفية في بلادنا. فطالما سمعنا من يحدثوننا عن افتقار بلادنا إلى التفكير الفلسفي الأصيل، الذي يجمع بين الشمول والأصالة، والذي ينبع من تربتنا لكي يعلو شاهقا، حتى يبلغ سماء الفكر العالمي، وتلك بالفعل حقيقة لا بد من الاعتراف بها، ومحاولة البحث عن أسبابها. وعلى الرغم من أنني لست الآن في معرض الخوض في هذه المسألة، فإنني مؤمن بأن من أنجح وسائل علاج هذه الظاهرة، إتاحة الفرصة أمام جمهور المثقفين؛ لكي يمارسوا بأنفسهم، دون حاجة إلى وسطاء، تجربة معايشة الفكر الفلسفي في صورته النقية، ويتابعوا البناء الشامخ الذي شادته عقول جبابرة، وهو يعلو أمام أنظارهم طابقا فوق طابق، فبهذه المعايشة يتحقق حوار حقيقي بين العقول، تكتسب بفضله القدرة على الجدل الخصب البناء، وتكشف بنفسها عن زيف المرايا الخادعة التي تقدم إلينا من خلالها بين الحين والحين، صورة التيارات الفكرية العالمية، والتي تكاد تكون هي الزاد الفلسفي الأوحد لعدد كبير من المتطلعين إلى الثقافة في بلادنا.
وإني؛ إذ أحيي هذه المحاولات الجادة التي يقوم بها مجموعة من خيرة شبابنا المشتغلين بالفلسفة من أجل نشر الفكر العالمي على أوسع نطاق بين قراء العربية، وأرى فيها بشيرا بنهضة فلسفية حقيقية في بلادنا، آمل مخلصا أن يقترب اليوم الذي يزيح فيه مجتمعنا من طريقه كافة العقبات التي حالت دون تحقيق ذلك الحلم الذي يراود كل محب للثقافة، وأعني به ظهور فكر فلسفي أصيل يعبر عن شخصيتنا القومية أصدق تعبير.
تمهيد
أولا: حياة ليبنتز
يحتل ليبنتز مكانة مرموقة في كل كتاب عن تاريخ الفلسفة. وليس هناك من يشك في قيمته الفلسفية، أو يتردد في وضعه بين كبار الفلاسفة، ومع ذلك فلعله لم يكن ليوافق على هذا، أو لم يكن ليكتفي به! فجهوده لم تقتصر على الفلسفة، بل امتدت إلى ميادين السياسة والتاريخ والقانون واللغة والاجتماع والاقتصاد واللاهوت والعلم الطبيعي والرياضي، كان سياسيا بالمعنى الشامل لهذه الكلمة، وشغلته مشروعاته الضخمة في هذا المجال طوال حياته، وشارك في معظم ميادين العلم النظرية والتطبيقية، كما جعلته كشوفه الرياضية (وبالأخص اكتشافه لحساب اللامتناهي في الصغر أو التفاضل والتكامل) من أعظم العلماء الرياضيين في كل العصور. أضف إلى هذا أنه طور الآلة الحاسبة التي طوعها «باسكال» للجمع والطرح، فأصبحت قادرة على الضرب والقسمة واستخلاص الجذور مما أتاح له شرف الانضمام إلى عضوية الجمعية الملكية الإنجليزية. ولم يقف نشاط ليبنتز في مجال العلوم عند هذا الحد، فقد شغل بمسائل التعدين والمناجم ومشكلاتها الفنية؛ مما أدى إلى اكتشافات هامة في الجيولوجيا واستغلال الطاقة. أما أعماله التاريخية فكان من أهمها الجزء الأول من تاريخ أسرة جويلف،
1
الذي لم يتمكن من إتمامه.
وإذا كان قد شاع بين الناس أن التأمل الفلسفي يجني بالضرورة على حظ الإنسان من النجاح في الحياة العملية، فإن ليبنتز يعد دليلا حيا على خطأ هذا الظن، وليس معنى هذا أن حياته خلت من الهموم والآلام، أو نجت من الوقيعة والدس. فقد لقي في أواخر حياته ما لقي من الجحود والنكران، ومات وحيدا كالمونادة الوحيدة، ولكنه نال على كل حال ما لم ينله غيره من المكانة والحظوة في أوساط العلم والسياسة والبلاط. ثم ظل بعد موته منسيا أو شبه منسي، حتى قدر لأغلب إنتاجه أن ينشر، وسطع مجده منذ أوائل هذا القرن، وعكف الباحثون على درسه، وإلقاء الأضواء على شخصيته الموسوعية الرائدة.
ولد ليبنتز في مدينة ليبزج في الواحد والعشرين من شهر يونيو سنة 1646م، قبل نهاية حرب الثلاثين التي أنهكت أوروبا، ودمرت ألمانيا بسنتين. وكان أبوه محاميا وموثقا وأستاذا جامعيا. وظهر نبوغه المبكر في طفولته وسنواته الأولى في المدرسة، فلم يكد يتم الثامنة من عمره، حتى علم نفسه اللغة اللاتينية بدون معلم ولا كتاب! وأتاحت له مكتبة أبيه الضخمة أن يقوم بسياحات واسعة في أرض المعرفة، فتمكن من الإلمام باللغات القديمة إلماما طيبا، واتجه إلى قراءة مؤلفات الشعراء والمؤرخين والكتاب القدامى وآباء الكنيسة والفلاسفة المدرسيين، وعرف أسماء وأعمال ششرون وسينيكا وكوينتليان، وهيرودوت وإكزينوفون وبلينيوس وأفلاطون. يقول عن هذه الفترة من حياته إنه لم يفهم منهم في البداية شيئا، ولكنه استطاع بالتدريج أن يعرف بعض الشيء، ثم انتهى إلى معرفة ما يكفيه. ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره التحق بالجامعة العريقة في موطن رأسه، وتركها بعد ذلك بفترة قصيرة للدراسة في جامعتي «يينا» و«ألتدورف» في «بافاريا». وقد عكف في البداية على التفقه في القانون، ولكن شغفه بالمعرفة الشاملة لم يلبث أن غلب عليه، فاتجه إلى الفلسفة والرياضة والفيزياء، واطلع على أعمال بيكون وديكارت وجاسندي وجاليليو. ويبدو أنه جرب الكتابة في هذه السن المبكرة، إذ لم يكد يتم السادسة عشرة من عمره، حتى كان قد نشر أول بحوثه الفلسفية باللاتينية، وهو شرح ميتافيزيقي لمبدأ التفرد،
2
مما يدل على اهتمامه بهذا المبدأ الذي سيطبع كل تفكيره وفلسفته.
تلقى ليبنتز الفلسفة في جامعة ليبزج على ياكوب تومازيوس،
3 (1632-1685م) وكان من أكبر العارفين بالفلسفة اليونانية والمدرسية، والناقدين لها والمتنبئين بنهايتها على السواء.
أما في «يينا» فقد تتلمذ على العالم الرياضي إرهارد فايجل،
4 (1625-1699م) الذي لقنه أسس الرياضة، وعرفه بالفلسفة الفيثاغورية والعلم الطبيعي والتفسير الميكانيكي السائدين في عصره. ويبدو أن المحاولات التي كان يبذلها «فايجل» للتوفيق بين فلسفة أرسطو والفلسفة الميكانيكية وتطبيق المنهج الرياضي على الأخلاق والميتافيزيقيا قد تركت أثرا لا يمحى من نفس ليبنتز. وانشغل بالرياضة والميكانيكا، ولكنه لم يستطع أن يتخلص تماما من الفلسفة المدرسية؛ إذ ظل يفكر في نزهاته الوحيدة في الغابة القريبة من ليبزج في «الصور الجوهرية» التي قال بها المدرسيون، وهل ينبغي عليه أن يتخلى عنها، أو يبقي عليها في مذهبه المقبل! وقد ظهرت آثارها في أول بحث دراسي وضعه في حياته عن مبدأ التفرد، الذي أشرت إليه، ولكنه استطاع على كل حال أن ينتزع نفسه منها؛ ليرجع إلى دراسة القانون التي أتمها في جامعة ألتدورف في سنة 1667م (إذ أبت عليه جامعة ليبزج أن يحصل على الدكتوراه لصغر سنه ).
وجذبته طبيعته المتطلعة لكل جديد وغريب إلى مدينة نورمبرج، فقضى فيها فترة قصيرة أشبع فيها شوقه إلى معرفة أسرار إحدى الجمعيات الروحية التي كانت تسمي نفسها جمعية «أصحاب الصليب الوردي»، وتمارس طقوسا خفية لاستجلاء أسرار الدين والطبيعة والمعادن والعثور على حجر الفلاسفة!
وتعرف ليبنتز بعد ذلك بقليل - أو ربما أثناء إقامته القصيرة في نورمبرج - على البارون يوهان كرستيان بوينبرج المستشار السابق لأمير «ماينس» وأسقفها يوهان فيليب فون شونبرج. وفطن المستشار إلى مواهب المحامي الشاب، وسعى له في العمل لدى الأمير، كما ساعده على الإلمام بمشكلات السياسة الأوروبية. وقد كانت المشكلة الكبرى التي تشغل عقول السياسيين وترجف قلوبهم في ذلك الحين هي حماية الإمبراطورية الجرمانية الممزقة من مطامع فرنسا وقوتها المتزايدة. وسافر ليبنتز في شهر مارس سنة 1672م في مهمة دبلوماسية إلى باريس، وفي جعبته مشروع مفصل لغزو مصر، يكشف عن علم غزير بأحوال مصر وثرواتها في ذلك الحين. وحاول أن يغري «الملك الشمس» (لويس الرابع عشر) على محاربة الإمبراطورية العثمانية لتحويل نظره عن أطماعه في الحدود الغربية المشتركة بين البلدين. غير أن الملك الشمس لم يأبه بهذا المشروع، ولعله لم يسمع به على الإطلاق. وأفهم وزراؤه المبعوث أن زمن الحروب المقدسة قد فات؛ فأخفقت المهمة الدبلوماسية إخفاقا ذريعا. (ويشاء القدر أن يكتشف نابليون هذا المشروع العجيب أثناء احتلاله لمدينة هانوفر بعد ذلك بأكثر من قرن كامل!) غير أن إقامته في باريس عوضته عن هذا الفشل السياسي؛ إذ أتاحت له فرصة الالتقاء بعدد كبير من رجال الدين والفلسفة والعلم الرياضي والطبيعي نذكر منهم على الترتيب: أنطوان آرنو، ومالبرانش، وكرستيان هيجنز، وآدم ماريوت، بل لقد أسعده الحظ بمشاهدة موليير في إحدى مسرحياته، ولا بد أنه شعر أثناء وجوده في باريس كأنه يعيش في بيته وبين أهله، فانطلق لسانه باللغة الفرنسية التي لم يلبث أن أتقنها، وساعده هذا على كتابة أهم أعماله بهذه اللغة التي كانت، إلى جانب اللاتينية، لغة العلم والعلماء.
وسافر ليبنتز في شهر يناير سنة 1673م في بعثة أرسلها أمير ماينس إلى لندن، وكانت إذ ذاك مركزا هاما للبحوث الرياضية والعلمية. وقد اغتنم فرصة إقامته في العاصمة الإنجليزية، فكتب رسالة إلى هوبز الذي كان معجبا بفلسفته الطبيعية، ولكنه لم يتلق ردا عليها، فاتصل بأعضاء الجمعية الملكية، وتوثقت أواصر المودة الروحية والعلمية بينه وبين العالم الكيماوي الشهير روبرت بويل، غير أن إقامته في لندن لم تدم طويلا، فلم يلبث أن غادرها في شهر مارس من نفس السنة عائدا إلى باريس على أثر الأنباء التي بلغته عن وفاة أمير ماينس. وأذن له الأمير الجديد في الاحتفاظ بلقب مستشاره القانوني، ولكنه حرمه راتبه وجرده من بعثته الدبلوماسية! ومع ذلك فقد تمكن من مد فترة إقامته في باريس ثلاث سنوات أخرى، قضاها متفرغا للدراسات العلمية، عاكفا على البحث والاطلاع، وتبادل الأفكار مع العلماء في عاصمة النور، وكسب عيشه من الاستشارات القانونية (إذ كان خبيرا في شئون الطلاق!) والإشراف على تربية ابن بوينبرج المستشار السابق الذكر.
كانت أهم كتاباته وبحوثه في تلك الفترة في الرياضة «فتعرف إلى أعمال باسكال وطور الآلة الحاسبة»، وفتح له هيجنز باب الدراسات الرياضية العالية التي سرعان ما تفوق فيها على أستاذه! وكان أعظم ما أدت إليه هو اكتشافه لحساب اللامتناهي في الصغر (التفاضل) الذي أتمه سنة 1676م، وكان نيوتن قد سبقه إليه سنة 1665م دون أن يعلم. وقد بين البحث بعد ذلك أنهما توصلا إليه بطرق مختلفة، وفي استقلال تام عن بعضهما البعض، وإن كان هذا لم يمنع من نشوب خلافات مؤسفة حول أسبقية أحدهما الآخر.
وغادر باريس في سنة 1676م عائدا إلى بلاده، بعد زيارة قصيرة للندن ولاهاي، حيث لقي إسبينوزا واستمرت المناقشات الفلسفية بينهما عدة أيام. وقد ظلت هذه الزيارة مثارا للجدل، كما أحاط الغموض بعلاقة الفيلسوفين، ولكن يبدو أن ليبنتز لم يقتنع بآراء إسبينوزا، وعارض نظريته عن الله ونقده للأديان، وإن لم يكن هناك شك في أنه سعى للاطلاع على مخطوطاته التي جاهد الفيلسوف الهولندي المنطوي على نفسه لحجبها عنه! ويظهر أن ليبنتز قد اتجه إلى إسبينوزا والأمل يداعبه في أن يجد لديه الحل الذي ينقذه من أخطاء ديكارت! فلما لم يجد هذا الحل يئس منه وسخط عليه! ولكنه لم يخل مع ذلك من التأثر به إذ أقنعته النتائج التي توصل إليها إسبينوزا بأن التفسير الميكانيكي للعالم تفسير غير كاف، كما تأثر بغير شك بفكرته عن النزوع
Conatus
التي أخذت شكلا آخر لديه، ولعله أن يكون كذلك قد تأثر قليلا أو كثيرا بفكرته عن الجوهر الكلي الذي أصبح لديه قوة دينامية فردية متميزة بعد أن أدار وجهه ناحية أفلاطون وأرسطو والمشائين!
مهما يكن من شيء، فقد مات إسبينوزا بعد ذلك بشهور قليلة. وكتب ليبنتز رسالة إلى القس جالوا يقول فيها هذه العبارة العجيبة: «مات إسبينوزا في هذا الشتاء، إن له ميتافيزيقا غريبة، مليئة بالمتناقضات ...»
وصل ليبنتز إلى هانوفر في شهر ديسمبر سنة 1676م. وقبل وظيفة مستشار في بلاط الدوق يوهان فريدريش وأمين مكتبته. وأظهر الدوق عطفه الشديد على ليبنتز وتفهمه لمشروعاته السياسية والدينية ومنجزاته العلمية، وبقيت العلاقة بينهما أقرب ما تكون إلى العلاقة بين الأصدقاء، حتى مات الدوق في سنة 1679م، فأحس ليبنتز بخسارته الفادحة، التي زاد من وقعها على نفسه أن خلفاءه لم يفهموه أو يقدروه. فقد خلف الدوق شقيقه أرنست أوجست، ثم جاء بعده ابنه جورج لودفيج، ولم يكن لهما نصيب من ذكاء العقل أو رقة القلب، ومع ذلك فقد شاءت العناية الإلهية أن تعزي الفيلسوف الوحيد عن خسارته بالقرب من سيدة مثقفة نبيلة لم تبخل عليه هي ولا ابنتها بمودتها ورعايتها.
وكانت هذه السيدة هي الدوقة صوفي، زوجة الدوق أرنست أوجست، وأما ابنتها فهي صوفي شارلوت التي صارت بعد ذلك ملكة بروسيا، واتصلت الصداقة العقلية الخالصة بينهما، فألهمته الكثير من أفكاره الأصيلة، ومدت إلى قلبه الوجيد أشعة دافئة أوحت إليه ببعض مؤلفاته الفلسفية!
قضى ليبنتز في بلاط هانوفر أربعين سنة حافلة بالنشاط السياسي والدبلوماسي، الذي أتاح له فرصة السفر في رحلات طويلة. وقد ساقته هذه الرحلات بين سنتي 1687-1690م إلى نابولي عن طريق فيينا وروما، والتقى في فيينا بالإمبراطور ليويولد الأول، وتناقش في روما مع رجال العلم والكنيسة، كما تحاور مع بعض اللاهوتيين الجزويت عن بعثتهم إلى الصين، وعن عظمة الحضارة الصينية، وعرضت عليه وظيفة أمين مكتبة الفاتيكان. وكان من الممكن أن يساعده هذا العرض المغري على الوصول لمنصب الكاردينال، لولا أنه رفض أن يتحول إلى المذهب الكاثوليكي.
هكذا تشتتت حياة ليبنتز بين واجباته ومهام منصبه العديدة التي وزعت جهوده بين المكتبة وكتابة التاريخ والتوفيق بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستنتية وتأسيس الأكاديميات، وإصدار الفتاوى القانونية! ومع ذلك فقد وجد شيئا من الفراغ الذي مكنه من العكوف على بناء مذهبه الفلسفي. فكتب في سنة 1686م «المقال في الميتافيزيقا»،
5
وهو أول تلخيص يحمل فيه أهم أفكاره الفلسفية والدينية كفكرته عن الجوهر البسيط والاتساق المقدر، وقدمه للعالم اللاهوتي أرنو الذي ظل يراسله أربع سنوات. أما أول عرض منهجي لمذهبه فقد نشره بعد ذلك بتسع سنوات (1695م) في ما لا يزيد عن ثلاث عشرة صفحة في مجلة العلماء،
6
التي كانت تصدر في باريس تحت عنوان «المذهب الجديد عن الطبيعة والاتصال بين الجواهر».
7
وتمكن ليبنتز في سنة 1704م من إكمال «المقالات الجديدة عن العقل البشري»،
8
التي ناقش فيها آراء جون لوك عن نظرية المعرفة في كتابه «مقال عن العقل الإنساني (1690م)» مناقشة واسعة، ثم شاء الموت أن يعاجل لوك قبل الانتهاء من هذه المقالات بقليل، فأحجم ليبنتز عن نشرها، ولم تظهر إلا بعد وفاته بخمسين سنة (سنة 1765م).
ويبدو أنه تردد في نشر رسالته الشهيرة عن العدل الإلهي أو الثيوديسية، حتى ألحت عليه صوفي شارلوته في نشرها (وكانت قد تزوجت من فردريك الأول، وأصبحت ملكة على بروسيا)، وظهر الكتاب سنة 1710م، وسرعان ما ذاع وانتشر ذكره وأثره بين الناس، وكان عنوانه الفرعي وحده كافيا للدلالة على موضوعه: طيبة الله (أو خيريته)، وحرية الإنسان، وأصل الشر
9
كما كان لردوده على الانتقادات التي وجهها إليه الفيلسوف الفرنسي بيير بابل في قاموسه التاريخي والنقدي دور في هذا الأثر الكبير.
واستطاع ليبنتز قبل موته بسنتين أن يضع رسالتين صغيرتين، لخص فيهما فلسفته وصاغها في عبارات دقيقة محكمة، كانت أولاهما هي المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي،
10
أما الثانية فقد تركها بغير عنوان، ثم عرفت بعد ذلك باسم المونادولوجيا.
11
وأصبحت أشهر أعماله وأكثرها دلالة على مذهبه. وقد أراد لها أن تكون مدخلا مبسطا لفلسفته، وأهداها (هي أو المبادئ في رأي بعض الشراح) للأمير يوجين الذي تعرف به في فيينا وكسب مودته.
كان ليبنتز من هواة كتابة الرسائل، وتضم قائمة مراسلاته أكثر من ستمائة اسم! وقد ضمنها عددا كبيرا من آرائه في السياسة والدين والفلسفة، وبث فيها كثيرا من هموم العالم الوحيد الذي يستضيء الناس بنور عقله، ويضنون عليه بشعاع يدفئ قلبه. ولعلها كانت أنسب وسيلة للتعبير عن أفكاره العميقة وخواطره ولمحاته الأصيلة التي حرمه التشتت والترحال فرصة تقييد طيورها الشاردة في قفص الكتب المنهجية المنسقة! ولم يتسن بعد للباحثين أن ينشروا كل هذه الرسائل المبعثرة المكتوبة بخط رديء تصعب قراءته! ولا شك أنها جزء لا يتجزأ من حياته وشخصيته ونشاطه العقلي المتدفق.
مات ليبنتز في هانوفر في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1716م بعد أن بلغ السبعين. مرض قبل موته بالنقرس، وامتلأت نفسه مرارة من جحود الأصدقاء والمعارف والزملاء، وبقيت معظم أعماله الفلسفية والعلمية شذرات ناقصة، وأخفقت أغلب مشروعاته السياسية والدينية. وكان أمير هانوفر - الذي اعتلى عرش إنجلترا قبل وفاة ليبنتز بسنتين وسمى نفسه جورج الأول - قد تخلى قبل ذلك عنه. وكانت صديقتاه وراعيتاه النبيلتان - الأميرة صوفي أم هذا الملك وشقيقته الملكة صوفي شارلوته - قد اختفتا من مسرح حياته التي لم تعد تحتمل بعدهما، وفكر في أيامه الأخيرة أن يغادر هانوفر، ولكن صحته كانت قد تحطمت. وعندما مات لم يمش في جنازته أحد من رجال الدين الذين اتهموه قبل ذلك بمقاطعة الكنيسة، ولقبوه «المؤمن بلا شيء»، ولا من رجال البلاط الذي وهبه أربعين سنة من عمره. وتجاهلت الجمعية الملكية البريطانية نبأ وفاته، وأهملته أكاديمية برلين التي أسسها، وكان أول رئيس لها. لم يشيعه إلى قبره سوى تابعه وسكرتيره الأمين اكهارت. وسار نعشه، كما قال أحد شهود العيان كأنه نعش لص أو قاطع طريق، وكأنه لم يكن زينة بلده. ولولا الخطبة البليغة التي نعاه بها فونتينيل - ابن أخ الشاعر المسرحي كورني - بعد موته بسنة كاملة أمام أكاديمية العلوم في باريس لأصابنا اليأس المطبق من قسوة الإنسان.
ولكن أعماله بقيت على الرغم من سوء الحظ الذي صادفه في أواخر حياته. وستضمن له المجد والخلود، إن كان في هذا العالم الشقي المظلم الذي أسرف في حسن الظن به شيء اسمه الخلود!
ثانيا: فلسفة ليبنتز (أ) العالم كل متجانس
ترجع فكرة «الجوهر» إلى أرسطو الذي ندين له بعدد ضخم من أفكارنا ومصطلحاتنا الفلسفية والجوهر عنده هو الماهية التي يقوم عليها وجود كائن فردي معين، هذه الماهية تظل ثابتة وإن تغيرت كل الخصائص الخارجية التي تميز هذا الكائن من حجم وكيفيات وعلاقات ... إلخ. وقد دارت مناقشات عديدة حول فكرة الجوهر الأرسطية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ووقف منها الفلاسفة بين مؤيد ومعارض. أصر التجريبيون على رفضها، وحاولوا أن يلغوها من الفلسفة إلغاء (فهيوم مثلا يقول إنها وهم، وأن الجوهر ليس إلا مجموع صفاته). ودافع عنها المدرسيون؛ لأنها كانت تمثل نقطة أساسية في مذهبهم الفلسفي، وعارضها العقليون مثل ديكارت وإسبينوزا، ولكنهم تمثلوها في صورة أخرى معدلة (فبينما يقول ديكارت بجوهرين مخلوقين هما الفكر والامتداد، إلى جانب الجوهر المطلق أو الله، يقول إسبينوزا بجوهر واحد لا متناه يمكن أن نسميه الله أو الطبيعة).
وقد احتفظ ليبنتز بفكرة الجوهر، بل جعل منها محور فلسفته، وجمع فيها بين عناصر قديمة من التراث الفلسفي إلى جانب أفكاره الخاصة؛ بحيث انتهى بها إلى تصور أصيل وجديد، واختار لها كذلك اصطلاحا جديدا هو «المونادة» لم يستخدمه إلا منذ سنة 1697م.
ويبدأ ليبنتز بالأجسام الطبيعية، فهذه الأجسام تقبل القسمة، وهي لهذا مركبة، أو هي على حد تعبيره الذي لم يوفق فيه «جواهر مركبة». ولما كانت هناك جواهر مركبة، فلا بد في رأيه أن تكون هناك جواهر بسيطة، هذه الجواهر البسيطة هي التي يسميها المونادات، وهي «الذرات الحقيقية التي تتكون منها الطبيعة».
ولكن وصف المونادات بأنها ذرات لا يخلو من إساءة الفهم؛ لأنها شيء مختلف عما نعرفه اليوم عن الذرات؛ ذلك أن ليبنتز لا يقصد منها أن تكون هي العناصر الطبيعية النهائية التي تنحل إليها المادة؛ ومن ثم فليست هي الذرات ولا الجسيمات أو الجزئيات الأولية التي تتكون منها الذرة، بل إنه لن يتردد في وصف الذرات والجزئيات التي تتكلم عنها الفيزياء الحديثة بأنها «جواهر مركبة»؛ لأن كل الأجسام في نظره تقبل القسمة مهما كانت صغيرة، وعملية القسمة هذه يمكن أن تمضي إلى ما لا نهاية. ولن تؤدي مناهج الفيزياء الحديثة إلى اكتشاف المونادة التي يتصورها؛ لأن المونادة لا يمكن تصورها إلا عن طريق الفكر، ولهذا فهي كما يدل اسمها بسيطة، ومعنى هذا في رأيه أنها لا تقبل القسمة، وليست مادية ولا شكل لها، وهي كذلك لا تتكون ولا تفنى، ومثل هذا الجوهر لا يمكن أن يكون موضوعا من موضوعات العلم الطبيعي الحديث.
وإذا كانت مناهج العلم عاجزة عن الوصول إلى فكرة المونادة، فهل يمكن أن تطبق عليها مناهج الرياضة؟ يحتمل أن تكون بحوث ليبنتز عن الكميات المتناهية في الصغر داخل حساب اللامتناهي الذي اكتشفه قد أثرت على آرائه الميتافيزيقية، ولكن لا ينبغي أن نبالغ في تقدير هذا الأثر، فالحقيقة أن المونادات ليست كميات متناهية في الصغر، بل ليست كميات على الإطلاق. وفكرة المونادة ليست فكرة رياضية؛ لأن ليبنتز يعترض صراحة على وصف المونادات بأنها نقط رياضية. لقد درس الفلسفة الفيثاغورية بغير شك، ولكنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه فيثاغورس وأتباعه من تفسير ماهية الواقع تفسيرا رياضيا؛ فالحقائق الرياضية في رأيه تفتقر إلى كل الخصائص الدينامية. إنها أفكار وليست قوى أو طاقات. والمونادات في حقيقتها مراكز حية للقوة أو الطاقة. وقد عبر عن هذه الفكرة الأساسية في تعريفه المشهور للجوهر، وهو الذي نطالعه في أول عبارة استهل بها كتابه مبادئ الطبيعة والفضل الإلهي: «إن الجوهر كائن قادر على الفعل.»
المونادات إذن مبادئ دينامية تدخل في الأجسام الواقعية (أو التجريبية) كما تنتج عنها هذه الأجسام. ويعتقد ليبنتز أن فكرة المونادة تقدم لنا المفتاح الذي نفسر به وضع النباتات والحيوانات والكائنات البشرية ومكانها من العالم الجسمي في مجموعه؛ ففي كل كائن حي فرد توجد مونادة رئيسية تتحكم في سائر المونادات التي يتألف منها. ويطلق ليبنتز على هذه المونادة الرئيسية اسما استعاره من المصطلح الأرسطي وهو «الأنتليخيا». فالمونادات «أنتليخيات»، ولكل نبات «أنتليخياه». والأنتيليخيا الموجودة في الحيوان تسمى «النفس»، والتي توجد في الإنسان تدعى «العقل».
