بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء واليه يرجع الْأَمر كُله وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم كلما جال الْفِكر فِي تيار هَذَا الْوُجُود انْقَلب الْعقل رَاجعا إِلَى الْإِقْرَار بِوُجُودِهِ ووحدانيته تَعَالَى قهرا فَلَا يُنكره إِلَّا جَاهِل لم ير لمحة من أسرار الْكَوْن وَلم يذقْ قَطْرَة من كوثر حكمته يظْهر الْأَشْيَاء ثمَّ يطويها ويخفي ساعتها ثمَّ يجليها وَيفِيض على قُلُوب من يَشَاء بَيَانهَا واليه الحكم فِي كتمانها وتبيانها وَيُعْطِي كل عصر مَا يَلِيق بقابليته وَمَا يلائم مدنيته الْحَاضِرَة فَهُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم والمعرضون عَن آثَار حكمته الباهرة صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ يناديهم من يُؤْتِي الْحِكْمَة ﴿فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وهم لَا يسمعُونَ فَلهُ الْحَمد على مَا أولانا من المكاشفة على أسرار مَا أودعهُ من الحكم وإياه نسْأَل الْمَزِيد من إفَاضَة أنوار لَا تَنْقَضِي عجائبها وَلَا تَنْتَهِي غرائبها وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نبيه حَكِيم الْحُكَمَاء وَسيد الْأَنْبِيَاء مُحَمَّد الْمَبْعُوث إِلَى جَمِيع الْأُمَم وعَلى اله وَصَحبه البدور الكاملين مَا نسخت آيَة من آيَات سر الْوُجُود فانسيت أَو أَتَى الله بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا فَأَتَت الصُّحُف على تذكار ذَلِك المنسي تحمل أَخْبَار الماضين للآتين ليتذكر أولو الْأَلْبَاب وليكون لَهُم جدولا يبنون على كل فَرد مِنْهُ الْفُصُول والأبواب وتذكرهم الأطلال والدمن مَا كَانَ لأسلافهم من الْآثَار وينادمهم الخيال فيهبوا للْجدّ والتذكار
وَبعد فَيَقُول السَّائِل من وَاجِب الْوُجُود أَن يطلعه على أسرار الْحِكْمَة ويجعله مظْهرا لتِلْك النِّعْمَة عبد الْقَادِر بن احْمَد بن مصطفى بن عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد الشهير كأسلافه بِابْن بدران السَّعْدِيّ الدِّمَشْقِي
1 / 1
لج بِي السهر لَيْلَة من اللَّيَالِي مُنْفَردا أنادم الأطلال والخيال فتجلت لي دمشق غادة حسناء مسفرة عَن جمال وَجههَا تَقول أَلا لفتة لأحاديث آثاري وهلا سَاعَة فِي تذكار أخباري فَقلت أَنا كَمَا تعلمين غَرِيب حل مأوى الغرباء كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ
(وَمَا غمَّة الْإِنْسَان فِي شقة النَّوَى ... وَلكنهَا وَالله فِي عدم الشكل)
(وَإِنِّي غَرِيب بَين بست وَأَهْلهَا ... وان كَانَ فِيهَا أسرتي وَبهَا أَهلِي)
من قوم تلاعبت بهم الأقطار فحلوا جيرانا بغوطتك الفيحاء فنادمي أبناءك يَا ليلى الغرام وحيي إحباءك المدعين بك الهيام فَقَالَت ألم بِرَبِّك فِينَا وليدا وَلَبِثت فِينَا من عمرك سِنِين ألم تتقلب فِي مدارسي وتلتقط ثمار الْحِكْمَة من مغارسي أما ضممتك إِلَيّ ورمقتك بنظري وسقت إِلَيْك خيري حَتَّى تبنيتك وَمَا تركتك وَكلما تَبَاعَدت عني طلبتك أما هجرتني إِلَى الفرنجة متجولا وأبت إِلَى سواحل إفريقية متحولا فأضرمت فِي قَلْبك نَار غرامي وجذبتك إِلَيّ بمغناطيس هيامي ثمَّ لججت فِي الهجر قَافِلًا إِلَى دوماك جرثومة الهمجية العريقة ببغض الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء فذقت بهَا ألم التَّعَدِّي والحسد وأضنى حمرها المستنفرة مِنْك الْعقل والجسد وتألب أُولَئِكَ المتوحشون عَلَيْك يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الْحِكْمَة الَّذِي اطلعه الله فِي فُؤَادك ببغيهم وحسدهم ويأبى الله أَلا أَن يتم نوره وَلَو كره هَؤُلَاءِ الجاهلون قلبوا لَك ظهر الْمِجَن ورموك بالإفك ليسوقوا لَك المحن ويخلوا من فضلك ربع الوطن فمددت لإسعافك ساعدا أقوى من الْحَدِيد وأخرجتك من بَينهم رغما عَن انف كل جَبَّار عنيد ورميت حسادك بِسَهْم من سهم القهار وصلت عَلَيْهِم بِسيف قد سل من سطوة الْجَبَّار فذاق فريق مِنْهُم عَذَاب الْهون وارصدت للآخرين ﴿وَمَا رَبك بغافل عَمَّا يعْملُونَ﴾ ثمَّ اصطنعتك لنَفْسي فَمَا أثمرت من ثَمَر إِلَّا وَهُوَ من غرسي فبنعمة رَبك حدث فخلب لبي لطيف كَلَامهَا واتقدت فِيهِ جذوة غرامها وَقلت
(مَا بعد جلق للغرام مرام ... وَغَيرهَا وَطن عَليّ حرَام)
(لَكِن هِيَ الأقدار تفعل مَا تشا ... صبرا جميلا وَالْكَلَام كَلَام)
لبيْك يَا ليلى الْجمال وَيَا سلمى المحاسن أَنا الخاضع لما تأمرين مَا دمت عبد الْقَادِر
1 / 2
ودعيت بِابْن بدران أَنا الهائم فِي إِظْهَار صفاتك الْمُقِيم على محبتك ماكر الجديدان فَقَالَت انك لتعلم هَذَا الْعَصْر الزَّاهِر وَمَا تجلى فِيهِ من الْعُلُوم وَترى مَسْلَك أبنائي وَكَيف يتهافتون على القشر ويتركون اللّبَاب نبذوا الْعلم ظهريا فضمه الغربيون إِلَيْهِم وَإِذا انتبهوا من رقدتهم وجدوا أنفسهم عَالَة عَلَيْهِم فَذكرهمْ بأيامي الْمَاضِيَة علهم يتذكرون وخاطبهم بِمَا كَانَ بِي من الْآثَار وَمَا انفق فِي رياضي على الْعلم من الدِّرْهَم وَالدِّينَار وأعلمهم بِمَا كَانَ بِي من الْمدَارِس وأنبئهم بِتِلْكَ الْمعَاهد الدوارس وَذكرهمْ فان الذكرى تَنْفَع أولي الْأَلْبَاب فلعلهم يَجدونَ ويجتهدون ويتركون التفاخر بالماضي وَقل لشيخهم خل كَانَ ولناشئتهم اترك أَنا ابْن فلَان فان الْمَرْء ابْن تَحْصِيله وشرفه علمه وحكمته
(فمثلك من يدعى لكل عَظِيمَة ... ومثلي من يفدى بِكُل مسود)
