فإن قال قائل: إنما عنى به الزهد في الدنيا وهؤلاء زهاد، قلنا: التصوف مذهب معروف عند أصحابه لا يقتصر فيه على الزهد بل له صفات وأخلاق يعرفها أربابه ولولا أنه أمر زيد على الزهد ما نقل عن بعض هؤلاء المذكورين ذمه، فانه قد روى أبو نعيم في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه أنه قال: التصوف مبني على الكسل، ولو تصوف رجل أول النهار لم يأت الظهر إلا وهو أحمق .وقد ذكرت الكلام في التصوف ووسعت القول فيه في كتابي المسمى بتلبيس إبليس.
والثامن -أنه حكى في كتابه عن بعض المذكورين كلاما أطال به لا طائل فيه .....
والتاسع -أنه ذكر أشياء عن الصوفية لا يجوز فعلها، فربما سمعها المبتدئ القليل العلم فظنها حسنة فاحتذاها، مثل ما روي عن أبي حمزة الصوفي أنه وقع في بئر فجاء رجلان فطماها، فلم ينطق حملا لنفسه على التوكل بزعمه، وسكوت هذا الرجل في مثل هذا المقام إعانة على نفسه وذلك لا يحل، ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحال، كما لم يخرج رسول الله. صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة واستئجاره دليلا واستكتامه، واستكفائه ذلك الأمر واستتار في الغار، وقوله لسراقة: أخف عنا.
فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محذور، وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله عز وجل قد خلق للآدمي آلة يدافع بها عن نفسه الضرر وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان جهلا بالتوكل وردا لحكمة الواضع لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله سبحانه وليس من ضرورته قطع الأسباب، ولو أن إنسانا جاع فلم يأكل، أو احتاج فلم يسأل، أو عري فلم يلبس، فمات دخل النار، لأنه قد دل على طريق السلامة فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه.
صفحه ۴