وواضح أن فلسفة ليبنتز عن المونادات تحتفظ بالفكرة القديمة عن تسلسل الكون، أو تدرجه إلى طبقات يرتفع بعضها فوق بعض، فمونادات الأجسام تحتل أدنى طبقة، تعلوها المونادات التي تتحكم في النباتات، ثم تأتي مونادات الحيوانات التي ترتفع فوقها، إلى أن نبلغ المونادات التي تتحكم في الكائنات البشرية، وتتجاوز سائر الطبقات. ثم نجد أرواحا أسمى من الأرواح البشرية تتوسط بين الإنسان والله، وأخيرا نجد المونادة المركزية «المطلقة» الكاملة التي تعلو فوق سلسلة المونادات الفانية؛ ألا وهي الله.
ولكن هذه المستويات المتعددة ليست مناطق مختلفة معزولة؛ لأن العالم لا يتكون من أجزاء منفصلة، وإنما يتصل فيه كل شيء بكل شيء، وهذا الاتصال يقوم على أن كل ما هو موجود إنما هو مونادة أو كائن فرد مستقل. والواقع كله له طابع الأنتيليخيا أو صفة الروح. وفكرة الاتصال والترابط بين كل الموجودات تهدم كل محاولة يراد بها تفتيت الواقع إلى عناصر متنافرة. وتاريخ الفكر البشري مليء بمثل هذه المحاولات. ولا شك أن الهوة السحيقة التي حفرها ديكارت بين «الجوهر المفكر» و«الجوهر الممتد» كانت بمثابة إنذار خطير لم يستطع ليبنتز أن يتجاهله، ولكن لا شك أيضا أن ليبنتز عندما أكد الترابط بين جميع الموجودات قد عرض نفسه ومذهبه لخطر آخر؛ ألا وهو إغفال الحدود الفاصلة بين مناطق الوجود المتميزة أو طمسها، وهذه نتيجة تنتهي إليها كل الفلسفات الواحدية التي تعجز عن تفسير الواقع المتنوع؛ نظرا لأنها تقع فريسة لإغراء الوحدة التي تنطوي عليها.
وتعبر فلسفة ليبنتز عن فكرة الاتصال المستمر بين جميع الموجودات عن طريق تطبيق فكرة المونادة اللامادية على كل شيء، ولكن الإنصاف يقتضينا القول بأنه يطبق هذه الفكرة بصورة لا تخلو من العمق والأصالة؛ فهو يقول في الفقرة 56 من المونادولوجيا: «هذا الترابط أو هذا التلاؤم بين جميع المخلوقات وبين كل منها على حدة، ثم بين كل واحد منها، والجميع يترتب عليه أن يحتوي كل جوهر بسيط على علاقات تعبر عن مجموع الجواهر الأخرى، وأن يكون تبعا لذلك مرآة حية دائمة للعالم» (المونادولوجيا 56). ولكن بينما تعكس المرآة جزءا معينا من الواقع فحسب، فإن كل مونادة فردية تعكس الواقع في مجموعه.
فكرة ساحرة بغير شك، ولكنها تحير القارئ، وتدفعه إلى السؤال عن طبيعة ذلك الانعكاس. ولا بد أن نتذكر ما قلناه من أن المونادات غير مادية؛ أي إنها شيء عقلي أو فكري خالص، وهذا يفسر لنا أن ما هو في الخارج، يمكن أن يتمثل داخل المونادة، وهذا هو الذي جعل ليبنتز يصف هذه التمثلات بأنها «إدراكات». وليس من الضروري أن تشعر المونادة الفردية بهذه الإدراكات. فالمونادات العليا - كنفوس الحيوانات والعقل الإنساني بوجه خاص - هي التي تشعر بها شعورا واعيا، بل إن هذه المونادات العليا لا تشعر إلا بجزء من هذه الإدراكات.
وهكذا يوفق ليبنتز بين المبدأ الأساسي الذي يقول إن كل مونادة مرآة تعكس الكون بأكمله، وبين التجربة المباشرة التي تقول بأن عقلنا لا يعي سوى جزء بسيط من العالم. وتصورات المونادات أو إدراكاتها ليست صورا دائمة باقية، وإنما هي جزء من عملية دينامية يتم فيها الانتقال بصفة مستمرة من إدراك إلى إدراك آخر. والفعل الذي يسبب هذا الانتقال المستمر هو «النزوع»، وبهذا يكون الإدراك والنزوع مظهرين للحياة التي تتميز بها المونادة. •••
وتفكير ليبنتز يميل إلى التأليف والتركيب والتوفيق بين الآراء والمذاهب والأفكار المتعارضة، ولكن يبدو أنه لا ينجح دائما في ذلك، فهو إذا كان يقول بترابط جميع المونادات واتصالها ببعضها البعض، فهو يقول من ناحية أخرى إن كل مونادة على حدة ذات كيان فردي مستقل بنفسه تمام الاستقلال. وقد قيل بحق إن ليبنتز هو أعظم من قال بفكرة التفرد، صحيح أنه لم يكن أول القائلين بها؛ إذ إن المشكلة موجودة في الفكر الغربي منذ عهد أفلاطون، ولكن الحق أنه حاول أن يجيب عليها إجابة جديدة وأصيلة، فهو يرى أن مبدأ التفرد موجود في مبدأ الترابط بين جميع المونادات، أو بالأحرى في نفس الحقيقة التي يقوم عليها هذا المبدأ الأخير؛ أي في انعكاس الكون كله عن طريق الإدراك، فكل مونادة تتميز عن الأخرى حسب درجة إدراكها، ومدى هذا الإدراك من الوضوح والتميز، أو الغموض والاختلاط. وثمة تدرج مستمر يبدأ من الإدراكات المظلمة الغامضة التي لا يصاحبها الشعور، إلى الإدراكات الواضحة المتميزة التي يتمثلها العقل الإنساني. ولا تتفاوت الإدراكات من حيث الدرجة فحسب، بل إن لكل مونادة منظورا خاصا تعكس العالم كله من خلاله. «وكما أن مدينة واحدة بعينها، إذا تأملها المرء من جوانب مختلفة، تبدو في كل مرة على صورة مختلفة تمام الاختلاف، وكأن لها منظورات متعددة، كذلك توجد أيضا - بسبب الكثرة اللانهائية للجواهر البسيطة - عوالم عديدة مختلفة ليست في الواقع إلا منظورات لعالم واحد وفقا لوجهات النظر المختلفة لكل مونادة على حدة» (المونادولوجيا 57). وهذه في الحقيقة فكرة بالغة الخصوبة. إنها توفق كما قلت بين المبدأين، وتنسق بين تفرد كل وجهة نظر للعالم وبين وحدة العالم المنظور إليه، هذا بالإضافة إلى أن تفرد كل مونادة على حدة يتسق مع الترابط المتصل بين المونادات؛ أي إن تفرد الفرد متصل بترابط الكل.
ويؤكد ليبنتز فكرة التفرد بفكرة أخرى؛ فهو يرى أن المونادة ليست فريدة وحسب، وإنما هي كذلك منعزلة تماما عن سائر المونادات، ومحكوم عليها بالعزلة بحكم ماهيتها، وهو يذهب إلى استحالة التفاعل المباشر بين المونادات الفردية، فليست هناك مونادة تؤثر على الأخرى، والمونادة عندما تحصل على إدراكاتها، أو تنتقل من إدراك إلى آخر، إنما تفعل هذا من داخلها فحسب. وقد وضح هذه الفكرة بقوله المشهور: «ليس للمونادات نوافذ يمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء أو يخرج منها» (المونادولوجيا 7).
وإذن فكل مونادة تعتمد على نفسها في تكوين الصورة التي لديها عن العالم، ولكن كيف نعرف أن هذه الصورة تتفق مع واقع العالم؟ وإذا تغير العالم فكيف نعرف أن صورته قد تغيرت كذلك بما يتفق معه؟ وكيف نبين أن كل مونادة في العالم متعلقة بكل المونادات، وأن كل تغير يلحق بإحدى المونادات ينعكس في كل مونادة أخرى على نحو واضح أو غامض؟
يلجأ ليبنتز إلى فكرة الله للإجابة على هذه الأسئلة العسيرة. لقد خلق الله جميع المونادات المتناهية أو الفانية، وقد خلقها بحيث لو تمت إدراكاتها وفقا للقوانين الداخلية الكامنة فيها، لعكست هذه الإدراكات إدراكات المونادات الأخرى، ومن ثم العالم كله، وهذا هو ما عبر عنه بمبدئه المشهور عن «التناسق المقدر» أو «التجانس المدبر». فقد حرص الله عند خلق المونادات على تحقيق التجانس بينها جميعا.
وقد استعار ليبنتز تشبيها طريفا سبقه إليه غيره عندما صور الله في صورة صانع الساعات الذي أنشأ عدة ساعات تدور في وقت واحد بغير أن تؤثر إحداها على الأخرى.
كيف اهتدى ليبنتز إلى هذه الفكرة العجيبة؟ لا بد أن نبحث عن جذورها في مذهبه نفسه، وسنجدها في فكرته عن المونادة كما نجدها في فكرته عن العلية. إن المونادة بسيطة، ومعنى هذا أنها غير مادية. والعلية عند ليبنتز علية آلية لا يمكن أن توجد إلا في عالم من الأجسام، ويترتب على هذا في نظره استحالة تصور علاقة علية بين جواهر لا مادية.
وهذه الفكرة شأنها شأن أفكار كثيرة غيرها توضح أن ليبنتز هو ابن عصره المخلص، الذي لم يستطع أن يتحرر من التصور العلي الذي قيدته الآلية في أغلالها الثقيلة.
ولعل لليبنتز بعض العذر في هذا، فقد اهتم بالتفسير الآلي الذي كان من أهم الكشوف العلمية في عصره، وإن لم يسلم به مع ذلك تسليما أعمى، فهو يقبل فكرة الآلية من ناحية، ولا يريد من ناحية أخرى أن يفرط في فكرة الغائية. ولهذا نجده يحاول التوفيق بينهما، كما حاول التوفيق بين كثير من الأفكار والآراء المتعارضة. إن كلا الرأيين يفسر أحداث العالم من وجهة نظر مختلفة ، فهذه الأحداث من وجهة النظر الغائية تخدم غرضا معينا، وهي تتم من وجهة النظر الآلية؛ لأن الأجسام المادية التي تقوم عليها تحتك ببعضها على أساس القوانين الآلية التي لا تتغير، وهو يحاول أن يوفق بين وجهتي النظر كما قلنا بغير أن يحدد لكل منهما مجالا يختص به ولا يتعداه، فيسلم بالفكرة الآلية التي تذهب إلى أن كل العمليات الفيزيائية بما في ذلك العمليات البيولوجية، يمكن تفسيرها تفسيرا آليا، ولكنه يحد من هذه الفكرة فيبين أن جميع الأحداث الفيزيائية يمكن تفسيرها كذلك تفسيرا غائيا.
وهو يوضح هذا عن طريق التمييز بين «مملكتين» مملكة الجواهر المركبة أي الأجسام، ومملكة الجواهر البسيطة أي المونادات. والعلية الآلية تحكم مملكة الأجسام، أما مملكة المونادات فتحكمها الغائية، وهاتان المملكتان ليستا مستقلتين عن بعضهما البعض، ولا توجدان جنبا إلى جنب، بل يكونان وحدة واحدة، وإحداهما هي الصورة التي تظهر بها الأخرى. وهكذا فإن فكرة اتساق العالم التي تحدثنا عنها في سياق الكلام عن «الاتساق المقدر» لا تتأثر عندما نتحدث عن عالمين أو مملكتين للعلية والغائية، يعبر عن هذا قوله: «ومملكتا العلل الفاعلة والغائية متجانستان» (المونادولوجيا 79).
هكذا توفق نظرية المونادات بين العلية والغائية. وهناك سبب فلسفي آخر جعله يتمسك بفكرة الغائية، وهو تأكيد أن قوانين الآلية تقوم في الحقيقة على قوانين الغائية وتعتمد عليها. وتفسير هذا أن القوانين الآلية بطبيعتها قوانين عرضية حادثة؛ أي يمكن أن تكون غير ما هي عليه في الواقع، إذ يمكن من الناحية المنطقية البحتة أن نتصور وجود عوالم أخرى تحكمها قوانين طبيعية أخرى مختلفة عن القوانين التي تحكم عالمنا. أما أن هناك قوانين معينة تحكم عالمنا، فلا يمكن أن نقره إلا إذا سلمنا بحرية المبدأ الذي يقوم عليه العالم؛ أي إلا إذا سلمنا بحرية الله التي تتجه إلى هدف أو غاية، شأنها في هذا شأن كل حرية أخرى.
ومن هذا كله نرى أن القوانين الآلية للحركة تشير إلى أساس غائي تستند إليه، وأن فكرة الغائية فكرة أساسية في فلسفة ليبنتز الطبيعية وبغيرها لا يمكن تصور هذه الفلسفة. (ب) الإنسان مونادة عاقلة
كل ما قيل عن المونادة بوجه عام يمكن أن يقال أيضا عن العقل الإنساني، فهو بسيط لا يقبل القسمة، وهو غير مادي، لا يتكون ولا يفسد بالموت، إنه مبدأ النشاط التلقائي، مرآة العالم كله. والذي يميز مونادة العقل الإنساني عن سائر المونادات هو طبيعة إدراكاتها، وهناك جزء من هذه الإدراكات يدخل في شعورنا، ويطلق ليبنتز على هذا الشعور أو هذه المعرفة التي تحصل لنا من إدراكاتنا اسم «الوعي»
Apperception
أضف إلى هذا أن إدراكاتنا الواعية تختلف في درجة عمقها ووضوحها وتميزها عن الإدراكات التي تتم للنفس الحيوانية، والعقل الإنساني مونادة عليا تتحكم في المونادات السفلى التي تكون الجسم البشري، شأنها في هذا شأن النفس في الحيوان، ومبدأ الحياة في النباتات، ومبادئ الحياة التي تسيطر على الأجزاء العضوية المختلفة في الكائنات الحية. ويفترض ليبنتز في كل كائن حي عددا لا نهاية له من مبادئ الحياة المرتبة ترتيبا متسلسلا؛ أي من مبادئ تتحكم في مبادئ أخرى أدنى منها كما تحكمها في نفس الوقت مبادئ فوقها.
العقل إذن هو المبدأ الأعلى لحياة الإنسان، وكثيرا ما قارن الباحثون بين ليبنتز وأفلاطون حول هذه النقطة التي تتصل بالنفس العاقلة، ولكنهم نسوا في أغلب الأحيان أن فلسفة ليبنتز عن الإنسان فلسفة غير أفلاطونية بالمرة. فالمعروف أن أفلاطون يعد النفس مستقلة عن البدن الذي حلت فيه، وهي تقضي فيه زمنا ينتهي بانتهاء الأجل، فتتحرر منه وتنفصل عنه. فالبدن هو سجن النفس، أو هو قبرها على حد تعبيره المشهور في محاورة فايدون (سوما سيما)، ولكن ليبنتز ينظر للعلاقة بين النفس والجسم نظرة مختلفة كل الاختلاف، فوجود العقل الإنساني في رأيه يعتمد بالضرورة على وجود الجسد، وهو إن وجد فلا بد أن يكون مونادة رئيسية متحكمة في مجموعة من المونادات الدنيا، أعني في جسد عضوي، ويستحيل عليه أن يكون غير ذلك. ولهذا نجده يصف رأي أفلاطون في وجود منفصل للنفوس عن الأجساد بأنه «دعوى مدرسية» (المونادولوجيا 14)، وواضح أن نظرة ليبنتز هذه إلى العلاقة بين النفس والجسد - وهي تختلف كما رأينا كل الاختلاف عن نظرة أفلاطون - هي النتيجة الضرورية المترتبة على مذهبه الميتافيزيقي. فإذا كانت المادة عند أفلاطون شيئا غريبا على العقل، بل شيئا معاديا له، فإن المادة عند ليبنتز هي المظهر الذي تتجلى فيه المونادات اللامادية. ومعنى هذا أن المادة متعلقة بالعقل تعلقا أساسيا، بل إنها لتوشك أن تكون ذات طبيعة عقلية، ومعناه أيضا أن ليبنتز يشترك مع غيره من الثائرين على النظرة اليونانية التي تنتقص من شأن المادة، وتقلل من قيمة الأشياء المادية. صحيح أن الصراع بين أنصار المادة وأنصار الروح لم ينته بعد، وأن الحرب بينهما لم تحسم حتى اليوم، ولا نظن أنها ستحسم بشكل نهائي؛ إذ يبدو أنه ليس من السهل أن نعطي العالم المادي المحسوس حقه بغير أن نبالغ بغير حق في شأن الجانب الكمي من الواقع على حساب الجانب الكيفي. وهذا هو الذي حاوله ليبنتز فترك أثره على فلسفته الإنسانية. لقد فسر المادة من خلال المبادئ اللامادية الكامنة فيها، وأتاح له هذا التفسير أن يصور العلاقة بين النفس والجسم، أو بين العقل والمادة في صورة الحاكم والمحكوم لا في صورة السجان والمسجون!
كلنا يعرف حكاية البراهين التي ساقها أفلاطون لإثبات خلود النفس. لقد أجهد نفسه في صياغتها، ووفق في بعضها، وخانه التوفيق في بعضها الآخر، ولكنها جميعا لم تسلم من النقد. أما ليبنتز فهو يرى أن الخلود لا يحتاج إلى براهين معقدة ولا بسيطة، إنه مترتب على مفهوم المونادة. فالمونادات كما علمنا لا تقبل القسمة، وهي لهذا خالدة، ولا شك أن هذا يسري على مونادة العقل. وقد يسأل سائل: كيف يوفق ليبنتز بين مبدأ خلود العقل (أو الروح) ومبدأ الارتباط الضروري الدائم بين العقل والجسد؟
ينفي ليبنتز أن يكون الترابط بين الجسد والنفس من النوع السكوني (أو الإستاتيكي)؛ لأنه في الحقيقة يعبر عن علاقة حية إلى أبعد حد. فكل الأجسام في حالة تغير وتحول دائمين، وحتى الأجسام العضوية تفقد باستمرار بعض الأجزاء وتكتسب أجزاء غيرها. وما نسميه «الموت» لا يعدو أن يكون حالة خاصة من أحوال التغير الدائم والصيرورة المتجددة. والنفس تفقد جزءا من المونادات التي تتحكم فيها، ولكنها تحتفظ بأجزاء أو تكسب أجزاء أخرى، ولهذا فليس هناك موت بالمعنى الطبي الدقيق لهذه الكلمة.
وهذا هو ما يعبر عنه ليبنتز في المونادولوجيا (72-73) بقوله: «وهكذا فإن النفس لا تغير جسمها إلا ببطء وبالتدريج، بحيث لا تجرد أبدا من جميع أعضائها دفعة واحدة، وكثيرا ما يتم التحول بين الحيوانات، ولكن تقمص الأرواح أو تناسخها لا وجود له على الإطلاق، كذلك لا توجد نفوس قائمة بنفسها أو مستقلة تمام الاستقلال (عن الأجسام) ولا أرواح بغير أجسام. إن الله وحده منزه عن الجسمية كل التنزيه، ولهذا السبب لا يوجد أبدا تولد كامل ولا موت كامل بالمعنى الدقيق، أي بمعنى انفصال النفس عن الجسد. وما نسميه بالتوالد إنما هو نوع من التطور والنمو، أما ما نسميه بالموت فهو انكماش وتناقص.»
هكذا يحاول ليبنتز أن يقلم مخالب الموت، ويجعل منه حالة خاصة من العمليات البيولوجية العادية، ولا شك أن هذا شيء يستثير سخطنا ودهشتنا؛ فالموت يحيط بنا في كل لحظة، وليس مجرد ضيف ثقيل نلقاه في نهاية الطريق، إنه مأساة تخيم على وجودنا كله، ولولا تحديه الدائم ما كان فن ولا أدب ولا فلسفة، هو الصخرة الخالدة التي تدمي أجسادنا وأرواحنا على مر العصور، من قلل من خطره أو أخذه مأخذا هينا حرم نفسه أعمق ينابيع التأمل الفلسفي، ومن واجهه بالكلمات الفخمة والبطولات الطنانة أضاع سره العظيم المخيف (فالفلسفة تأمل دائم للموت كما يقول أفلاطون)، وكلام ليبنتز عن الموت يوحي بأنه لم يفهم شيئا عن هذا الجانب المظلم من وجود الإنسان وقدره. ولعله أيضا أن يحملنا على مواجهة تفاؤله العقلي بالابتسام المرير، بدلا من أن يشجعنا على الفرح والبهجة بالحياة في «أفضل عالم ممكن!»
إذا كانت العلاقة بين العقل والجسد العضوي شرطا لا غنى عنه لوجود العقل نفسه، فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ هل يمكن أن تكون نوعا من التفاعل المشترك بينهما؟ وهل يستقيم هذا مع فكرته عن انعزال المونادات التي لا نوافذ لها؟ ألا يكون قد خان هذه الفكرة الأساسية في مذهبه؟
الحق أنه ظل على وفائه لهذه الفكرة؛ ولهذا نجد عنده في النهاية نوعا غريبا من ثنائية النفس والجسم، وهي ثنائية لم تنشأ عن اختلاف طبيعة الطرفين وماهيتهما، كما هو الحال مثلا عند ديكارت، بل جاءت من أن كليهما له طبيعة المونادة، وهذه الطبيعة تحتم عليهما الانعزال والاكتفاء الذاتي، ولكن هذا لم يمنعه من القول بوحدة النفس والجسم، وهو يفسر هذه الوحدة بنفس الطريقة التي يفسر بها وحدة العالم في مجموعه، أعني بالرجوع إلى فكرته عن الاتساق المقدر أو التجانس والتواؤم السابق في علم الله. استمع إليه وهو يقول: «وقد أتاحت لي هذه المبادئ وسيلة تفسير اتحاد النفس مع الجسم العضوي، أو بالأحرى اتساقها معه تفسيرا طبيعيا. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة، كما يخضع الجسم لقوانينه الخاصة، وهما يتوافقان بفضل الاتساق المقدر بين جميع الجواهر؛ لأنها جميعا تمثلات عالم واحد بعينه» (المونادولوجيا 78). •••
إذا كانت هذه هي طبيعة العلاقة بين العقل الإنساني والجسم، فما هو القول في نشاط العقل وفاعليته؟
يرى ليبنتز أن معرفة الإنسان ونشاطه العقلي هي التي تحدد طبيعته. يقول في الفقرة التاسعة والعشرين من المونادولوجيا: «بيد أن المعرفة بالحقائق الضرورية والأبدية هي التي تميزنا عن الحيوانات الخالصة، وبها نحصل على العقل، ونتزود بالعلوم، حين ترتفع بنا إلى المعرفة بأنفسنا وبالله، وهذا هو الذي يسمى فينا بالنفس العاقلة أو العقل» (29).
ولكن عملية الإدراك ليست مقصورة على الإنسان، فالحيوانات تدرك أيضا، وهي قادرة على الربط بين المدركات عن طريق الخبرة والذاكرة. والمثل الذي يذكره ليبنتز يوشك بالإلهام والحدس الصائب أن يستبق تجارب بافلوف الشهيرة، إذ يكفي كما يقول أن يرى الكلب العصا التي ضربه بها سيده لكي يعوي وينجو بجلده؛ لأنه تذكر الألم الذي سببته له في المرة السابقة، وإذا كنا لا نستطيع أن نصف ليبنتز بأنه تجريبي، فإن هذا لا يمنعنا من الإشادة بحسه الواقعي السليم، فمعظم إدراكات الإنسان تترابط في رأيه بطريقة تجريبية مشابهة لطريقة ترابطها عند الكلاب بل إنه ليؤكد - بنغمة لا تخفى مرارتها - أن البشر تجريبيون في ثلاثة أرباع أفعالهم وتصرفاتهم، ولهذا فهم في هذا الجانب السلوكي لا يختلفون في شيء عن الحيوانات، غير أن الربع الباقي من أفعالهم هو الذي يميزهم حقا عن سائر الحيوانات. فمعرفة الإنسان لا تقف عند حقائق التجربة أو حقائق الواقع؛ لأنها بطبيعتها حقائق عرضية يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد، بل تتعداها إلى المعرفة بالعلل والأسباب، ولهذا يمكنه أن يبصر العلاقات الضرورية بين الأفكار، ويدرك حقائق العقل الضرورية الخالدة التي تتوفر في المنطق والرياضة بوجه خاص.
بهذا يقف ليبنتز في وجه النزعة التجريبية السائدة في عصره، على نحو ما نجدها في فلسفة توماس هوبز (1588-1679م) وجون لوك (1632-1704م). ولكن ينبغي علينا ألا نسيء فهم النقد الذي وجهه للنزعة التجريبية أو نتصور أنه يقلل من قيمة الحقائق التجريبية. فالواقع أنه كان يقدر قيمة التجربة الحسية كل التقدير، كما كان يتابع نتائج البحث التجريبي باهتمام لا مزيد عليه. ولم يكن هذا مجرد حب استطلاع أو رغبة في الإحاطة الموسوعية بكل جديد. فالواقع يشهد بأنه استفاد في بناء مذهبه بكثير من الدراسات العلمية التي تمت في عصره، كما كان له فضل الإسهام فيها. ويكفي أنه تنبه إلى نتائج البحوث التي قام بها العالم الهولندي فان لويفنهوك (1622-1723م) الذي اكتشف عددا كبيرا من الكائنات الحية الدقيقة عن طريق الميكروسكوب، كما استعان بهذه الكشوف في تدعيم نظرته الحيوية (انظر المونادولوجيا من 66-69).
وإذا كانت التجربة الحسية تمثل عنصرا هاما من عناصر المعرفة البشرية، فإن قيمتها في رأيه محدودة، ولا يمكنها أن تستوعب إمكانيات المعرفة. وقد أشرنا إلى نقده للنزعة التجريبية، وقلنا إنه لا يريد من هذا النقد أن يقلل من شأن الوقائع التجريبية، أو يحط من قيمتها، فالواقع أنه يهدف من ورائه إلى ضمان الحقيقة، الحقيقة التي لا تعتمد على الوقائع التجريبية، بل تظل محتفظة بصدقها وقيمتها ولو تغيرت كل هذه الوقائع عما هي عليه. إنه يدافع عن هذه الحقيقة المطلقة بكل ما يملك من قوة وإخلاص، ويحاول أن يدفع عنها أخطار النسبية والشك. وهو لا يكتفي بتأكيد استقلالها التام عن المصالح البشرية، والوقائع التاريخية، بل يذهب إلى حد القول بأنها مستقلة عن إرادة الله؛ لأنها ثابتة ومطلقة وخالدة خلود الله نفسه، ولا ريب في أن هذا الموقف يستحق منا كل إعجاب وتقدير. •••
ليست كل الحقائق ضرورية ولا أبدية. فلا بد في رأي ليبنتز من التمييز بين حقائق العقل الضرورية الخالدة وحقائق الواقع العرضية الحادثة؛ فالأولى هي التي لا يمكن تصور ضدها، وإلا كانت متناقضة مع نفسها، ومنها مبادئ الرياضة والمنطق. أما الثانية فيمكن تصور ضدها، ومنها الحقائق التاريخية وقوانين الفيزياء (مثل قانون الحركة)، والقدرة على تصور نقيض الحقيقة، أو عدم تصوره هو المعيار المنطقي الذي اعتمد عليه ليبنتز في التمييز بين حقائق العقل وحقائق الواقع.