فطوينا بعد الْوَعْد بإجابة الطّلب الْأَحَادِيث وَقلت إِن لم يَفِ الْمُحب لمحبوبه بِمَا أَمر اسْتحق الهجر فِي شرع المحبين وطفقت اقلب الطّرف فِي أسفار المؤرخين وأتطلب مَا كَانَ من أَحَادِيث الماضين وأطوف لرؤية الْمعَاهد والْآثَار الَّتِي بقيت فِي تِلْكَ الدَّار مِمَّا نبا عَنهُ سيف الْقدَم وصبر على طُلُوع الشَّمْس وَالْقَمَر فأرسم مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ على صفحات هَذَا السّفر الَّذِي هُوَ قسم من الْأَسْفَار الثَّلَاثَة لتاريخ دمشق وخصصته باسم منادمة الأطلال ومسامرة الخيال ليطابق اسْمه مَعْنَاهُ ثمَّ إِنَّنِي سلكت فِيهِ مسلكا وَهُوَ إِنَّنِي إِذا ذكرت مدرسة أَو آثرا مَا احافظ على تَرْجَمَة منشئه وَلَا أتعرض لتراجم المدرسين فِي الْمدَارِس كَمَا فعله الْعَلامَة عبد الْقَادِر النعيمي فِي كِتَابه تحفة الطَّالِب والدارس لَان الْمدرس إِن كَانَ من الْمَشَاهِير فَمحل تَرْجَمته السّفر الثَّالِث من هَذَا التَّارِيخ وان كَانَ من غَيرهم فَلَيْسَ من شَرط كتابي ان اذكره وايضا انني جعلت هَذَا السّفر اقساما
اولها لمدارس الْقُرْآن الْكَرِيم
وَثَانِيها للمدارس المختصة بِالْحَدِيثِ وللمشتركة بَينه وَبَين تَعْلِيم الْقُرْآن الْعَظِيم
وَثَالِثهَا للمدارس الَّتِي اسست للعلوم الْفِقْهِيَّة والادبية وَهَذَا الْقسم اربعة ابواب
اولها لمدارس الْحَنَفِيَّة
وَثَانِيها لمدارس الْمَالِكِيَّة
1 / 3
وَثَالِثهَا لمدارس الشَّافِعِيَّة
وَرَابِعهَا لمدارس الْحَنَابِلَة
وَلَيْسَ الْقَصْد من هَذَا التَّرْتِيب على حسب التَّقَدُّم فِي الزَّمن والوجود وَلَو اشتهرت مدارس للظاهرية اَوْ للزيديه اَوْ لغَيرهم لم تجدني متقاعسا عَن اعطائهم حَقهم فِي التَّرْجَمَة
وَرَابِعهَا لمدارس الطِّبّ وَالْحكمَة
وخامسها لزوايا الْعِبَادَة وخوانق الصُّوفِيَّة
وسادسها للآثار الَّتِي ظَهرت فِي هَذَا الْعَصْر
وكل هَذِه الاقسام مرتبَة على حُرُوف المعجم ليسهل الْكَشْف عَنْهَا
وسابعها للمساجد فَمَا كَانَ مَشْهُورا مِنْهَا اعطيته من حَقه مَا اتَّصل بِي من تَرْجَمته وَمَا كَانَ مِنْهَا صَغِيرا اَوْ مندرسا اكتفيت باسمه
وختمت الْكتاب بخاتمة لبَيَان مَا كَانَ فِي دمشق من المتنزهات الشهيرة وَهَذَا اول الْمَقْصُود وَبِاللَّهِ تَعَالَى استعين وَعَلِيهِ اتوكل
1 / 4
الْقسم الاول فِي دور الْقُرْآن الْكَرِيم
دَار الْقُرْآن الخيضرية
هَذِه الدَّار لم تزل إِلَى الْآن على رونقها وبهائها ومحلها كَمَا فِي تَنْبِيه الطَّالِب وإرشاد الدارس للفاضل عبد الْقَادِر النعيمي شمَالي دَار الحَدِيث السكرية بالقصاعين اهـ وَقد صحف النَّاس الْيَوْم اسْمهَا فَقَالُوا لَهَا الخضيرية نقلوا الْيَاء الْمُثَنَّاة من بَين الْخَاء وَالضَّاد المعجمتين إِلَى مَا بعد الضَّاد ومحلتها الْآن تعرف بالخضيرية وَهِي مَعْرُوفَة مَشْهُورَة فِي زمننا تُقَام فِيهَا الصَّلَوَات الْخمس ويتعاهدها فِي بعض اللَّيَالِي وَبعد صَلَاة الْفجْر جمَاعَة من المتصوفة الشاذلية الفاسية فيقيمون بهَا الْأَذْكَار ويقرؤون الأوراد وَفِي رَمَضَان يقْرَأ صَحِيح البُخَارِيّ وبعضا من الْكتب أستاذهم فِي زمننا الْعَالم الأديب الْكَاتِب الشَّاعِر الشَّيْخ مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْمُبَارك
وَأما نعتها فَإِنَّهَا وَاقعَة فِي الْجَانِب الشَّرْقِي من الزقاق الْمُسَمّى بالخضيرية بِالتَّصْغِيرِ ويصعد إِلَيْهَا بمرقاتين وجدارها الغربي مَبْنِيّ بِالْحجرِ الأبلق وَتَحْته سِقَايَة وَفِيه الْبَاب وقنطرته من الْحجر الأبلق أَيْضا وَهُوَ متين وَفِي وَسطه صحيفَة من النّحاس مستديرة وَقد رسم عَلَيْهَا مَا صورته
رسم بَاب الْمدرسَة الَّتِي أَمر بإنشاء بَابهَا الْأَمِير العالي المولوي القاضوي القطبي ابْن الخيضري قَاضِي الْقُضَاة اسبغ الله عَلَيْهِ ظلاله مِمَّا عمل
وَتَحْت هَذِه الصَّحِيفَة شبكة من النّحاس قَائِمَة على هَيْئَة مثلث زاويتها الْعليا تسامت قطب دَائِرَة الصَّحِيفَة وَهَذَا الْوَضع على هندسة لَطِيفَة جدا فَإِذا دَخلهَا الدَّاخِل وخلص من دهليز لَهَا قصير رأى بركَة مَاء للْوُضُوء فِي وَسطهَا وَفِي الْجِدَار القبلي محراب وَفِي الْجِهَة الغربية شباكان مطلان على الطَّرِيق وبجانبهما حجرَة وَاسِعَة وبالجانب الشَّرْقِي حجرتان تَحت إِحْدَاهمَا خلْوَة وبجانبهما خلْوَة أَيْضا
1 / 5
وبالجانب الشمالي إيوَان وَفِي صَدره حجرَة وَقد كتب على الْجِدَار فَوق الْبَاب مِنْهَا مَا صورته
بِحَمْد الله تَعَالَى اللَّطِيف انشأ هَذِه الْمدرسَة الْمُبَارَكَة على الْفُقَرَاء المتعلمين لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم الْفَقِير قَاضِي الْقُضَاة قطب الدّين الخيضري خَادِم السّنة النَّبَوِيَّة إرضاء لله تَعَالَى سنة ثَمَان وَسبعين وَثَمَانمِائَة
وبزاوية ملتقى الجدارين الشمالي والشرقي بَاب يدْخل مِنْهُ إِلَى مَكَان متسع وَفِيه ثَلَاثَة بيُوت خلاء وَفِي دهليزها بَاب يصعد مِنْهُ إِلَى غرفَة لَطِيفَة وَقَالَ فِي تَنْبِيه الطَّالِب رتب فِيهَا واقفها الجوامك وَالْخبْز للْفُقَرَاء اهـ يَعْنِي الَّذين كَانُوا يتعلمون بهَا الْقُرْآن الْكَرِيم وَلم نر لهَذَا آثرا فِي زمننا
تَرْجَمَة الخيضري
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن خيضر بن سُلَيْمَان بن دَاوُد بن فلاح بن ضميدة بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة مُصَغرًا الزبيدِيّ بِضَم الزَّاي الْبُلْقَاوِيُّ الأَصْل الترملي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي وَيعرف بالخيضري نِسْبَة لجد أَبِيه هَكَذَا نسبه الْحَافِظ السخاوي فِي كِتَابه الضَّوْء اللامع لأهل الْقرن التَّاسِع وترجمه بترجمة مُطَوَّلَة كلهَا ثلب وَطعن فِيهِ وَفِي مؤلفاته كَمَا هِيَ عَادَته فِي أقرانه وَلَكِن نَادَى على نَفسه بالتهمة فِي آخر التَّرْجَمَة فَقَالَ وانه فعل معي مَا أَرْجُو أَن يجازى بمقصده عَلَيْهِ اهـ وَهَذَا دَلِيل على انه تحامل عَلَيْهِ فِيمَا كتب عَنهُ ولنلتقط من كَلَامه مَا صفي واليك هُوَ قَالَ ولد لَيْلَة الِاثْنَيْنِ منتصف رَمَضَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَمَانمِائَة بقرية بَيت لهيا الْقَرِيبَة من دمشق وَنَشَأ يَتِيما فِي كَفَالَة أمه ثمَّ فَارق سلفه الَّذين هم عرب البلقاء وانحاز إِلَى طَائِفَة الْفُقَهَاء فحفظ التَّنْبِيه والفيتي الحَدِيث والنحو وملحة الْأَعْرَاب ومختصر ابْن الْحجاب الاصولي ثمَّ اشْتغل على عُلَمَاء عصره بالفقه وَالْأُصُول والْحَدِيث والنحو وَهَذِه الْعُلُوم الَّتِي كَانَ لَهَا رواج فِي زَمَنه ثمَّ ارتحل إِلَى بعلبك سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَدخل الْقَاهِرَة مرَارًا وَمَكَّة وَالْمَدينَة وَبَيت الْمُقَدّس ودمياط فَأخذ عَن علمائها وَبعد إِن ذكر السخاوي مَا رَأَيْت خلاصته قَالَ وَمَعَ ذَلِك فَلم يتَمَيَّز
