قد اشير في التنبيه إلى ان كثيرا من الاعتبارات السابقة يجرى في متعلقات الفعل لكن ذكر في هذا الباب تفصيل بعض من ذلك لاختصاصه بمزيد بحث ومهد لذلك مقدمة. فقال (الفعل مع المفعول كالفعل مع الفاعل في ان الغرض من ذكره معه) أي ذكر كل من الفاعل والمفعول أو ذكر الفعل مع كل منهما (افادة تلبسه به) أي تلبس الفعل بكل منهما اما بالفاعل فمن جهة وقوعه عنه واما بالمفعول فمن جهة وقوعه عليه (لا افادة وقوعه مطلق) أي ليس الغرض من ذكره معه افادة وقوع الفعل وثبوته في نفسه من غير ارادة ان يعلم ممن وقع عنه أو على من وقع عليه إذ لو اريد ذلك لقيل وقع الضرب أو وجد أو ثبت من غير ذكر الفاعل أو المفعول لكونه عبثا (فإذا لم يذكر) المفعول به (معه) اي مع الفعل المتعدى المسند إلى فاعله. (فالغرض ان كان اثباته) أي اثبات الفعل (لفاعله أو نفيه عنه مطلقا) أي من غير اعتبار تعلقه بمن وقع عليه فضلا عن عمومه وخصوصه (نزل) الفعل المتعدى (منزلة اللازم ولم يقدر له مفعول لان المقدر كالمذكور) في ان السامع يفهم منها ان الغرض الاخبار بوقوع الفعل من الفاعل باعتبار تعلقه بمن وقع عليه. فان قولنا فلان يعطى الدنانير يكون لبيان جنس ما يتناوله الاعطاء لا لبيان كونه معطيا ويكون كلاما مع من اثبت له اعطاء غير الدنانير لا مع من نفى ان يوجد منه اعطاء (وهو) أي هذا القسم الذى نزل منزلة اللازم (ضربان لانه اما ان يجعل الفعل) حال كونه (مطلقا) أي من غير اعتبار عموم أو خصوص فيه ومن غير اعتبار تعلقه بالمفعول (كناية عنه) أي عن ذلك الفعل حال كونه (متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة اولا) يجعل كذلك (الثاني كقوله تعالى قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أي لا يستوى من يوجد له حقيقة العلم ومن لا يوجد فالغرض اثبات العلم لهم ونفيه عنهم من غير اعتبار عموم في افراده ولا خصوص ومن غير اعتبار تعلقه بمعلوم عام أو خاص. وانما قدم الثاني لانه باعتبار كثرة وقوعه اشد اهتماما بحاله السكاكى ذكر في بحث افادة اللام الاستغراق انه إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن غر كريم والمنافق خب لئيم حمل المعرف باللام مفردا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة ايهام ان القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لاحد المتساويين على الاخر. ثم ذكر في بحث حذف المفعول، انه قد يكون للقصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدى منزلة اللازم ذهابا في نحو فلان يعطى إلى معنى يفعل الاعطاء ويوجد هذه الحقيقة ايهاما للمبالغة بالطريق المذكور في افادة اللام الاستغراق فجعل المصنف قوله بالطريق المذكور اشارة إلى قوله ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا حمل المعرف باللام على الاستغراق واليه اشار بقوله. (ثم) أي بعد كون الغرض ثبوت اصل الفعل وتنزيله منزلة اللازم من غير اعتبار كونه كناية (إذا كان المقام خطابيا) يكتفى فيه بمجرد الظن (لا استدلاليا) يطلب فيه اليقين البرهانى (افاد) المقام أو الفعل (ذلك) أي كون الغرض ثبوته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا (مع التعميم) في افراد الفعل (دفعا للتحكم) اللازم من حمله على فرد دون آخر. وتحقيقه ان معنى يعطى حينئذ يفعل الاعطاء فالاعطاء المعرف بلام الحقيقة يحمل في المقام الخطابى على استغارق الاعطاآت وشمولها مبالغة لئلا يلزم ترجيح احد المتساويين على الاخر. لا يقال افادة التعميم في افراد الفعل تنافى كون الغرض الثبوت أو النفى عنه مطلقا أي من غير اعتبار عموم ولا خصوص. لانا نقول لا نسلم ذلك فان عدم كون الشئ معتبرا في الغرض لا يستلزم عدم كونه مفادا من الكلام فالتعميم مفاد غير مقصود، ولبعضهم في هذا المقام تخيلات فاسدة لا طائل تحتها فلم نتعرض لها. (والاول) وهو ان يجعل الفعل مطلقا كناية عنه متعلقا بمفعول مخصوص (كقول البخترى في المعتز بالله) تعريضا بالمستعين بالله (شجو حساده وغيظ عداه، (شجو حساده وغيظ عداه * ان يرى مبصر ويسمع واع) اي ان يكون ذو رؤية وذو سمع فيدرك بالبصر (محاسنه) وبالسمع (اخباره الظاهرة الدالة على استحقاقه الامامة دون غيره فلا يجدوا) نصب وعطف على يدرك أي فلا يجد اعداؤه وحساده الذين يتمنون الامامة (إلى منازعته) الامامة (سبيلا). فالحاصل انه نزل يرى ويسمع منزلة اللازم، أي: من يصدر عنه السماع والرؤية من غير تعلق بمفعول مخصوص، ثم جعلها كنايتين عن الرؤية