مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
وألح علي الشعور بالوحشة وأنا في غرفتي بفندق شجرة الميلاد، وبدأت أدرك أن الموضوع الذي اخترته لتزجية الوقت لن يكون حسبي حتى يفرج عني الجليد، فقد أبقى هنا أسبوعا وقد يمتد المقام إلى أسابيع.
وتذكرت قصة عن خان قضيت فيه ليلة في بلدة قديمة جميلة على تخوم ويلز، وخلاصتها أن رجلا انتحر بالسم وهو راقد على أحد سريرين في غرفة كبيرة بالخان، على حين كان النازل معه في الغرفة نائما فلم يشعر بشيء من فرط ما كان به من الإعياء. ولم يستعمل بعد ذلك سرير المنتحر، وترك في الغرفة على حاله لا يزحزح عن موضعه ولا تنال منه يد التغيير. وتقول القصة إن كل من نام في هذه الغرفة ولو كان غريبا آتيا من أقصى المعمورة كان يغادرها في الصباح وهو يتوهم أنه يشم رائحة صبغة الأفيون، وأن خواطره كلها كانت تدور على الانتحار، وأنه كان لا بد أن يشير إلى هذا الموضوع إذا تحدث. ودام الحال على هذا المنوال سنين عدة، ثم رأى صاحب الخان أن الأحجى، والأولى به، أن ينقل هذا السرير الذي لا يستعمل وأن يحرقه كله - الفراش والكلة والأستار وغيرها - قال الرواة فتغير الأثر الذي يخلفه النوم في الغرفة وفتر فصار الذي يرقد فيها، إذا أصبح يحاول أن يتذكر حلما رآه في منامه. وكان صاحب الخان يتظاهر بمعاونته على التذكر فيقترح عليه موضوعات شتى يعلم أنها ليست هي المنشودة. ثم لا يكاد يقول: «السم» حتى ينتفض المسافر ويقول: «نعم» ولم يحدث قط أن قال المسافر «لا» ولم يحدث قط أنه تذكر من حلمه المنسي أكثر من ذلك.
وقد أثارت هذه القصة ذكريات الخانات الفرنسية على العموم ورفعت صورها لعيني، فرأيت النساء بقبعاتهن المستديرة، والعازفين، بلحاهم البيضاء، يضربون على القيثارة وراء الباب وأنا أتعشى. وانتقلت بي الذكرى إلى خانات إيقوسيا الجبلية وفطائر الشعير، والعسل، وشرائح لحم الغزال، والسمك المصيد من الخور، والوسكي، وما إليه من الأشربات. واتفق لي مرة أن كنت عائدا إلى الجنوب من جبال إيقوسيا، وكنت مسرعا، وفي مرجوي أن يتيسر تغيير الخيل في محطة واقعة في واد تظلله جبال تاريخية ، فرأيت، والألم يفري في جوفي، صاحب الخان يخرج وفي يده منظاره ويدير به عينه باحثا عن الخيل، وكانت هذه ترعى فلم تبد للعيان إلا بعد أربع ساعات!
وتداعت الذكر، فانتقلت من سمك الخور إلى خانات الصيادين بإنجلترا (وقد اشتركت مرات عدة في صيد السمك، فكنت أرقد في قاع السفينة أياما كاملة وأثابر على تفادي العمل. وقد وجدت أن هذا ليس أقل جدوى في صيد الأسماك من استعمال الشص والبراعة والحذق فيه) وتذكرت من هذه الخانات غرفها البيضاء النظيفة المعطرة بأنفاس الورود النضيرة، المشرفة على النهر والسفن والفضاء المعشوشب، وقباب الكنائس والجسر، و«إما» الفتانة وعينيها البراقتين وابتسامتها الحلوة وكيف كانت - بارك الله فيها - تقوم على خدمتنا خفيفة رشيقة.