1 / 6
فِي الطّلب يَعْنِي فِي الحَدِيث فضلا عَمَّن هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِي الرتب من حفظ وَضبط وغريب وَمَعْرِفَة باصطلاح وَمَا يذاكر بِهِ بَين الْعلمَاء غير أَن لَهُ يقظة فِي الْجُمْلَة وَكِتَابَة تروج عِنْد من لَا يحسن أَو يحسن وَلكنه يُدَارِي أَو يَرْجُو وَالرجل حِين كَانَ مَوْجُودا فِي الْقَاهِرَة لم يكن يتحاشى الْكَلَام فِي شَيْء وَلَا يتَوَقَّف لأجل تَحْرِير أَو تَحْقِيق
وَقَول شَيخنَا الْحَافِظ ابْن حجر فِي الأنباء انه الْفَاضِل البارع سمع الْكثير وَكتب الْكثير من الْأَجْزَاء وجد وَقد حصل فِي مُدَّة لَطِيفَة شَيْئا كثيرا وخطه مليح وفهمه جيد ومحاضراته تدل على كَثْرَة استحضاراته يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل فِي بعض الْكَلِمَات وَكَذَا وَصفه لَهُ بِالْحِفْظِ بعد ذَلِك لَيْسَ على إِطْلَاقه
كَذَا قَالَ السخاوي وَأَقُول مَا عهدنا الْحَافِظ ابْن حجر إِلَّا منصفا فِيمَا يَقُوله فِي تراجم الْعلمَاء وَمَا وجدنَا السخاوي إِلَّا متحاملا على كل من يفوقه وَمن رأى كتب الرجلَيْن يعلم ذَلِك يَقِينا
ثمَّ قَالَ السخاوي وَقد اسْتعَار من شَيخنَا ابْن حجر نسخته من الطَّبَقَات الْوُسْطَى لِابْنِ السُّبْكِيّ فَجرد مَا بهَا من الْحَوَاشِي الْمُشْتَملَة على تراجم مُسْتَقلَّة وزيادات فِي أثْنَاء التراجم مِمَّا جردته أَيْضا فِي مُجَلد ثمَّ ضم ذَلِك لتصنيف لَهُ على الْحُرُوف لخص بِهِ طَبَقَات ابْن السُّبْكِيّ مَعَ زَوَائِد وصل إِلَيْهَا بالمطالعة من كتب أمده شَيخنَا بهَا كالموجود من تَارِيخ مصر للقطب الْحلَبِي ونيسابور للْحَاكِم والذيل عَلَيْهِ لعبد الغافر وتاريخ بخاري لفنجار واصبهان وَغير ذَلِك مِمَّا يفوق الْوَصْف وَسَماهُ اللمع الالمعية لأعيان الشَّافِعِيَّة
أَقُول أَي مطْعن على مؤرخ جمع مُؤَلفه من أسفار الْمُتَقَدِّمين سَوَاء كَانَت بالإعارة أَو بِالْملكِ وان كَانَ الطعْن فِيهِ من جِهَة مَا جرده من كَلَام ابْن حجر فالسخاوي نَفسه فعل ذَلِك فَتَأمل ثمَّ قَالَ وَكَذَا جرد مَا لشَيْخِنَا من المناقشات مَعَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات مِمَّا هُوَ بهوامش نسخته وَغَيرهَا ثمَّ ضم ذَلِك لتلخيصه الأَصْل وَسَماهُ الْبَرْق اللموع لكشف الحَدِيث الْمَوْضُوع ولخص أَيْضا الْأَنْسَاب لِابْنِ السَّمْعَانِيّ مَعَ ضمه لذَلِك مَا عِنْد ابْن الْأَثِير والرشاطي وَغَيرهمَا من الزِّيَادَات وَنَحْوهَا وَسَماهُ الِاكْتِسَاب فِي تَلْخِيص الْأَنْسَاب وَمَا عَلمته حرر وَاحِدًا مِنْهَا وَاشْتَدَّ حرصي على الْوُقُوف عَلَيْهَا فَمَا أمكن ثمَّ رَأَيْت أَولهَا فِي حَيَاة شَيخنَا وانتقدت عَلَيْهِ إِذْ ذَاك شَيْئا
1 / 7
فَتَأمل أَيهَا الْمنصف كَيفَ طعن فِي كتب الرجل ثمَّ اقر بِأَنَّهُ لم يرهَا ثمَّ قَالَ وَألف معجما سَمَّاهُ الرقم الْمعلم فِي تَرْتِيب الشُّيُوخ وَالسَّمَاع وَالْإِجَازَة على حُرُوف المعجم والمنهل الْجَارِي من فتح الْبَارِي شرح البُخَارِيّ وَشرع فِي شرح ألفية الْعِرَاقِيّ والصفا بتحرير الشفا وَمجمع العشاق على تَنْبِيه الشَّيْخ أبي اسحاق وَاللَّفْظ المكرم بخصائص النَّبِي ﷺ وَالرَّوْض النَّضر فِي حَال الْخضر واللواء الْمعلم فِي مَوَاطِن النَّبِي ﷺ وزهر الرياض فِيمَا شنعه القَاضِي عِيَاض على الإِمَام الشَّافِعِي وتقويم الاسل فِي تَفْضِيل اللَّبن وَالْعَسَل وبغية المبتغي فِي تَبْيِين قَول الرَّوْضَة يَنْبَغِي
وَأول مَا ولي مشيخة دَار الحَدِيث ألاشرفية ثمَّ نزعت مِنْهُ وَاسْتقر فِي وكَالَة بَيت المَال وَفِي نظر الخوالي مِنْهَا ثمَّ ترقى لكتابة السِّرّ ثمَّ أضيف إِلَيْهَا قَضَاء الشَّافِعِيَّة وَصَارَت اكثر الْأُمُور الشامية منوطة بِهِ واتسعت دائرته فِي الْأَمْوَال والجهات والأملاك والوظائف والكتب وَغَيرهَا
وَحدث بِبَلَدِهِ وأملى ودرس وَوعظ وخطب وَأفْتى مَعَ الوجاهة والاعتلاء وَولي السميساطية وَغَيرهَا من الْمدَارِس زِيَادَة عَن الْمدَارِس الَّتِي تتَعَلَّق بالقضاة كالغزالية والعذراوية
وَكَانَت لَهُ صدقَات زَائِدَة وإحسان للغرباء وَبنى بِجَانِب بَيته مدرسة وَبنى تربة عِنْد بَاب مقَام الشَّافِعِي ورتب بهَا صوفية مَعَ شيخ لَهُم من الطّلبَة وَمَا زَالَ ملازما لخدمة السُّلْطَان حَتَّى مَاتَ فِي ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَدفن بتربته هَذِه وتأسف السُّلْطَان عَلَيْهِ هَذَا ملخص كَلَام السخاوي
وترجمه الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي كِتَابه أنباء الْغمر فَقَالَ فِي حوادث سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة
ورد ابْن المترجم إِلَى الْقَاهِرَة لطلب الحَدِيث وَوَصفه بالفاضل البارع ثمَّ قَالَ سمع الْكثير وَكتب كتبا كَثِيرَة وأجزاء وجد وَحصل فِي مُدَّة لَطِيفَة شَيْئا كثيرا وَكتب عني فِي مُدَّة يسيرَة المجلد الأول من الْإِصَابَة فِي تَمْيِيز الصَّحَابَة وقرأه وعارض عَليّ بِهِ وأتقنه وَنسخ أَيْضا تَعْجِيل الْمَنْفَعَة فِي رجال الْأَرْبَعَة
1 / 8