بيد أن هذه التفرقة لا تلزم العقل البشري وحده، فقد نتصور أنها ترجع إلى قصور المعرفة البشرية، وتقيد العقل بحدود لا يمكنه أن يتخطاها، بحيث لو اتسع نطاق هذا العقل، وزادت قدرته وأصبح في قوة العقل الإلهي لانقلبت الحقائق الواقعية إلى حقائق عقلية، وقد نجد في بعض كتابات ليبنتز ما يوحي بهذا التصور، ولكنه في الحقيقة تصور خاطئ. فالفرق الفاصل بين النوعين قائم بالقياس إلى الله، بل إن ليبنتز يحاول أن يوضحه من وجهة النظر الإلهية نفسها. لقد تكونت حقائق العقل في العقل الإلهي المطلق، ومنه استمدت ضرورتها المطلقة، أما حقائق الواقع فترجع إلى إرادة الله، وتستمد قيمتها من إرادة الخالق الذي شاء أن يختار هذا العالم من بين عدد لا حصر له من العوالم الممكنة. بيد أن اختيار هذا العالم ليس فعلا تعسفيا من جانب الله؛ إذ لا يمكن أن يفيض الله نعمة الوجود إلا على عالم واحد ممكن، ألا وهو هذا العالم الذي هو أصلح وأفضل عالم ممكن. ومعنى هذا أنه يمكن تصور عوالم أخرى ممكنة، ولكنها من الناحية التاريخية والواقعية مستحيلة التحقيق، كذلك يمكن تصور الضد المقابل للحقائق الواقعية، ولكنه من الناحية التاريخية والواقعية مستحيل. وهكذا يمكن أن نقول، بغير افتراء على تفكير ليبنتز، إن الحقائق الحادثة تنطوي أيضا على نوع من الضرورة يمكن إذا جاز الوصف أن نسميها الضرورة المشروطة أو النسبية. والواقع أن الوعي بالضرورة المطلقة التي تميز حقائق العقل، والضرورة النسبية التي تميز حقائق الواقع هو أهم ما أنجزه العقل البشري، وهو كذلك أوضح ما يميزه عن سائر الحيوانات. إنه لا يقف عند تسجيل الوقائع التجريبية، بل يكتشف الحقيقة ويسعى إليها، وهذا هو سر عظمته وكرامته، وهو المخلوق الوحيد الذي استطاع أن يؤصلها وينميها؛ لأنه المخلوق الوحيد الذي أسس العلوم، وعمل على تقدمها وازدهارها. وأسمى هذه العلوم هو العلم الرياضي الذي بلغت فيه حقائق العقل الخالدة أعلى صورها وأنقاها. فمبادئ الرياضة بغير استثناء تنتمي للحقائق الضرورية التي لا يرقى إليها الشك. والرياضة هي المثل الأعلى للعلم الثابت. ولهذا فليس عجيبا أن يعدها ليبنتز النموذج الذي ينبغي على سائر العلوم - بما في ذلك الميتافيزيقا! - أن تقتدي به وتحتذي مناهجه. وليبنتز عالم رياضي، بل هو من أعظم علماء الرياضة في كل العصور، ولا شك أنه تأثر في كل هذه الآراء بتعصبه للنزعة الرياضية والعقلانية، ولكن تاريخ الرياضة أثبت صعوبة تحقيق آماله، كما دلت البحوث والخلافات التي ثارت في العقود الأولى من القرن العشرين حول أصول الرياضة أنها ليست من الثبات واليقين بالقدر الذي نتصوره.
ومع ذلك فقد أدى اهتمام ليبنتز بالمناهج الرياضية إلى اكتشاف عظيم نشهد اليوم آثاره في الأجهزة الحاسبة والسيبرنيطيقا والمنطق الرمزي ... إلخ، ولا يمكننا أن نقدر أبعاده في المستقبل، وهي في صميمه اكتشاف بسيط مؤداه أن الإنسان يضطر في أثناء التفكير إلى استخدام الرموز والعلامات. والعلوم الرياضية توضح هذه الخاصية التي تميز الفكر البشري في أعلى صوره، فالرياضي يستخدم في حساباته رموزا وعلامات معينة تختصر عمليات رياضية طويلة، واستدلالات عقلية معقدة، وهو لا يتوصل إلى نتائجه الرياضية إلا لأن لغة الرياضة هي لغة العلامات، ولما كان التفكير الرياضي في رأي ليبنتز هو النموذج الأسمى للتفكير البشري عامة ، فقد كان من اليسير عليه أن يخطو خطوة أخرى قصيرة لكي ينتهي إلى أن التفكير البشري كله - باستثناء الأفكار الأولية التي يبدأ الإنسان منها - هو تفكير بالعلامات، بل إن اللغة العادية التي نستخدمها كل يوم هي أيضا نظام أو نسق من أمثال هذه العلامات، وكل علامة منها «تنوب» عن سلسلة معقدة من الاستدلالات الفكرية. وقد نستعمل أثناء تفكيرنا علامة لا نعرف معناها، ولا نشعر به على وجه التحديد، وبهذا يمكننا أن نختزل عملية فكرية مرهقة، ونصل إلى نتائج لم نكن لنصل إليها بغير هذا الاختزال. وخصوبة الفكر البشري وقدرته على الابتكار والإبداع تعتمد في الحقيقة أكبر اعتماد على نظام الرموز والعلامات الذي يستخدمه الإنسان عن وعي أو غير وعي أثناء التفكير، ومع أن العلامات أدوات نافعة كما رأينا إلا أن هذا النفع قد ينطوي على أبلغ الأخطار، وقد أدرك ليبنتز ذلك إدراكا واضحا، ولعله قد أحس بفطرته الفلسفية الصائبة أن قائمة الأخطار التي تكمن في هذا الطابع الرمزي للفكر الإنساني قائمة طويلة تمتد من أقدم العصور، وتحفل في كثير من الأحيان بالمصائب والمحن وأنهار الدماء، فمن السهل أن ينجح الإنسان في استخدام كلمة أو كلمات ترمز لمفهوم متناقض مع نفسه، ولكنه بذلك يضلل نفسه أو يضلل غيره عن جهل أو سوء نية. وما من واحد منا إلا وقد عانى من الكسل العقلي الذي يروج الشعارات الرنانة الطنانة التي تلقى دون تريث أو روية، فتبث سمومها الساحرة في الهواء الذي يتنفسه الناس، ومثل هذه الشعارات التي لم يتحقق أصحابها من محتواها أو تفننوا في صياغتها، بحيث يتعذر على الناس التحقق من صدق هذا المحتوى أو كذبه تسيء استخدام علامات اللغة ورموزها إما عن جهل أو سوء نية أو تحمس عاطفي أعمى. وتاريخ العالم الحديث عامر بالشواهد والأمثلة التي تدل على هذه القدرة الشيطانية على سوء استخدام العلامات اللغوية لخداع الناس أو السيطرة عليهم، واستغلال عجزهم أو كسلهم أو خوفهم من التفكير المستقل.
وإذا كانت اللغة - بوصفها نسقا من العلاقات - هي أداة الفكر البشري فمن واجبنا أن نختبر مدى كفاءة هذا النسق وفاعليته. ويشك ليبنتز في صلاحية اللغة اليومية للتفكير العلمي، وقد قضى حياته في البحث عن نسق من العلامات يفيد العلم ويحقق له التقدم؛ فنحن نجده في العشرين من عمره مشغولا بما سماه «فن التركيب أو التأليف»
12
إذ رأى أن من الممكن اكتشاف نوع من «ألف باء التفكير البشري» عن طريق التحليل المستمر للمفاهيم والتصورات التي نستخدمها، بحيث يمكن أن نبني لغة أكثر دقة ونفعا وإحكاما، ثم نصل بعد ذلك إلى فكرته الشهيرة عن «الخصائص الكلية»،
13
التي أراد بها تحقيق نظام من العلامات يمكن أن يفهمه كل إنسان، كما يمكن أن يحل في العلم محل اللغة الدارجة. وقد كان يحلم بأن يضع مكان كل تصور شكلا مميزا أو رقما أو علامة رمزية، بحيث يمكن رد العلوم كلها إلى عمليات رياضية خالصة، والقضاء بذلك على المجادلات والخلافات العقلية بينها. بل لقد ذهب به الخيال إلى حد القول بأن المبشرين لو استخدموا هذه اللغة العالمية الشاملة لأمكنهم إقناع الناس جميعا بالعقيدة المسيحية، على نحو ما يقتنع جميع الناس بالعلوم الرياضية! ربما نقابل اليوم هذه الفكرة بالابتسام، ولكنها تعبر في الواقع عن نزعة التفاؤل والإيمان الساذج بالعقل التي غلبت على عصر التنوير، ومع ذلك قد يكون من الخطأ أن نتجاهل أهمية هذه الفكرة التي تدل كغيرها من أفكار الفيلسوف على الأصالة وبعد النظر. فلا حاجة بنا إلى القول بأن التعرف على الطابع الرمزي لتصوراتنا والانتباه إلى مزاياه وعيوبه يمكن أن يعيننا على الدقة في التفكير، والوعي بحدود اللغة والأخطار الناجمة عن سوء استخدام الكلمات والتلاعب بها دون تمحيص وتحقيق، بل دون وازع من ضمير. أضف إلى هذا أن البحث عن نظام كفء من الرموز والعلامات لا يزال مستمرا إلى اليوم، كما أن تطبيق المناهج الرياضية على العلوم المختلفة قد تزايد نطاقه في العصر الحديث، وأدى إلى نتائج جديرة بالاهتمام والإعجاب، وخصوصا في النطق الرمزي أو «اللوجيستيك» الذي يعد ليبنتز أباه الشرعي دون جدال! ومع ذلك فلا بد من القول بأن المحاولات التي تبذل لصياغة كل تفكير علمي صياغة رمزية رياضية وإخضاعه للمناهج الرياضية هي في الحقيقة محاولات تبدأ بداية خاطئة لا تخلو من التطرف والشطط. ولا يرجع هذا إلى قدرة التفكير الإنساني على تجاوز حدود العلم الرياضي إلى آفاق أوسع منه وحسب، بل يرجع كذلك إلى وجود مجالات من الواقع لا تعرف الرياضة عنها شيئا. وهذه حقيقة تصدق على عصر ليبنتز كما تصدق على عصرنا سواء بسواء. وما أصدق قول هاملت لصديقه هوراشيو: إن في العالم يا هوراشيو ما لا تبلغه حكمتك المدرسية! •••
يوصف مذهب ليبنتز في كتب تاريخ الفلسفة بأنه مذهب «عقلاني». ولا شك أن هذا الوصف صحيح بوجه عام. ولكن الفلسفة العظيمة، شأنها شأن الأدب العظيم، أكبر من الاسم الذي يطلق عليها، وأعمق من الشعار الذي يلصق بها أو التصنيف الذي تحبس في خانته! والدليل على هذا أننا نجد في فلسفة ليبنتز الإنسانية (أو الأنثروبولوجية) لمحات يتعذر أن نجدها في أعمال الفلاسفة العقلانيين. كان ديكارت فيلسوفا عظيما بغير شك، ولكن حماسه الشديد لوضوح الفكرة وتميزها وصفاء العقل وبداهته قد صرفه عن النظر في طوايا النفس الإنسانية، وقصر به عن الغوص إلى الأعماق الكامنة تحت سطح الوعي، وقد خالف ليبنتز الديكارتيين في هذه النقطة كما خالفهم في غيرها. فنحن نجد لديه لمحات صادقة مما نسميه اليوم باللاوعي أو اللاشعور. ومكنته نظريته عن الموناداة وطبيعة إدراكاتها أن يقدم نظرية عن اللاوعي الكامن في أعماق النفس. فالموناداة كما نعلم تعكس العالم كله، ولكنها تعكسه من وجهة نظرها فحسب؛ لأن الموناداة الإلهية وحدها هي القادرة على الرؤية الكلية الشاملة. ولما كان الإنسان عاجزا عن إدراك العالم بأكمله، فلا بد أن يكون في العقل البشري مجال للإدراكات غير الواعية. ولما كانت الإدراكات كلها تنشأ عن إدراكات سابقة عليها، كانت الإدراكات اللاواعية هي التربة التي تنمو فيها حياة النفس الواعية. ويرى ليبنتز أن الأعماق الكامنة في العقل الإنساني هي المصدر المباشر لكل معرفة، إن المعرفة لا تأتي من العالم الخارجي، وكيف يتسنى لها ذلك، وكل موناداة تعيش منعزلة مغلقة على نفسها «بلا نوافذ»؟
إن أصول المعرفة موجودة في كل موناداة فردية؛ أي في كل عقل على حدة. وهي تنشأ وتنمو عن طريق النشاط الباطن، بحيث تتقدم من إدراك إلى إدراك، وتصل إلى أكبر قدر من الوضوح والتميز.
ولا يتردد ليبنتز في وصف النشاط العقلي للإنسان بأنه نشاط مبدع، فليست العلوم في رأيه مجرد انعكاس للعالم، وإنما هي نتيجة نشاط تلقائي خلاق يتم في نفس الإنسان وعقله، وليس العالم مجرد حيوان مثقف، وإنما هو في الحقيقة إله صغير. ولنستمع في النهاية إلى ما يقوله ليبنتز في تمجيد الإنسان المبدع، صورة الله وخليفته على الأرض: «إن النفوس على وجه الإجمال مرايا حية أو صور من عالم المخلوقات، أما العقول فهي بالإضافة إلى ذلك صور من الألوهية أو من مبدع الطبيعة ذاته، إنها تملك القدرة على معرفة نظام العالم ومحاكاة شيء منه في عينات (أو نماذج) معمارية خاصة؛ إذ إن كل عقل في مجاله أشبه بألوهية صغيرة» (المونادولوجيا 83). (ج) العالم والإنسان والله
لا زالت مشكلة الله من أهم المشكلات التي شغلت الفلاسفة، وسوف تشغلهم على الدوام، جعلها البعض تاج البحث الإنساني عن المعرفة، وعدها البعض الآخر خطرا يهدد الفلسفة في الصميم. ولكلا الفريقين وجهة نظره التي تستحق منا وقفة قصيرة. فقد يتفق للعقل البشري، بعد رحلة شاقة في مجاهل الفكر، أن ينفذ للمطلق (وهو ما نسميه الله)، فيرى فيه الهدف الأخير، وتبدو له الرحلة، وكل ما وجده على الطريق في ضوء غامر جديد. ولعل هذا أن يكون هو السبيل إلى بلوغ الوحدة العليا لكل ما هو كائن. فقد كانت الوحدة منذ البداية هي موضوع الفلسفة الأثير، إن لم تكن هي موضوعها الوحيد، غير أن هناك من يحرم على الفلسفة أن تبحث في مشكلة الله، وينكر على الفلاسفة أن يضعوا نظرية عنه أو دليلا على وجوده. فالفلاسفة في رأيهم يخرجون بذلك عن وظيفتهم، أو يتهربون من مواجهة المشكلات الفلسفية الحقيقية، أو يدارون كسلهم العقلي، أو يتحاشون الاعتراف بأنهم ساروا في طريق مسدود.
ولا شك أن التفرقة واجبة بين إنسان ينطلق من دوافع جادة، فيصل إلى معرفة الله عن طريق البحث النزيه، وبين إنسان يسيء استخدام فكرة الله للتخلص من المشكلات التي تواجهه، أو يسلك إليه طريق الفلسفة مدفوعا بدوافع غير فلسفية.
وقد عاصر ليبنتز فلاسفة أساءوا استخدام فكرة الله، أو أسندوا إليها وظيفة لا تسلم من النقد والاعتراض. فها هو ذا ديكارت يعتقد أن وجود العالم الخارجي رهن بوجود إله صادق لا يمكن أن يخدعنا، وها هم أصحاب مذهب المناسبة
Occasionalists ، وفي مقدمتهم أرنولد جيلنكس،
14
قد لجئوا إلى الله لكي يفسروا العلاقة بين النفس والجسم - التي لم يستطع ديكارت أن يقدم لها تفسيرا مرضيا. قالوا إن النفس كلما أرادت أن تحرك جسدها علم الله بمقصدها، فسبب الحركة على الفور. وقد عجز مالبرانش عن تفسير معرفة العقل البشري بالحقائق الأزلية؛ لعجزه عن إدراك القوى التلقائية للمعرفة التي تكمن في العقل نفسه، ولهذا لجأ أيضا إلى الله؛ فالله، وهو الحقيقة المطلقة، ماثل للعقل، وهذا العقل يدرك الحقائق الأزلية في الله مباشرة.
وقد وقف ليبنتز في وجه ديكارت وأصحاب مذهب المناسبة، ولم يقبل رأي مالبرانش بغير نقد وتمحيص، ولكن هذا لا ينفي أنه كثيرا ما لجأ لفكرة الله ليتغلب على المصاعب التي تواجه مذهبه، ويكفي أن نتذكر فكرته عن الاتساق المقدر. فالمونادات يستحيل عليها أن تؤثر على بعضها البعض تأثيرا سببيا، والتفاعل بين الأجسام والمونادات - وهي عقول هذه الأجسام وأرواحها - شيء لا يمكن تصوره. ومن ثم فلا يمكن تفسير الاتساق الظاهر في العالم إلا بالرجوع إلى الله الذي خلق المونادات، وأوجد الاتساق بينها منذ البداية. وقد رأى ليبنتز في ذلك دليلا جديدا على وجود الله لم يسبقه أحد إليه، ولكنه كما ترى دليل ضعيف لا يسلم من النقد، فقد استخدم فكرة الله أو بالأحرى أساء استخدامها ليجد مخرجا من طريق فلسفي مسدود.
قد نستطيع أن ننكر أدلة ليبنتز على وجود الله، أو نتشكك فيها من وجهة نظر مذهبية، ولكننا لا نستطيع أن ننكر الجهود المخلصة التي بذلها في حديثه عن الله، وتفكيره فيه تفكيرا منطقيا. ويتجلى هذا في نقده للدليل الديكارتي على وجود الله. فقد استنتج ديكارت وجود الله من فكرة الكائن المطلق الكمال؛ لأن الكائن الكامل إذا افتقر إلى الوجود، فلن يكون مطلق الكمال. ويعترض ليبنتز على هذا، فيقول إن ديكارت لم يثبت إمكان هذه الفكرة. فربما كانت فكرة «الكائن المطلق الكمال» فكرة متناقضة في ذاتها، مثلها مثل فكرة «العدد الأكبر». غير أن ليبنتز يعتقد أنها فكرة يمكن إثبات خلوها من التناقض، وعندئذ يكون الدليل الديكارتي مقنعا وحاسما. فمن إمكان وجود كائن مطلق الكمال يمكن استنتاج واقعية هذا الوجود بالفعل. إن وجود الله (كما تقول المونادولوجيا 40) - نتيجة بسيطة مترتبة على إمكان وجوده. وهكذا فإن الله وحده (أي الوجود الضروري) يتميز بأنه يجب أن يوجد إذا كان ممكنا. ولما لم يكن هناك شيء يمكنه أن يمنع إمكان ذلك الذي لا حدود له، ولا يتضمن سلبا ولا تناقضا، فإن هذا يجعلنا بالضرورة قادرين على معرفة الله معرفة قبلية
Apriori (المونادولوجيا 45)، ومنذ أن صاغ القديس أنسيلم (1033-1109م)، هذا الدليل الشهير في بداية العصر الوسيط والفلسفة المدرسية والآراء تختلف حوله بين الإعجاب والإنكار - وقد كان القديس توماس الأكويني كما كان كانت من أهم معارضيه. ومهما تكن وجاهة الأسباب التي يقدمها معارضوه، فسوف يعترفون بغير شك بأن الحجج التي يقدمها مؤيدوه لا تخلو من القوة - ولا بد على كل حال من فهم الدليل فهما يقوم على اعتبار الإطار الفلسفي الذي نشأ، ثم تجدد فيه. وقد كان هذا الإطار دائما هو الفلسفة المثالية التي تطمح أن تكون في نفس الوقت فلسفة واقعية؛ ومن ثم سميت بحق بالمثالية الواقعية. يصدق هذا على ليبنتز كما يصدق على القائلين به قبله.
ومع هذا فليس الدليل الأنطولوجي في نظر ليبنتز بالدليل الوحيد على وجود الله، ولا هو الدليل القاطع عليه. فهو يقول بدليل «بعدي»
Aposteriori
آخر يقوم على الحدوث أو على إمكان الأحداث في العالم. فكل ما يحدث في العالم، وكل ما يوجد فيه، ممكن؛ أي إن عدم وجوده أمر ممكن من الناحية المنطقية. فإذا وجد في الواقع شيء كان من الممكن ألا يوجد، فلا بد أن يكون هناك سبب كاف جعله يوجد بدلا من أن يكون عدما، فما هو هذا السبب؟ سواء فسرنا الأحداث الممكنة بأسباب متناهية، أو رحنا نبحث عن تفسير لها في مجال اللا متناهي، فلن نزيد في الحالين على تقديم أسباب أو علل هي بدورها أسباب ممكنة. ولن يتسنى لنا بهذه الطريقة أن نعثر على سبب كاف للممكنات أو الحادثات. لا بد إذن أن يوجد هذا السبب الكافي خارج سلسلة العلل والأسباب الممكنة، ولا بد أيضا ألا يكون هو نفسه ممكنا ولا حادثا؛ أي لا بد أن يكون جوهرا ضروريا. هذا الجوهر الضروري هو الذي نسميه الله. ولا شك أن تفسير ليبنتز هنا مختلف كل الاختلاف عن تفكير أولئك الذين يلجئون إلى الله، ويصطنعونه اصطناعا لعجزهم عن المضي بتفكيرهم إلى غاية مقنعة، أو يأسهم من قصور العقل البشري الذي تعب من عناء السفر، فألقى مراسيه عند أقرب مرفأ! ولعل الله في هذه الحالة أن يكون أشبه «بالإله الآلة»،
15
الذي كان كتاب المسرح اليوناني والروماني يلجئون إليه لإنهاء المسرحية وحل الأزمة الدرامية التي عجزوا عن السير بها إلى حل طبيعي نابع من تطور الأحداث نفسها. لم يفعل ليبنتز شيئا من هذا، بل ظل على إخلاصه للحقيقة مهما طال الطريق. ولم يكن الله عنده مجرد فرض يرضي مطالب الفكر الذي يريد الراحة والعزاء في المطلق، ولا كان حلقة أخيرة في سلسلة من الأسباب الممكنة، وإنما هو «السبب الكافي» الذي يجعل كل حلقة من حلقات السلسلة ممكنة، بحيث يستطيع الفكر أن يصل إليه إذا انطلق من أية حلقة منها.
ويقيم ليبنتز دليله على وجود الله على الحقيقة، مثله في هذا مثل أفلاطون والقديس أوغسطين. فإذا كانت الحقائق خالدة وثابتة، فإن ليبنتز لا يستنتج من ذلك وجود إله يكون هو المبدأ الخالد الثابت لهذه الحقائق. وإنما ينهج طريقا آخر يدل على طابع تفكيره. فهو يستنتج من واقعية الأفكار (أو المثل) الخالدة والحقائق الأبدية التي نعتمد عليها ضرورة وجود علة أو سبب لهذه الواقعية. إن إمكان الأفكار - أي إمكان تصورها - وضرورة الحقائق الأبدية ليسا إلا صورة من صور الواقع، ولا بد أن يكون مصدر هذا الواقع موجودا بالفعل، ولا بد أن يكون ضرورة الأفكار والحقائق نفسها. ويعبر ليبنتز عن هذا الدليل في الفقرتين رقم 43 و44 من المونادولوجيا. ولو قرأنا هاتين الفقرتين وتأملنا الدليل جيدا لأدركنا أن وصف فلسفته بالمثالية الواقعية أو المثالية الموضوعية لم يكن وصفا بعيدا عن الصواب. فإثبات وجود الله على أساس الحقيقة هو الوجه المقابل لإثبات وجوده على أساس الحدوث أو الإمكان، وبينما ينطلق الدليل الأخير من الطابع الفعلي والواقعي للممكن، نجد الدليل الأول ينطلق من واقعية الضروري.
يؤمن ليبنتز بأن وجود الله فوق كل شك. إن الله هو مصدر الحقائق الأبدية الخالدة، وهو كذلك خالق العالم الممكن والإمكان الذي هو صفة العالم لا يعني أن هذا العالم يمكن ألا يوجد فحسب، بل يعني أيضا أن العالم يمكن أن يكون مختلفا عما هو عليه بالفعل. ويعتقد ليبنتز أن هناك عددا لا نهاية له من العوالم الممكنة (والإمكان هنا ينصرف كما قدمنا إلى إمكان التصور)، ولو سأل سائل: لماذا اختار الله هذا العالم بالذات من بين العوالم الممكنة التي لا حصر لها لكان سؤاله في حاجة إلى جواب؛ إذ لا بد أن يكون هناك سبب كاف لهذا الاختيار، شأنه في ذلك شأن كل شيء آخر. ويعتقد ليبنتز أنه يستطيع أن يقدم الجواب؛ فالعقل الإلهي في رأيه قد تحقق من أن عالما واحدا من بين العوالم الممكنة، وعالما واحدا فحسب، هو أفضلها جميعا، ولهذا شاءت إرادة الله أن تختار هذا العالم الأفضل، تمشيا منها مع قانون الأصلح والأفضل.
هكذا يصل ليبنتز إلى فكرته المشهورة عن أفضل عالم ممكن. وهي الفكرة التي طالما أثنى عليها البعض، وسخر بها البعض الآخر مر السخرية! ولقد كانت الفكرة ملائمة لذوق العصر الذي نشأت فيه مع بداية القرن الثامن عشر. فقد نسي الناس حرب الثلاثين وما جرته على أوروبا من كوارث وويلات، واستوى «الملك الشمس» لويس الرابع عشر على عرش فرنسا المترفة المزدهرة، وشاع تفاؤل عصر التنوير في شرايين الحياة العقلية والروحية. غير أن كارثة رهيبة كانت تقف لهذا التفاؤل بالمرصاد. فقد فوجئ الناس في سنة 1755م بزلزال لشبونة المشهور، الذي قتل فيه أكثر من ثلاثين ألف إنسان. ولا بد أن هذه الكارثة قد حفرت آثارها العميقة في الروح الأوروبية، وزعزعت تفاؤلها وإيمانها الأعمى بانتصار العقل. وقد استوحى فولتير روايته الفلسفية «كانديد» (1759م) من هذا الحادث، فكانت سخرية عضت تفاؤل ليبنتز بأنيابها الحادة! والواقع أن شعار «التفاؤل الميتافيزيقي» الذي أطلق على نظرية ليبنتز عن أفضل العوالم الممكنة قد يبرر البواعث النفسية التي أدت إليها، ولكنه لا يصل إلى جذورها. لم يكن ليبنتز بطبيعة الحال معصوب العينين عما يجتاح العالم من شر وبؤس وعذاب وموت، ولكنه كان يعتقد أننا لن نستطيع أن نقدم سببا كافيا يبرر وجود هذا العالم، إلا إذا كان هو أفضل عالم ممكن. وقد يسأل سائل: ولماذا لا تبحث عن هذا السبب الكافي في إرادة الله الحرة؟ وحرية الإرادة فكرة رحبة متعددة الجوانب والأبعاد. ولا شك أن إحساس ليبنتز بها - كإحساسه بالموت والشقاء البشري - كان يفتقر إلى النبض الإنساني، ولكنه ظل على كل حال متسقا مع فكره ومنطق مذهبه. فهو يميل إلى جانب القانون والرياضة والمنطق. وإذا بدا لأحد أن يضع الحرية في مقابل الخضوع للقانون، وجدناه يميل لهذا الجانب الأخير. وما من شك في أنه سيرفض أن يترك الأمر في خلق العالم أو عدم خلقه لإرادة الله، وسيرفض كذلك أن يترك لها الشأن في خلقه على هذا النحو أو ذاك. فمن رأيه أن الله لم يكن ليخلق غير هذا العالم الذي خلقه بالفعل. صحيح أن هناك عددا لا ينتهي من العوالم المختلفة الممكنة، ولكن يجب ألا ننسى ما قلناه من أن الإمكان هنا يعني إمكان تصورها من الناحية المنطقية، لا من ناحية التحقق الفعلي. فالعالم الموجود بالفعل هو العالم الوحيد الذي يمكن تحققه في الواقع، بحيث لا يختلف عما هو عليه بالفعل، وبحيث لا يشتمل على كل ما نعرفه فيه من أفراد وأحداث. فليبنتز إذن يبارك كل ما هو موجود وكل ما هو واقع، لا لسبب إلا لأنه ضروري، ولأنه كان حتما أن يوجد على الصورة التي وجد عليها. ولا بد أن القارئ قد لاحظ في هذا الرأي شيئا من التمجيد للجانب التاريخي من الوجود. ولا بد أنه لاحظ أيضا أن الشر والألم والموت لن تكون إلا خيوطا غريبة على نسيج التجانس والاتساق والانسجام الكلي، أو أنغاما قليلة ناشزة في سياق اللحن الأزلي الرائع، وربما يسأل: ألا تكون حرية الفرد مهددة في هذا العالم الذي هو أفضل عالم ممكن؟ الحق أن ليبنتز يتحدث عن الحرية البشرية حديثا ملؤه الدفء والإخلاص، ولكننا لو نظرنا إلى هذا الحديث في إطار المذهب العام لفقد كثيرا من قدرته على الإقناع. ومن يدري؟ فربما يعزينا قليلا أن حرية الله والإنسان كليهما مهدد بالخضوع الشامل للقانون!
