والاعتراض على اتباع العادات التي أصبحت ميتة بالنسبة إليك هي أن ذلك يشتت قواك، ويفقرك وقتك، ويمحو أثر شخصيتك. إذا أنت حافظت على كنيسة ميتة، وأسهمت في جمعية إنجيلية ميتة، وأعطيت صوتك مع حزب كبير إما مع الحكومة أو ضدها، وأعددت مائدتك كما يفعل أصحاب البيوت السفلة، فإني تحت كل هذه الستائر أجد مشقة في أن أكشف عن حقيقتك تماما كإنسان. وتحرم حياتك الصحيحة - بطبيعة الحال - من قوة كبرى. ولكنك إن أديت عملك عرفتك وعززت نفسك. ينبغي لك أن تدرك أنك كالأعمى حينما تلعب دور التبعية لغيرك. إذا عرفت طائفتك توقعت جدلك. وإني لأستمع إلى الواعظ يعلن أن مادته وموضوعه هما من مستلزمات نظام من النظم الخاصة بكنيسته. أفلا أعرف مقدما أنه لا يستطيع أن يقول كلمة جديدة من تلقاء نفسه؟ أفلا أعرف أنه لا يفعل ذلك، برغم كل ذلك التظاهر بفحص أسس هذا النظام؟ وألا أعرف أنه عاهد نفسه ألا ينظر إلا إلى جانب واحد، وهو الجانب المسموح به، لا كرجل ولكن كقسيس الدائرة الدينية؟ إنما هو محام محافظ، وهذه الهيئة التي يتخذها وهو يعتلي المنصة تظاهر أجوف. ثم إن أكثر الناس قد عصبوا أعينهم بنوع من أنواع المناديل، وربطوا أنفسهم إلى إحدى هذه الشيع الفكرية. هذه التبعية لا تجعلهم مخطئين في قليل من التفصيلات، أو مبدعين لقليل من الأكاذيب، ولكن مخطئين في التفصيلات كلها. كل ما لديهم من صدق ليس صادقا تماما. والاثنان عندهم ليسا الاثنين الحقيقيين، وأربعتهم ليست الأربعة الحقيقية، ولذا فإن كل كلمة ينطقون بها تضايقنا، ولا نعرف من أين نبدأ كي نقومهم، وفي الوقت عينه لا تتوانى الطبيعة في إمدادنا بزي السجن الذي يرتديه الحزب الذي ننتمي إليه. إننا نبدو في ملامح وأشكال متشابهة، ونحصل تدريجا على أصدق ملامح الغباء. وهناك بنوع خاص تجربة قاتلة لها أثرها الملحوظ في التاريخ العام، وأعني بها «ناحية الإطراء السخيفة»، تلك الابتسامة المفتعلة التي تبدو علينا في صحبة الجماعة حينما لا نشعر بالراحة عندما نجيب على حديث لا يشوقنا. إن العضلات حينئذ لا تتحرك حركة تلقائية، وإنما يحركها تعمد غاصب، فتتصلب في خطوط الوجه، وتحدث إحساسا لا يرغب البتة فيه.
إن الدنيا تضربك بسياط الغم إذا أنت لم تسر في الركب. ولذا فمن واجب المرء أن يتعلم كيف يجابه الوجوه المريرة؛ فالمتفرجون ينظرون إليه شزرا في الطريق العام أو في حجرة استقبال الصديق. وإن كان هذا النفور منشؤه ازدراء أو مقاومة مثلما لديه فإنه يعود إلى بيته بوجه مكتئب. غير أن وجوه الجماهير المريرة، كوجوهها السمحة، ليس لها سبب عميق، ولكنها تتلبس بها أو تنزعها وفقا لهبوب الريح أو توجيه الصحف. ومع ذلك فإن سخط الجمهور أشد رعبا من سخط الشيوخ أو الكلية الجامعية. ومن اليسير على رجل حازم يعرف العالم أن يصبر على سخط الطبقات المثقفة، فسخطها محتشم حكيم، فهم جبناء لأنهم هم أنفسهم عرضة للتجريح. ولكن إذا أضيف إلى غضبهم النسوي سخط العامة، إذا أثرت الجاهل والفقير، وإذا أنت وضجت القوى الوحشية غير العاقلة التي تكمن خلف المجتمع، كنت بحاجة إلى اعتياد النخوة وعقيدة الدين، كي تواجهها متألها على أنها من توافه الأمور التي ليس من ورائها خطر.
والفزع الآخر الذي يبعدنا عن ثقتنا بأنفسنا هو ثباتنا على حال واحدة، أو تقديسنا لأعمالنا وأقوالنا الماضية؛ لأن أعين الآخرين ليست أمامها حقائق أخرى تقدر بها مدارنا سوى ماضي فعالنا، ونحن نكره أن نخيب رجاءهم.