وقرأه كُله وأتقنه وَسمع عدَّة أَجزَاء وَحضر مجَالِس فِي الامالي وخطه مليح وفهمه جيد ومحاضراته تدل على كَثْرَة استحضاره
هَذَا كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر مُلَخصا وَمن خطه نقلته وَوَصفه للمترجم إِنَّمَا كَانَ أَيَّام طلبه للْعلم فَإِذا قابلته مَعَ كَلَام السخاوي وجدت الْحَافِظ قد أَتَى بالإنصاف كَمَا هِيَ عَادَته وَعلمت إِن التعصب هُوَ الَّذِي أودى بالعلوم وأهلكها
وترجمة صَاحب تَنْبِيه الطَّالِب بِنَحْوِ مَا تقدم وعد من مؤلفاته شرح التَّنْبِيه فِي فروع الشَّافِعِيَّة وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء احْمَد البقاعي فِي مُخْتَصره إِن المترجم رتب على تربته لصيق المنجكية بمحلة مَسْجِد الذبان الجوامك وَالْخبْز على الْفُقَرَاء وَعمل مطبخا بِبَاب الفراديس ومطبخا بِالْمَدِينَةِ المنورة اهـ فجزاه الله خيرا
دَار الْقُرْآن الجزرية
هِيَ دَار أظهرها الدَّهْر بُرْهَة ثمَّ طواها وجلاها فِي وَقت ثمَّ أخفاها ذهبت أحاديثها إِلَّا من القرطاس وتبدلت أحوالها بانتقالها من أنَاس إِلَى أنَاس
(امراتع الغزلان غَيْرك البلا ... حَتَّى غَدَوْت مراتع الغزلان)
وَالَّذِي أَفَادَهُ كَلَام المؤرخين إِن هَذِه الدَّار قد انطمست آثارها وخفيت رسومها مُنْذُ دهر طَوِيل فقد قَالَ النعيمي فِي تَنْبِيه الطَّالِب ووفاته سنة خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة قيل أَنَّهَا بدرب الْحجر وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ عبد الباسط العلموي فِي مُخْتَصره ووفاته سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَهَذَا الصَّنِيع يَقْتَضِي أَنَّهَا لم تكن مَوْجُودَة فِي زمن أحد مِنْهُمَا وَلما اختصر أَبُو الْبَقَاء البقاعي تَنْبِيه الطَّالِب أسقطها من مُخْتَصره إِشَارَة مِنْهُ إِلَى انه لَا فَائِدَة فِي ذكرهَا لاندارسها وَالْكتاب مَوْجُود فِي ديوَان الْأَوْقَاف بِدِمَشْق إِلَى الْآن فَهِيَ خَارِجَة عَن الْأَوْقَاف رسما
ودرب الْحجر هُوَ فِي أَوَاخِر السُّوق الْكَبِير قَرِيبا من الْبَاب الشَّرْقِي وعَلى التَّحْقِيق
1 / 9
أَنَّهَا صَارَت دَارا للسُّكْنَى فَصَارَت مراتع غزلان بعد إِن كَانَت مراتع عُلَمَاء وطلاب إِلَّا أَن تَرْجِيع الألحان بِالْقُرْآنِ قد فقد مِنْهَا وَنحن أثبتناها فِي منادمة الأطلال تذكارا لَهَا وبيانا لترجمة واقفها
تَرْجَمَة شمس الدّين مُحَمَّد ابْن الْجَزرِي
هُوَ الإِمَام الْحَافِظ مُحَمَّد بن مُحَمَّد عَليّ بن يُوسُف الدِّمَشْقِي ثمَّ الشِّيرَازِيّ الشَّافِعِي الْمُقْرِئ الْمُحدث وَيعرف بِابْن الْجَزرِي نِسْبَة لجزيرة ابْن عمر وترجمته فِي كثير من كتب التَّارِيخ
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي حوادث سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة
ولد المترجم سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة بِدِمَشْق وتفقه بهَا ولهج بِطَلَب الحَدِيث وَالْقُرْآن وبرز فِي علم الْقرَاءَات وَعمر مدرسة للقراء سَمَّاهَا دَار الْقُرْآن واقرأ النَّاس وَعين لقَضَاء الشَّام مرّة ثمَّ عرض عَارض فَلم يتم لَهُ وَقدم الْقَاهِرَة مرَارًا وَكَانَ مثريا وشكلا حسنا وفصيحا بليغا وَأطَال فِي تَرْجَمته وَهُوَ من المعاصرين لَهُ
وَقَالَ الشَّيْخ رَضِي الدّين مُحَمَّد بن احْمَد بن عبد الله الْغَزِّي العامري وَهُوَ من معاصريه أَيْضا فِي كِتَابه بهجة الناظرين إِلَى تراجم الْمُتَأَخِّرين
هُوَ الشَّيْخ الْمُحدث الْفَاضِل الأديب المفنن القَاضِي شمس الدّين ثمَّ ذكر تَارِيخ مولده سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة ثمَّ قَالَ قَالَ القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن خطيب الناصرية فِي تَارِيخه كَذَا رَأَيْته بِخَطِّهِ اهـ قَالَ الْغَزِّي وَحضر على ابْن الخباز وروى لنا عَنهُ واتهمه فِي ذَلِك المصريون وَمِنْهُم الْحَافِظ ابْن حجر
قلت وَلَا وَجه لاتهامه وَحُضُور ابْن الْجَزرِي عَلَيْهِ مُمكن بل سَمَاعه كَمَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث واخذ عَن جمَاعَة من عُلَمَاء الْإِسْلَام وبرع فِي علم الْقرَاءَات
1 / 10
واتقنها وَأَخذهَا على وَجههَا من أئمتها وبرع فِي زَمَانه وشكره الْأَئِمَّة وَولي خطابة جَامع التَّوْبَة بالعقيبة ثمَّ قَضَاء الشَّافِعِيَّة بِالشَّام من قبل الظَّاهِر برقوق الجركسي لَكِن لم يتم لَهُ الْأَمر وَدخل الْقَاهِرَة واخذ عَن أئمتها وَكَانَ لَهُ صيت فِي ذَلِك الْوَقْت ثمَّ ولي الصلاحية فِي الْقُدس الشريف ثمَّ ذكر أَسْفَاره فِي الأقطار وتنقلاته على سَبِيل الْإِجْمَال ثمَّ قَالَ
وَلما قدم المترجم دمشق اجْتمعت عَلَيْهِ وَكَانَ مسنا عِنْده تواضع وَله رياسة ظَاهِرَة وَجلسَ بِجَامِع دمشق عِنْد بَاب الخطابة وَاجْتمعَ عَلَيْهِ بعض الْقُرَّاء والطلبة فَأخذُوا عَنهُ وسمعوا مِنْهُ وَكَانَت بضاعته مزجاة فِي الْعُلُوم سوى الْقُرْآن فانه كَانَ فِيهِ عَلامَة زَمَانه ثمَّ رَحل إِلَى بِلَاد الْعَجم وَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ توفّي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة عَن اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ عَاما
وَقَالَ فِي الْبَدْر الطالع جد المترجم فِي طلب الحَدِيث بِنَفسِهِ وَقَرَأَ الْفِقْه وَالْأُصُول والمعاني وَالْبَيَان