رأينا من قبل أن ليبنتز ينظر للعقل الإنساني نظرته «لصورة الألوهية»، بل إنه ليعده «إلها صغيرا». وقد دفعه على هذا الرأي المثالي النبيل ما وجده في هذا العقل من نشاط يتمثل في تقدم العلوم وازدهارها، ولكن هذا الرأي دفعه من ناحية أخرى إلى إقامة علاقة خاصة بين الله والعالم. وها هو ذا يرجع إلى فكرة القديس أوغسطين المشهورة عن «مدينة الله» لتوضيح هذه العلاقة. ويكفي أن نقرأ ما يقوله عن ذلك في المونادولوجيا (84-86): «وهذا هو الذي يجعل العقول قادرة على الدخول مع الله في نوع من الحياة الجماعية، بحيث لا يكون الله بالنسبة إليها كالمخترع بالنسبة لآلته فحسب (كما هو الحال بالقياس إلى علاقة الله بسائر المخلوقات)، وإنما يكون كذلك كالأمير بالنسبة لرعاياه، بل كالأب بالنسبة لأبنائه. من هذا نستنتج بسهولة أن مجموع العقول يؤلف بالضرورة مدينة الله؛ أي أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل الحكام. إن مدينة الله هذه، هذه المملكة الكلية بحق، هي عالم أخلاقي داخل العالم الطبيعي، وهي أسمى أعمال الله وأكثرها ألوهية.»
الإنسان إذن هو شريك الله في «مدينة الله»، أو في «مملكة العناية». ليس مجرد كائن طبيعي، بل هو شخص قادر على الحب وجدير به. وليس أجمل من كلام ليبنتز نفسه تعبيرا عن هذه الصلة الحميمة بين الله والإنسان. فقد كتب إلى صديقته وراعيته الأميرة صوفي في الرابع من نوفمبر سنة 1696م رسالة يقول فيها: إن العقل الإنساني قادر على معرفة الله، وهذه المعرفة هي الأساس الذي تقوم عليه رسالتنا الأخلاقية والحضارية: إن أسمى العقول (الأرواح) جميعا هي التي تملك القدرة على فهم الحقائق السرمدية، ولا تكتفي بتمثل العالم تمثلا غامضا، بل تفهمه وتحصل على أفكار واضحة عن خيرية الجوهر الأسمى وعظمته. ومعنى هذا ألا تكون مرايا للعالم وحسب (فكل الأرواح كذلك)، وإنما تزيد على هذا فتكون مرايا تعكس خير ما فيه؛ أي الله ذاته، وهذه هي ميزة العقول، وهي التي تعينها على حكم الموجودات الأخرى - باعتبارها صورة الله. (د) ملامح عامة
كل فلسفة تستحق هذا الاسم أشبه بكائن عضوي حي، مثلها في هذا مثل كل عمل باق في الأدب والفن والعلم والحياة.
وقد حاولنا جهد الطاقة أن نتعرف على الخطوط العامة التي يتألف منها نسيج هذا الكائن، والأعمدة التي يقوم عليها هيكله. وعلينا الآن أن ننظر من الخارج، لعل الرؤية الكلية أن تكشف عن أبرز قسماته وملامحه.
ربما كانت «الوحدة» هي أول ما يلفت النظر في فلسفة ليبنتز. فهي فلسفة تحاول أن تضم الكثرة في مركز واحد أو بؤرة واحدة. صحيح أن التجربة تعلمنا كل لحظة أن الأشياء متعددة ومتنوعة، ولكن الفلاسفة يتساءلون منذ القدم: أهناك وحدة تضم هذه الكثرة الهائلة من الأشياء، وعلى أي نحو تتم؟ أم أن هذه الوحدة شيء من صنع العقل الذي يفرضها على الموجودات المتعددة بطبيعتها؟
أجاب أفلاطون على هذا السؤال، فافترض وجود «أيدوس»، أو مثال أو نموذج تشارك فيه أشياء مختلفة، ثم حاول بعد ذلك أن يوحد بين هذه المثل والنماذج العديدة في مثال أعلى ونموذج أشرف وأسمى، سماه «الله» حينا، والخير في معظم الأحيان. وقد تابع ليبنتز خطى أفلاطون في بحثه عن الوحدة التي تجمع الكثرة، ولكنه سلك منهجا يختلف عن منهج أفلاطون. فهو يتحدث مثله عن أفكار أبدية خالدة؛ أي عن مثل أو نماذج أولى لكل المخلوقات، وهذه المثل والنماذج كائنة في عقل الله. أن جميع الأشياء المتناهية على علاقة ببعضها البعض، وهذه العلاقة تؤلف بينها في وحدة حقيقية. ولهذه العلاقة نفسها وجهان؛ فهي تعبر من ناحية عن أن جميع الأشياء المتناهية إنما هي في نهاية الأمر مونادات؛ أي كائنات واحدة أو «أحادات»، كما تعبر من ناحية أخرى عن أن كل مونادة منها تعكس العالم كله، أي تعكس جميع المونادات الأخرى على صفحة العالم دون أن نضطر في نفس الوقت للكلام عن مبدأ لهذه الوحدة من خارج العالم، سواء أكان هذا المبدأ هو الله أم الأفكار، ولكنه يرى من ناحية أخرى أنه لا يمكن تفسير هذه الوحدة القائمة داخل العالم إلا بالرجوع إلى الله؛ لأن الله هو أصل جميع المونادات المخلوقة أو المتناهية، وعلة تجانسها واتساقها مع بعضها البعض.
لقد قيل بحق إن ليبنتز قد انزلق أثناء بحثه عن الوحدة التي تضم كثرة الموجودات إلى نوع من الواحدية النفسية أو الروحية التي تعبر عنها هذه الجملة: كل ما هو موجود، فهو من جوهر الروح أو العقل (المونادة). وقيل أيضا إن فكرته الصحيحة عن تعلق كل موجود له طابع الجسم بكل موجود له طابع الروح أو العقل قد بولغ فيها مبالغة كبيرة في فكرة أخرى خاطئة تقول بأن العقل أو الروح كما نجربها في أنفسنا هي الموجود الوحيد الممكن. ومع ذلك فقد نستطيع أن نرد على هذا الزعم، فنقول إنه إذا صح اتهام ليبنتز بأنه أقام نوعا من الواحدية فيما يتصل بعالم التجربة والخبرة، فإن من الخطأ البالغ أن تنسب إليه تلك الواحدية المطلقة التي ينتفي فيها الفارق بين الله والعالم؛ ذلك لأن ليبنتز يذهب بوضوح إلى أن الله متعال على العالم، وهو يعبر عن هذا الرأي على النحو التالي: إما أن كل مونادة تؤلف مع مونادات أخرى الجسم الذي تحكمه مونادة مركزية، وإما أن تكون هي نفسها مونادة ذلك الجسم، كما أن المونادة المركزية التي تقوم بوظيفة النفس أو الروح يمكنها، بالاشتراك مع مونادات أخرى، أن تؤلف الجسم المتعلق بشكل أعلى للروح. وبهذا نعتبر الله، وهو المونادة الأصلية، بمثابة الروح العليا كما نعتبر عالم المونادات المتناهية بمثابة جسم الله، ولكن هذا كله أبعد ما يكون عن تفكير ليبنتز الذي يرى أن الله لا يدخل في تكوين النسيج الذي يؤلف عالم المونادات المتناهية. فهذه المونادات المتناهية جميعا، حتى أسمى العقول وأعلى الأرواح، تعتمد دائما وبالضرورة على مونادات أخرى تكون الجسم الذي تتعلق به، أما الله، والله وحده، فهو مبرأ من الجسمية، منزه عنها كل التنزيه (المونادولوجيا 72) هكذا يصل تفكير ليبنتز في سعيه إلى الوحدة إلى الحد الذي يقف عنده. ومهما أغراه مذهبه بتخطي هذا الحد، أو أوحى به إليه، فإنه يظل على تمسكه به ولا يتعداه.
هذا البحث عن الوحدة وراء التنوع، وهذا الاقتناع بأن الفكر والوجود في صميمهما شيء واحد، يجعلان بغير شك من ليبنتز فيلسوفا أفلاطونيا.
16
والواقع أنه كان يميل إلى هذا الوصف ولا ينكره. غير أن هناك من الأسباب ما يدعونا في نفس الوقت إلى وصفه بالفيلسوف الأرسطي. صحيح أنه لم يكن ليرضى عن هذا الوصف الذي ربما أثار في نفسه ذكرى الفلسفة المدرسية الجافة التي شاعت في أيامه، وتجمدت فيها أفكار أرسطو الحية في صيغ ميتة. غير أن إحساس ليبنتز بقيمة الفرد يسوغ لنا إطلاق الصفة المهيبة عليه! فهو يتفق مع أرسطو في أننا نلتقي بالوجود الحقيقي في الموجودات المتعددة أو في الجواهر المفردة. والتنوع العجيب الذي نشاهده مع تنوع الأفراد واختلافها وكثرتها يعد من أهم خصائص العالم وأجلها قيمة. وهو لا يوافق أرسطو على هذا كله فحسب، بل يذهب إلى أن النظام الذي نراه في العالم لا ينبغي أن يزيد عما هو عليه، حتى لا يؤثر على التنوع الحافل فيه. إن الفرد المتميز المتوحد يحتفظ بقيمته في ذاته. وقيمته في تفرده وأصالته التي تجعله موجودا نسيج وحده، لا ثاني له في الوجود كله. ومن الواضح أن ليبنتز يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه أرسطو. فلم يكن في وسع مفكر يوناني أن يقدر فكرة التفرد كل التقدير؛ لأن هذا يعتمد إلى حد كبير على النظرة المسيحية إلى الشخصية والتاريخ. ولهذا يمكننا أن نقول إن ليبنتز يواصل السير على طريق التراث الفلسفي المسيحي حين يعتبر التفرد قيمة، وحين ينظر إلى العقل بوصفه أعلى صورة من صوره. وهو في الواقع لا يكتفي بتكرار هذه الفكرة القديمة، وإنما يعبر عنها تعبيرا جديدا يكشف بدوره عن أصالته. فهو يرى أن تفرد المونادة الفردة يمكن تفسيره من خلال علاقتها بالكل، أعني من خلال المنظور الذي تطل منه كل مونادة على العالم، وتعكسه على طريقتها ومن وجهة نظرها. فإذا طبقنا هذا على الإنسان أمكن القول بأن تفرده يعتمد على تفرد الصورة التي يلتقطها عن العالم وتميزه عن غيره من الناس. إن وجود الفرد يعتمد على وجود المجموع. وقد رأى ليبنتز هذا رؤية مثالية واضحة، ولكن فلسفته لم تتجاوز هذه الرؤية الهندسية المتجانسة. ولم تؤثر عليها فكرة العلاقة الشخصية بين الأفراد، ولا فكرة التأثير والتأثر المتبادل بينهم في الواقع والمجتمع. ولهذا ظلت الفردية والتفرد عنده بعيدين عن كل ما تحملانه اليوم من المعاني الوجودية والطاقات الانفعالية والبواعث الاجتماعية والنفسية.
ولهذا فقد يكون من الخير ألا نحمل فكرة التفرد عنده بأكثر مما تحتمل، ولا نستخرج منها نتائج لم يكن من الممكن أن ينتهي إليها. ومن يدري؟ فلعله كان يريد بها تأكيد فكرة «الواحدية»؛ أي تأكيد القول أن كل موجود واحد، وأننا مهما جردناه من كل صفاته فلن نستطيع أن نجرده من صفة أنه واحد إلى جانب أنه موجود، وهي الفكرة التي أكدها أفلوطين من قبله عن «الواحد» المختلف عن كل ما يصدر عنه. ثم أكدها هو من ناحية الصفات والخصائص التي ينفرد بها كل موجود عن كل ما عداه. ولا يجب بطبيعة الحال أن نفهم هذا من الناحية العددية فحسب؛ إذ إن هذا بعيد كل البعد عن تفكيره. بل يجب أن نفهم منه أنه يؤكد أن الفرد ليس فردا من ناحية العدد فحسب، وإنما هو فرد من ناحية الفاعلية والطاقة والطابع الشخصي، الذي يتميز به عن كل فرد (أو جوهر) سواه، وهي فكرة أساسية في مذهبه في الوجود والدين والأخلاق جميعا؛ إذ بغير هذا الطابع الشخصي والفردي لن يكون ثمة مجال للثواب والعقاب بعد الموت. •••
هكذا حرص ليبنتز على تأكيد فكرة التفرد والتوع حرصه على تأكيد فكرة الوحدة والشمول. وهذا يكشف لنا عن سمة أخرى من أبرز سمات فكره، وأعني بها ميله الدائم إلى التوفيق بين الآراء المتعارضة والتأليف بين الاتجاهات المتباينة في مركب واحد. تشهد على هذا محاولته التوفيق بين النظرة الغائية والنظرة الميكانيكية للعالم؛ أي بين أفلاطون وأرسطو من ناحية وبين ديكارت والعلماء الطبيعيين في عصره من ناحية أخرى.
وقد لمسنا هذه المسألة من قبل، ورأينا كيف قبل ليبنتز النزعة الميكانيكية المحدودة، وأصر في نفس الوقت على رفض النزعة الميكانيكية المطلقة! فهو يوافق على أن جميع العمليات الفيزيائية يمكن تفسيرها تفسيرا ميكانيكيا، ولكنه يرى أيضا أن من الممكن الإبقاء على التفسير الغائي الذي وصل إلينا عن الفلسفة القديمة، بل إن هذا التفسير الأخير لا غنى عنه؛ لكي يقوم التفسير الأول على أساس وطيد.
فإذا أردنا بالغائية والميكانيكية أن يكونا تفسيرين متضادين متعارضين للواقع، فإن فلسفة ليبنتز تخرج عنهما جميعا. وقد يكون من الصواب أن نصف تفكيره بأنه تفكير تركيبي أو تأليفي. ومهما قبل عن إخفاقه في الوصول إلى هذا التأليف، فإن ذلك لا يقلل من تأثير فلسفته ولا ينتقص من أصالتها واتساقها. •••
كان ليبنتز عالما في الرياضة، وكان لهذا أثره على فلسفته. فالطابع الذي يسودها طابع رياضي، والمثل الأعلى الذي تهتدي به مثل رياضي، والأحكام والدقة اللذان يمسكان حلقاتها مستمدان من روح التفكير الرياضي. كتب في السابع والعشرين من ديسمبر سنة 694 رسالة إلى الماركيز دي لوسبيتال
Marquis de l’Hospital
يقول فيها هذه العبارة: «إن الميتافيزيقيا عندي رياضية خالصة.»
لقد كان يعتقد أن جميع العلوم التي تتناول حقائق العقل يمكن أن تتطور على نسق العلوم الرياضية، كما كان يتوقع للعلوم التي تنصب على حقائق الواقع أن تلجأ إلى المناهج الرياضية، وتفيد منها إلى أقصى حد ممكن (وقد حققت العلوم التجريبية نبوءته وقطعت معظم العلوم الإنسانية شوطا كبيرا في هذا السبيل).
وجدير بالذكر أنه أثنى على أرسطو؛ لأنه كان في منطقه أول من كتب بأسلوب رياضي خارج حدود العلوم الرياضية، كما تمنى أن يمتد هذا الأسلوب إلى سائر العلوم. بل إنه ليعبر عن اقتناعه بأن تطبيق المنهج الرياضي على العلوم الفلسفية سيضع حدا للخلافات، فتختفي تماما من على مسرح الفلسفة! ولا شك أن تحمس ليبنتز للرياضة قد أدى به - كما أشرنا من قبل - إلى إغفال الحدود التي لا بد أن يقف عندها المنهج الرياضي، كما أن طريقته الرياضية في التفكير قد دفعته في كثير من الأحيان إلى محاولة الإجابة على بعض المشكلات الفلسفية بنفس الدقة التي يلتزم بها الرياضيون، مع أنها في الغالب مشكلات لا حل لها على الإطلاق، وإن وجد هذا الحل، فلا يمكن التوصل إليه عن طريق المنهج الرياضي!
كان ليبنتز مقتنعا بأن جميع العلوم يمكن أن تطبق مناهج الرياضة بدرجات متفاوتة. ولعل هذا الاقتناع أن يكون دليلا على النزعة العامة التي تطبع تفكيره كله؛ ألا وهي نزعة التفاؤل التي سخر منها فولتير. ولا شك أنه كان متأثرا بالمناخ العام الذي ساد عصر التنوير الأوروبي، وإن كان الإنصاف يقتضينا القول بأنه لم يقع فريسة ضيق الأفق والجفاف والفقر الروحي والوجداني الذي غلب على معظم إنتاج هذا العصر، ولكن ثقته المطلقة في قوة العقل الإنساني تدل على تفاؤله. إنه يؤمن بتقدم الفن والفلسفة في الماضي والمستقبل على السواء. وقد ينتكس هذا التقدم المستمر من وقت لآخر، ولكن النظرة الشاملة تثبت أن العقل قد تقدم أكثر مما انتكس، وأن المعرفة البشرية يزداد حظها من الكمال على مر التاريخ .
وتظهر النزعة المتفائلة أيضا في نظرته إلى العالم والمصير. فهذا العالم هو أفضل عالم ممكن. والظلام الذي يختم عليه ليس إلا الوجه الشاحب للنور. والشر والبؤس والتعاسة التي نلقاها فيه ليست شيئا بجانب الخير والرحمة والعدل الذي أفاضته عناية الله علينا. إن أنين المأساة يضيع وسط أنغام التجانس الشامل، والموت نفسه يفقد ثقله وجهامته، ويصبح الشر هو الضريبة الضرورية التي لا بد من أدائها للحرية البشرية، كما تصبح الحرية نفسها جزءا من نظام العالم الراسخ.
لا شك أن التفاؤل العقلي منبع غني تتدفق منه الأفكار الحية، وتربة خصبة تنمو عليها المعرفة البشرية، ولكن الخطر كل الخطر في إضفاء ثوب المثالية على جسد الواقع، والنظر إلى القبح والبؤس والشر بعين الجمال والرضا والبهجة والتسامح. ذلك شيء يعجز الإنسان الذي يصطدم كل لحظة بصخرة الواقع الدامية. وهو على التحقيق شيء لا يقدر عليه إلا كائن فوق الإنسان، أو كائن غير إنساني! وهو في النهاية خطر لم ينجح ليبنتز في تلافيه، ومزلق لم ينج من الوقوع فيه. ولا نزاع في أن تفكيره يكشف من بعض الوجوه عن أحادية النظرة أو لنقل عن شيء من ضيق الأفق. وثقته المطلقة في المنهج الرياضي وتفاؤله المسرف يشهدان على هذا. فنحن نعلم اليوم أن المنهج الرياضي له حدود لا يستطيع أن يتعداها، وأن للواقع مستويات وأبعادا لا يمكنه أن يصل إليها. كما تعلمنا الحياة أن الإسراف في التفاؤل قد يكون نوعا من الغفلة أو السذاجة وحسن النية. ومع ذلك فإن الإنصاف يقتضينا في هذا المجال أيضا أن نقول إن النظرة الأحادية ليست بالطابع الغالب على تفكير ليبنتز. فالواقع أن تفكيره بعيد عن التطرف. وهو يسعى على الدوام إلى التوفيق بين الأضداد في مركب يؤلف بينها ويهتدي في كل آرائه بالحكمة العريقة: الحقيقة في التوسط.
17
إنه يقدر الجديد بغير أن يرفض القديم، ويفتش عن الحقيقة بين الآراء المتعارضة ليقوم بدور حمامة السلام بينها! ولا يتحرج أحيانا من تدوين أفكار فلسفية شائعة لإيمانه بأن الحقيقة غالبا ما تكون بسيطة ومشتركة بين الناس، على حين يبدو الزيف في معظم الأحيان في ثوب خداع وضوء خلاب. وهو لا يبتعد عن النظرة الأحادية في القضايا التي يدعو إليها فحسب، بل يتجنبها أيضا في اختياره للموضوعات العلمية التي يتناولها بالبحث. ويكفي أن طموحه لم يقف عند حد، وأن حبه للمعرفة قد تنقل بين موائد المعرفة من القانون، والرياضة، والفيزياء، والجيولوجيا إلى الموسيقى، والفلسفة، واللاهوت، والتاريخ والسياسة دون أن يحيد عن النظرة الشاملة أو ينحرف إلى التظاهر والغرور.
ولهذا كان تفكيره تفكيرا شاملا، بأوسع وأعمق معاني هذه الكلمة.
وما أصدق قول ديدرو (في المجلد الخامس عشر من الأنسيكلوبيديا، طبعة أسيزا، ص440): «عندما ينظر الواحد منا في نفسه، ويقارن مواهبه بمواهب ليبنتز يحس بميل قوي يغريه بأن يقذف بالكتب بعيدا، ويبحث لنفسه عن ركن خفي من العالم يمكنه أن يموت فيه بسلام. كان عقل هذا الرجل عدوا للفوضى، وكانت أعقد المسائل تتسق وتنتظم عندما تدخل فيه. لقد جمع صفتين عظيمتين يندر أن تتفق إحداهما مع الأخرى؛ روح الكشف، وروح المنهج، إلى جانب الدرس الدءوب المتنوع الذي أتاح له معرفة متعددة الأنواع والأشكال، ولم يضعف هذه الصفة أو تلك. لقد كان فيلسوفا ورياضيا، بأعمق ما تحمله هاتان الكلمتان من معنى ...»
18 (ه) الفلسفة الخالدة
19
الفلسفة الخالدة تعبير عن فكرة تحققت في الفلسفة في العصر القديم والوسيط، قبل أن يصك الاصطلاح في القرن السادس عشر على يد أوجستينوس ستويكوس
Augustinus Steuchus . أحد رجال عصر النهضة في إيطاليا. وقد آمن ليبنتز إيمانا قويا بفكرة الفلسفة الخالدة «التي تتخطى السنين»، وتنطوي على عدد من الكشوف الفلسفية التي تلقيناها عن القدماء، ولا زالت جديرة بأن نتأملها، ونحافظ عليها، ونعنى بتمثلها والإفادة منها. وتدل الفكرة في رأيه على التقدم المتصل في مجال المعرفة الفلسفية. وإذا كان الفكر البشري ينتكس في بعض مراحل تطوره، فإن المعرفة الفلسفية لا تنفك تتطور وتزداد عمقا واتساعا، ما بقيت الأجيال اللاحقة تبني على الأسس التي أرستها الأجيال المتقدمة. ليست الحقيقة من صنع إنسان واحد، وما من إنسان يمكنه أن يدعي لنفسه شرف البحث عنها أو الوصول إليها. ومن أنكر جهود غيره على مدى التاريخ فهو أعمى أو أحمق. لقد طالما اجتهد المفكرون في البحث عن الحقيقة، واكتشفوا هذا الملمح أو ذاك من ملامح وجهها الغامض النبيل، وحتى الذين تنكبت فلسفتهم طريق الحقيقة، وضلت سواء السبيل قد شاركوا بصورة غير مباشرة في اهتداء غيرهم إليها. لقد آمن ليبنتز بأن الخير أقوى من الشر، وأن الحقيقة أعظم من الخطأ. وهذه العبارة المشهورة التي قالها في سنة 1714م تشهد على حكمته وحكمة عصره: «إن الحقيقة لأوسع انتشارا مما يظن بعض الناس»، وأولى بالباحث أن يقتفي آثار الحقيقة في نظرية ما من أن يتسرع بإدانتها على أساس الأخطاء التي وجدها فيها. وما من شيء يمكن أن يعبر عن هذه النزعة الحكيمة المتواضعة، كما تعبر عنه الفلسفة الخالدة. فهي تحدد موقف الإنسان من فلسفات الغير، وتحثه على أن يتعلم منها قبل أن يحاول هدمها.
ويصور ليبنتز هذا الاتجاه الذي آمن به بصدق وتواضع في عبارات تستحق أن نقرأها ونقف عندها:
20 «إن مؤلفات الأعلام من رجال العصور القديمة والحديثة بغض النظر عن خصوماتهم الجدلية الحادة مع مخالفتهم في الرأي، تنطوي في معظمها على كثير من الحق والخير، مما يستحق أن يقتبس ويودع كنز المعرفة البشرية. ولو اهتم الناس بالنهوض بهذه المهمة بدلا من تبديد وقتهم في التماس المآخذ والعيوب، لما ضحوا في هذه الحالة إلا بغرورهم وزهوهم! وعلى الرغم من العديد من الكشوف الجديدة التي توصلت إليها، وبلغت من النجاح مبلغا جعل أصدقائي ينصحونني بتكريس جهودي لمثل هذه البحوث، فإنني من جانبي على الأقل أقدر آراء الغير، وأعرف كيف أقيم كل رأي بما يستحق، وإن كنت أفعل هذا بدرجات متفاوتة، وربما كان السبب في هذا أنني تعلمت من نشاطي المتعدد الجوانب ألا أحتقر شيئا على الإطلاق.»
هذه عبارات تذكرنا بنصيحة بارمنيدز لسقراط - في محاورة بارمنيدز لأفلاطون - بألا يحتقر الفيلسوف شيئا، ولو بلغ من ضآلة الشأن مبلغ الشعر والطين! وهي تكشف عن طبيعة ليبنتز وشخصيته ونزعته العقلية والنفسية التي وجهت نشاطه الفلسفي والعلمي، كما تكشف عن تواضع أصيل ينبغي أن ينهل الحكيم من نبعه على اختلاف البلاد والعصور، ويتعلم مع كل قطرة منه حقائق الحكمة، تفكير الإنسان المحدود، تقدير جهود الغير، الإيمان بسلطان الحقيقة الذي لا تنال منه قوى الزيف والكذب مهما كان عتادها وعدتها! وليس من الضروري أن نكون من الحكماء لنعرف هذا كله. يكفي أن ننظر في تاريخ الفكر البشري نظرة متسامحة واسعة الأفق؛ لكي نصحح أفكارنا، ونعرف أن الحقيقة تكمن في البحث الدائب عنها، والجهد المبذول للسير على طريقها؛ إذ لم يتأت لحي ولن يتأتى له أن يمتلك الحقيقة الكاملة! ومن لم يفعل هذا فسيظل أسير ذاته، وسجين عصره، ولن يتسنى له الارتفاع بفكره فوق الضحالة والتحيز وضيق الأفق.
وما أجمل ما يقوله الأديب الناقد والفيلسوف المربي العظيم ليسنج (1729-1781م)! الذي عبر عن عصر التنوير وتجاوزه في وقت واحد، ودافع عن روح التسامح والأخوة البشرية والصدق في المسرح والفن والحياة أبلغ دفاع وأخلصه:
ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذي ينمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا، ساكنا، مغرورا. ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه - ولو كان في نيته أن يضلني ضلال أبديا - ومد نحوي يديه المضمومتين وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!