ولكن لماذا تبقي على رأسك فوق كتفك؟ ولماذا تحمل عبء ذاكرتك - وكأنك تحمل جثة هامدة - خشية أن تناقض شيئا بحت به في مكان عام؟ هب أنك ناقضت نفسك، ماذا وراء ذلك؟ يبدو أن من قواعد الحكمة ألا تعتمد على ذاكرتك وحدها، حتى في أفعال الذاكرة البحتة، ولكن يجب أن تزج بالماضي في أحكامك وسط الحاضر الذي يملك ألف عين، وتعيش دائما في يوم جديد. إنك في عقائدك الميتافيزيقية قد أنكرت الشخصية للإله، ومع ذلك فعندما تأتي الحركة المقدسة للروح، استسلم لها بقلبك وحياتك، حتى إن أكسبت الإله شكلا ولونا، وتخل عن نظريتك كما تخلى يوسف عن قميصه في يد العاهرة، ثم اهرب.
إن الثبات السخيف على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة، الذي يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة ورجال الدين. أما الروح العظيمة فليس لها البتة شأن بهذا الثبات. وإلا فكأنها تأبه لظلها فوق الحائط. انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية، وانطق غدا بما تفكر فيه غدا في ألفاظ قوية كذلك، حتى إن ناقض كل ما قلته اليوم - وإذن فثق أنك سوف يساء فهمك - وهل من شر الأمور أن يساء فهمك؟ لقد أسيء فهم فيثاغورس، وكذلك سقراط ويسوع ولوثر وكوبرنكس وغاليليو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة، تجسدت. لكي تكون عظيما لا بد أن يساء فهمك .
لست أحسب أن أحدا من الناس يستطيع أن يناقض طبيعته. وكل نزوات الإرادة عند الإنسان محاطة بقانون وجوده، كما أن التواءات الإنديز والهملايا تافهة في استدارة الكرة الأرضية. ولا يهم كيف تقيس المرء أو تختبره. الشخصية تشبه الموشح العبري المعكوس أو الموشح الإسكندري، إن قرأته إلى الأمام أو إلى الوراء أو عرضا فإن هجاءه لا يتغير. وفي هذه الحياة السارة المحدودة الجامدة التي وهبني الله إياها، دعني أسجل كل يوم آرائي المخلصة دون نظر إلى المستقبل أو إلى الماضي، ولست أشك في أنها سوف تكون متناسبة حتى إن لم أقصد إلى ذلك وإن لم أدركه. يجب أن ينم كتابي عن رائحة الصنوبر وأن يرن بصدى طنين الحشرات. والسنوسوة التي فوق نافذتي يجب أن تسهم بالخيط أو بالقش الذي تحمله في منقارها في نسيجي كذلك. يجب أن يرانا الناس على حقيقتنا؛ فإن ما تعلمه الشخصية فوق ما تمليه الإرادة. ويتصور الناس أنهم يظهرون فضائلهم ورذائلهم بالعمل العلني فقط، ولا يدركون أن الفضيلة والرذيلة ترسل الأنفاس في كل لحظة.
ولا بد أن يكون هناك اتفاق في الأعمال مهما تنوعت، حتى يكون كل منها صادقا وطبيعيا في ساعته؛ لأن الأفعال التي تصدر عن إرادة واحدة تتسق مهما بدت متباينة. وهذا التنوع لا يرى عن كثب أو على ارتفاع قليل من الفكر؛ فهناك اتجاه واحد يوحد بينها جميعا. إن رحلة أحسن السفن خط متعرج في مائة اتجاه. انظر إلى الخط من بعد كاف يستقم في متوسط اتجاهه. إن عملك الصادق يفسر نفسه، كما يفسر أعمالك الصادقة الأخرى، ولكن تبعيتك لا تفسر شيئا. اعمل بمفردك، وما عملته حتى الآن بمفردك يبررك الآن. إن العظمة تنظر إلى المستقبل. ولو استطعت أن أثبت اليوم ثبوتا كافيا على فعل الصواب، وازدريت الأعين، فلا بد أن أكون قد فعلت صوابا كثيرا فيما مضى أدفع به عن نفسي اليوم. ومهما يكن من شيء فعليك أن تفعل الصواب الآن. احتقر المظاهر دائما، وإنك لتستطيع ذلك دائما. إن قوة الشخصية قوة متجمعة . كل ما انقضى من أيام الفضيلة يفعل فعله الصحيح في ذلك. ما الذي يكسب أبطال مجلس الشيوخ وأبطال الميدان جلالهم الذي يملأ الخيال؟ هو الإحساس بسلسلة من الأيام العظيمة والانتصارات القديمة. إنها تلقي ضوءا متحدا على الرجل العامل الذي يتقدم الناس، وكأن حرسا ظاهرا من الملائكة يحدوه، وذلك هو ما يلقي الرعد في صوت تشاتهام، والكرامة في مسلك واشنجتن، وما يلقي بأمريكا في عين آدمز. الشرف مقدس لدينا؛ لأنه لا يتغير بتغير الأيام ولكنه فضيلة أزلية. نعبده اليوم؛ لأنه ليس ابن اليوم. نحبه ونقدم له الولاء؛ لأنه لا يكيد لحبنا وولائنا، ولكنه مستقل استقلالا ذاتيا، مشتق من نفسه، ولذا فهو من سلالة طاهرة قديمة، حتى إن اتصف به شخص صغير السن.