وترجمه الْعَلامَة طاش كبري فِي الشقائق النعمانية بترجمة طَوِيلَة حاصلها انه جمع الْقرَاءَات السَّبع وَالْعشر والاثنتي عشرَة وَدخل الديار المصرية فنشر بهَا الْعلم والقراءات ثمَّ تَأَلُّبُ عَلَيْهِ الْأَعْدَاء حَتَّى ناله ظلم شَدِيد أدّى إِلَى اخذ مَاله وَغَيره فَخرج مِنْهَا إِلَى مَدِينَة بروسا فَأكْرمه السُّلْطَان بايزيد ثمَّ أَتَى دمشق فَلم يكد يصف لَهُ الْمقَام بهَا حَتَّى دهمتها الْفِتْنَة الْعَظِيمَة من قبل تيمورلنك سنة خمس وَثَمَانمِائَة وَلما رَحل عَنْهَا أَخذه مَعَه فِي جملَة من أَخذه من الْفُضَلَاء إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وأنزله بِمَدِينَة كشي ثمَّ بسمرقند فاشتهر بهما واقرأ جماعات لَا تحصى وَكثر نَفعه واشتهر فَضله حَتَّى إِن تيمور لما كَانَ بسمرقند اتخذ وَلِيمَة عَظِيمَة فَجَلَسَ فِي ديوانه وَعين جَانب يسَاره لِلْأُمَرَاءِ وجانب يَمِينه للْعُلَمَاء فَقدم فِي ذَلِك الْمجْلس الشَّيْخ الْجَزرِي على السَّيِّد الشريف الْجِرْجَانِيّ الْمَشْهُور وَكَانَ وقتئذ مدرسا بسمرقند فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ كَيفَ لَا اقدم رجلا عَالما بِالْكتاب وَالسّنة وَمَا يسْأَل عَمَّا أشكل على السَّائِل مِنْهُمَا إِلَّا حل الأشكال بِالذَّاتِ بِلَا تَأْخِير اهـ
1 / 11
قلت تَأمل وأمعن النّظر فِي هَذِه الْقَضِيَّة وادر انه إِن كَانَ مَا فعله تيمور لأمر سياسي فقد نَشأ عَن فكر عَال ومرتبة فِي السياسة سامية وان كَانَ عَن حب للسّنة فَللَّه در رجال تعرف مَرَاتِب أَصْحَاب الْكَمَال وَلَا تنقص الرِّجَال شَيْئا من حَقّهَا
وَالَّذِي يظْهر انه قصد الْأَمر الثَّانِي لَان تيمور مَعَ عتوه وظلمه وبغيه كَانَ مغرما بحب الْعلمَاء وَلَا سِيمَا الكاملون مِنْهُم
قَالَ فِي الشقائق ثمَّ لما مَاتَ تيمور سنة سبع وَثَمَانمِائَة فَارق المترجم بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر فَدخل خُرَاسَان وهراة وشيراز ويزد ونواحيها وَنشر فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن فن الْقرَاءَات والزمه صَاحب شيراز الْقَضَاء بهَا فَأَقَامَ مكْرها وَلما قضى الرَّحْمَن لَهُ بالخلاص سَافر إِلَى الْبَصْرَة ثمَّ إِلَى مَدِينَة الرَّسُول ﷺ اهـ
وترجمه السخاوي فِي الضَّوْء اللامع تَرْجَمَة مُطَوَّلَة وَطعن فِيهِ وَفِي رِوَايَته كَمَا هُوَ دأبه فِي عُلَمَاء الحَدِيث الَّذين لم يعظموه وخلاصة مَا قَالَه
انه جعل نَفسه عمريا وَقَالَ كَانَ أَبوهُ تَاجِرًا وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن تسع سِنِين وَصلى بِهِ فِي السّنة الْعَاشِرَة ثمَّ ولي الْقَضَاء بِدِمَشْق على مَال يَدْفَعهُ فَلَمَّا تولاه لم يَفِ بِهِ فامتحن لذَلِك وفر إِلَى مصر سنة ثَمَان وَتِسْعين ثمَّ لحق بِبِلَاد الرّوم واتصل بالسلطان بايزيد فَأكْرمه وعظمه وأنزله عِنْده بضع سِنِين فنشر علم الْقرَاءَات والْحَدِيث وانتفعوا بِهِ فَلَمَّا دخل تيمورلنك الرّوم أَخذه مَعَه إِلَى سَمَرْقَنْد فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن مَاتَ تيمور فتحول حِينَئِذٍ إِلَى شيراز فنشر بهَا الْقرَاءَات والْحَدِيث وانتفع بِهِ أَهلهَا وَولي قضاءها وَقَضَاء غَيرهَا من الْبلدَانِ من جِهَة أَوْلَاد تيمورلنك ثمَّ قصد الْحَج سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين فنهب فِي الطَّرِيق وتعوق عَن إِدْرَاك الْحَج فَأَقَامَ يَبِيع وَيَشْتَرِي ثمَّ تيَسّر لَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّة مجاورا وَحدث بهَا ثمَّ سَافر إِلَى بِلَاد الْعَجم ثمَّ قدم الْقَاهِرَة واتصل بالسلطان الاشرف فَعَظمهُ وأكرمه وتصدى للإقراء والتحديث ثمَّ سَافر إِلَى مَكَّة ثمَّ إِلَى الْيمن تَاجِرًا فَأَسْمع بهَا الحَدِيث وأكرمه صَاحبهَا وَوَصله بِحَيْثُ رَجَعَ بِبَضَائِع كَثِيرَة وَعَاد إِلَى مَكَّة ثمَّ إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ إِلَى الْبَصْرَة والى شيراز فَمَاتَ بهَا وَدفن بمدرسته الَّتِي أَنْشَأَهَا هُنَاكَ
1 / 12
ثمَّ سرد السخاوي مصنفاته فَقَالَ هِيَ
النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر مجلدان وَاخْتَصَرَهُ بِكِتَاب سَمَّاهُ التَّقْرِيب وتحبير التَّيْسِير فِي الْقرَاءَات الْعشْر والتمهيد فِي التجويد وهما مِمَّا آلفه وَله من الْعُمر سبع عشرَة سنة ونظم الْهِدَايَة فِي تَتِمَّة الْعشْرَة وسماها الدرة وَله من الْعُمر ثَمَانِي عشرَة سنة وَرُبمَا حفظهَا أَو بَعْضهَا بعض شُيُوخه وإتحاف المهرة فِي تَتِمَّة الْعشْرَة وإعانة المهرة فِي الزِّيَادَات على الْعشْرَة نظم وطيبة النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر فِي آلف بَيت والمقدمة فِيمَا على قَارِئ الْقُرْآن أَن يُعلمهُ وَهِي نظم أَيْضا وَقل من يعاني فن التجويد فِي زمننا إِلَّا ويحفظها ومنجد المقرئين وطبقات الْقُرَّاء فِي مُجَلد ضخم وَغَايَة النِّهَايَة فِي أَسمَاء رجال الْقرَاءَات والحصن الْحصين من كَلَام سيد الْمُرْسلين فِي الْأَذْكَار والدعوات وَهُوَ غَايَة فِي الِاخْتِصَار وَالْجمع وعدة الْحصن الْحصين وجنة الْحصن الْحصين وَعرف التَّعْرِيف مُخْتَصره والتوضيح فِي شرح المصابيح وَهُوَ ثَلَاثَة أسفار آلفه فِيمَا وَرَاء النَّهر والبداية فِي عُلُوم الرِّوَايَة وَالْهِدَايَة فِي فنون الحَدِيث نظم والأولوية فِي أَحَادِيث الْأَوْلَوِيَّة وَعقد اللآلي فِي الْأَحَادِيث المسلسلة العوالي والمسند الاحمد فِيمَا يتَعَلَّق بِمُسْنَد احْمَد والمقصد الاحمد فِي رجال احْمَد والمصعد الاحمد فِي ختم مسانيد احْمَد والإجلال والتعظيم فِي مقَام إِبْرَاهِيم والإبانة فِي الْعمرَة من الْجِعِرَّانَة والتكريم فِي الْعمرَة من التَّنْعِيم وَغَايَة المنى فِي زِيَارَة منى وَفضل جبل حراء واحاسن المنن واسنى المطالب فِي مَنَاقِب عَليّ ابْن أبي طَالب والجوهرة فِي النَّحْو وَغير ذَلِك من الرسائل والتعليقات
