هنا قال الملك: يا وزير، أغدق علي بكأس من نهر الجنون؛ إن الجنون أن تظل عاقلا في دنيا المجانين.
تنهدت جان وقالت: بالتأكيد الخيار صعب؛ عندما تنفرد بقناعة تختلف عن كل قناعات الآخرين، عندما يكون سقف طموحك مرتفعا جدا عن الواقع المحيط. هل ستستسلم للآخرين، وتخضع للواقع، وتشرب الكأس؟
اسمعي، جيوبي مليئة بقصاصات ورق، سأخرج لك منها وأقرأ؛ حين يقول لك أحدهم: معقولة فلان وفلان وفلان كلهم على خطأ وأنت وحدك الصح؟! إذا وجه إليك هذا الكلام فاعلم أنه عرض عليك لتشرب من الكأس.
اسمع يا ميشيل، حين كنت بطلة في الرواية وصلت لكثير من الأشياء التي ساعدتني للثبات، كان أهم ما أدركت أنني لست تلك الفتاة الطيبة التي تمعن في تأمل نفسها وتقوم عالمها الخاص الافتراضي الذهني بعيدا عن الأرض، وتصنع منه عالما يشبهها، وتنتمي إليه وينتمي لها، وأنني هنا لغاية ما، غاية أكبر مني وأجمل مني، غاية تهذبني بعناية مع السنوات، وأهذب نفسي كي تليق بها، وأن أعواما على هذه الأرض ستحمل لي هويتي؛ الهوية هي ذروة طريق الحياة. إنني سأقطع الطريق إلى آخره، باتجاه نفسي، وحين ألتقى بها؛ سأجد هويتي.
قاطعها ميشيل في الحديث: كان يقول عنك الكاتب: كانت فتاة صيفية العاطفة، شتوية الحنين، وامرأة لكل الفصول. تحب القطط كذاتها الأخرى، ولا تشفى من الياسمين. وحين أحبت زوجها بكل نبله، كانت ربيعا، وكان نبيلا معها.
لكن الذي لا يعلمه أن هناك أشياء ما بين السطور؛ صرنا نتنازع نزاع الصبية سويا كمن يرفض أحدنا الآخر كالمعتاد، وفي الخفاء لا يتوقف عن نبله وحنانه الدائم. وكان دافئا نحوي عند الرحيل، لقد كان كريما دوما معي، ولا أدري متى يمكنني السداد؟ أقف على خطوات من وداعهم، وأتحسس دفء ذكراه في عناق حميم معهم.
كنت أعلم في هذه الرواية أنه لا بد أن نترك بعضنا البعض، ووضعت الأحداث؛ ألزم زوجي الكرسي ولم يتحرك، الشارع كله صار يعاتبه ويشير له هذا الغريب.
خاف وقتها أبوه وأمه أن أنسيه ما ولد عليه؛ فكانا يحضران له هدايا بطعم الغفران. كان يقول لهما حين يراهما: أنا ما زلت ثابتا.
لم أنسه أبدا. لن أسافر مسافة بعيدة عن روحي التي ما زلت أظن أنها تنضج سريعا قبل أن ينضج صوتي المرهف، وقبل أن تنضج ملامح وجهي الطفولية، وقبل أن ينضج جسدي في عناق حميم صادق يضمنا معا من جديد.
وقبل أن تتوقف الأعوام لتلتقط أنفاسها المتسارعة قليلا، وهي تقطع الطريق داخل عاطفتنا! الأعوام التي علمتنا كيف نفقد مذاق الاكتفاء ببطء، وأن نكتفي بنصف الأشياء، ونتأخر على كل شيء. نصف الأحلام، نصف الهوية، نصف الطريق، نصف البدايات، نصف النهايات، نصف الأصوات، نصف الدفء، نصف الأشخاص، نصف العاطفة، نصف البهجة، نصف الحميمية ونصف الذكريات. خرجت من الرواية بعد كل هذا الحنين الذي وصلت به مع زوجي، رجوت الكاتب أن أبقى معه طويلا؛ كان يغلق الصفحات في وجهي. وصارت قصة كبيرة لزوجي؛ كنا نزرع شجرة جوافة بالقرب من سور البيت، ووقت النضوج جاء صغار الحارة وألقوا حجارة على الثمار. حاول زوجي أن يمنعهم من ذلك، لكن العادة صارت عبادة عند الحارة، وصار الجميع يرشق بيتنا بالحجارة؛ ليس لثمار الجوافة ولكن لثمار الغفران!
صفحه نامشخص