مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
ولكن من سوء الحظ أنه وهو يدور ليتراجع صادفت قدمه حصاة فوقع على الحائط، وندت عنه صيحة ورن سيفه على الحجارة، فارتفع صوتان أو ثلاثة تطلب أن تعرف من هناك - بعضها بالفرنسية، والبعض بالإنجليزية - غير أن دنيس لم يجب، وذهب يعدو بأسرع ما يستطيع في الزقاق، حتى إذا بلغ الشرفة وقف ونظر وراءه، وكانوا لا يزالون يصيحون به، وضاعفوا سرعتهم في تعقبه ومطاردته، وكانت قعقعة السلاح، وهم يجرون، عالية، وجلبته عظيمة، والمشاعل تدفع إلى هنا، وههنا، في الزقاق الضيق.
فأجال دنيس لحظه فيما حوله، واندفع إلى ما تحت الطنف، وهناك قد يخطئونه فلا يرونه، أو إذا كان هذا أملا بعيدا، فهو في مكان ليس أصلح منه للحوار والدفاع، واطمأن إلى هذا فجرد سيفه وأسند ظهره على الباب. فما راعه إلا أن الباب انفتح وراءه، ومع أنه وقف في مدخله هنيهة إلا أن الباب ظل يضطرب على عقبه المزيت بلا صوت، ثم سكن، وبقي مفتوحا على المغيب وراءه في ظلمة الليل. والإنسان حين يسعفه الحظ بمنجى مما يتقيه لا يفكر في الأمر كيف كان، ولماذا كان، بل يعد راحته الشخصية، وإلحاح مطالبه التي لا تحتمل الإرجاء سببا كافيا لأغرب الغرائب وأعجب ما تحور إليه الأحوال ليستر ملجأه. ولم يكن أبعد من ذهنه، من أن يوصد الباب، ولكن الذي حدث هو أن الباب، لسبب خفي، عسى أن يكون زنبركا أو لزازا
3
أفلتت كتلته البلوطية من أصابعه وانغلق، وأحدث ضجة عظيمة وضوضاء كالتي يحدثها مزلاج يغلق ويفتح من تلقاء نفسه.
وكان العسس قد بلغوا الشرفة في هذه اللحظة، وراحوا يدعونه إليهم بالصيحات واللعنات. وكان هو يسمعهم يبحثون عنه في الأركان المظلمة، بل لقد اصطدمت صعدة رمح بالباب الذي يحتجب خلفه، غير أنهم كانوا سكارى فلم يطل تلكؤهم، وما عتموا أن انحدروا في طريق ملتو كالبزال لم يفطن إليه دنيس، ثم غابوا عن العين والسمع في المدينة.
فتنفس دنيس الصعداء، وترك دقائق تمضي تفاديا للحوادث، ثم ذهب يتحسس باحثا عن وسيلة لفتح الباب والخروج من حيث دخل. وكان سطحه أملس، فلا مقبض، ولا زخرفة، ولا نتوء من أي نوع، وقد أدخل أظافره فيما يلي إطار الباب وشد، ولكن الكتلة كانت رازحة لا تتقلقل. وهز الباب فألفاه أثبت وأمتن من الصخرة الصماء، فقطب وصفر صفيرا خافتا. وتعجب للباب ما خطبه يا ترى؟ لماذا كان مفتوحا؟ ثم كيف اتفق أن يوصد بمثل هذه السهولة والإحكام بعد دخوله؟ ولم يرتح دنيس إلى ما بدا له في هذا من الغموض والخفاء والخدعة، وخيل إليه أن هذا شرك، ولكن من الذي يخطر له أن ينصب شركا في زقاق هادئ كهذا، وبيت ظاهره له مثل هذه الوجاهة والأبهة، وعلى أنه سواء أكان هذا أم لم يكن شركا، وكان ما حدث قد حدث عفوا أو عمدا، فالواقع من الأمر أنه في فخ، وأنه لا يدري كيف يتسنى له النجاة منه. وثقلت وطأة الظلام عليه، فأرهف أذنه. وكان السكون تاما في الخارج، أما في الداخل وعلى مقربة منه، فخيل إليه أنه سمع تنهدا خافتا وشهيق باك، وحفيف ثوب، وحسيسا خفيفا كأنما دنا منه أشخاص، يحرصون على السكوت ويحبسون حتى أنفاسهم بحذق وإحكام. وأزعجه هذا الظن، فدار فجأة كأنما يريد أن يدافع عن حياته، فأبصر - لأول مرة - ضوءا بحيال عينيه، وعلى مسافة في داخل البيت خيطا أفقيا من النور يعرض في نهايته كأنه خارج من فرجة بين سترين مقرنين على باب. ووجد دنيس روحا وراحة في أن