وَقد ذكره الطاووسي فِي مشيخته وَقَالَ انه تفرد بعلو الرِّوَايَة وَحفظ الْأَحَادِيث وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل وَمَعْرِفَة الروَاة الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين اهـ وترجمه الْحَافِظ ابْن حجر فِي مُعْجم شُيُوخه الَّذِي سَمَّاهُ الْمجمع المؤسس للمعجم المفهرس فَذكر نَحوا مِمَّا سبق وَقَالَ كَانَ لَهُ توقيع الدست بِدِمَشْق وَعين لقَضَاء الشَّافِعِيَّة ثمَّ فر إِلَى بِلَاد الرّوم واتصل بِالْملكِ بايزيد بن عُثْمَان وَأقَام عِنْده بضع سِنِين إِلَى وقْعَة الكائنة الْعُظْمَى الَّتِي قتل فِيهَا الْملك بازيد فاتصل بعْدهَا بالأمير تيمور إِلَى أَن قَالَ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْفِقْه يَد بل فنه الَّذِي مهر فِيهِ الْقرَاءَات وَله عمل فِي الحَدِيث وَله نظم وسيط اهـ
1 / 13
قلت وفن الْقرَاءَات فِي دمشق ومصر وَغَيرهمَا إِنَّمَا يَدُور على مصنفات ابْن الْجَزرِي فِي زمننا هَذَا وعَلى الشاطبية وشروحها وَرَأَيْت لَهُ كتابا فِي نظم السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَأَنا فِي سنّ الصِّبَا وَقد غَابَ الْآن عني وَمن لطيف نظمه مَا قَالَه عِنْد ختم كتاب الشَّمَائِل للْإِمَام التِّرْمِذِيّ
(اخلاي أَن شط الحبيب وربعه ... وَعز تلاقيه وناءت مَنَازِله)
(وفاتكم أَن تبصروه بعينكم ... فَمَا فاتكم بِالسَّمْعِ هذي شمائله)
قَالَ المقريزي وَقد مدحه النواجي بقوله
(أيا شمس علم بالقراءات أشرقت ... وحقك قد من الْإِلَه على مصر)
(وهاهي بالتقريب مِنْك تضوعت ... عبيرا وأضحت وَهِي طيبَة النشر)
وَكتب إِلَيْهِ الْمولى خضر بك يَقُول
(لَو كَانَ فِي بَابه للنظم معْجزَة ... الفت فِي مدحه آلفا من الْكتب)
(لكنه الْبَحْر فِي كل الْفُنُون فَمَا ... إهداء در إِلَى بَحر من الْأَدَب)
فَأَجَابَهُ بقوله
(فِي در علمك بَحر الْفضل ذُو لجب ... ودر نظمك عقد فِي حلى الْأَدَب)
(الدّرّ فِي الْبَحْر مَعْهُود تكونه ... وَالْبَحْر فِي الدّرّ يُبْدِي غَايَة الْعجب)
دَار الْقُرْآن الدلامية
ترجمها صَاحب تَنْبِيه الطَّالِب والدارس بقوله هِيَ بِالْقربِ من الماردانية بالجسر الْأَبْيَض بالجانب الشَّرْقِي من الشَّارِع الْآخِذ إِلَى الجسر الْمَذْكُور بالصالحية زَاد العلموي فِي مُخْتَصره وَهِي مَعْرُوفَة انْتهى
وفيهَا تربة الْوَاقِف أَنْشَأَهَا الشهَاب الخواجكي الرئيسي الشهابي أَبُو الْعَبَّاس احْمَد بن الْمجْلس الخواجكي زين الدّين دلامة بن عز الدّين نصر الله الْبَصْرِيّ اجل أَعْيَان الخواجكية بِالشَّام إِلَى جَانب دَاره وترجمة السخاوي فِي الضَّوْء اللامع فَقَالَ
1 / 14
احْمَد بن دلامة الخواجا الْبَصْرِيّ ثمَّ الدِّمَشْقِي انشأ مدرسة بصالحية دمشق وتفقه وبرع وَمَات فِي ثامن عشر الْمحرم سنة ثَلَاث وَخمسين وَثَمَانمِائَة وَدفن بعد الْعَصْر من يَوْمه انْتهى
قَالَ البقاعي وَقد قَارب الثَّمَانِينَ قَالَ فِي التُّحْفَة وَقفهَا سنة سبع وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة ورتب بهَا إِمَامًا وَله من الْمَعْلُوم مائَة دِرْهَم وقيما وَله مثل الإِمَام وَسِتَّة أَنْفَار من الْفُقَرَاء الغرباء الْمُهَاجِرين فِي قِرَاءَة الْقُرْآن وَلكُل وَاحِد مِنْهُم ثَلَاثُونَ درهما فِي كل شهر ولشيخهم عشرَة وَمن شَرط الإِمَام الرَّاتِب أَن يتَصَدَّى شَيخا لإقراء الْقُرْآن للْجَمَاعَة وَله على ذَلِك عشرُون درهما زِيَادَة على مَعْلُوم الأمامية وَسِتَّة أَيْتَام بالمكتب على بَابهَا وَلكُل وَاحِد مِنْهُم فِي كل شهر عشرَة دَرَاهِم وَقرر لَهُم شَيخا وَله من الْمَعْلُوم سِتُّونَ درهما فِي كل شهر ورتب أَيْضا قَارِئًا لصحيح الإِمَام البُخَارِيّ فِي كل من شهر رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وَجعل لَهُ من الْمَعْلُوم مائَة وَعشْرين درهما وناظرا وَله من الْمَعْلُوم فِي الشَّهْر سِتُّونَ درهما وعاملا وَله من الْمَعْلُوم فِي السّنة سِتّمائَة دِرْهَم ورتب للزيت فِي كل عَام مثلهَا وَجعل للشمع ولقراءة البُخَارِيّ وَإِمَام التَّرَاوِيح مائَة دِرْهَم ولأرباب الْوَظَائِف خَمْسَة عشر رطلا من الْحَلْوَى ورأسي غنم أضْحِية وَلكُل يَتِيم جُبَّة قطنية وقميصا ومنديلا فِي كل سنة وَقرر قَارِئ ميعاد فِي يَوْم الثُّلَاثَاء من كل أُسْبُوع وَله فِي الشَّهْر ثَلَاثُونَ درهما وَشرط على أَرْبَاب الْوَظَائِف حفظ حزب الصَّباح والمساء لِابْنِ أبي دَاوُد يقرؤونه بعد صَلَاة الصُّبْح وَالْعصر وان يكون الإِمَام هُوَ الْقَارئ البُخَارِيّ والقارئ على ضريح الْوَاقِف والقيم هُوَ البواب والمؤذن حكى هَذَا ابْن طولون فِي كِتَابه القلائد الجوهرية فِي تَارِيخ الصالحية والنعيمي وَتَبعهُ فِي التَّنْبِيه وَأول من بَاشر الْإِمَامَة بهَا والمشيخة شمس الدّين البانياسي وَقِرَاءَة الميعاد شمس الدّين بن حَامِد وَذكر بَعضهم أَن سَبَب إنشائها أَن الخواجا إِبْرَاهِيم الأسعردي عمر مدرسة بالجسر الْأَبْيَض لَيْسَ لَهَا نَظِير وَجعل بهَا خلاوي فَطلب بهَا رجل من جمَاعَة ابْن دلامة خلْوَة بشفاعة ابْن دلامة فَلم يُعْطه الْخلْوَة الَّتِي طلبَهَا وَأَعْطَاهُ غَيرهَا فَلم يقبلهَا فَقَالَ الخواجا إِبْرَاهِيم لَهُ قل لِابْنِ دلامة يعمر مدرسة مثلهَا ويعمر لَك خلْوَة تريدها فَأخْبرهُ بذلك فَلم ينم تِلْكَ اللَّيْلَة
1 / 15
حَتَّى رسم مَكَانهَا وقاسها فَقَالَ الخواجا إِبْرَاهِيم مَا أردْت بذلك إِلَّا تنهيضه لفعل الْخَيْر