وإني لآمل أن تكون هذه الأيام آخر عهدنا بالتبعية والثبات. ولنسجل هاتين الكلمتين في الجريدة الرسمية ونهزأ بهما بعد الآن. دعنا نستمع إلى صفير المزمار الإسبرطي بدلا من الطبل الذي يدق إيذانا ببدء الغداء. دعنا لا ننحني ولا نعتذر بعد اليوم. إن رجلا عظيما قادم ليأكل في بيتي، فلست أود أن أسره، وإنما أود لو أراد سروري. سوف أقف هنا أمثل الإنسانية، وسوف أجعلها صادقة وإن جعلتها رفيقة. دعنا نعتب على ضعف عصرنا الشديد وقناعته الذليلة، ولنلق في وجه التقاليد والمهنة والعمل الذي تؤديه تلك الحقيقة التي هي مغزى التاريخ، وهي أن هناك مفكرا وعاملا عظيما مسئولا يعمل حيثما يعمل الإنسان، وأن الرجل الصادق لا ينتمي إلى زمان أو مكان آخر، وإنما هو مركز الأشياء. حينما يكون تكون الطبيعة، وهو الذي يقيسك ويقيس الناس والحوادث جميعا. إن كل فرد في المجتمع - عادة - يذكرنا بشيء آخر أو بشخص آخر، ولكن الشخصية، والواقع، لا تذكرك بشيء آخر. إنها تحل محل الخليقة كلها. ويجب أن يبلغ المرء هذا الحد كي يجعل الظروف كلها تافهة.
كل رجل حقيقي سبب، وقطر، وعصر . يحتاج إلى مساحات وإعداد ووقت لا ينتهي كي ينجز خطته كاملة، ويبدو أن الأجيال القادمة تتبع خطاه كرتل من الأتباع. يولد الرجل القيصر، وبعد ذلك بعدة عصور تكون لدينا الإمبراطورية الرومانية. ويولد مسيح، ثم تنمو ملايين العقول وتلتصق بعبقريته حتى تذهله الفضيلة وما يستطيعه الإنسان. المذهب هو الظل الممتد لرجل واحد، كالرهبانية فهي ظل الناسك أنتوني، والإصلاح الديني ظل لوثر، وطائفة الأصحاب ظل فوكس، والنظامية ظل وزلي، وإلغاء الرق ظل كلاركسون. ولقد سمى ملتن سكبيو «أوج روما». والتاريخ كله يرتد بأسره بسهولة جدا إلى سيرة أشخاص قلائل عظام جادين.
فليعرف الإنسان إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدميه. دعه لا يتطلع إلى غيره ولا يسرق ولا يتوارى هنا أو هناك وعليه مسحة الصبي يطلب الإحسان، أو ابن الزنا، أو المتطفل، في العالم الذي يوجد من أجله. ولكن رجل الشارع الذي لا يجد قيمة في نفسه توازن القوة التي شيدت برجا أو نحتت إلها من المرمر، يشعر بالفقر عندما ينظر إلى هذه الأشياء. والقصر أو التمثال أو الكتاب الثمين يبدو له غريبا ممتنعا، كالبضاعة الزاهية، وكأنها تقول له: «من أنت يا سيدي؟» ومع ذلك فكل أولئك له، يتطلب التفاته، ويلتمس من مواهبه أن تبرز لكي تملك. تأتمر الصورة بأمري ولا أأتمر بأمرها، وإنما علي أن أحكم على قيمتها. إن تلك القصة الشائقة التي تقول إن مدمنا من مدمني الخمور وجد مخمورا إلى حد الموت في الطريق، فحمل إلى بيت الدوق، ثم اغتسل وارتدى الملابس واستلقى في سرير الدوق، ولما استيقظ عومل بالاحتفال والخضوع كما يعامل الدوق، وألقي في روعه أنه كان في غير وعيه، هذه القصة تدين بشيوعها إلى أنها ترمز رمزا حسنا إلى حالة الإنسان الذي يكون في الدنيا كأنه مدمن خمر، ولكنه يصحو بين الفينة والفينة، ويمارس عقله، ويجد نفسه أميرا حقا.
صفحه نامشخص