يرى شيئا ما، فقد كان كالذي يمشي في أرض سبخة نزازة فخرج منها إلى أرض صلبة، وتعلقت نفسه بهذا الضوء، بلهفة، ووقف شاخصا يحاول أن يضم أشتات ما يحيط به ويؤلف منه صورة يأنس بها العقل. وكان من الواضح أن هناك سلما يبدأ من الرقعة التي هو فيها ويرتقي إلى الباب الذي ينبعث منه الضوء، بل لقد كبر في وهمه أنه يرى شعاعا آخر من النور، دقيقا كالإبرة وخافتا كأنه من جسم مضيء بطبيعته، فمن الممكن أن ينعكس على الخشب المصقول للدرابزين. ولما كان يتوهم أنه ليس وحده فقد جعل قلبه يدق بعنف خانق، ومن أجل ذلك لجت به الرغبة في عمل شيء ما. واعتقد أنه مستهدف لخطر عظيم. وأن حياته مهددة، فمن الطبيعي أن تحدثه نفسه بالصعود على السلم، ورفع الستار أو تنحيته، ومواجهة ما عسى أن يكون وراءه، فيخرج بهذا مما هو فيه من الحيرة والقلق، وأقل ما في هذا من الجدوى أن يصبح أمام شيء محسوس وأن يخلص من الظلام والجهل. ومشى يخطو ببطء، ويداه ممدودتان أمامه حتى ضربت قدمه أولى درجات السلم، فارتقى فيه بسرعة، ثم وقف هنيهة يضبط أعصابه، ثم نحى الستر ودخل.
وألفى نفسه في حجرة كبيرة مصقولة الجدران، ولها ثلاثة أبواب، لكل حائط باب، وعلى الأبواب أستارها، أما الحائط الرابع ففيه نافذتان كبيرتان وموقد من الحجر نقش عليها شعار «آل مالتروا.» وعرف دنيس الشعار وسره أنه في بيت قوم من ذوي المحتد والأرومة الكريمة، وكان الضوء في الحجرة قويا، ولم يكن فيها من الأثاث والمتاع سوى مائدة ثقيلة وكرسي أو كرسيين. ولم يكن في الموقد نار، وكان على البلاط قليل من القش، من الواضح أنه ألقي منذ بضعة أيام.
ورأى دنيس أمامه، وهو يدخل، رجلا هرما ضيئل الجسم متلفعا بالفرو على كرسي عال بجانب الموقد، وكانت إحدى ساقيه على الأخرى وإحدى يديه على الأخرى في حجره، وعلى صفة للجدار، قريبا من كوعه، كأس من النبيذ، أما وجهه فكانت معارفه كأنها مصبوبة في قالب حاد يطالعك منه، لا ما تراه في محيا آدمي، بل ما يطالعك من وجه ثور أو جدي، أو خنزير أليف، وتقرأ فيه معاني الخب، والغدر، والنهم، والقسوة، والفتك. وكانت الشفة العليا غليظة جدا، كأن بها ورما من ضربة أو وجع في الأسنان، وكانت ابتسامته وحاجباه المحددان، وعيناه الضيقتان القويتان، ناطقة بالشر. وكان شعره الأبيض الجميل يسيل فينسدل حول رأسه، كشعر القديس ويلتوي عند التقائه بالفرو، وكانت لحيته وشارباه تكسبه جلالا وتفيض على محياه عذوبة ملطفة، ولم تترك الشيخوخة على راحتيه أثرا، وعسى أن يكون ذلك من الدقة في تحري القصد، والتزام الاعتدال في المعيشة. وكانت «يد» آل مالتروا مشهورة، ومن العسير أن يتصور المرء كفا كثيرة اللحم ودقيقة الخلق في آن معا، كهذه. وقد كانت الأصابع الطرية تنتهي بأنامل كرأس الشمعة فكأنها أصابع امرأة مما صور ليوناردو، وكان الإبهام حين ينطوي تبرز عظمته جدا، والأظافر بارعة الشكل وشديدة البياض، وقد زاد في جلال منظره وعمق وقعه في النفس أن تكون له هاتان الكفان وأن يريح إحداهما على الأخرى في حجره، كأنه ضحية بكر، وأن يكون لمحياه هذا التعبير الحاد المزعج، ويجلس صامتا يتأمل الناس بعين لا تطرف كأنه رب من الأرباب أو تمثاله. وكان سكوته هذا يبدو كأنه من السخر والغدر، فما يلائم ما ينطق به وجهه.
وكان هذا هو «ألين» كبير آل مالتروا.
ومضت ثانية أو اثنتان، وكل من الرجلين يرشق الآخر بلحظه.
صفحه نامشخص