إن الفلسفة الخالدة كلمة عظيمة وفكرة خصبة، ولكن ما من كلمة لم يسأ استخدامها، ولا من فكرة لم يسأ فهمها. وما أكثر الذين يتصورون أن «الفلسفة الخالدة» معطف يدثر فكرا كسولا غير ملتزم، أو نزعة محافظة تفتقر إلى الجدة والقدرة على النقد والتمحيص. صحيح أن الفكرة التي تكمن وراء الفلسفة الخالدة لا تخلو من الأخطار والمزالق، ولكن من الخطأ الظن بأن الإيمان بها لا بد أن يكون علامة على ضعف التفكير وجموده، أو التساهل مع الغير - من باب حسن النية - أو التشبث بأكفان الماضي الغابر. وفلسفة ليبنتز نفسها خير دليل على خطأ هذا الظن. فلقد كافح طويلا في سبيل التعرف إلى الحقيقة الشاملة، ولم يجفل من السير على الدروب الجديدة المحفوفة بالمخاطر. وجمع العقل الناقد إلى القدرة على تقبل آراء الغير واحترام جهودهم وكشوفهم. ويكفي أن نشير للانتقادات العديدة التي وجهها إلى ديكارت ولوك وبايل، وأن نشير أيضا إلى اهتمته بأفكار عصره، والبحوث التي تمت على عهده في مختلف الميادين، حتى لقد وصل هذا الاهتمام في بعض الأحيان إلى حد الولع بكل جديد مبتكر! ولا شك أنه كان يقف في جانب التقدم والتطور، فضلا عن وقوفه في صف المحافظين - بالمعنى الكريم الذي يدل عليه الأصل اللاتيني لهذه الكلمة
21
أي بمعنى الحفاظ على كل ما يستحق البقاء، ويدفع تيار التطور إلى الأمام، ويضيف لكنز المعرفة البشرية حجرا واحدا ثمينا! ومن الظلم أن نأخذ إيمانه بالفلسفة الخالدة مأخذ الكسل الروحي، أو العجز عن ارتياد مجاهل المستقبل، أو قلة الأصالة والابتكار. ففلسفته كلها تشهد على شجاعته وتفتح عقله وعرفانه بما قدمته الفلسفة من قديم وجديد. ولو أحسنا فهم فلسفته لتعلمنا منه دروسا تنفع المؤمنين بالفلسفة الخالدة والجاحدين لها على السواء!
ثالثا: ليبنتز في مرآة الأجيال
ما الذي بقي حيا من فيلسوف غاب شبحه الفاني منذ مائتين وسبعة وخمسين عاما؟
سؤال عسير، من تلك الأسئلة التي لا يجاب عليها إلا بأسئلة أخرى! يصدق هذا على ليبنتز، كما يصدق على كل فيلسوف أو أديب عظيم ترك تراثه وديعة بين يدي الأجيال. ومن يدري؟ فقد تتوقف الإجابة علينا نحن، على رغبتنا في الحياة، أو قدرتنا عليها، على مدى ما نملك من شجاعة البحث عن كنوز الماضي، والارتفاع إلى قممها، والاغتراف من منابعها وبث الحياة فيها وفي أنفسنا. وكم من مفكر أو أديب مات في ذاكرة الأجيال وشبع موتا. ثم جاءت اللحظة التي أحست فيها بحاجتها الملحة إليه، ففزعت نحوه كما يفزع الابن التائب إلى صدر أبيه، وأزاحت التراب والأكفان عنه، وأنقذت صورته من عناكب النسيان التي تعشش عليها في المتاحف والمخازن!
يمكننا أن نسأل عن أثر ليبنتز على التاريخ الأوروبي والثقافة الأوروبية من بعده، فنعرف فضله الذي لا ينكر على العديد من الأكاديميات العلمية التي تأسست في أواخر حياته، أو بعد موته، وكان له دور مباشر أو غير مباشر في قيامها.
22
ويمكننا أن ننظر إلى العلوم العديدة التي ازدهرت في عصرنا الحديث، فنتبين بصمات أصابعه عليها، ونرى إلى أي حد أفادت من توجيهاته ولمحاته، فكان أحد الرواد القلائل الذين دلوها على الطريق الصحيح الذي تواصل السير فيه. ويكفي أن نذكر علوم الرياضة والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا واللغة والتاريخ والاقتصاد والمنطق الرياضي وعلم النفس التحليلي وغيرها من العلوم التي تعترف اليوم بفضله. ولكننا لن نمضي في هذه الأسئلة التي تحتاج إلى بحوث متخصصة ليس هذا مجالها، ولنرجع للخيط الذي لمسناه عن تأثير ليبنتز على التراث الفلسفي الحديث.
لم يكن ليبنتز من الفلاسفة الذين يجمعون حولهم المريدين والأتباع، وينشئون مدرسة تتولى نشر أفكارهم ورعايتها بعد موتهم. لقد ترك وراءه تراثا ضخما من البحوث والرسائل المخطوطة التي لم ينشر منها في أثناء حياته، سوى قدر ضئيل. ومات وحيدا منسيا مكروها من أغلب معاصريه، وظل الكره والإهمال والجحود يلاحقه حتى عهد قريب. ولا شك أن كشوفه الهامة في الرياضة والعلوم، وصلاته القوية بعلماء عصره ومفكريه، ومذهبه الذي أثار الإعجاب باتساق بقدر ما أثار السخط على تفاؤله الشديد، وشخصيته الموسوعية الفريدة التي جمعت المتناقضات في مركب عجيب، لا شك أن هذا كله لم يسمح بأن يتسرب إليه النسيان، وإن سمع بعض الوقت بالجحود والنكران!
والمهم أن أعماله نجت من القدر الذي لم يترفق به في حياته. وبدأت أجيال الباحثين في نشر مخطوطاته العديدة المبعثرة بين المكتبات، وفك طلاسم مسوداته المليئة بالتصويبات والزيادات والمراجعات! ولم تكد تمر عشرون سنة على وفاته، حتى ظهرت أول محاولة لدراسة فلسفته دراسة شاملة. فكتب لودوفيجي في سنة 1737م كتابا بعنوان: مشروع تفصيلي لتاريخ كامل لفلسفة ليبنتز.
23
غير أن الفضل الأكبر في نشر فلسفة ليبنتز والترويج لها بين جموع المثقفين يرجع لكرستيان فولف (1679-1754م) زعيم حركة التنوير في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وأمير النزعة العقلاني، و«الممثل الجبار» للفلسفة الدوجماطيقية أو القطعية كما قال عنه كانت بحق!
ولكن فولف وتلاميذه أساءوا إلى ليبنتز بقدر ما أحسنوا إليه، فحشروا فكره الأصيل الحي في قالب مذهبي ضيق، غلب عليه الطابع المدرسي، وتحكمت فيه آفة التلفيق والتوفيق. وقد كان فولف أول من غامر بكتابة معظم مؤلفاته باللغة الألمانية، وهي في أغلبها لا تخرج عن عرض فلسفة ليبنتز مع مزجها بعناصر أرسطية ورواقية ومدرسية. ولهذا يمكن القول إن ليبنتز - الذي كان يكتب أساسا بالفرنسية واللاتينية - كان له أثر غير مباشر على تكوين المصطلح الفلسفي في اللغة الألمانية التي لم يكتب بها كثيرا.
وقد كانت فلسفة التنوير - التي عبر فيها فولف وأتباعه عن إيمانهم المفرط بالعقل، واهتدوا فيها قبل كل شيء بفلسفة ليبنتز - هي التربة التي نمت عليها فلسفة كانت، واستمدت منها عصارة حياتها الأولى. والواقع أنه يتعذر علينا بغير ليبنتز أن نتصور كانت وفلسفته. صحيح أنه تصدى في مرحلته النقدية للهجوم على النزعة العقلانية القطعية، وهدم صروحها الميتافيزيقية الشامخة، ولكن هذا لا ينفي تأثره الشديد في بداية نشاطه الفكري بفلسفة ليبنتز التي قامت عليها تلك النزعة أو بالأخرى على صورة معدلة منها - ولا يقف الأمر عند التأثر المحتوم بين الخصوم - فالمنقود يعيش دائما في ناقده! بل يتعداه إلى مسائل هامة تتصل بنقاط اللقاء والافتراق بينهما. والمتأمل لفلسفة كانت النظرية والعملية لن يخطئ سماع أصداء عديدة من ليبنتز: القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، مملكة الطبيعة ومملكة الغايات، حقائق الواقع التجريبية الحادثة، وحقائق العقل الأبدية الضرورية، الاهتداء بالمناهج الرياضية والعلمية لأحكام المناهج الفلسفية والميتافيزيقية ... إلخ، ويكفي أن كانت قد تأثر إلى أبلغ حد بكتاب ليبنتز «مقالات جديدة عن العقل الإنساني»، الذي لم ينشر إلا في سنة 1765م؛ وذلك في كتابه الصغير الذي يحمل بذور نظريته في الإستطيقا الترنسند نتالية أو الزمان والمكان، ويعد إرهاصة حقيقية بتحوله إلى الفلسفة النقدية، وعلامة بارزة على طريق تطوره العقلي،
24
ويقصد به رسالته اللاتينية الهامة «صور ومبادئ العالمين الحسي والعقلي» (1770م). فقد عبرت هذه الرسالة الصغيرة عن تخلصه النهائي من تأثير النزعة العقلانية القطعية - التي توصف عادة بفلسفة فولف وليبنتز - ومزاعمها الطموح المتعجلة عن قدرة العقل البشري على معرفة الوجود كما هو في ذاته، كما عبرت عن الارتباط الوثيق بين الحساسية وطبيعة الإنسان المتناهية المحدودة، وكلها إشارات هامة إلى «التحول الكوبرنيقي» والثورة النقدية التي أعلنها في كتابه «نقد العقل الخالص» بعد ذلك بأحد عشر عاما.
لا ينفي هذا كله بطبيعة الحال أن كانت وليبنتز مختلفان في تفكيرهما أعمق الاختلاف، على الرغم من أوجه الاتصال بينهما. وكل ما نريد من ورائه هو تأكيد أن وصف ليبنتز بأنه ممهد لكانت وصف ينطوي على إجحاف شديد به. ويزيد من وقع هذا الإجحاف بليبنتنز أن عددا كبيرا من الباحثين قد دأبوا على وصفه بفيلسوف عصر الباروك. وهم بهذا لا يكادون يخفون رغبتهم في إظهار الجانب الضعيف من فلسفته (وإن كان ذلك الوصف لا يقلل من أهميته، ولا يجعله مبتور الصلة بعصرنا)، ولا يكتمون ميلهم إلى التهوين من شأن ميتافيزيقاه «غير النقدية» بالقياس إلى ميتافيزيقا كانت النقدية، وإبراز أخطائها وبعدها عن الروح العلمية إذا قورنت بالفلسفات العلمية المعاصرة التي تسترشد بمناهج العلم الرياضي والطبيعي ونتائجه. ومن الواضح أن مثل هذا النقد لا ينصف «كانت» ولا «ليبنتز»، ولا يسلم عند النظر المتأني من الظلم والتحيز.
أثر ليبنتز على عدد كبير من المفكرين والأدباء الذي تمتد قائمة أسمائهم إلى يومنا الراهن. ولن يتسع المجال للحديث عن هذا التأثير الخصب العميق، ولهذا نكتفي بتناول لمحات بارزة منه. •••
كان الأديب الناقد العالم، باعث حركة «العصف والدفع» الأدبية في ألمانيا ومؤسس فلسفة التاريخ بها وهو يوهان جوتفريد هردر (1744-1803م) من أهم المفكرين الذين تأثروا بليبنتز. فقد اعتمد على فلسفته في هجومه المرير على فلسفة كانت المتأخرة (وحاول فيه دون نجاح يذكر أن يتجاوز نقد كانت بما بعد النقد!) وقدم كثيرا من أفكار فيلسوفنا في كتابه «رسائل لرعاية الإنسانية»،
25
وفي مجموعة مقالاته المسماة
Adrastea ، كما عرف أصحاب حركة العصف والدفع بكثير من خواطره ولمحاته التي أفاد منها جوته
26
وشيلر وأعلام الفلسفة المثالية الألمانية، وفي مقدمتهم هيجل. ومن الصعب أن نحدد طبيعة العلاقة بين هيجل وليبنتز، فبينهما من أوجه الخلاف والاتفاق ما يجعل كتفي الميزان متعادلتين. ويكفي أن نذكر عبارة قصيرة لهيجل وضع بها إصبعه على الفارق بينهما؛ حيث قال: «إن التفرد هو المبدأ الأساسي عند ليبنتز.» وطبيعي أن يصدر هذا القول من هيجل، فإن يكن هو نبي «الكلي العام»، فإن ليبنتز هو المبشر «بالفرد» والتفرد!
اتجه اليسار الهيجلي إلى ليبنتز وفسر أفكاره تفسيرا قد لا يرضى عنه الفيلسوف نفسه. فقد نشر لودفيج فويرباخ (1804-1872م) في سنة 1837م كتابه «عرض وتطور ونقد فلسفة ليبنتز»،
27
وقد كان لهذا العرض الأنثروبولوجي والمادي لفلسفة ليبنتز أثره الكبير على المادة الجدلية. وجدير بالذكر أن هذا الكتاب كان من الكتب التي عكف لينين على دراستها، واقتباس أجزاء منها أثناء الفترة التي قضاها منفيا في سويسرا. وامتد هذا التأثير حتى بلغ ذروته في كتاب صدر حديثا لهانز هبنس هولس، حاول فيه أن يفسر ليبنتز تفسيرا ماديا ملحدا،
28
وأن يثبت بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة أن فلسفته فلسفة مادية تتستر وراء المثالية، وأن إيمانه بالله ليس إلا إلحادا مقنعا! بل لقد أصبح ليبنتز في رأي المؤلف هو نموذج الملحد، كما أصبح حديثه عن الله مجرد رواسب من تدين شخصي غريب على مذهبه الحقيقي! وإذا كان العارفون بليبنتز قد حنقوا أشد الحنق على هذا التفسير المتعسف، فإنه قد لفت الأنظار على أية حال إلى مسألتين هامتين؛ أما المسألة الأولى فهي أن الحدود التي توضع عادة بين الواحدية الروحية والواحدية المادية ليست حدودا واضحة، ولا فاصلة بالقدر الكافي. وأما الثانية فهي أن نظرية ليبنتز عن الله لا تزال في حاجة إلى مزيد من النقد والتمحيص والتفسير. ولعل الغاضبين على هذا التفسير أن يكونوا على حق في غضبهم؛ فمثل هذا التفسير لليبنتز أو غيره - وإن استحق الإعجاب بجرأته أو تهوره - لا يتم إلا على حساب المذهب نفسه، ولا يتناسب فيه الربح مع الخسارة. وإذا أردنا أن نحافظ على اتساقه فلا بد من التضحية بجوانب رئيسية من مذهب الفيلسوف على أساس أنها «غريبة عنه». ومن يدري؟ فقد يؤدي هذا بصورة ضمنية إلى إدانة الفيلسوف وإثبات نفاقه وتعدد وجوهه. وهو خطر لا يمكن المغامرة به في كل الأحوال. فقد يرضي زهو المفسر صاحب الرأي الجديد العنيد، ولكنه سيضلل الباحث المتواضع الذي يسعى إلى وضع المذهب في إطاره التاريخي الصحيح.
وربما كانت الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر أكثر من ذلك إنصافا لروح الفيلسوف وحروفه، فها هم أولاء يوهان فريدريش هربارت (1776-1841م)، وبرنهارد بولزانو (1781-1848م)، وهرمان لوتزه (1817-1881م) يتأثرون بليبنتز في مذاهبهم الميتافيزيقية والمنطقية، ويفسرونه كما كان يحب لنفسه أن يفسر، أعني كفيلسوف إلهي ومنطقي يبحث عن الحقائق الخالدة في عقل الله وعقل الإنسان خليفته وصورته المصغرة على الأرض. ولم يكتف هؤلاء الفلسفة الثلاثة بإنصاف ليبنتز، بل بثوا الحياة في فلسفته، وبخاصة نظريته في المونادات أو الكائنات البسيطة غير المادية، أو عناصر الواقع المحملة بالطاقة التي بنى عليها هربارت ميتافيزيقاه. وقد كان للوتزه وبولزانو فضل كبير في نقل مذهب ليبنتز في صورته النقية إلى القرن العشرين.
بدأ الحوار الحي العميق مع أفكار ليبنتز مع بداية هذا القرن. ففي سنة 1900م نشر برتراند رسل كتابه العظيم «عرض نقدي لفلسفة ليبنتز»،
29
الذي ذهب فيه، إلى أن الرياضة والمنطق هما محور فلسفته، وأن قضية «تضمن الموضوع للمحمول»، هي أساس مذهبه الميتافيزيقي عن الجواهر البسيطة أو المونادات. ونشر الفيلسوف الفرنسي لوي كوتيرا كتابه «منطق ليبنتز» سنة 1901م، وضمنه وثائق لم يسبق نشرها، فلفت الأنظار إلى أن هذا المنطق «ليس قلب المذهب وروحه فحسب، إنما هو كذلك محور نشاط ليبنتز العقلي.» ثم توالت البحوث التي تؤكد أبوة ليبنتز للمنطق الرياضي الحديث، ومن أهمها بحوث هينريش شولس الذي بلغ به الحب والتقدير للفيلسوف أن سمى لغة الحساب المنطقي «لغة ليبنتز»! ولا شك أن فضل ليبنتز على المنطق الحديث لا ينكر؛ فقد وجهه إلى الطريق الذي يسير فيه بما كتبه فيه، ودعا إليه من «ترييض» المعارف المختلفة - بما في ذلك الميتافيزيقا - وإنشاء لغة تصورية حسابية تقضي على الخلافات والمجادلات الدائرة على مسرح الفلسفة والمعرفة جميعا! والواقع أن من الصعب تحديد أثره على ازدهار المنطق الرياضي الحديث بعد سنة 1850م، وإن كان أثره عليه قد اتضح بصورة قاطعة بعد بداية القرن، بفضل بحوث رسل وكوتيرا التي أشرت إليها منذ قليل.
30
ولعل أهم ما في هذا كله هو أن ليبنتز قد جعلنا أقدر على فهم العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والرياضة. وإذا لم يكن من الممكن ولا من العقل أن تتخلى الفلسفة عن شخصيتها وروجها ومنهجا لتغرق في الرياضة، فإنها تستطيع مع ذلك أن تفيد من نتائج الرياضة والعلوم الطبيعية. وهذا هو الدرس الحي الذي أخذته معظم الفلسفات العلمية المعاصرة من ليبنتز. هذا إلى جانب درس آخر لا يقل عنه أهمية؛ وهو أن يتعلم الفلاسفة كيف يرتفعون فوق حدود التخصص الضيقة، ويعودوا عيونهم وقلوبهم على النظرة الكلية المتعالية، والحكم المترفع النزيه. وهذه النظرة الكلية التي لا يغفل لها طرف عن مكان الفرد من المجموع، والجزء من الكل هي التي تستطيع أن تصحح أخطاء التخصص العلمي الضيق والضروري في آن واحد. بيد أن تأثير ليبنتز لم يقتصر على المنطق الحديث. ويبدو من العسير أن نحصر أفضاله على مختلف جوانب المعرفة قبل أن نتزود بالنظرة الكلية المتكاملة لتفكير هذا الرجل الموسوعي العجيب. فحيثما تلفتنا عثرنا على آثاره هنا أو هناك. قد يمكننا أن نتبين بصماته الواضحة على التحليلات اللغوية والمنطقية للوضعيين الجدد ، وكتابات علماء النفس التحليلي عن اللا شعور (ويكفي أن نذكر نظرية يونج عن اللاشعور الجمعي) و«فلاسفة الحياة» من فرنسيين وألمان عن الطاقة الحيوية، وفلاسفة العلم عن الطاقة والقوى الدينامية. ولعل تأثيره أن يكون قد اتضح بأجلى صورة على فلسفة وايتهيد (1861-1947م) الذي بدأ من الرياضة والفيزياء ليصل بمغامرته الفكرية الإنسانية العميقة إلى مذهب ميتافيزيقي اهتدى فيه بأفلاطون وأينشتين على السواء!
وإذا كان السؤال عن تأثير ليبنتز على فروع المعرفة المختلفة سؤالا لا يزال ملحا ولا يزال في حاجة إلى دراسات مستفيضة، فإن السؤال عما بقي حيا من فلسفته أو بالأحرى عما ينبغي أن يبقى منها مؤثرا فعالا، هو سؤال أشد إلحاحا. وقد أشرنا إلى رأيه في الفلسفة الخالدة، ودعوته للرجوع إلى الرواد الأعلام من مفكري الماضي لنأخذ عنهم الحقيقة الكامنة في كل فكر عظيم، فوسع من نظرتنا المحدودة بقصورنا وعجزنا البشري. ونحن اليوم في أشد الحاجة إلى تلبية هذا المطلب والإنصات لهذا الصوت. فما أكثر الدروس التي يمكن أن نتعلمها منه! ولعل من أهمها أن تكون رغبتنا في التلقي والتعلم أكبر من شهوتنا للهدم والتحطيم. وقد عبر ليبنتز بنفسه عن هذا المعنى الجميل الجليل في رسالة كتبها إلى ريمون
Remond
في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة 1714م، وقال فيها: «لو كان لدي الفراغ الكافي لعقدت مقارنة بين مذهبي ومذاهب القدماء وغيرهم من الرجال القادرين. إن الحقيقة لأوسع انتشارا مما يظن الناس، ولكنها كثيرا ما تكون مزينة مصبوغة الوجه، وكثيرا ما تضعف وتفسد بفعل الشوائب التي تضر بها أو تقلل من نفعها. ولو تبينا آثار الحقيقة عند المتقدمين لاستخلصنا التبر من الوحل، والماس من المنجم، والنور من الظلام، ولكانت هذه في الواقع هي الفلسفة الخالدة.»
هذه الكلمات هي خير ما نختم به حديثنا عن ليبنتز.
فهل ما تزال هذه الفلسفة الخالدة ممكنة؟
إن الإجابة تحتاج إلى الحكمة والشجاعة. وليبنتز هو خير مثل على الحكمة والشجاعة.
المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
تقديم
كتب ليبنتز المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي في سنة 1714م؛ أي قبل وفاته بسنتين اثنتين. وتعد هاتان الرسالتان من أهم ما كتب وأعمقه دلالة على مذهبه الفلسفي وأكثره توفيقا في صياغته والعبارة عنه.
والرسالتان متفقتان في الهدف والقصد، ويحتمل أن يكونا قد كتبا في وقت واحد أو في فترتين متقاربتين. ويختلف الشراح في ترتيبهما الزمني، وإن كان المترجم والشارح الإنجليزي القدير روبرت لاتا يؤكد أن المبادئ وضعت قبل المونادولوجيا.
1
ولعل أندريه روبينيه،
2
الذي نشر أعمال ليبنتز وحققها وصدرت في باريس سنة 1954م أن يكون محقا في قوله في مقدمة هذه النشرة أنها أشبه شيء بالوصية،
3
ولعل أحد مؤرخي الفلسفة الأعلام، وهو كورت هيلد برانت
4
في كتابه عن ليبنتز ومملكة النعمة أو الفضل الإلهي، أن يكون على حق كذلك في إشارته إلى منزلة هذين الكتابين الصغيرين من مذهب ليبنتز العام. فهو يقول إنهما يعبران عن أكمل صيغة وصل إليها ليبنتز في ذروة نضجه الفكري، كما يتوجان هذا الفكر من ناحية المضمون، ولذلك فهما مختلفان عن معظم أعماله التي تتناول مجالات أخرى، وتعبر عن وجهات نظر جزئية.
ولا يقتصر الأمر في شأن هذين الكتابين - أو إن شئت الكتيبين - على زمن التأليف أو شكله، وإنما يتجاوزه إلى ما بينهما من صلة عميقة من ناحية المحتوى والمضمون. فالفيلسوف يعرض فيها أفكاره الأساسية، وإن كان قد توخى في المبادئ أن تخرج إلى الناس بأسلوب أبسط ولغة أيسر؛ لأنه لم يتوجه بها إلى زملائه الفلاسفة كما فعل في المونادولوجيا،
5
ومع ذلك فإن من الخير دائما أن تقرأ المبادئ مع المونادولوجيا أو بالأحرى قبلها؛ لتكون تمهيدا لها أو تعليقا عليها. ومن الخير أيضا ألا تقلل من قيمة هذه المبادئ التي يشير صاحبها في رسالته المذكورة إلى أهميتها ومكانتها من مذهبه كله.
ليست المونادولوجيا مجرد تمهيد لفلسفة ليبنتز، وإنما هي عرض مركز لمبادئها الأساسية التي عبر عنها في سائر بحوثه، وبسطها بوجه خاص بصورة لا تخلو من الاضطراب والاستطراد في رسالته عن العدل الإلهي (التيوديسية). ولم تغب هذه الحقيقة عن بال الفيلسوف؛ إذ نجده يشير بنفسه على هوامش مخطوطة المونادولوجيا إشارات عديدة إلى فصول تلك الرسالة التي توسعت في شرح بعض المسائل التي تتناولها المخطوطة الصغيرة. وربما جاز لنا أن نقول مع مؤرخ الفلسفة المعروف يوحنا أردمان إن المونادولوجيا موسوعة صغيرة الحجم، تضم كل فلسفة ليبنتز. وليس من السهل بطبيعة الحال أن تفهم هذه الموسوعة الصغيرة - غير الميسرة - بعد أول قراءة؛ إذ لا غنى للقارئ عن الإلمام بجوانب عامة من تفكير ليبنتز، ولا غنى له أيضا عن النظر فيها مرة بعد مرة!
تتناول المونادولوجيا فلسفة ليبنتز في الجوهر. ويمكن القول بأنها تتألف من قسمين، يشرح الفيلسوف في أولهما طبيعة الجواهر عامة، ما خلق منها وما لم يخلق، التي يتكون منها العالم في مجموعه، ويفسر ثانيهما طبيعة العلاقات المتبادلة بينها على سبيل التأثير والتأثر، بحيث تكون عالما واحدا بمفرده، هو - في رأيه - أصلح وأفضل عالم ممكن. ويمكن أن تدرج الفقرات من 1 إلى 48 تحت القسم الأول، أما القسم الثاني فيضم الفقرات الباقية (من 49 إلى 90)، ويمكن أن نذهب إلى أبعد من هذا، فنقسم القسم الأول إلى ثلاثة أجزاء رئيسية يفسر ليبنتز في أولها (من الفقرة 10-18) طبيعة المونادات المخلوقة، ويميز في ثانيهما (من 19 إلى 30) الأنواع الثلاثة الكبرى من المونادات المخلوقة، كما يشرح في الجزء الثالث (31-48) كيف يتم الانتقال من أعلى أنواع المونادات المخلوقة (وهي الوعي أو الفهم) إلى المونادة الوحيدة التي لم تخلق (وهي الله) عن طريق المبدأين العقليين الأساسيين، ونعني بهما مبدأ عدم التناقض، ومبدأ السبب الكافي. وبهذا يقدم لنا رؤيته للكون بوجه عام، ويكشف تدرج الكائنات الفردة التي يتألف منها طبقة فوق طبقة.