قلت وَقد شاهدت تِلْكَ الدَّار أثْنَاء كتابتي لهَذِهِ السطور وَهِي مَعْرُوفَة باسم الدلامية إِلَى الْآن فِي الطَّرِيق الْآخِذ إِلَى الصالحية فِي الْجِهَة الشرقية وَهِي عامرة مَشْهُورَة وحائطها الغربي مَبْنِيّ بِالْحِجَارَةِ السَّوْدَاء والصفراء على نمط جميل وبابها مَبْنِيّ على هندسة لَطِيفَة وإتقان يدل على مَا كَانَ للفن المعماري فِي ذَلِك الزَّمن من التَّقَدُّم وَكَأن الْمُتَقَدِّمين كَانُوا يتفننون فِي بِنَاء الْأَبْوَاب فيجعلون لأبواب دور الْقُرْآن طرزا غير طرز أَبْوَاب دور الحَدِيث ولأبواب الحَدِيث شكلا غير شكل أَبْوَاب مدارس الْفِقْه والعلوم ويميزون أَبْوَاب أبنية السلاطين والأمراء لمعاهد الْخَيْر عَن أَبْوَاب أبنية غَيرهم وَمن تَأمل مآثرهم رأى ذَلِك عيَانًا ثمَّ انك إِذا دخلت من الْبَاب أفْضى بك إِلَى صحن لطيف فِي وَسطه بركَة مَاء وَفِي الْجِهَة الشمالية إيوَان لطيف أَيْضا وَفِي الْجِهَة الْقبلية حرم جميل ثَلَاث عشرَة خطْوَة فِي سبع وَفِي الْحَائِط الشَّرْقِي حجرَة وَفِي الغربي حجرَة أَيْضا وَبهَا قبر الْوَاقِف وَلها شباك مطل على الطَّرِيق وَتلك الدَّار الْآن معدة لإِقَامَة الصَّلَوَات الْخمس والأوقات الَّتِي اصْطلحَ عَلَيْهَا أَتبَاع الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الرَّشِيدِيّ من المتصوفة واخبرني أحد المقيمين بهَا أَن أَيدي المختلسين تناولتها قَدِيما فَجعلُوا نصفهَا دَارا وَالنّصف الآخر جنينة للورد والأزهار الَّتِي يَزْرَعهَا أهل الصالحية ويبيعونها فَلَمَّا كَانَت سنة ثَلَاثمِائَة وَألف انتدب لَهَا السّري المحسن عَليّ بك ابْن مردم باشا الْمُؤَيد العظمي فاستخلصها من يَد مختلسيها وبناها على الطّراز الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ الْآن
دَار الْقُرْآن الرشائية
كَانَت هَذِه الدَّار شمَالي الخانقاه السميساطية وَكَانَ الطَّرِيق الَّذِي يمر إِمَام مدفن السُّلْطَان صَلَاح الدّين فَيَأْخُذ إِلَى الشرق يُقَال لَهُ درب الخزاعيين وَبَاب الْجَامِع الشمالي يُقَال لَهُ بَاب الناطفيين فَتغير الِاسْم وَبَقِي الْمَكَان على حَاله
1 / 16
تَرْجَمَة واقفها
أَنْشَأَهَا عَلَاء الدّين عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن مَحْمُود السنجاري
قَالَ الْحَافِظ ابْن كثير فِي تَرْجَمته هُوَ أحد التُّجَّار الْمَشْهُورين والأتقياء الورعين وَمن الأخيار ذَوي الْيَسَار المسارعين إِلَى الْخيرَات توفّي فَجْأَة فِي الْقَاهِرَة لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَدفن عِنْد قبر القَاضِي شمس الدّين الحريري وَمَات عَمَّا ينيف عَن ثَمَانِينَ سنة من الْعُمر
وَقَالَ الْحَافِظ البرزالي فِي تَرْجَمته كَانَ رجلا جيدا فِيهِ ديانَة وبر انشأ دَار الْقُرْآن السنجارية ورتب فِيهَا جمَاعَة يقرؤون الْقُرْآن ويتلقونه وَكَانَ لَهُ مواعيد حَدِيث يَعْنِي أوقاتا يحضرها النَّاس لسَمَاع الحَدِيث
وَقَالَ العلموي أَنْشَأَهَا سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَقَالَ أَيْضا فِي تَعْرِيفهَا وَهِي الْآن مُتَّصِلَة ببيتي بِبَاب فَتحته من حَائِط مُشْتَرك بَين بَيْتِي وَبَينهَا غير بَابهَا الْمَخْصُوص بهَا انْتهى
وَانْظُر آيها الْعَاقِل مُرَاده بِهَذِهِ الْعبارَة الَّتِي قصد بهَا أَن يعرفنا مَكَان بَيته فَتوجه عَلَيْهِ اعْتِرَاض وَفتح عَلَيْهِ فتح ذَلِك الْبَاب بَابا وَهُوَ انه أَشَارَ إِلَى انه أول من سارع من الْقَوْم إِلَى التلاعب بهَا وَأول من انْتظر فرْصَة لضمها إِلَى بَيته وَقد شَاءَ لَهُ الزَّمَان ذَلِك فانه بِهَذَا تصرف بهَا نوعا من التَّصَرُّفَات ثمَّ جَاءَ من بعده فَبَالغ وَهَكَذَا إِلَى أَن صَارَت ملكا تبَاع وتوهب وتورث وَرُبمَا استبدلت بهَا قِرَاءَة الْقُرْآن بنغمات الأوتار وتلون الألحان ومغازلة الغادات والغزلان فبانيها سنّ سنة حَسَنَة فَكَانَ لَهُ اجرها ومختلسها سنّ سنة سَيِّئَة فَكَانَ عَلَيْهِ وزرها وَلَا يضيع عِنْد الله مِثْقَال ذرة
دَار الْقُرْآن الصابونية
هِيَ الْآن مَوْجُودَة مَشْهُورَة عامرة
قَالَ النعيمي هِيَ خَارج دمشق قبلي بَاب الْجَابِيَة غربي الطَّرِيق الْعُظْمَى ومزار اوس بن اوس الصَّحَابِيّ الْجَلِيل ﵁ وَبهَا جَامع حسن بمنارة تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وتربة الْوَاقِف وأخيه وذريتهما انْتهى
1 / 17
وَقد رَأَيْتهَا أثْنَاء كتابتي لهَذِهِ السطور لأصفها عَن مُشَاهدَة فَإِذا هِيَ مُقَابل تربة بَاب الصَّغِير غربي الطَّرِيق الْأَعْظَم الْآخِذ إِلَى بَاب الْمصلى والميدان وجدارها الشَّرْقِي شَاهِق متين مَبْنِيّ بِالْحجرِ الْأَصْفَر بِنَاء متقنا وَبِه نقوش بديعة محفورة بأحجاره وَفِيه الْبَاب وَهُوَ مُرْتَفع أَيْضا يماس اوجه علو الْجِدَار وَصدر قنطرته مزخرف بحجارة محفورة معجنة وَهُوَ على شكل محراب وَفِيه بَاب الْمدرسَة وَهُوَ صَغِير بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَهَذَا الْعَمَل يدل على إتقان الْفَنّ المعماري وقتئذ فَإِذا دخلت من الْبَاب صرت فِي دهليز وَكَانَ عَن يسارك جَامع للمحاسن جَامع تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَعَن يَمِينك قبَّة لَهَا شباكان مطلان على الطَّرِيق الْأَعْظَم وَفِي الجنوبي مِنْهُمَا فسقية مَاء يردهَا المارون وفيهَا قبر الْوَاقِف وأخيه وَاحِد أَقَاربه والقبور الثَّلَاثَة مَبْنِيَّة بالرخام الْأَبْيَض وَأَعْلَى الْقبَّة كَانَ متهدما فعمر عمَارَة لَطِيفَة وَجعل لَهُ شبابيك من البلور وبجانبها من الغرب حجرَة قد سقط سقفها وَبقيت جدرانها وَلها بَاب إِلَى الدهليز وَفِي داخلها بَاب إِلَى الْقبَّة فَإِذا خلصت من الدهليز وصلت إِلَى صحن الْمدرسَة وَطوله تسع عشرَة خطْوَة فِي عرض سبع عشرَة خطْوَة وَفِيه بركَة مَاء مربعة مَاؤُهَا دَائِم الجريان كَمَا هِيَ عَادَته فِي دمشق وقابلك من الغرب إيوَان فِي صَدره ثَلَاث حجرات وبجانبه الشمالي حجرَة وَعَن يَمِينه دَار للسُّكْنَى وَعَن يسَاره كَذَلِك وَفِي الْجَانِب الجنوبي إيوَان أَيْضا وَفِي صَدره محراب وحجرتان عَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَفِي جَانِبه الشَّرْقِي حجرَة أَيْضا وَفِيه بَاب يصعد مِنْهُ إِلَى المنارة وَهِي شاهقة الْبناء حَسَنَة الْوَضع وَفِي الْجَانِب الشمالي بيُوت الْخَلَاء وحجرة إمامها قبران فجملة مَا هُوَ مَوْجُود بهَا عشر حجرات