والسماع المتعلقين بمفعول مخصوص هو محاسنه. واخباره بادعاء الملازمة بين مطلق الرؤية ورؤية آثاره ومحاسنه وكذا بين مطلق السماع وسماع اخباره للدلالة على ان آثاره واخباره بلغت من الكثرة والاشتهار إلى حيث يمتنع اخفاؤها فأبصرها كل راء وسمعها كل واع بل لا يبصر الرائى الا تلك الاثار ولا يسمع الواعي الا تلك الاخبار، فذكر اللازم واراد الملزوم على ما هو طريق الكناية ففى ترك المفعول والاعراض عنه اشعار بان فضائله قد بلغت من الظهور والكثرة إلى حيث يكفى فيها مجرد ان يكون ذو سمع وذو بصر حتى يعلم انه المتفرد بالفضائل. ولا يخفى انه يفوت هذا المعنى عند ذكر المفعول أو تقديره (والا) أي: وان لم يكن الغرض عند عدم ذكر المفعول مع الفعل المتعدى المسند إلى فاعله أو نفيه عنه مطلقا بل قصد تعلقه بمفعول غير مذكور (وجب التقدير بحسب القرائن) الدالة على تعيين المفعول ان عاما فعام وان خاصا فخاص، ولما وجب تقدير المفعول تعين انه مراد في المعنى ومحذوف من اللفظ لغرض فاشار إلى تفصيل الغرض بقوله (ثم الحذف اما للبيان بعد الابهام كما في فعل المشيءة) والارادة ونحو هما إذا وقع شرطا فان الجواب يدل عليه ويبينه لكنه انما يحذف (ما لم يكن تعلقه به) اي تعلق فعل المشيءة بالمفعول (غريبا نحو فلو شاء لهديكم اجمعين) اي لو شاء الله هدايتكم لهديكم اجمعين. فانه لما قيل لو شاء علم السامع، ان هناك شيءا علقت المشيءة عليه لكنه مبهم عنده، فإذا جئ بجواب الشرط صار مبينا له وهذا اوقع في النفس (بخلاف) ما إذا كان تعلق فعل المشيءة به غريبا فانه لا يحذف حينئذ كما في نحو قوله (ولو شئت ان ابكى دما لبكيته)، عليه ولكن ساحة الصبر اوسع، فان تعلق فعل المشيءة ببكاء الدم غريب فذكره ليتقرر في نفس السامع ويأنس به. (واما قوله: فلم يبق منى الشوق غير تفكري * فلو شئت ان ابكى بكيت تفكر فليس منه) أي مما ترك فيه حذف مفعول المشيءة بناء على غرابة تعلقها به على ما ذهب إليه صدر الافاضل في ضرام السقط من ان المراد لو شئت ان ابكى تفكرا بكيت تفكرا فلم يحذف منه مفعول المشيءة. ولم يقل لو شئت بكيت تفكرا لان تعلق المشيءة ببكاء التفكر غريب كتعلقها ببكاء الدم. وانما لم يكن من هذا القبيل (لان المراد بالاول البكاء الحقيقي) لا البكاء التفكرى لانه اراد ان يقول افناني النحول فلم يبق منى غير خواطر تجول في حتى لو شئت البكاء فمريت جفوني وعصرت عينى ليسيل منها دمع لم اجده وخرج منها بدل الدمع التفكر فالبكاء الذى اراد ايقاع المشيءة عليه بكاء مطلق مبهم غير معدى إلى التفكر البتة والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكر فلا يصلح ان يكون تفسيرا للاول وبيانا له كما إذا قلت لو شئت ان تعطى درهما اعطيت درهمين كذا في دلائل الاعجاز، ومما نشأ في هذا المقام من سوء الفهم وقلة التدبر ما قيل ان الكلام في مفعول ابكى والمراد ان البيت ليس من قبيل ما حذف فيه المفعول للبيان بعد الابهام بل انما حذف لغرض آخر. وقيل: يحتمل ان يكون المعنى لو شئت ان ابكى تفكرا بكيت تفكرا أي لم يبق في مادة الدمع فصرت بحيث اقدر على بكاء التفكر فيكون من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيءة لغرابته. وفيه نظر لان ترتب هذا الكلام على قوله لم يبق منى الشوق غير تفكري يأبى هذا المعنى عند التأمل الصادق لان القدرة على بكاء التفكر لا تتوقف على ان لا يبقى فيه غير التفكر فافهم. (واما لدفع توهم ارادة غير المراد) عطف على اما للبيان (ابتداء) متعلق بتوهم (كقوله وكم ذدت) أي دفعت (عنى من تحامل حادث) يقال تحامل فلان على إذا لم يعدل وكم خبرية مميزها قوله من تحامل قالوا وإذا فصل بين كم الخبرية ومميزها بفعل متعد وجبت الاتيان بمن لئلا يلتبس بالمفعول ومحل كم النصب على انها مفعول ذدت. وقيل المميز محذوف أي كم مرة ومن في من تحامل زائدة وفيه نظر للاستغناء عن هذا الحذف والزيادة بما ذكرناه (وسورة ايام) أي شدتها وصولتها (حززن) أي قطعن اللحم (إلى العظم) فحذف المفعول اعني اللحم (إذ لو ذكر اللحم لربما توهم قبل ذكر ما بعده) أي ما بعد اللحم يعنى إلى العظم (ان الحز لم ينته إلى العظم). وانما كان في بعض اللحم فحذف دفعا لهذا التوهم (واما لانه اريد ذكره) أي ذكر المفعول (ثانيا على وجه يتضمن ايقاع الفعل على صريح لفظه) لا على الضمير العائد إليه (اظهارا لكمال العناية بوقوعه) أي الفعل (عليه) أي على المفعول حتى كأنه لا يرضى ان يوقعه على ضميره وان كان كناية عنه (كقوله:
صفحه ۱۰۹