ولكننا اليوم رعاع. لا يقيم الإنسان لإنسانية وزنا، ولم يتعلم أن يلزم داره كي يتصل بمحيطه الداخلي، ولكنه يرحل إلى الخارج، يطلب كأسا من الماء من أوعية الآخرين. يجب أن نسير وحدنا. وإني لأحب الكنيسة صامتة قبل أن تبدأ الصلاة أكثر مما أحب الوعظ أيا كان. كيف يبدو الأشخاص بعيدين باردين طاهرين، كل منهم تحوطه رحبة أو معبد. ولذا فلنقعد دائما. لماذا نحمل وزر الصديق والزوجة والوالد والولد؟ ألأنهم يجلسون حول موقدنا، أو لأنه يقال إن في عروقهم نفس دمائنا؟ الناس جميعا في عروقهم دمائي، ودماؤهم جميعا في عروقي. ولن أحمل نزق حماقتهم من أجل ذلك، حتى أبلغ حد الخجل. بيد أن عزلتك ينبغي ألا تكون آلية، بل روحية، أي ينبغي أن تكون سموا. إن الدنيا بأسرها أحيانا تتآمر على أن تشغلك بتوافه ليس لك عنها من محيص. يطرق باب غرفتك الصديق والعميل والطفل والمرض والخوف والحاجة والإحسان في وقت واحد وتقول: «اخرج إلينا.» عندئذ الزم حالتك ولا تخرج إلى ما يضطربون فيه. إن القوة التي يملكها الناس لمضايقتي إنما أعطيهم إياها بضعف في نفسي، هو حب التطلع. لا يستطيع أحد أن يقترب مني إلا عن طريق ما أعمل: «إننا نملك ما نحب، ولكننا بالاشتهاء نحرم أنفسنا من الحب.»
إذا لم نستطع في الحال أن نرتفع إلى قدس الخضوع والإيمان فلا أقل من أن نقاوم ما يغرينا، ولنعلن الجهاد، ونوقظ الشجاعة والثبات في صدورنا السكسونية. نؤدي ذلك في أوقاتنا الرخية بقولنا الصدق. ولنكف عن الجود الزائف والحب الكاذب. دعنا لا نعيش بعد اليوم كما يتوقع هؤلاء القوم الخادعون المخدوعون الذين نتحدث إليهم. قل لهم: أبي، وأمي، وزوجي، وأخي، وصاحبي، لقد عشت معكم وراء الظواهر حتى اليوم، ولكني منذ الآن ملك للحقيقة. ولتعلموا أني منذ اليوم لن أطيع قانونا سوى القانون الأبدي. لن أخضع لما تقولون، ولكن لما تمليه علي نفسي، سوف أحاول أن أطعم والدي، وأن أعول أسرتي، وأن أكون الزوج الطاهر لزوجة واحدة، ولكن هذه العلاقات لا بد أن أؤديها بطريقة جديدة لم يسبقني إليها أحد. إني أبتعد عن عاداتكم، ولا بد أن أكون نفسي. لن أستطيع بعد اليوم أن أحطم نفسي من أجلكم، ولن تستطيعوا ذلك. إذا أمكنكم أن تحبوني على حالي كنا أسعد حالا، وإذا لم يمكنكم ذلك فسوف أعمل على أن أستحق منكم ذلك. لن أخفي ما أميل إليه وما أعزف عنه، وسوف أثق بأن كل ما يختفي في أعماق الفؤاد مقدس. وسأؤدي بقوة أمام الشمس والقمر أي شيء يسرني في دخيلة نفسي أو يمليه قلبي. إن كنتم نبلاء أحببتكم، وإن لم تكونوا لن أوذيكم وأوذي نفسي برعايتي إياكم نفاقا. وإن كنتم صادقين، ولكنكم لستم معي فيما أصدق، فتمسكوا برفاقكم، وسوف أبحث عن رفاقي، وإني لا أفعل ذلك عن أنانية، ولكني أفعله متواضعا صادقا. وإنه ليهمكم كما يهمني ويهم الناس جميعا - مهما طال انغماسنا في الأكاذيب - أن نعيش في الصدق. هل يبدو هذا اليوم صارما؟ سرعان ما تحبون مثلي ما تمليه عليكم طبائعكم. وإذا نحن تابعنا الصدق فسوف ينقذنا في النهاية، ولكنكم ربما سببتم بذلك للأصدقاء آلاما. أجل، ولكني لا أستطيع أن أبيع حريتي ونفوذي لكي أنقذ إحساسهم. ثم إن الناس جميعا لهم لحظات يتعقلون فيها، وذلك عندما يتطلعون إلى دولة الحق المطلق. إنهم حينئذ يبرروني ويفعلون مثلما أفعل.
تظن العامة أنك حين تنبذ المعايير العامة تنبذ كل المعايير، وتعصي القواعد الخلقية لمجرد العصيان. ويستخدم الشهواني الجريء اسم الفلسفة ليكسو جرائمه بالذهب. ولكن قانون الوعي قائم. وهناك كرسيان للاعتراف، يجب أن نقبل الاعتراف في أحدهما. فإما أن تؤدي ما عليك من واجبات بتخليص نفسك بطريق مباشر أو بطريق الانعكاس، فقد يهمك أن يرضى عنك أبوك وأمك وابن عمك وجارك وبلدك وقطتك وكلبك، وألا يوجه إليك أحد من هؤلاء لوما. ولكني أستطيع كذلك أن أهمل هذا المعيار المعكوس وأرضي ضميري أمام نفسي، وأجعل مطالبي مستقلة ودائرتي كاملة. هذه النفس المستقلة تنكر اسم الواجب لكثير من الأعمال التي تسمى واجبات، وإن استطعت أن أدفع ديونها مكنتني من الاستغناء عن القانون العام. وعلى من يتصور أن في هذا القانون تراخيا أن يخضع له يوما واحدا.