قَالَ النعيمي وَهَذِه الدَّار أَنْشَأَهَا الْمقر الخواجكي شهَاب الدّين احْمَد الشهابي القضائي ابْن علم الدّين سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الْبكْرِيّ الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بالصابوني ابْتَدَأَ فِي عمارتها سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَفرغ مِنْهَا سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة وَشرط الْوَاقِف النّظر لنَفسِهِ ثمَّ لذريته ثمَّ من بعد انقراضهم يكون النّظر نِصْفَيْنِ نصف مِنْهُ لحاجب دمشق يَعْنِي واليها أَو مَالِكهَا كَائِنا من كَانَ وَالنّصف الآخر للْإِمَام وَشرط قِرَاءَة البُخَارِيّ فِي شهور رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وَاشْترط فِي الْخَطِيب أَن يكون شَافِعِيّ الْمَذْهَب وَفِي الإِمَام أَن يكون من الطَّائِفَة الجبرتية وَسَيَأْتِي بيانهم
1 / 18
وان يكون حنفيا وان يكون مَعَه تِسْعَة عشر فَقِيرا من جنسه يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن قَالَه أَبُو الْبَقَاء احْمَد البقاعي فِي مُخْتَصره وَفِي التَّنْبِيه عشرَة وَلَعَلَّه هُوَ الْأَصَح وَجعل لسكن الإِمَام وَعِيَاله قاعة وللفقراء عشر حجرات يَعْنِي خلاوي قلت وَهَذِه الحجرات والقاعة مَوْجُودَة الْآن كَمَا مر بَيَانه فان لم يُوجد إِمَام من الجبرتية الْحَنَفِيَّة فَيكون يَمَانِيا فان لم يُوجد فَيكون افاقيا ورتب سِتَّة مؤذنين وَجعل قيمًا وبوابا وفراشا وجابيا للْوَقْف وَبنى أَيْضا تجاه الْمَكَان الْمَذْكُور من الشرق مكتبا للأيتام وَاشْترط أَن تكون عدتهمْ عشرَة ورتب لَهُم شَيخا يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن بمعلومات شَرطهَا لَهُم تصرف عَلَيْهِم من جِهَات عديدة مِنْهَا عدَّة قرى غربي مَدِينَة بيروت اسْمهَا الصابونية وَمِنْهَا جَمِيع قَرْيَة مديرى بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة آخرهَا آلف مَقْصُورَة وَهِي بالغوطة من المرج الشمالي مَعْرُوفَة مَشْهُورَة وَمِنْهَا قَرْيَة ترحيم بالبقاع وَعشرَة افدنة وَنصف فدان وَأَرْبَعَة فدادين بقرية الصويرة وَربع قَرْيَة القرعون بالبقاع وَسِتَّة فدادين من قَرْيَة كحيل بحوران وَعشرَة افدنة وَنصف فدان من قَرْيَة الخيارة قبلي دمشق وَعشرَة افدنة وَنصف فدان من قَرْيَة السبينة الغربية ومزرعة السياف الكائنة بِقرب بَيت الابيار وَربع بُسْتَان بقرية جرمانا وبستان الوثاب بالوادي التحتاني وبستان بِعَين ثرما وَسبع قطع ارْض بقرية سقبا وبستان بقرية حمورية وعدة بساتين ببرزة وَأَرْبَعَة بساتين بجوبر وعدة بساتين بالنيرب الفوقاني وَأَرْبَعَة بساتين بِأَرْض المزة وَمثلهَا بقرية كفرثوثا وَثَلَاثَة بساتين بِأَرْض قبنية فَهَذِهِ هِيَ الْأَرَاضِي والبساتين
وَأما المسقفات فَمِنْهَا خَان كَانَ يُسمى بخان البقسماتية وقاعة وَاحِدَة بِعَين اللؤلؤة وحانوت بالدباغة وَأَرْبع طباق بالعقيبة الْكُبْرَى وخان طولون بهَا وَثَلَاثَة حوانيت شركَة الْحَرَمَيْنِ بسوق الْعِمَارَة التحتاني وَكَانَت تسمى عمَارَة الاخنائي وَسِتَّة حوانيت بمحلة مَسْجِد الأقصاب وقاعتين بجوار الْجَامِع الْأمَوِي وَأَرْبع طباق جوَار المارستان النوري وطبقة وَاحِدَة جوَار بَاب الفراديس بِدِمَشْق وَأَرْبَعَة حوانيت بالقضمانية وَسِتَّة حوانيت بِبَاب الْجَابِيَة وخان بمحلة سوق الْهَوَاء وخان بمحلة قصر حجاج وطبقة فَوْقه
1 / 19
وحانوت غربي النَّخْلَة الطَّوِيلَة قبلي جَامع حسان وَهَذِه النَّخْلَة كَانَت فِي زمن النعيمي والبقاعي وَأما الْآن فَلم يفدنا التَّعْرِيف بهَا شَيْئا
هَذَا مَا وَقفه الْوَاقِف واحتسب اجره عِنْد الله تَعَالَى
ثمَّ جَاءَ بعده مَمْلُوك لَهُ يُقَال لَهُ يُوسُف الرُّومِي فحذا حَذْو سَيّده فِي أَفعَال الْخَيْر والتربية الْحَسَنَة تفِيد المربى والمربي فَأوقف على الصابونية بستانا غربي مصلى الْعِيدَيْنِ جوَار بُسْتَان الصاحب ومعصرة زيتون بكفرثوثا وقاعة لصيق الْجَامِع وَفِي علوها طبقَة وقاعة أُخْرَى قبلي ذَلِك وفوقها طبقتان
الجبرتية
حَيْثُ انه قد سبق ذكر الجبرتية أثْنَاء شَرط الْوَاقِف كَانَ الالماع إِلَى تعريفهم وَبَيَان مواطنهم متمما للفائدة موقفا على مزِيد بَيَان تفكهة وتنقلا وَاللَّذَّات فِي التنقل وَلذَا وضعناها بِحَسب مَا كَانَت عَلَيْهِ من قبل وبمقتضى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن واليك ذَاك
قَالَ الْفَاضِل عبد الرَّحْمَن الجبرتي فِي تَارِيخه الْمُسَمّى عجائب الْآثَار
بِلَاد جبرت هِيَ بِلَاد الزيلع بأراضي الْحَبَشَة تَحت حكم الخطا ملك الْحَبَشَة وَهِي عدَّة بِلَاد مَعْرُوفَة تسكنها هَذِه الطَّائِفَة وهم الْمُسلمُونَ بذلك الإقليم ويتمذهبون بمذهبي أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لَا غير وينتسبون إِلَى سيدنَا اسْلَمْ بن عقيل بن أبي طَالب وهم قوم يغلب عَلَيْهِم التقشف وَالصَّلَاح ويسافرون من بِلَادهمْ بِقصد الْحَج والمجاورة فِي طلب الْعلم ويحجون مشَاة وَلَهُم رواق بِالْمَدِينَةِ المنورة ورواق بِمَكَّة المشرفة ورواق بالجامع الْأَزْهَر ثمَّ قَالَ الجبرتي وَظهر مِنْهُم عُلَمَاء أفاضل كالزيلعي شَارِح الْكَنْز وَغَيره وسرد تراجمهم ثمَّ قَالَ وللحافظ المقريزي مؤلف فِي أَخْبَار بِلَادهمْ وتفصيل أَحْوَالهم وللشيخ عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن عبد الله البُخَارِيّ كتاب سَمَّاهُ الطّراز المنقوش فِي محَاسِن الحبوش وللحافظ عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ كتاب تنوير الغبش فِي فَضَائِل السودَان والحبش وللجلال السُّيُوطِيّ كتاب أَيْضا سَمَّاهُ رفع شان الحبشان انْتهى
1 / 20