أما القسم الثاني فيمكن بدوره أن يتفرع إلى ثلاثة أجزاء، تبين كما قدمت طبيعة العلاقات بين الجواهر بصورة أوفى وأتم. فالجزء الأول (من 49 إلى 60) يعرض للمبادئ العامة التي تقوم عليها العلاقة بين الجواهر من خلال التجانس المدبر أو الاتساق المقدر ومذهب ليبنتز المشهور - والمشبوه أيضا - عن أفضل العوالم الممكنة! ويشرح الجزء الثاني (من 61 إلى 82) العلاقات القائمة بين أنواع معينة من الجواهر شرحا مستفيضا ، كما يعالج مسائل متعلقة بالكائن الحي وطبيعة العلاقة بين النفس والجسم، بما في ذلك الحياة والموت والخلق والفناء. أما الجزء الثالث (من 83 إلى 90)، فيضم النسق الكامل للعلاقات في وحدة واحدة هي الله، ويتناول التفرقة بين العلل الفاعلة والعلل الغائية والتجانس بينهما في نهاية المطاف - وهو التجانس الذي يقدم عليه التمييز بين النفس والجسم - ثم يضيف إليه تفرقة أخرى وتجانسا آخر بين «المملكة الفيزيائية للطبيعة والمملكة الأخلاقية للفضل الإلهي»؛ أي بين الله بوصفه البناء الأعظم والمهندس المدبر للآلة الكونية الهائلة، وبين الله بوصفه الحاكم المهيمن على مدينة الأرواح، والراعي الحكيم والأب الرحيم.
ولا بد من القول بأن هذا التحليل - الذي اقتبسناه عن العالم الإنجليزي لاتا - ليس إلا مدخلا مبسطا لقراءة هذا النص الرائع العسير. وهو لا يخلو بطبيعة الحال من التعسف والقسر، ولا يغني عن بذل الجهد والصبر.
وقد وضع ليبنتز المونادولوجيا تذكارا لإقامته في باريس (التي قطعها لفترة امتدت من أوائل سنة 1672م حتى أوائل 1676م) وأهداها في المقام الأول لنيكولا ريمون وطائفة من العلماء والفلاسفة الفرنسيين نذكر من بينهم أرنو، وريمون، ومالبرانش، وهيجنز، وهويه، وفوشيه، وماريوت.
6
ولم يكن ليبنتز هو الذي وضع لها العنوان الذي تعرف به اليوم؛ فقد وجدت المخطوطات التي تركها في مكتبة هانوفر الملكية، التي قضى فيها الجانب الأكبر من حياته، بغير عنوان محدد، وكانت تشتمل على مشروع الكتاب ونسختين معتمدتين بخط يده، فضلا عن نسخة رابعة موجودة بالمكتبة الأهلية بفيينا تحت عنوان «مبادئ الفلسفة للسيد ليبنتز». والعنوان الحالي الذي اشتهرت به يرجع إلى عالم القانون الألماني هينريش كولر،
7
الذي ترجم الكتاب للألمانية، ونشره في سنة 1720م تحت عنوان مرهق طويل: «مبادئ السيد جوتفريد فيلهلم ليبنتز عن المونادولوجيا، وكذلك عن الله ووجوده وصفاته والنفس الإنسانية، إلى جانب دفاعه الأخير عن مذهبه في الاتساق المدبر في وجه اعتراضات السيد بايل».
8
وقد شاع فترة طويلة من الزمن أن ليبنتز أهدى المونادولوجيا للأمير يوجين أمير سافوي؛ وذلك منذ أن ترجمها ج. كوتن
9
إلى اللاتينية سنة 1737م (وقد ضمها يوحنا إدوارد أردمان إلى طبعته الكاملة لأعمال ليبنتز في سنة 1840م) تحت عنوان «رسائل ميتافيزيقية مهداة لسمو الأمير يوجين».
10
ومن طريف ما يحكى في هذا الصدد أن الأمير سمع عن كتاب ليبنتز عن العدل الإلهي (الثيوديسية) الذي ظهر سنة 1710م، ولعله قد سمع عنه من فم صوفي شارلوته ملكة بروسيا وراعية ليبنتز وصديقته. ويبدو أن الأمير اطلع على «الثيوديسية»، ورجا الفيلسوف أن يقدم له موجزا مبسطا لمذهبه الفلسفي. ويبدو أيضا أن النشوة أخذته بهذا الكتيب، حتى لقد احتفظ به كالجوهرة في صندوق مقفل، مما جعل صديقه الدوق دي بونيفال
11
يكتب لليبنتز مداعبا: «إن الأمير يحتفظ بكتابك كما يحتفظ الرهبان في مدينة نابولي بدم القديس يانيواريوس. إنه يسمح لي بتقبيله، ثم يسارع بإغلاق الصندوق عليه.»
ولكن لم تلبث الأيام أن كشفت عن خطأ هذا الرأي؛ إذ بين جرهارت
12
سنة 1885م في الجزء السادس من طبعته الكاملة لأعمال ليبنتز أن ليبنتز لم يهد الأمير غير كتابه عن المبادئ، بعد أن طلب منه هذا الأخير أن يقدم له تعريفا مبسطا بمذهبه. تؤيد هذا الرسائل التي تبادلها ليبنتز مع نيقولا ريمون والدوق النمسوي ألكسندر دي بونيفال، الذي كان صديقا حميما للأمير يوجين وتوسط في تقديم ليبنتز له أثناء إقامته في فيينا من خريف سنة 1712م إلى خريف سنة 1714م.
وقد ظهرت المبادئ مطبوعة لأول مرة في شهر نوفمبر سنة 1728م في مجلة العلماء التي كانت تصدر في باريس بعنوان «أوروبا العالمة»؛ وذلك اعتمادا على المخطوطات الأربع المحفوظة في مكتبة هانوفر، وعلى نسختين منها في المكتبة الأهلية بباريس والمكتبة الأهلية بفيينا.
وتشترك المبادئ مع المونادولوجيا في قضايا كثيرة، وتوشك بعض فقراتها أن تكون أصداء لأصواتها أو تنويعات على ألحانها الأساسية. وهي لهذا بمثابة مدخل إليها أو دراسة تمهيدية لها، مما يرجح رأي الشراح عن تأليفهما في وقت واحد أو على الأقل في فترتين زمنيتين متقاربتين.
وتكشف النظرة العابرة إلى النص عن شيء غير قليل من الغموض والتفكك في ترتيب المادة، ولكننا لو تتبعنا التقسيم الأصلي الذي وضعه ليبنتز بنفسه لوجدنا أن النص يتحدث ابتداء من الفقرة الأولى حتى السادسة عن المونادات المخلوقة في ذاتها، وفي علاقاتها ببعضها البعض، بينما تتناول سائر الفقرات طبيعة الله بوصفه السبب الأول والأخير للكون، والنتائج المترتبة على قدرته وحكمته وكماله وخيريته. ويلاحظ القارئ المتأني أن المبادئ تمر مرورا عابرا ببعض المسائل الرئيسية التي تعالجها المونادولوجيا أو تلمسها في خفة وسرعة. فهي على سبيل المثال لا تذكر شيئا عن المبدأين المنطقيين اللذين تقوم عليهما المعرفة البشرية، ولا تقف وقفة كافية عند فكرة التجانس المدبر أو الاتساق المقدر.
ولكن هذا كله لا يقلل من شأن المبادئ ولا يوهن من صلتها الوثيقة بالمونادولوجيا، سواء في طريقة التناول أو التعبير.
وتعتمد هذه الطبعة العربية لكتابي ليبنتز على طبعة روبينيه النقدية التي حققها على المخطوطات المحفوظة في مكتبات هانوفر وفيينا وباريس، وقارن بينها وزودها برسائل لم يسبق نشرها، وصدرت في باريس عن المطابع الجامعية الفرنسية سنة 1954م. وهي طبعة تمتاز على طبعة جرهات الذي لم يلتزم إلا بمخطوطات هانوفر دون الرجوع لنسخها المحفوظة في فيينا وباريس. وقد أضفنا إليها الملاحظات التي دونها ليبنتز بنفسه على المخطوطة الأصلية في مكتبة هانوفر، وأشار فيها إلى المواضع المقابلة للنصوص في كتابه عن العدل الإلهي. كما أفدنا كذلك من الترجمة الألمانية التي قام بها أرتود بوخيناو،
13
وراجعها وقدم لها الفيلسوف إرنست كاسيرر،
14
وظهرت سنة 1909م في المجلد رقم 108 من سلسلة «المكتبة الفلسفية»، ثم نشر النص الأصلي وترجمته الألمانية ونقحه وقدم له وعلق عليه الأستاذ هربرت هيرنج، وظهر في المجلد 253 لسنة 1969م من نفس السلسلة التي يصدرها الناشر فليكس مينر في مدينة هامبورج.
15
واهتدينا أخيرا في كتابة التمهيد لهذا للكتاب بالكتاب القيم الذي وضعه الأستاذ يواخيم فانيبوش عن حياة ليبنتز وفلسفته وأثره على الحضارة العالمية،
16
وأصدرته هيئة «إنترناسيونيس» في سنة 1966م بمناسبة الاحتفال بمرور مائتين وخمسين سنة على وفاة ليبنتز. وديني نحو هذا الكتاب أكبر من أن يفيه شكر أو عرفان.
أما كتاب «روبرت لاتا» الذي أشرت إليه في بداية هذا التقديم،
17
فقد استفدت منه فائدة لا تقدر، واعتمدت على ترجمته الرائعة وتعليقاته القيمة على المونادولوجيا والمبادئ. وقد استمد «لاتا» أغلب هذه التعليقات المستفيضة من كتابات ليبنتز نفسه، كما أشار في مواضع كثيرة إلى نصوص المعاصرين أو السابقين، ومراسلاته مع علماء عصره. ويرجع الفضل في الهوامش التي تجدها بين يديك، وفي عديد من الأفكار والإشارات التي تضمنتها المقدمة إلى الطبعة المثالية التي عني بها هذا العالم الإنجليزي القدير، أما مواضع الخطأ والقصور أو التقصير، فأنا وحدي المسئول عنها.
هذا وأرجو من ترجمة هذين العملين والمقدمة التي كتبت لهما والملاحظات والتعليقات والإشارات المختلفة التي وردت فيهما أن تعين القارئ العربي على دخول عالم هذا الفيلسوف، وتشجعه على المزيد من الاطلاع على تراثه، والإحاطة بجوانب مذهبه والتعاطف مع شخصيته وفكره، وتقدير أثره على تطور الفكر والحضارة الإنسانية.
المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي
(1)
الجوهر كائن قادر على الفعل. وهو بسيط أو مركب، فالجوهر البسيط هو الذي لا أجزاء له، والجوهر المركب
1
هو المجموع المؤلف من جواهر بسيطة أو مونادات. وموناس كلمة يونانية تدل على الوحدة أو على ما هو واحد. الأشياء المركبة أو الأجسام كثرة،
2
والجواهر البسيطة، والحيوانات، والنفوس، والعقول (الأرواح)
3
وحدات. ولا بد أن تكون هناك جواهر بسيطة في كل مكان؛ إذ لولا البسيطة ما وجدت المركبة. يترتب على هذا أن تكون الطبيعة كلها ممتلئة بالحياة.
4 (2)
لما كانت المونادات بلا أجزاء، فلا يمكنها أن تتولد أو تفسد،
5
ولا يمكنها أن تبدأ أو تنتهي على نحو طبيعي، ولهذا فهي تبقى ما بقي العالم الذي يقبل التغير، ولكن لا يقبل الفناء.
6
وليس من المستطاع أن تكون لها أشكال، وإلا كانت لها أجزاء.
7
يترتب على هذا أن المونادة، بما هي كذلك، وفي لحظة بعينها، لا يمكن تمييزها عن مونادة أخرى إلا عن طريق خصائصها،
8
وأفعالها الباطنة
9
التي لا تخرج عن أن تكون هي إدراكاتها (أي تمثلات المركب أو ما يوجد خارجها في البسيطة)،
10
ونزوعاتها (أي اتجاهها للانتقال من إدراك إلى آخر) التي هي مبادئ التغير؛ لأن بساطة الجوهر لا تحول ألبتة دون كثرة الأحوال المختلفة التي يجب أن توجد مجتمعة في هذا الجوهر البسيط نفسه كما يجب أن تتألف من علاقاته المتنوعة مع الأشياء الخارجية. وهذا شبيه بمركز أو نقطة يوجد بها - على الرغم من بساطتها التامة - عدد لا حصر له من الزوايا التي تتكون من الخطوط التي تتلاقى فيها.
11 (3)
كل ما في الطبيعة ملاء.
12
هناك جواهر بسيطة في كل مكان، تختلف عن بعضها البعض اختلافا فعليا عن طريق أفعال خاصة بها
13
تقوم باستمرار بتغيير علاقاتها. وكل جوهر بسيط أو مونادة متميزة تكون مركز جوهر مركب (كالحيوان مثلا) ومبدأ تفرده،
14
محاطة بكتلة مؤلفة من عدد لا نهاية له من المونادات الأخرى. هذه المونادات تكون الجسم الخاص بهذه المونادة المركزية التي تتمثل طبقا للانفعالات التي تعتريه
15 - وكأنما هي أشبه بالمركز - الأشياء الموجودة خارجها. وهذا الجسم عضوي، وإن كان يؤلف نوعا من الجهاز الآلي الذاتي الحركة،
16
أو الآلة الطبيعية التي لا تعتبر آلة من حيث هي كل فحسب، بل كذلك في أصغر أجزائها التي يمكن ملاحظتها.
17
ولما كانت كل الأشياء مرتبطة ببعضها البعض نتيجة لامتلاء العالم، وكان كل جسم يؤثر على كل جسم آخر تأثيرا يقل أو يكثر حسب مسافة البعد بينهما، كما يتأثر تبعا لذلك برد فعله، فيترتب على ذلك أن تكون كل مونادة مرآة حية قادرة على الفعل الباطن، تمثل العالم من وجهة نظرها، كما تخضع لنفس النظام الذي يخضع له،
18
والإدراكات (التي تتم في داخل) المونادة تنشأ عن بعضها البعض طبقا لقوانين النزوع أو العلل الغائية المتعلقة بالخير والشر التي تتكون من الإدراكات الملحوظة منظمة كانت أو غير منظمة، كما تنشأ التغيرات التي تلحق الأجسام والظواهر الخارجية وفقا لقوانين العلل الفاعلة أي لقوانين الحركة.
19
وهكذا يوجد اتساق كامل بين إدراكات المونادة وحركات الأجسام، وهو اتساق سبق تقديره منذ البدء بين نظام العلل الفاعلة ونظام العلل الغائية، وفي هذا يكمن التطابق والاتحاد الطبيعي بين النفس والجسم، بغير أن يقدر أحدهما على تغيير قوانين الآخر.
20 (4)
تؤلف كل مونادة ذات جسم خاص بها جوهرا حيا. ولهذا لا توجد فحسب حياة في كل مكان، متصلة
21
بأعضاء أو أدوات، بل إن هناك درجات لا نهاية لها بين المونادات؛ إذ إن بعضها يتحكم قليلا أو كثيرا في بعضها الآخر. فإذا توافرت للمونادة أعضاء جعلت،
22
بحيث تحتوي الانطباعات التي تستقبلها، كما تحتوي تبعا لذلك الإدراكات التي تمثلها (أي تمثل هذه الانطباعات) على فروق بارزة ومتميزة (على نحو ما نجد ذلك عندما نلاحظ أن شكل السوائل في العينين يساعد أشعة الضوء على التركيز وقوة التأثير)، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى الإحساس؛
23
أي إلى إدراك مصحوب بالتذكر، يتبقى منه صدى معين لفترة طويلة، حتى تأتي المناسبة التي تتيح له أن يسمع. مثل هذا الكائن الحي يسمى حيوانا، كما تسمى مونادته نفسا. وعندما ترتفع هذه النفس إلى مستوى العقل، تصبح شيئا أكثر سموا وتعد روحا من الأرواح،
24
كما سأبين ذلك بعد قليل.
بيد أن الحيوانات توجد أحيانا في حالة الكائنات الحية البسيطة، كما توجد نفوسها في حالة المونادات البسيطة،
25
ويتفق لها هذا حين لا تبلغ إدراكاتها درجة من التميز
26
تكفي لتذكرها، كما يحدث في نوم عميق خال من الأحلام أو في حالة الإغماء، ولكن أمثال هذه الإدراكات التي بلغت الغاية من الاختلاط لا بد أن تتضح ثانية في الحيوانات،
27
وذلك للأسباب التي سأعرضها بعد قليل (في الفقرة 12). ولهذا فإن من الخير التمييز بين الإدراك،
28
أو الحالة الداخلية للمونادة التي تتمثل بها الأشياء الخارجية، وبين الوعي، وهو الشعور الذاتي أو المعرفة المتأملة،
29
لهذه الحالة الداخلية، وهو ما لا يتاح لجميع النفوس، ولا لنفس واحدة في كل الأوقات، وقد كان إغفال هذه التفرقة هو الخطأ الذي وقع فيه الديكارتيون الذين تجاهلوا وجود الإدراكات التي لا تكون مصحوبة بالشعور،
30
على نحو ما يفعل عامة الناس عندما يسقطون من حسابهم الأجسام التي لا يدركونها إدراكا حسيا. وهذا هو الذي حمل الديكارتيين أيضا على الاعتقاد بأن العقول وحدها مونادات، وأن النفوس الحيوانية، ناهيك عن المبادئ الأخرى للحياة، لا وجود لها على الإطلاق.
31
وكما صدموا الرأي العام صدمة شديدة بنفيهم الإحساس عن الحيوانات، فقد تعاطفوا
32
على العكس من ذلك مع الأحكام المسبقة التي يرددها العامة تعاطفا شديدا عندما خلطوا بين الإغماء الطويل، الذي يأتي من اضطراب الإدراكات واختلاطها، وبين الموت بمعناه الدقيق،
33
الذي يتوقف معه كل إدراك.
وبهذا أيدوا الرأي الهاوي،
34
الذي ذهب به أصحابه إلى فناء
35
بعض النفوس، كما دعموا الزعم الفاسد، الذي قال به بعض ذوي العقول من الأدعياء،
36
الذين حاربوا خلود نفوسنا البشرية.
37 (5)
توجد بين إدراكات الحيوانات علاقة ارتباط تشبه من بعض الوجوه الاستنتاج العقلي (أو العقل)، ولكن هذه العلاقة لا تقوم إلا على تذكر الوقائع أو النتائج، لا على المعرفة بالعلل (أو الأسباب). ولهذا يهرب الكلب من العصا التي ضرب بها؛ لأن الذاكرة تصور له الألم الذي سببته له هذه العصا. وبقدر ما يتصرف الناس تصرفا تجريبيا؛ أي في ثلاثة أرباع أفعالهم، فهم لا يتصرفون إلا كما تتصرف الحيوانات،
38
ولهذا نتوقع مثلا أن يطلع النهار في الغد؛ لأن الناس قد جربت ذلك دائما، أما الفلكي فإنه يتنبأ به على أسس عقلية. غير أن هذا التنبؤ نفسه سيخيب في نهاية الأمر، عندما تبطل
39
علة النهار التي ليست خالدة على الإطلاق.
ولكن الاستنتاج العقلي الصحيح يعتمد على الحقائق الضرورية أو الأبدية (الخالدة)، مثل حقائق المنطق والحساب والهندسة التي تؤلف بين الأفكار برباط لا يتطرق إليه الشك، كما تؤدي إلى نتائج لازمة لا تتخلف. والكائنات الحية التي لا تلاحظ لديها هذه النتائج تسمى حيوانات، أما الكائنات الحية التي تعرف هذه الحقائق الضرورية، فهي التي تستحق أن تسمى حيوانات عاقلة، كما تسمى نفوسها عقولا. هذه النفوس قادرة على التأمل، قدرتها على اعتبار
40
ما يسمى بالأنا، والجوهر، والنفس، والعقل، أي باختصار الأشياء والحقائق اللامادية. وهذا هو الذي يمكننا من تحصيل العلوم والمعارف البرهانية.
41 (6)
لقد علمتنا بحوث المحدثين، ويؤيدها العقل في ذلك، أن الكائنات الحية التي نعرف أعضاءها؛
42
أي النباتات والحيوانات، لا تنشأ عن عملية تعفن أو عن عماء، كما تصور ذلك القدماء، وإنما تنشأ عن بذور سبق تشكلها من قبل، ولهذا فهي لا تعدو أن تكون تحولات لكائنات حية سبقتها في الوجود. وفي بذور الحيوانات الكبيرة حيوانات صغيرة تكتسي عن طريق الحمل ثوبا جديدا
43
تتملكه،
44
وتتخذ منه وسيلة تمكنها من التغذي والنمو لكي تنتقل إلى مسرح أوسع، وتعمل على تكاثر الحيوان الكبير.
45
والحق أن نفوس الحيوانات البذرية (المنوية) البشرية غير حائزة على العقل ، وإنما تصبح عاقلة عندما يطبع الحمل هذه الحيوانات بالطبيعة البشرية. وكما أن الحيوانات بوجه عام لا تنشأ أبدا نشأة تامة مع الحمل أو الإنجاب،
46
فإنها لا تفسد فسادا تاما فيما نسميه بالموت؛ لأن العقل يقول لنا إن ما لا يبدأ بداية طبيعية لا يمكن بالثمل أن ينتهي نهاية طبيعية في إطار النظام الطبيعي.
وهكذا فإنها عندما تخلع قناعها أو غشاءها،
47
إنما ترجع إلى مسرح أصغر، حيث يمكنها أن تكون قادرة على الإحساس ومنظمة تنظيما حسنا كما كانت في المسرح الأكبر
48
سواء بسواء. وما قلناه منذ قليل عن الحيوانات الكبيرة، يصدق بالمثل على تولد وموت الحيوانات البذرية نفسها؛ أي إنها تنشأ عن نمو حيوانات بذرية أخرى أصغر منها تعد هي كبيرة بالقياس إليها؛ لأن كل شيء في الطبيعة يمتد إلى ما لا نهاية.
هكذا نجد أن النفوس والحيوانات كليهما لا يقبل التولد ولا الفساد، وإنما هي تنشر، وتطوي، وتكتسي ثوبا، وتخلع الثوب، وتتحول (أشكالا). إن النفوس لا تنفصل أبدا تمام الانفصال عن أجسامها،
49
ولا تنتقل من جسم إلى جسم آخر جديد عليها كل الجدة. وإذن فلا وجود لتناسخ الأرواح، بل هناك تحول أو انسلاخ.
50
إن الحيوانات لا تغير إلا بعض أجزائها، تأخذ هذه وتتخلى عن ذلك،
51
وما يتم مع التغذي شيئا وفي جزئيات صغيرة غير محسوسة، ولكن بصورة دائمة، يظهر فجأة وبصورة ملحوظة - وإن تكن نادرة - مع الحمل والموت اللذين يجعلان الحيوانات تكسب الكثير أو تفقد الكثير دفعة واحدة. (7)
لم نتكلم حتى الآن إلا بوصفنا فيزيقيين،
52
وينبغي علينا الآن أن نرتفع إلى مستوى الميتافيزيقا؛ بحيث نستخدم المبدأ الهام الذي قلما طبق بوجه عام، وهو المبدأ الذي يقول إنه ما من شيء يحدث بغير سبب كاف؛ أي إنه ما من شيء يتم وقوعه بغير أن يكون في إمكان من يعرف الأشياء معرفة كافية أن يقدم سببا يكفي لتحديد علة وقوعه على هذا النحو لا على نحو آخر. فإذا وضع هذا المبدأ كان أول سؤال يحق لنا أن نطرحه هو هذا السؤال: لم كان وجود (شيء ما) ولم يكن بالأحرى عدم؛ ذلك لأن العدم أبسط وأيسر من أي شيء. وإذا افترضنا ضرورة وجود أشياء، فقد لزمنا أن نكون قادرين على تقديم سبب يبين لماذا يتحتم أن توجد على هذه الصورة لا على صورة أخرى.
53 (8)
بيد أن هذا السبب الكافي لوجود العالم لا يمكن العثور عليه داخل سلسلة الأشياء الحادثة؛ أي الأجسام وتمثلاتها في النفوس؛ إذ لما كانت المادة بما هي كذلك تقف من الحركة والسكون ومن حركة معينة بذاتها موقف عدم المبالاة، فلا يمكن أن نجد فيها سبب الحركة بوجه عام، ناهيك عن سبب حركة معينة. ومع أن الحركة الحاضرة الموجودة في المادة تنشأ عن الحركة السابقة عليها، كما أن هذه تنشأ عن أخرى سابقة، فإننا لن نتقدم خطوة واحدة مهما شاء لنا التمادي في الرجوع إلى الوراء؛ لأن السؤال نفسه سيظل مطروحا على الدوام. يلزم عن هذا أن السبب الكافي، الذي لا يحتاج إلى سبب آخر سواه، يجب أن يقع خارج سلسلة الأشياء الحادثة، وأن يوجد في جوهر يكون علة هذه السلسلة كما يكون كائنا ضروريا يحمل في ذاته سبب وجوده؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما وجدنا سببا كافيا يمكننا أن نقف عنده. وهذا السبب الأخير للأشياء يسمى الله.
54 (9)
ينبغي لهذا الجوهر الأول البسيط،
55
أن يحتوي على أقصى قدر ممكن من كل الكمالات المتضمنة في الجواهر المشتقة،
56
الناتجة عنه. ولهذا فسيكون كامل القوة والمعرفة والإرادة؛ أي سيكون مطلق القدرة، شامل العلم، واسع الرحمة.
57
ولما كانت العدالة بأعم معانيها لا تخرج عن أن تكون هي الخيرية المطابقة للحكمة، فلا بد أيضا من أن يوصف الله بالعدالة في أسمى صورها. والسبب الذي جعل الأشياء تستمد منه
58
وجودها، هو كذلك الذي يجعلها تعتمد عليه في استمرار وجودها وسائر أفعالها، وتتلقى منه على الدوام كل ما يضفي عليها نوعا من الكمال، أما ما يبقى فيها من أوجه النقص، فيرجع إلى ما فطرت عليه المخلوقات من قصور
59
أساسي متأصل فيها.
60 (10)
يلزم عن الكمال الأقصى لله أنه عندما أبدع العالم قد اختار أصلح خطة ممكنة يتحد فيها أعظم قدر من التنوع مع أعظم قدر من النظام؛ حيث ينتفع
61
بالأرض، والمكان، والزمان على خير وجه، وتحقق أعظم النتائج بأبسط الوسائل، وحيث زودت المخلوقات من القوة والمعرفة والسعادة والخير بأعظم قدر يمكن أن يسمح به العالم.
62
ولما كانت جميع الممكنات التي في ذهن الله تطمح للوجود على قدر كمالها، فيلزم أن تكون النتيجة المترتبة على جميع هذه المطامح هي العالم الواقعي بوصفه أكمل العوالم الممكنة. وبغير هذا لن يتسنى إيجاد سبب يبرر سير الأمور على هذا النحو دون غيره.
63 (11)
لقد اقتضت حكمة الله السامية
64
أن يختار أنسب قوانين الحركة وأكثرها ملاءمة للأسباب المجردة أو الأسباب الميتافيزيقية (ويفضل هذه القوانين). تبقى كمية القوة الكلية والمطلقة أو كمية الفعل ثابتة على الدوام، وتبقى نفس كمية القوة المتبادلة،
65
أو كمية رد الفعل، كما تبقى أخيرا نفس كمية قوة الاتجاه ثابتة على ما هي عليه. وفضلا عن هذا، فإن الفعل يساوي دائما رد الفعل، كما أن النتيجة الإجمالية تعادل على الدوام سببها الحقيقي برمته. ومما يدعو للعجب أن الاقتصار على النظر في العلل الفاعلة أو المادة يجعل الإنسان عاجزا عن إثبات قوانين الحركة هذه التي اكتشفت في أيامنا وكنت أنا نفسي من بين الذين أسهموا في الكشف عن بعضها. فقد وجدت من الضروري اللجوء إلى العلل الغائية، (كما وجدت) إن هذه القوانين لا تعتمد على مبدأ الضرورة كالحقائق المنطقية والحسابية والهندسية، بل تعتمد على مبدأ الملاءمة؛
66
أي على الاختيار الذي تم بفضل الحكمة (الإلهية). وهذا من أقوى الأدلة على وجود الله، وأولاها بالعناية والتدبر من كل من يسعهم التعمق في هذه الأمور.