إن من ينبذ الدوافع العامة للإنسانية ويجرؤ على الثقة العامة فيما تمليه عليه نفسه لا بد له أن يتميز ببعض صفات الآلهة. ولكي يكون المرء لنفسه حقا مذهبا ومجتمعا وقانونا، ولكي يكون الغرض اليسير له قويا قوة الحاجة الماسة عند غيره، لا بد أن يكون قلبه كبيرا، وإرادته صادقة وبصره صافيا.
لو أن أي إنسان فكر في الصفات الحالية لما نسميه على وجه الدقة ب «المجتمع» لأدرك الحاجة إلى هذه القوانين الخلقية. ويبدو أن أعصاب الإنسان وقلبه قد تراخت وأصبحنا بكائين هيابين يائسين. إننا نخشى الحق، ونخشى القدر ونخشى الموت، ويخشى بعضنا بعضا. وعصرنا لم يتمخض عن شخصيات عظيمة كاملة. نريد رجالا ونساء يجددون الحياة ويجددون حالتنا الاجتماعية، ولكنا نجد أن أكثر الطبائع مفلسة، لا تستطيع أن تسد حاجة نفسها، لها مطامع لا تتناسب البتة وقوتها العملية، وتلين وتتسول ليلا ونهارا بغير انقطاع. إن تدبيرنا المنزلي ضعيف، وفنوننا، وأعمالنا، وزواجنا، وديننا، لم نختره لأنفسنا، وإنما اختاره لنا المجتمع. إنما نحن جنود في غرفة الاستقبال، نتحاشى معركة القدر الحامية التي تتولد فيها القوة.
إذا فشل شبابنا في مشروعاته الأولى فقد كل شجاعته. وإذا خاب التاجر الناشئ قال الناس عنه إنه «أفلس». وإذا درس أبرع النابغين في إحدى جامعاتنا، ولم يعين في وظيفة بعد عام واحد في مدينتي بوسطن ونيويورك أو ضواحيهما، بدا لأصحابه وبدا له أنه على حق في يأسه وفي شكواه بقية حياته. إن الصبي القوي من نيوهامبشير أو فرمنت الذي يحاول جميع المهن بالدور يرعى، ويفلح، ويطوف بالبيع، ويدير مدرسة، ويعظم، ويحرر في صحيفة، ويذهب إلى الكنجرس، ويشتري أرضا في المدينة، وما إلى ذلك، في سنوات متتالية، ويقع دائما كالقطة على قدميه، يساوي مائة من دمى المدن هؤلاء. إنه يسير قدما مع أيامه ولا يشعر بالخجل لأنه لم «يدرس مهنة ما»؛ لأنه لا يرجئ حياته، وإنما يحياها فعلا. ليست لديه فرصة واحدة، بل أمامه مائة فرصة. ينبغي على الرواقي أن يدرك مواهب الإنسان، وأن يبلغ الناس أنهم ليسوا كشجر الصفصاف الذي يميل مع الريح، ولكنهم يستطيعون - بل وينبغي لهم - أن يستقلوا بأنفسهم، وليعلمهم أنهم إن وثقوا بأنفسهم ظهرت لهم قوى جديدة، وأن الإنسان هو الكلمة قد تجسدت، ولد لينشر الشفاء بين الأمم، ويجب أن يخجل من رحمتنا به، وليعلم أنه في اللحظة التي يعمل فيها بوازع من نفسه، ويلقي بالقوانين والكتب والأوثان والعادات من النافذة، لا نشفق عليه، بل نقدره ونحترمه - من يعلمنا ذلك يضفي على حياة الإنسان سناء وبهاء، ويرفع ذكره في جميع صفحات التاريخ.
ومن اليسير أن نرى أن مزيدا من الثقة بالنفس لا بد أن يحدث انقلابا في جميع وظائف الناس وعلاقاتهم، في ديانتهم، وفي تربيتهم، وفي أهدافهم، وأساليب عيشهم، واجتماعهم، وفي امتلاكهم، وفي آرائهم التي يتدبرون:
أي الصلوات يسمح الناس لأنفسهم بها! إن ما يسميه الناس وظيفة مقدسة ليس فيه من الشجاعة والرجولة بمقدار ما فيه من القداسة. إن دعاءنا عجيب، نلتمس فيه الزيادة فيما نملك عن طريق فضيلة غريبة عنا، وهو يضل في متاهات لا نهاية لها مما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وما هو وسيط وما هو معجز. إن الدعاء الذي نطلب فيه سلعة خاصة - ولا نتطلب الخير خالصا - دعاء مرذول. إنما الصلاة هي تأمل حقائق الحياة من أعلى وجهة من وجهات النظر. هي مناجاة النفس المبصرة المنشرحة. هي روح الله تعلن أن أعماله طيبة. ولكن الصلاة كوسيلة لتحقيق غرض خاص، صناعة وسرقة، إنها تفرض في الطبيعة والوعي الثنائية بدلا من الوحدة. إن الإنسان إذا اتحد مع الله لا يتسول. إنه عندئذ يرى الصلاة في كل عمل. إن صلاة الفلاح راكعا في حقله يشذبه، وصلاة صاحب الزورق جاثيا يضرب بمجدافه صلوات صادقة تصغي إليها الطبيعة بأسرها، وإن تكن لأغراض رخيصة. في «بندوكا» لفلتشر يجيب «كاراتاش» عندما نصح بالبحث في عقل الإله «أوديت»:
إن معانيه الخفية تكمن في محاولاتنا،
وأعمالنا الباسلة خير آلهتنا.
صفحه نامشخص