67 (12)
ويلزم عن كمال المبدع الأعظم أن لا يكون نظام العالم هو أكمل نظام ممكن فحسب، بل يلزم عنه كذلك أن كل مرآة حية تصور العالم من وجهة نظرها؛ أي إن كل مونادة أو كل مركز جوهري لا بد أن تكون إدراكاته ومنازعه منظمة على أفضل وجه، بحيث تتوافق مع سائر الأشياء في مجموعها. ثم يلزم عن هذا أيضا أن النفوس؛ أي المونادات المتفوقة على كل ما عداها (من المونادات)، بل الحيوانات نفسها. لا بد أن تصحو ثانية من حالة الغيبوبة التي يمكن أن يضعها فيها الموت أو أي حادث آخر. (13)
لأن جميع الأشياء قد سويت مرة واحدة وإلى الأبد على أكبر قدر ممكن من النظام والتوافق،
68
إذ إن الحكمة والرحمة
69
السامية لا يمكن أن تتصرف إلا بمقتضى التجانس
70
الكامل، إن الحاضر يحمل المستقبل في أحشائه، والمستقبل يمكن أن يقرأ من صفحات الماضي، والبعيد يعبر عنه في القريب. وفي استطاعتنا أن نتبين جمال العالم في كل نفس، لو أمكننا أن ننشر كل طياتها التي لا تنبسط بشكل ملحوظ إلا بمرور الزمن، ولكن لما كان كل إدراك متميز للنفس يحتوي على عدد لا حصر له من الإدراكات المختلطة التي تحيط بالعالم كله، فإن النفس ذاتها لا تعرف الأشياء التي تدركها إلا بقدر ما تكون هذه الإدراكات واضحة متميزة، ويقاس كمالها (أي النفس) بحسب إدراكاتها الواضحة. إن كل نفس اللا متناهي، تعرف كل شيء، ولكنها بطبيعة الحال تعرفه على نحو غامض، كما يحدث لي مثلا عندما أسير في نزهة على شاطئ البحر، وأسمع هديره الصاخب، فإني أسمع في نفس الوقت أصواتا مفردة من كل موجة على حدة تؤلف مع غيرها من الأصوات الهدير العام للبحر، وذلك دون أن أقدر على تمييز بعضها عن بعضها الآخر. إن إدراكاتنا الغامضة إنما هي نتيجة الانطباعات التي يتركها فينا العالم بأكمله، وكذلك الشأن مع كل مونادة.
71
والله وحده هو الذي يملك المعرفة الواضحة بكل شيء ؛ لأنه هو مصدر كل شيء. وقد قيل بحق إن مركزه يقع في كل مكان، أما محيط دائرته فليس موجودا في أي مكان؛ إذ إن كل شيء بالنسبة إليه حاضر حضورا مباشرا، دون أدنى بعد عن هذا المركز. (14)
أما عن النفس العاقلة أو العقل، فإن فيه شيئا يزيد عما في المونادات أو في النفوس البسيطة نفسها.
72
فليس مجرد مرآة لعالم المخلوقات، بل هو كذلك صورة من الألوهية. إن العقل لا يقتصر على إدراك أعمال الله، بل إنه لقادر على إبداع شيء شبيه بها، وإن يكن ذلك في نطاق أصغر؛ لأنه بغض النظر عن عجائب الأحلام التي نخترع فيها بلا عناء (ولكن بغير قصد منا أيضا) أشياء يتحتم علينا أن نتفكر فيها طويلا إذا أردنا أن نجدها بعد اليقظة، فإن نفوسنا تجري في أفعالها الإرادية أيضا على طريقة المهندسين،
73
وهي حين تكتشف العلوم التي سوى الله الأشياء بمقتضاها (طبقا للوزن، والمقياس، والعدد ... إلخ)
74
فإنما تحاكي - في مجالها وفي عالمها الصغير الذي أتيح لها التصرف في حدوده - ما يقوم به الله في العالم الكبير من أفعال.
75 (15)
لهذا فإن جميع الأرواح، سواء كانت بشرا أو أرواحا خالصة،
76
تدخل بفضل العقل والحقائق الأبدية مع الله في جماعة من نوع ما، وتشارك كأعضاء في مدينة الله؛ أي في أكمل دولة أسسها ويدبر أمورها أعظم الحكام وأصلحهم. وليس في هذه الدولة جريمة بغير عقاب، ولا فعل طيب بغير ثواب مكافئ له، وعلى الجملة أقصى ما يمكن تصوره من الفضيلة والسعادة. ولا يتحقق هذا بإخراج الطبيعة عن نظامها الطبيعي،
77
وكأن ما يهيئه الله للنفوس يعطل
78
قوانين الأجسام، وإنما يتم وفقا لنظام الأشياء الطبيعية ذاتها، بفضل الاتساق المقدر منذ الأزل بين مملكة الطبيعة ومملكة الفضل الإلهي، بين الله بوصفه المهندس والله بوصفه الحاكم؛ بحيث تؤدي الطبيعة نفسها إلى الفضل الإلهي، كما يحقق الفضل الإلهي كمال الطبيعة باستخدامه لها.
79 (16)
وعلى الرغم من أن العقل يعجز عن إفادتنا بشيء عن دقائق المستقبل البعيد،
80
الذي ادخر العلم به للوحي، فإننا نستطيع مع ذلك أن نتأكد عن طريق هذا العقل نفسه من أن الأشياء قد خلقت على نحو يفوق كل أمانينا. ولما كان الله، وهو أكمل الجواهر وأسعدها، هو كذلك أجدرها بالحب، وكان الحي النقي الصادق
81
يقوم على الفرح بما يصيب المحبوب من أسباب الكمال والسعادة، فإن هذا الحب عندما ينصب على الله، خليق بأن يتيح لنا أكبر قدر من البهجة يسعنا التنعم به. (17)
ومن السهل علينا أن نحبه الحب الذي هو جدير به، لو عرفناه على النحو الذي ذكرته.
82
فعلى الرغم من أن الله يستعصي على إدراك حواسنا الخارجية، فإنه مع ذلك محبوب غاية الحب، ويمنحنا أسمى آيات الفرح. إننا نلاحظ مقدار ما تدخله أسباب التكريم
83
من البهجة على قلوب الناس، حتى ولو لم تكن لها خصائص الأشياء التي يمكن إدراكها إدراكا خارجيا. إن الشهداء والمتعصبين (وإن كانت عاطفة هؤلاء عاطفة منحرفة غير سوية) شواهد تدل على ما يمكن أن تصنعه البهجة العقلية، وأهم من هذا أن المباهج الحسية نفسها يرجع إلى مباهج عقلية لم تعرف معرفة واضحة.
84
إن الموسيقى تسحر أفئدتنا، وإن كان جمالها لا يقوم إلا على تناسب
85
الأعداد والعد الذي لا تشعر به شعورا واعيا، ومع ذلك فإن النفس تقدره على أساس الضربات والذبذبات المنبعثة من الأجسام الرنانة التي تتلاقى
86
في فواصل زمنية معينة. والبهجة التي تجدها العين في النسب هي من نفس هذا النوع، كما أن مباهج الحواس الأخرى ترجع إلى أمور مشابهة، وإن كنا لا نملك أن نفسرها تفسيرا واضحا.
87 (18)
نستطيع بالمثل أن نقول إن محبة الله تتيح لنا من الآن الاستمتاع بمذاق أولي للسعادة المقبلة،
88
ومع أنها
89
منزهة عن الغرض، فإنها تحقق بذاتها أعظم خير وأكبر نفع لنا، حتى ولو لم نسع إليها، ولم نضع في الاعتبار إلا الفرح الذي تمنحنا إياه، دون التفات للمنفعة التي تنتج عنها. ذلك أنها تبث فينا الثقة الكاملة في رحمة
90
خالقنا ومولانا، وهذه الثقة تبعث على الطمأنينة الروحية الحقة، التي لا تصدر عن تصبر
91
مفروض على النفس، كما هو الحال عند الرواقيين، بل عن شعور مباشر بالرضا والقناعة، يجعلنا على يقين من سعادة مقبلة.
92
وبجانب هذه البهجة المباشرة التي تتيحها فليس هناك شيء أنفع للمستقبل من محبة الله؛ لأنها تحيي كذلك آمالنا، وتقود خطانا على طريق السعادة القصوى. فقد خلق كل شيء، بفضل النظام الكامل القائم في العالم، على أحسن وجه ممكن، سواء بالنظر إلى الصالح العام، أو بالنظر إلى المصلحة العظمى التي تعود على المقتنعين به، الراضين عن الحكومة الإلهية. هذا الاقتناع والرضا لن يعوز أولئك الذين يعرفون كيف يحبون منبع كل خير.
صحيح أن السعادة القصوى (أيا كانت الرؤية المباركة أو معرفة الله التي تصحبها) لا يمكن أن تتحقق تحققا تاما؛ لأن الله، وهو غير متناه، لن يتسنى معرفته معرفة كاملة.
ومن ثم فلن تقوم سعادتنا ولا ينبغي لها أن تقوم على الاستمتاع الكامل، الذي لن يدع مجالا للتمني، وسيصيب عقولنا بالتبلد، بل يجب أن تقوم على التقدم المتصل نحو أفراح جديدة، وألوان جديدة من الكمال.
المونادولوجيا
(1)
ليست المونادة، التي سنتحدث عنها هنا، سوى جوهر بسيط، يدخل في تكوين المركب، والبسيط معناه ما لا أجزاء له. (قارن التيوديسية 10).
1 (2)
ويجب أن تكون هناك جواهر بسيطة، ما دامت هناك جواهر مركبة؛ إذ ليس المركب إلا كومة أو مجموعة مؤلفة من بسائط.
2 (3)
وحيث لا تكون أجزاء،
3
لا يمكن أن يكون ثمة امتداد، ولا شكل، ولا انقسام. وهذه المونادات هي الذرات الحقة (التي تتكون منها) الطبيعة، وهي على الجملة عناصر الأشياء. (4)
كذلك ليس هناك ما يدعو للخوف من تحللها، ولا سبيل على الإطلاق لتصور فساد الجوهر البسيط فسادا طبيعيا. (5)
ولهذا السبب نفسه لا يمكن أن نتصور نشوء الجوهر البسيط على نحو طبيعي؛ إذ إنه لا يمكن أن يتكون عن طريق التركيب.
4 (6)
وهكذا يمكن القول بأن المونادات لا تنشأ أو تفسد إلا بضربة واحدة؛ أي إنها لا تنشأ إلا بالخلق، ولا تفسد إلا بالإفناء،
5
أما المركب فينشأ من أجزاء ويفسد في أجزاء.
6 (7)
ولا سبيل كذلك إلى تفسير إمكان تأثر المونادة أو تغيرها من داخلها عن طريق أي مخلوق آخر،
7
إذ يستحيل أن ينقل إليها شيء أو أن تتصور فيها أية حركة باطنة، يمكن أن تثار أو توجه أو تزيد أو تنقص؛ وذلك على خلاف الأشياء المركبة،
8
التي نجد فيها تغيرا في علاقة الأجزاء بعضها ببعض. ليس للمونادات نوافذ يمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء، أو يخرج منها. إن الأعراض لا يمكنها أن تنفصل عن الجواهر، ولا أن تتجول خارجها، كما كانت تفعل الصور الحسية
9
عند المدرسيين. وهكذا يستحيل على الجوهر والعرض أن ينفذا إلى المونادة من الخارج. (8)
ومع ذلك فيجب أن تشتمل المونادات على بعض الخصائص، وبغير هذا لا يتسنى لها أن تصبح كائنات على الإطلاق،
10
وإذا لم تتفاوت الجواهر البسيطة عن طريق خصائصها المميزة،
11
فلن تكون هناك وسيلة للتحقق من أي تغير يلحق الأشياء؛ لأن ما يوجد في المركب لا يمكن أن يأتي إلا من عناصره البسيطة. فلو كانت المونادات بغير خصائص، وكانت بالتالي غير متميزة عن بعضها البعض - إذ إنها لا تختلف أيضا عن بعضها من ناحية الكم - لترتب على هذا، مع افتراض الملاء
12
إلا يتقبل كل مكان
13
في أثناء الحركة غير محتوى واحد مكافئ للمحتوى الذي كان يشغله من قبل، بهذا يتعذر تعذرا تاما تمييز حالة تكون عليها الأشياء عن حالة أخرى (راجع التيوديسية، المقدمة، 2ب). (9)
يتحتم أن تكون كل مونادة مختلفة عن الأخرى. إذ يستحيل أن يوجد في الطبيعة كائنان متشابهان تشابها كاملا، بحيث يتعذر ألا نعثر فيهما على خلاف قائم على خاصية باطنة.
14 (10)
لا نزاع عندي أيضا
15
في أن كل كائن مخلوق عرضة للتغير، وبالتالي تكون المونادة المخلوقة كذلك، كما أن هذا التغير يتم باستمرار في كل مونادة. (11)
يتبين مما سبق أن التغيرات الطبيعية
16
في المونادات تصدر عن مبدأ داخلي؛ إذ يستحيل على علة خارجية أن تؤثر على داخلها (قارن التيوديسية 396، 400). (12)
بجانب مبدأ التغير يجب أيضا أن يكون هناك طابع خاص لما يتغير،
17
بحيث يكون على نوعية الجواهر البسيطة وتنوعها. (13)
هذا الطابع الخاص ينطوي بالضرورة على كثرة في الوحدة أو في البسيط. فلما كان كل تغير طبيعي يتم بالتدريج، كان من الضروري أن تتغير بعض الأشياء، ويبقى بعضها دون تغيير.
18
يلزم عن هذا أن توجد في الجوهر البسيط كثرة من الخصائص والعلاقات، على الرغم من أنه لا يتكون من أجزاء. (14)
والحالة العابرة التي تضم كثرة في الوحدة أو في الجوهر البسيط وتمثلها ليست إلا ما يسمى بالإدراك. ويجب التفرقة بينه وبين الوعي أو الشعور،
19
كما سيتضح مما يرد فيما بعد. وقد أخطأ الديكارتيون في هذه المسألة خطأ كبيرا؛ إذ أهملوا الإدراكات التي لا يشعر بها الإنسان إهمالا تاما.
20
وهذا هو الذي أدى بهم أيضا إلى الاعتقاد بأن العقول وحدها مونادات، وأنه لا وجود لنفوس الحيوانات ولا لغيرها من الأنتليخيات.
21
وهو الذي جعلهم يخلطون بين الإغماء الطويل وبين الموت بمعناه الدقيق، متفقين في ذلك مع الرأي الشائع لدى العامة، كما جعلهم كذلك يقعون في الدعوة التي ادعاها المدرسيون على غير أساس من وجود نفوس مجردة كل التجرد من الأجسام. بل إنهم بذلك قد أيدوا رأي أصحاب العقول الضالة فيما زعموه عن فناء النفوس.
22 (15)
والفعل الذي يصدر عن المبدأ الباطن ويسبب التغير أو الانتقال من إدراك إلى آخر يمكن أن يسمى بالنزوع.
23
صحيح أن النزوع لا يمكنه على الدوام أن يبلغ الإدراك الذي يتوق لبلوغه على نحو تام، ولكنه يحصل دائما على شيء منه، ويبلغ بذلك إدراكات جديدة. (16)
ونحن نجرب بأنفسنا الكثرة في الجوهر البسيط عندما نجد أن أقل فكرة ندركها تنطوي على تنوع في الموضوع (المتصور).
24
وعلى هذا ينبغي على كل من يعترف بأن النفس جوهر بسيط أن يسلم بوجود هذه الكثرة في المونادة، وما كان للسيد بايل أن يجد في هذا أية صعوبة، كما فعل في قاموسه تحت مادة «روراديوس».
25 (17)
ولا بد أيضا من الاعتراف بأن الإدراك وما يتوقف عليه لا يمكن تفسيره بأسباب (أو علل) آلية؛ أي عن طريق الأشكال والحركات. ولو تصورنا وجود آلة صنعت، بحيث يمكنها أن تفكر، وتحس، وتدرك، فإن في الإمكان تصورها مكبرة بنفس النسب، بحيث يكون في وسع الإنسان أن يدخل فيها كما يدخل في طاحونة.
26
لو افترضنا هذا لما وجدنا فيها عند مشاهدتها من الداخل غير أجزاء تتصادم مع بعضها البعض، ولن نجد فيها شيئا يمكن أن يفسر لنا إدراكا واحدا. وعلى هذا ينبغي البحث عن هذا الإدراك في الجوهر البسيط لا في المركب ولا في الآلة.
27
كذلك لن نجد في الجوهر البسيط غير الإدراكات وما ينجم عنها من تغيرات. ومن هذه وحدها يمكن أن تتكون كل الأفعال الباطنة (الداخلية) للجواهر البسيطة.
28 (18)
يمكن تسمية جميع الجواهر البسيطة، أو المونادات المخلوقة، بالأنتليخيات؛ لأنها تحتوي في ذاتها على كمال معين (
έxουσι τό εύτελές ).
29
إنها تنطوي على نوع من الاكتفاء الذاتي
αύτάρxεια
30
يجعلها مصدر أفعالها الداخلية كما يجعل منها، إن جاز هذا التعبير، آليات غير جسمية
31 (قارن التيوديسية، 87). (19)
إذا أردنا أن نطلق كلمة النفس على كل ما لديه إدراكات ونزوع بالمعنى العام الذي شرحته آنفا، فمن الممكن عندئذ تسمية جميع الجواهر البسيطة أو المونادات المخلوقة نفوسا، ولكن لما كان الإحساس شيئا يزيد على الإدراك البسيط، فقد يكفي أن نطلق على الجواهر البسيطة التي لا تحتوي على شيء آخر سواه اسم «المونادات» أو «الأنتيليخات» بوجه عام، أما تسمية «النفس»، فيصح أن نقصرها على المونادات التي يكون الإدراك فيها أكثر تميزا كما يكون مصحوبا بالتذكر.
32 (20)
ذلك أننا نجرب في أنفسنا حالة لا نتذكر معها أي شيء، ولا يكون لدينا في أثنائها أي إدراك متميز، مثلما يحدث لنا في حالة الإغماء أو الاستغراق في نوم عميق بلا أحلام. في هذه الحالة لا تختلف النفس اختلافا محسوسا عن المونادة البسيطة،
33
ولكن لما كانت هذه الحالة لا تدوم ولا تلبث النفس أن تخرج منها؛ فإنها (أي النفس) شيء يزيد عن ذلك (أي عن مجرد كونها مونادة) (راجع التيوديسية، 64). (21)
ولا يترتب على هذا أن الجوهر البسيط يخلو عندئذ من كل إدراك. إن ذلك تبعا للأسباب السابقة أمر غير ممكن؛ لأنه لا يمكن أن يفسد، ولا يمكنه أيضا أن يبقى بغير تأثر من نوع ما، وليس هذا التأثر سوى إدراكه. أما إذا توافر وجود عدد كبير من الإدراكات الصغيرة التي لا يتميز شيء منها تميزا واضحا، فإن الإنسان يشعر (في هذه الحالة) بالدوار، كما يحدث له لو دار حول نفسه عدة مرات في اتجاه واحد، فيصاب بإغماء قد يفقده الوعي، ويجعله عاجزا عن التمييز.
34
والموت يمكن أن يضع الحيوانات في مثل هذه الحالة فترة من الزمن.
35 (22)
ولما كانت الحالة الحاضرة للجوهر البسيط هي النتيجة الطبيعية لحالته السابقة؛ بحيث إن الحاضر يحمل المستقبل في رحمه
36 (قارن التيوديسية 360). (23)
ولما كان الإنسان يفطن إلى
37
إدراكه بمجرد أن يفيق من الإغماء فلا بد أن مثل هذا الإدراك قد وجد لديه قبل ذلك مباشرة، وإن لم يكن عندئذ على وعي به؛ لأن الإدراك لا يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية إلا عن إدراك آخر، شأنه في هذا شأن الحركة التي لا يمكن أن تنشأ نشأة طبيعية إلا عن حركة
38 (قارن التيوديسية 401-403). (24)
نتبين من هذا أننا سنكون دائما في حالة الإغماء إذا خلت إدراكاتنا من التميز،
39
والتطلع إلى مرتبة أسمى. والواقع أن هذه هي حالة المونادات المتناهية في البساطة. (25)
كذلك نرى أن الطبيعة قد أعطت للحيوانات إدراكات متميزة عندما نتبين أنها قد كفلت لها أعضاء تجمع عددا كبيرا من الأشعة أو الذبذبات الهوائية؛ لكي تجعلها بهذا التوحيد أكثر فاعلية. وشبيه بهذا ما يحدث عند الشم والذوق واللمس، ولعله أن يكون شبيها بما يحدث مع عدد آخر من الإحساسات التي نجهلها. وسوف أفسر بعد قليل
40
كيف تصور الأحداث التي تجري في النفس ما يتم في الأعضاء. (26)
إن الذاكرة تمد النفوس بنوع من الاستنتاج،
41
الذي يحاكي العقل وإن وجب تمييزه عنه. فنحن نرى الحيوانات إذا أدركت شيئا ذا أثر بالغ عليها، وكانت قد أدركته قبل ذلك إدراكا مشابها، نراها بفضل الذاكرة تتوقع ما ارتبط من قبل بهذا الإدراك وتحس بمشاعر شبيهة بتلك التي أحست بها. فإذا لوحنا مثلا بالعصا للكلاب تذكرت الألم الذي سببته لها، وأخذت تنبح ولاذت بالفرار (قارن التيوديسية، المقدمة، 65). (27)
والتصور الحسي القوي الذي يثيرها ويحركها إما أن يأتي من حجم الإدراكات السابقة أو من عددها؛ لأن الانطباع القوي غالبا ما يؤدي دفعة واحدة إلى نفس الأثر الذي تؤدي إليه عادة طويلة،
42
أو إدراكات كثيرة متكررة ومتوسطة القوة.
43 (28)
ويسلك الناس سلوك الحيوانات حين لا تتم الاستنتاجات من إدراكاتهم إلا عن طريق مبدأ الذاكرة، وهم في هذا يشبهون الأطباء التجريبيين،
44
الذين يملكون القدرة على الممارسة العملية البسيطة، ويفتقرون إلى النظرية. ونحن في ثلاثة أرباع تصرفاتنا لا تزيد عن كوننا تجريبيين. فإذا توقعنا مثلا أن يطلع النهار في صباح الغد، كنا في مسلكنا هذا تجريبيين؛ لأن هذا هو الذي حدث حتى الآن. أما عالم الفلك فهو وحده الذي يحكم العقل في هذا الأمر.
45 (29)
بيد أن المعرفة بالحقائق الضرورية والأبدية هي التي تميزنا عن الحيوانات الخالصة، وبها نحصل على العقل ونتزود بالعلوم، وذلك حين ترفعنا إلى المعرفة بأنفسنا وبالله.
46
وهذا هو ما يسمى فينا بالنفس العاقلة أو العقل.
47 (30)
وعن طريق المعرفة بالحقائق الضرورية، ومن خلال تجريداتها نرتفع كذلك إلى الأفعال المنعكسة
48 (التأملية) التي توصلنا إلى فكرة الأنا،
49
وتجعلنا نعتبر أن هذا أو ذاك موجود فينا. فنحن إذ نفكر على هذا النحو في أنفسنا، نوجه أفكارنا في نفس الوقت إلى الوجود والجوهر، والبسيط والمركب، واللامادي والله نفسه، حيث نتصور أن ما هو محدود فينا يوجد فيه بغير حدود. هذه الأفعال المنعكسة (أو التأملية) تمثل الموضوعات الأساسية لمعرفتنا العقلية (قارن التيوديسية، الافتتاحية 4أ).
50 (31)
تقوم معرفتنا العقلية على مبدأين كبيرين؛ مبدأ عدم التناقض، وبفضله نحكم بالكذب على كل ما ينطوي على تناقض، وبالصدق على ما يضاد الكذب أو يناقضه (قارن التيوديسية 44 و169). (32)
كما تقوم على مبدأ السبب الكافي، وبه نسلم بأنه لا يمكن التثبت من صدق واقعة أو وجودها، ولا التثبت من صحة عبارة بغير أن يكون ثمة سبب كاف يجعلها على هذا النحو دون غيره،
51
وإن تعذر علينا في أغلب الأحوال أن نتوصل إلى معرفة هذه الأسباب (قارن التيوديسية 44 و196). (33)
هناك نوعان من الحقائق؛ حقائق العقل وحقائق الواقع. حقائق العقل ضرورية، وعكسها مستحيل، وحقائق الواقع عرضية، وعكسها ممكن. فإذا كانت إحدى الحقائق ضرورية، أمكن عن طريق التحليل أن نجد سببها، وذلك بتحليلها إلى أفكار وحقائق أبسط، إلى أن نصل إلى الحقائق الأصلية (قارن التيوديسية 170 و174 و189 و280-282 و367 وكذلك موجز الاعتراضات، الاعتراض الثالث).
52 (34)
بهذه الطريقة يرد الرياضيون المبادئ النظرية والقواعد العملية بواسطة التحليل إلى تعريفات ومسلمات ومصادرات. (35)
بهذا نصل آخر الأمر إلى أفكار بسيطة لا يمكن تعريفها،
53
كما نصل إلى مسلمات ومصادرات أو باختصار إلى مبادئ أولية لا يمكن البرهنة عليها، ولا تحتاج أيضا إلى برهان. وهذه هي القضايا الذاتية التي ينطوي عكسها على تناقض صريح. (36)
ولكن يجب أيضا أن يوجد السبب الكافي في الحقائق العرضية،
54
أو حقائق الواقع؛ أي في تسلسل وسياق جميع المخلوقات؛
55
حيث يمكن أن يمضي التحليل إلى أسباب تفصيلية لا حد لها، نظرا للتنوع الهائل في الأشياء الطبيعية وقسمة الأجسام إلى ما لا نهاية. إن هناك عددا لا نهاية له من الأشكال والحركات الحاضرة والماضية، التي تدخل في تكوين العلة الفاعلة لما أكتبه الآن،
56
كما أن هناك عددا لا نهاية له من الدوافع والاستعدادات الصغيرة التي خبرتها نفسي في الماضي أو في الحاضر، ودخلت في تكوين علتها الغائية
57 (قارن التيوديسية 36 و37 و44 و45 و49 و52 و121 و122 و337 و340 و344). (37)
ولما كانت كل هذه التفصيلات تحتوي من جانبها على أمور عرضية (حادثة) أخرى أسبق منها وأشد تفصيلا، وكانت هذه تحتاج بدورها إلى تحليل مشابه لتبريرها، فإننا بهذه الطريقة لن نحرز تقدما، لهذا يتحتم أن يوجد السبب الكافي أو السبب الأخير خارج سلسلة أو مجموع سلاسل الأشياء العرضية (الحادثة) كل على حدة، مهما بلغت هذه السلسلة حدا لا نهاية له.
58 (38)
وهكذا ينبغي أن توجد العلة الأخيرة للأشياء في جوهر ضروري، يحتوي على تفاصيل التغيرات على نحو سام
59
أشبه بأن يكون مصدرا لها، وهذا الجوهر هو الذي ندعوه الله (قارن التيوديسية 7). (39)
ولما كان هذا الجوهر هو العلة الكافية لكل هذه التفاصيل الخاصة، المترابطة من ناحيتها أوثق ارتباط، فليس هناك غير إله واحد،
60
وهذا الإله كاف. (40)
ويمكننا أيضا أن نحكم بأن هذا الجوهر الأسمى، الذي هو فريد وكلي وضروري - إذ ليس هناك شيء مما يقع خارجه لا يعتمد في وجوده عليه، كما أنه نتيجة بسيطة لإمكان وجوده
61
يستحيل أن تكون له حدود، ولا بد أن يحتوي على أقصى واقع ممكن.
62 (41)
يترتب على هذا أن الله كامل كمالا مطلقا؛ إذ ليس الكمال إلا عظم الواقع الإيجابي من حيث هو كذلك، (وهو الذي نحصل عليه) عندما نضرب صفحا عن حدود أو قيود الأشياء التي لديها مثل هذه الحدود والقيود. وحيث لا تكون ثمة حدود، أعني في الله، يكون الكمال لا متناهيا بإطلاق (قارن التيوديسية 22، والمقدمة 4أ). (42)
يترتب على هذا أيضا أن المخلوقات تستمد كمالها من تأثير الله، أما وجوه النقص فيها، فترجع إلى طبيعتها الخاصة التي يعجزها أن تكون بغير حدود؛ لأن هذا هو أساس اختلافها عن الله.
63 (43)
من الحق أيضا أن الله ليس هو مصدر الوجودات
64
فحسب، بل هو كذلك مصدر الماهيات، بقدر ما تكون واقعية، أو هو بمعنى آخر مصدر
65
ما يحتوي عليه الإمكان من واقع.
66
ذلك أن الذهن الإلهي هو منطقة الحقائق الأبدية، أو الأفكار التي يتوقف عليها وجودها،
67
وبغير وجوده لن يكون في الإمكانات واقع، ولن يكون فيها شيء موجود فحسب، بل لن يكون فيها كذلك شيء ممكن (قارن التيوديسية 20). (44)
لأنه إن كان ثمة واقع في الماهيات أو الإمكانات، أو حتى في الحقائق الأبدية، فلا بد أن يقوم سبب هذا الواقع على شيء موجود وفعلي، وبالتالي على وجود الكائن الضروري الذي تتضمن ماهيته وجوده، والذي يكفيه أن يكون ممكنا لكي يكون واقعيا (قارن التيوديسية 184 و189 و335). (45)
وهكذا ينفرد الله (أو الكائن الضروري) بهذه الميزة، وهي أنه يتحتم بالضرورة أن يوجد إذا كان وجوده ممكنا. ولما لم يكن هناك شيء يحول دون إمكان (وجود) ما لا يتضمن حدودا ولا نفيا، ولا يحتوي تبعا لذلك على أي تناقض، فإن هذا وحده
68
يكفي لمعرفة وجود الله معرفة قبلية. وقد أثبتنا وجوده عن طريق واقعية الحقائق الأبدية، ثم أثبتناه كذلك
69
بطريقة بعدية من وجود الكائنات الحادثة التي لا يمكن أن يقوم سببها الأخير أو سببها الكافي إلا في الكائن الضروري الذي يتضمن في ذاته سبب وجوده. (46)
ولكن لا يصح أن نتوهم - كما فعل البعض - أن الحقائق الأبدية - نظرا لاعتمادها على الله - حقائق تعسفية أو متوقفة على إرادته، كما سلم بذلك ديكارت،
70
ومن بعده السيد بواريه،
71
إذ لا يصدق هذا إلا على الحقائق الحادثة التي تقوم على مبدأ الملاءمة أو اختيار الأصلح، في حين أن الحقائق الضرورية تعتمد على الذهن الإلهي وحده وهي موضوعة الباطن (قارن التيوديسية 150-184، 185، 335، 351، 380). (47)
هكذا يكون الله وحده هو الوحدة المبدئية أو الجوهر الأصلي البسيط، وكل المونادات المخلوقة أو المشتقة من إبداعه،
72
وتنشأ، إن جاز هذا القول، من لحظة لأخرى بفضل ومضات إلهية،
73
محدودة بالقدرة على التلقي (أو الاستقبال) من جانب المخلوق الذي هو محدود بحسب ماهيته (قارن التيوديسية 382-391 و398 و395). (48)
وفي الله تكمن القوة التي هي مصدر كل شيء، وفيه كذلك المعرفة التي تحتوي على الأفكار المتنوعة، وأخيرا فإن فيه الإرادة التي هي علة التغيرات أو الإبداعات التي تتم وفقا لمبدأ الأصلح
74 (التيوديسية 7 و149 و150)، وهذا هو الذي يطابق الموضوع أو الأساس، وملكة الإدراك وملكة النزوع لدى المونادات المخلوقة.
75
ولكن هذه الصفات تكون في الله لا متناهية أو كاملة بصورة مطلقة، بينما تكون في المونادات المخلوقة أو الأنتيليخيات (أو الكائنات الحائزة على الكمال
76
كما ترجم هرمولاوس بارباروس
77
هذه الكلمة) مجرد تقليدات لهذه الصفات، يختلف حظها من التوفيق باختلاف حظها من الكمال (التيوديسية، 7 و149 و150 و87). (49)
يقال عن المخلوق إنه يفعل في اتجاه الخارج،
78
بقدر ما يكون فيه من الكمال، ويقال عن مخلوق آخر إنه ينفعل بقدر ما يكون غير كامل. ومن ثم ينسب الفعل إلى المونادة بقدر ما تكون إدراكاتها متميزة، والانفعال بقدر ما تكون إدراكاتها مختلطة (أو غير متميزة).
79 (50)
ويكون المخلوق أكمل من غيره إذا وجدنا فيه بصورة قبلية علة
80
ما يجري في مخلوق آخر، بهذا المعنى يقال إنه يؤثر على المخلوق الآخر. (51)
بيد أنه لا يوجد بالنسبة للجواهر البسيطة سوى تأثير مثالي لإحدى المونادات على الأخرى، وهو تأثير لا يصبح فعالا إلا بتدخل من الله؛ لأن المونادة تطلب بحق من أفكار الله أن يكون (أي الله) قد وضعها في اعتباره عند قيامه في مبدأ الأمر بتنظيم المونادات الأخرى؛ لأنه لما كان من المتعذر على المونادة المخلوقة أن تؤثر تأثيرا فيزيائيا على داخل المونادة الأخرى، فلا يمكن بغير هذه الوسيلة أن تعتمد إحداها على الأخرى (قارن التيوديسية 9 و54 و65 و66 و201، وراجع أيضا موجز الاعتراضات، الاعتراض الثالث ).
81 (52)
وهكذا يتم تبادل الفعل والانفعال بين المخلوقات. فعندما يوازن
82
الله بين جوهرين بسيطين يجد في كل منهما أسبابا تلزمه بأن يلائم
83
بينه وبين الآخر، ويتبع هذا أن يكون الفعال من وجهة نظر معينة، منفعلا من وجهة نظر أخرى، فهو فعال بمقدار ما نعرف فيه معرفة متميزة ما يساعد على تعليل الحدث الذي يتم في «جوهر» آخر معرفة متميزة (التيوديسية 66). (53)
ولما كانت أفكار الله تحتوي على عدد لا حصر له من العوالم الممكنة التي يستحيل أن يوجد منها إلا عالم واحد، فيلزم أن يكون هناك سبب كاف لاختيار الله، جعله يفضل عالما بعينه على غيره
84 (قارن التيوديسية 8 و10 و44 و173 و196 وما بعدها و225 و414-416). (54)
وهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في التلاؤم،
85
أو في درجات الكمال التي تحتوي عليها هذه العوالم، طالما كان لكل ممكن الحق في التطلع
86
إلى الوجود، على قدر الكمال الذي ينطوي عليه (التيوديسية، 74 و167 و350 و201 و130 و352 و345 وما بعدها و354). (55)
هنا تكمن علة وجود الأصلح،
87
الذي يعرفه الله بفضل حكمته، ويختاره بفضل رحمته،
88
ويخلقه بفضل قوته
89 (قارن التيوديسية 8 و78 و80 و84 و119 و204 و206 و208، وموجز الاعتراضات، الاعتراض الأول والثامن). (56)
هذا الترابط أو هذا التلاؤم بين جميع المخلوقات وبين كل واحد منها على حدة، ثم بين كل واحد منها والجميع، يترتب عليه أن يحتوي كل جوهر بسيط على علاقات تعبر عن مجموع الجواهر الأخرى، وأن يكون تبعا لذلك مرآة حية دائمة للعالم
90 (قارن التيوديسية 130 و360). (57)
وكما أن مدينة واحدة بعينها، إذا تأملها المرء من جوانب مختلفة، تبدو في كل مرة على صورة مختلفة تمام الاختلاف، وكأن لها منظورات متعددة، كذلك توجد أيضا - تبعا للكثرة اللانهائية للجواهر البسيطة - عوالم عديدة مختلفة، ليست إلا منظورات من عالم واحد، وفقا لوجهات النظر المختلفة لكل مونادة على حدة (قارن التيوديسية 147). (58)
بهذه الوسيلة نحصل على أكبر قدر ممكن من التنوع، ولكن مع أعظم قدر ممكن من النظام؛ أي إننا نحصل بهذه الوسيلة على أعظم قدر ممكن من الكمال
91 (قارن التيوديسية 120 و124 و241 وما بعدها و214 و243 و275). (59)
وهذا الفرض وحده (الذي أزعم
92
أنه قد تمت البرهنة عليه) يكشف عن عظمة الله ويضعها في الضوء الصحيح. ولقد عرف السيد «بايل» هذا، عندما أثار في قاموسه (مادة روراديوس)
93
عدة اعتراضات عليه، انساق فيها إلى الاعتقاد بأنني أنسب إلى الله أكثر مما ينبغي، بل أكثر مما يمكن نسبته إليه. غير أنه قد عجز عن تقديم أي سبب يمكن أن يبرر استحالة ذلك الانسجام الكوني الشامل الذي يجعل كل جوهر يعبر تعبيرا دقيقا عن سائر الجواهر الأخرى عن طريق العلاقات التي تربطه بها. (60)
هذا وتتبين مما سبق الأسباب القبلية التي تجعل الأمور تسير على هذا النحو دون غيره؛ لأن الله عندما دبر نظام الكل قد وضع في اعتباره كل جزء على حدة، كما وضع في اعتباره بوجه خاص كل مونادة على حدة، وهي بطبيعتها كائن متصور،
94
فليس ثمة ما يقصرها على تصوير جزء واحد من الأشياء، وإن كان من الصحيح مع ذلك أن هذا التصور، فيما يتصل بالأشياء الجزئية
95
الموجودة في العالم، تصور مشوش (مختلط)، ولا يمكن أن يتضح إلا في جزء ضئيل من الأشياء، أعني تلك التي تكون أقربها أو أكبرها بالنسبة لكل مونادة،
96
وإلا لكانت كل مونادة إلها. وإذن فالحدود «التي تقيد» المونادات لا تتمثل في الموضوع، وإنما تتمثل في أسلوب المعرفة المختلف بالموضوع.
97
إنها جميعا تسعى على نحو مختلط (غامض) للوصول إلى اللامتناهي، إلى الكل،
98
ولكنها تظل محدودة ومتميزة عن بعضها البعض عن طريق درجات وضوح الإدراكات وتميزها. (61)
وفي هذا يعبر المركب تعبيرا رمزيا عن البسيط.
99
فلما كان كل شيء ممتلئا أو ملاء
100 - وهذا هو الذي يجعل المادة كلها مترابطة - وكانت كل حركة تتم في الملاء تؤثر على الأجسام البعيدة على حسب بعدها، بحيث إن كل جسم لا يتأثر فحسب بالأجسام الملامسة له مباشرة، ويشعر على نحو من الأنحاء بكل ما يحدث لها، بل يشعر عن طريقها كذلك بتأثير تلك الأجسام التي تلامس الأجسام الأولى التي تلامسه مباشرة، فيلزم عن هذا أن هذا السياق يمتد إلى أي مسافة ممكنة. ويترتب على هذا أن يشعر كل جسم بكل ما يجري في العالم؛ بحيث يستطيع ذلك الذي يرى كل شيء أن يقرأ في كل واحد منها ما يحدث في كل مكان، بل يستطيع أن يرى ما حدث في الماضي، وما سوف يحدث في المستقبل، وذلك بأن يلاحظ في الحاضر ما هو بعيد من جهة الزمان والمكان، وهذا هو الذي سماه بقراط: «تلاؤم الكل»،
101
بيد أن النفس لا يمكنها أن تقرأ في ذاتها إلا ما هو متمثل فيها تمثلا واضحا متميزا، إنها لا تستطيع أن تنشر كل ثنياتها المطوية دفعة واحدة؛ لأن هذه تمتد إلى ما لا نهاية. (62)
ومع أن كل مونادة مخلوقة تصور
102
العالم بأكمله، فإنها تصور الجسم المتعلق بها خاصة، والذي تكون هي «أنتليخياه»
103
تصويرا أشد تميزا. وكما يعبر
104
هذا الجسم عن العالم كله - نتيجة السياق المتصل للمادة بأجمعها في الملاء - فإن النفس أيضا تصور الكون كله، بتصويرها للجسم المتعلق بها تعلقا خاصا (قارن التيوديسية 409). (63)
الجسم الذي يتعلق بمونادة هي أنتليخياه أو نفسه يؤلف مع الأنتليخيا ما يمكن تسميته كائنا حيا، ومع النفس ما يمكن تسميته حيوانا،
105
وهذا الجسم المتعلق بكائن حي أو حيوان يكون على الدوام جسما عضويا؛ لأنه لما كانت كل مونادة مرآة تعكس العالم على طريقتها، وكان العالم مدبرا وفق نظام كامل، فيلزم أيضا أن يكون هناك نظام فيمن يقوم بتصوره؛
106
أي في إدراكات النفس، وبالتالي في الجسم الذي بمقتضاه يتصور العالم في النفس (قارن التيوديسية 403). (64)
وهكذا يكون كل جسم عضوي للكائن الحي نوعا من الآلة الإلهية، أو من الآلية
107
الطبيعية التي تفوق جميع الآليات الصناعية
108
إلى حد لا نهائي؛ لأن الآلة التي يصنعها الفن البشري،
109
ليست آلة في كل جزء من أجزائها، فسن العجلة النحاسية على سبيل المثال ذات أجزاء أو قطع لا تعد في نظرنا شيئا فنيا (أو صناعيا)،
110
وليس فيها كذلك شيء يجعلنا نلاحظ وجود الآلة التي أعدت العجلة لتشغيلها. أما آلات الطبيعة؛ أي الأجسام الحية، فهل تظي آلات في أدق أجزائها وإلى ما لا نهاية. وفي هذا يكمن الفرق بين الطبيعة والفن؛ أي بين الصنعة الإلهية وصنعتنا البشرية
111 (قارن التيوديسية 134 و146 و194 و483). (65)
وقد تمكن مبدع الطبيعة من خلق
112
هذا العمل الفني الإلهي الذي بلغ الغاية من الإعجاز؛ لأن كل قطعة من المادة ليست فحسب قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية، كما عرف ذلك القدماء، بل إنها كذلك مجزأة في الواقع
113
إلى ما لا نهاية، وكل جزء ينقسم بدوره إلى أجزاء، لكل منها حركة خاصة به، ولو كان الأمر على خلاف هذا لما أمكن أن تعبر كل قطعة من المادة عن العالم كله (قارن التيوديسية، المبحث التمهيدي، 70، 195). (66)
من هذا نتبين أن أقل جزء من المادة يحتوي على عالم من المخلوقات، والكائنات الحية، والحيوانات، والأنتليخيات، والنفوس. (67)
يمكن تصور كل قطعة من المادة كما لو كانت حديقة حافلة بالنباتات أو بركة غنية بالأسماك، ولكن كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من قطرات عصارته هي كذلك مثل هذه الحديقة أو هذه البركة. (68)
ومع أن الأرض والهواء الساري بين نبات الحديقة أو الماء الجاري بين أسماك البركة ليست هي نفسها نباتا ولا سمكا، فإنها مع ذلك تحتوي على أمثالها،
114
وإن تكن في أغلب الأحوال من نوع دقيق يتعذر علينا إدراكه.
115 (69)
ولهذا فليس في العالم يباب ولا عقم ولا موت، ليس فيه فوضى ولا اضطراب
116
إلا في الظاهر، وهذا أشبه بمنظر بركة نتأملها من بعيد فلا نكاد نرى فيها - إن جاز هذا التعبير - إلا حركة مضطربة، وحشدا مختلطا من الأسماك، دون أن نميز الأسماك نفسها بوضوح (قارن التيوديسية، المقدمة). (70)
نرى من هذا أن لكل جسم حي أنتليخيا تتحكم فيه هي النفس لدى الحيوان، ولكن أعضاء هذا الجسم الحي نفسها زاخرة بكائنات حية أخرى، من نباتات وحيوانات لكل منها كذلك أنتليخياه أو نفسه المتحكمة فيه.
117 (71)
ولكن لا يجوز أن يتوهم أحد - كما فعل البعض نتيجة إساءة فهم مذهبي
118
أن كل نفس لها كتلة أو قطعة معينة من المادة، مخصصة لها إلى الأبد،
119
وأنها تبعا لذلك تملك كائنات حية أخرى أدنى درجة، مجعولة لخدمتها على الدوام؛ لأن الأجسام كلها في سيرورة دائمة، كالأنهار ،
120
وتدخل فيها وتخرج منها أجزاء باستمرار. (72)
وهكذا فإن النفس لا تغير جسمها إلا ببطء وبالتدريج، بحيث لا تجرد أبدا من جميع أعضائها دفعة واحدة، وكثيرا ما يتم التحول بين الحيوانات، ولكن تقمص الأرواح أو تناسخها لا مكان له على الإطلاق، كذلك لا توجد نفوس قائمة بنفسها أو مستقلة تمام الاستقلال (عن الأجسام) ولا أرواح
121
بغير أجسام. إن الله وحده منزه عن الجسمية كل التنزيه
122 (قارن التيوديسية 90 و124).
123 (73)
ولهذا السبب لا يوجد أبدا تولد كامل ولا موت كامل بالمعنى الدقيق، بمعنى انفصال النفس عن الجسد. وما نسميه بالتوالد إنما هو نوع من التطور والنمو، أما ما نسميه بالموت فهو انكماش وتناقص.
124 (74)
ظل الفلاسفة دائما في حيرة من أمرهم حول أصل الأشكال والأنتليخيات أو النفوس. أما اليوم، بعد أن عرفنا من الأبحاث الدقيقة التي أجريت على النباتات والحشرات والحيوانات الأخرى أن الأجسام العضوية في الطبيعة لا تنشأ أبدا من العماء
125
أو التعفن، وإنما تنشأ دائما من بذور كانت تحتوي بغير شك على نوع من التشكل السابق،
126
فقد استنتج العلماء من ذلك أن الجسم العضوي لم يكن هو وحده موجودا فيها قبل الحمل، بل كانت هناك أيضا نفس في هذا الجسم، وباختصار أن الحيوان نفسه موجودا فيها. وعن طريق الحمل توصل هذا الحيوان إلى القدرة على التشكل الكبير فحسب؛ لكي يصير حيوانا من نوع آخر. ونلاحظ شيئا شبيها بهذا خارج نطاق التولد، عندما تتحول الديدان مثلا إلى ذباب أو اليرقانات إلى فراشات (قارن التيوديسية 86 و89، المقدمة 5ب وما بعدها من صفحات 90 و187 و188 و43 و86 و397). (75)
يمكن تسمية الحيوانات التي يرفع بعضها عن طريق الحمل إلى مستوى الحيوانات الكبرى باسم الحيوانات البذرية، أما ما يبقى منها داخل نوعه؛ أي معظمها، فإنه ينشأ،
127
ويتكاثر، ويفنى كالحيوانات الكبيرة، والنخبة القليلة منها هي التي تنتقل إلى مسرح أكبر. (76)
غير أن هذا لم يكن ليعبر إلا عن نصف الحقيقة،
128
لذلك انتهيت إلى الحكم بأنه إذا كان الحيوان لا ينشأ أبدا نشأة طبيعية، فإنه لا يفسد كذلك بطريقة طبيعية، وأن الأمر لا يقتصر فحسب على استحالة التولد، بل يتعداه إلى استحالة الفناء الكامل، واستحالة الموت بمعناه الدقيق. وهذه التأملات التي تمت بطريقة بعدية، واستخلصت من التجربة تتفق تمام الاتفاق مع المبادئ التي استنتجت فيما سبق بطريقة قبلية
129 (قارن التيوديسية 90). (77)
يمكن القول إذن بأن النفس (وهي مرآة عالم لا يندثر)
130
ليست هي وحدها التي لا يجوز عليها الفناء، بل كذلك الحيوان نفسه،
131
على الرغم من أن آلته تفسد في كثير من الأحوال فسادا جزئيا وتنزع أو ترتدي أغشية عضوية
132 (قارن التيوديسية، المقدمة 6 و340 و352 و353 و358). (78)
وقد أتاحت لي هذه المبادئ وسيلة تفسير اتحاد النفس مع الجسم العضوي أو بالأحرى اتساقها معه تفسيرا طبيعيا. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة كما يخضع الجسم لقوانينه الخاصة، وهما يتلاقيان
133
بفضل الاتساق المقدر بين جميع الجواهر؛ لأنها جميعا
134
تمثلات عالم واحد بعينه.
135 (79)
تفعل النفوس وفقا لقوانين العلل الغائية، عن طريق النزوع، والغايات والوسائل. وتفعل الأجسام وفقا لقوانين العلل الفعالة أو قوانين الحركات. وهاتان المملكتان، مملكة العلل الفعالة ومملكة العلل الغائية، متجانستان.
136 (80)
عرف ديكارت أن النفوس لا يمكنها أن تمد الأجسام بالقوة؛ لأن كمية القوة التي في المادة ثابتة على الدوام ، ومع ذلك فقد تصور أن النفس يمكنها أن تغير اتجاه الأجسام، ولكنه وقع في هذا الظن؛ لأن القانون الطبيعي الذي يقول ببقاء نفس الاتجاه العام في المادة لم يكن قد عرف في عهده.
137
ولو انتبه إليه لتوصل إلى مذهبي في الاتساق المقدر. (قارن التيوديسية، المقدمة 22 و59 و60 و61 و63 و66 و345 و346 وما بعدها، 354 و355.) (81)
ويقتضي هذا المذهب
138
أن تفعل الأجسام كما لو كانت النفوس غير موجودة (وهو أمر مستحيل)، وأن تفعل النفوس وكأن الأجسام غير موجودة، وأن يفعل الاثنان، وكأن أحدهما يؤثر على الآخر. (82)
أما العقول أو النفوس العاقلة، فإني وإن كنت أجد أن ما ذكرته الآن يصدق على جميع الكائنات الحية والحيوانات (أي أن الحيوان والنفس لا ينشآن إلا مع نشوء العالم، ولا يفسدان إلا بفساده)، فإن الحيوانات العاقلة تتميز مع ذلك بأن حيواناتها البذرية الصغيرة، ما بقيت كذلك ولم تتعده،
139
لا تملك إلا نفوسا عادية أو نفوسا حساسة، ولكن بمجرد أن تصل تلك التي يمكن أن نصفها بأنها نخبة مختارة إلى الطبيعة الإنسانية عن طريق الحمل الفعلي، فإن نفوسها الحساسة ترتفع إلى مستوى العقل، وترقى إلى المزية «التي تتمتع» بها العقول (قارن التيوديسية 91 و397). (83)
يضاف إلى الفروق الأخرى بين النفوس العادية والعقول، وهي الفروق التي قدمت جزءا منها فيما سبق،
140
أن النفوس على وجه الإجمال مرايا حية أو صور من عالم المخلوقات، أما العقول فهي بالإضافة إلى ذلك صور من الألوهية أو من مبدع الطبيعة ذاته، إنها تملك القدرة على معرفة نظام العالم،
141
ومحاكاة شيء منه في عينات (أو نماذج) معمارية خاصة،
142
إذ إن كل عقل في مجاله أشبه بألوهية صغيرة (قارن التيوديسية 147). (84)
وهذا هو الذي يجعل العقول (أو الأرواح)
143
قادرة على الدخول مع الله في نوع من الحياة الجماعية،
144
بحيث لا يكون الله بالنسبة إليها كالمخترع بالنسبة لآلته فحسب (كما هو الحال بالقياس إلى علاقة الله بسائر المخلوقات)، وإنما يكون كذلك كالأمير بالنسبة لرعاياه، بل كالأب بالنسبة لأبنائه. (85)
من هذا نستنتج بسهولة أن مجموع العقول (أو الأرواح) يؤلف بالضرورة مدينة الله؛
145
أي أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل الحكام (قارن التيوديسية 146، ومجمل الاعتراضات، الاعتراض الثاني). (86)
إن مدينة الله هذه، هذه المملكة الكلية الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي داخل العالم الطبيعي، وهي أسمى أعمال الله وأكثرها ألوهية. إنها التعبير الصادق عن مجد الله، إذ لن يكون لديه شيء منه إن لم تعرف العقول (الأرواح) عظمته وخيريته،
146
وتحس نحوهما بالإعجاب، وهو كذلك يملك الخيرية (الطيبة) خاصة بالمقياس إلى هذه المدينة الإلهية،
147
في حين أن حكمته وقدرته تتجليان في كل شيء وفي كل مكان.
148 (87)
وكما بينا فيما تقدم أن هناك تجانسا كاملا بين مملكتين طبيعيتين، هما مملكة العلل الفاعلة ومملكة العلل الغائية، فينبغي علينا أن نشير هنا أيضا إلى تجانس
149
آخر يقوم بين مملكة الطبيعة الفيزيائية وبين مملكة الفضل الإلهي الأخلاقية؛
150
أي بين الله بوصفه مهندس الآلة الكونية، وبين الله بوصفه ملكا على المدينة الإلهية للأرواح (قارن التيوديسية 62 و74 و118 و248 و112 و130 و247). (88)
هذا التجانس يجعل الأشياء تؤدي إلى الفضل الإلهي بالطرق
151
الطبيعية نفسها، كما يفرض على هذه الكرة الأرضية مثلا أن تدمر ويعاد بناؤها بالطرق الطبيعية في وقت معلوم، عندما تطلب ذلك حكومة الأرواح عقابا للبعض وثوابا للبعض الآخر. (قارن التيوديسية 18 وما بعدها 110 و244 و245 و340.) (89)
يمكن كذلك القول بأن الله بوصفه البناء الأعظم
152
يرضي الله بوصفه المشروع من كل ناحية، وأن الخطايا ينبغي تبعا لذلك أن تحمل معها العقاب الذي تستوجبه بمقتضى النظام الطبيعي، بل بمقتضى البنية
153
الآلية للأشياء ذاتها، كما تحصل الأفعال الطيبة، بالقياس إلى الأجسام، على جزائها
154
بالطرق الآلية، وإن لم يكن من الممكن ولا من الجائز أن يتم هذا دائما على الفور.
155 (90)
وصفوة القول أنه لن يبقى في ظل هذه الحكومة الكاملة فعل خير بغير ثواب، ولا فعل شيء بغير عقاب، وأن كل شيء ينبغي أن يسخر لخير الطيبين؛ أي لغير الساخطين في هذه الدولة العظيمة، أولئك الذين يثقون بالعناية الإلهية بعد أداء واجبهم، ويحاكون مصدر كل خير، ويحبونه الحب الذي يليق به ، ويبتهجون بالنظر في كمالاته، كما تقضي بذلك طبيعة الحب الصادق المحض، الذي يجعلنا نسعد بسعادة من نحب. وهذا هو الذي يجعل الحكماء
156
والفضلاء من الناس يشاركون بجهدهم في كل ما يبدو متسقا مع إرادة الله التي وعد بها أو سبقت في علمه، ويقنعون مع هذا بما تقضي به مشيئته الخافية المحكمة الفاصلة. إنهم ليقرون بأننا لو استطعنا أن نفهم نظام الكون فهما كافيا لاكتشفنا أنه يفوق كل ما يتمناه أحكم الحكماء، وأن من المحال أن يكون أفضل مما هو عليه، لا بالقياس إلى الوجود الكلي بوجه عام فحسب، بل كذلك بالقياس إلينا نحن بنوع خاص، إذا سلمنا التسليم الواجب بمشيئة خالق كل شيء لا بوصفه البناء الأعظم،
157
والعلة الفعالة لوجودنا، بل باعتباره سيدنا ومولانا، والعلة الغائية التي ينبغي أن تكون الهدف الكلي لإرادتنا، وتستطيع وحدها أن تحقق سعادتنا. (قارن التيوديسية 134 الخاتمة، والمقدمة 4أب، 278 وراجع كذلك المقال في الميتافيزيقا، 36 و37.)
صفحه نامشخص