وصوبت عيني إلى الموقد الذي يتوهج فيه الفحم المضطرم فبرزت لي صور عشرات من هذه الخانات التي كانت مراحل للبريد، والتي نفتقدها في هذه الأيام ونأسف على زوالها، وكانت رحيبة مريحة، وكانت فوق هذا عنوانا على الخضوع الإنجليزي للغصب والنهب والابتزاز. ومن شاء أن يشهد هذه المنازل تقضي نحبها، فليمش من «بيسنجستوك» - أو حتى من «وندسور» - إلى لندن، عن طريق «هانسلو» ولينظر كيف يعفي عليها الزمن؛ الإسطبلات تتهدم وتنقض، والسابلة، والعمال الذين أخطأهم الاستقرار ينامون في الغرف المقدمة أمامها، والحشائش تنبت وتفرش في عرصاتها، والحجرات التي كانت مئات من الأسرة اللينة تسوى وترتب فيها، تؤجر للأيرلنديين بشلن ونصف شلن في الأسبوع، وخمارة سوء في مكان الحانة القديمة، وبوابات مخازن المركبات تحرق للوقود، وكلب أعوج الساق واقف في المدخل.
واستطردت إلى خانات باريس، والحجرة الجميلة ذات القطع الأربع، بعد أن نصعد إليها خمسا وسبعين ومائة درجة مصقولة بالشمع، وتدق الجرس النهار طوله فلا ترى أنك استطعت أن تؤثر في جسم إنسان أو عقله، سواك، وتتناول عشاء دون شبعك، إذا اعتبرت الثمن، وتحولت عن هذه إلى خانات الريف بفرنسا حيث تطل بروج الكنائس على الأفنية، وترن أجراس الخيل وهي تضرب الأرض بقوائمها، والساعات من كل ضرب وعلى كل صورة، في كل غرفة، وليس بينها واحدة مضبوطة، إلا إذا اتفق أن تكون قد سبقت الوقت الصحيح أو تأخرت عنه اثنتي عشرة ساعة لا تزيد أو تنقص دقيقة. ومضيت من هذه إلى الخانات الصغيرة على الطريق في إيطاليا، حيث تجد كل الثياب القذرة التي في البيت (غير الملبوسة!) كوما في غرفة الاستقبال، وحيث يحيل البعوض وجهك في الصيف خبيصة محشوة بالزبيب، ويحيل برد الشتاء لونك إلى زرقة السماء عن حمرة الورد، وحيث تأخذ ما يتيسر، وتنسى ما يتعذر، وحيث أشتهي مرة أخرى أن أغلي الشاي في وليقة إذ لا إبريق هناك! ومن ثم انتقلت إلى القصور القديمة والأديرة العتيقة التي صارت خانات، في مدن هذه البلاد المشرقة، وسلاليمها الضخمة، ومنها تستطيع أن تصعد طرفك من خلال العمد المتقاربة، إلى قبة السماء الزرقاء، وارتسمت أمامي قاعات المآدب الفخمة، والمقاصف الرحيبة، وحجرات النوم المحيرة، ولمحات خواطف من شوارع رائعة ليس لها مظهر من الحقيقة، ومن هناك وثب بي الخيال إلى الخانات الصغيرة في المناطق الموبوءة بالملاريا، وخدمها الصفر الوجوه ورائحتها الخاصة المعهودة في كل مكان لا يدخل إليه الهواء، ثم إلى خانات البندقية المهولة العجيبة، وصياح النواتي تحتها وهم يجرون زوارقهم وينعطفون بها، وروائح البحر التي تتشبث بأنفك ولا تعفيك ما دمت هناك، وجرس كتدرائية سان مارك، وهو يدق نصف الليل. وعرجت بعد ذلك على خانات الرين المضطربة، التي لا تأوي فيها إلى فراشك إلا كان هذا إيذانا بنهوض كل امرئ سواك، وفي حجرة الطعام وإلى طرف من مائدتها الطويلة يجلس لفيف من الرجال الضخام الأبدان المستديري الكروش، يلبسون الحلي والأقذار ليس إلا، فما على أبدانهم سوى ذلك فيما ترى العين، ويحيون الليل كله ساهرين يشربون ويقرعون الكأس بالكأس ويتغنون بالنهر الذي يجري، والدوالي التي أينعت، ونبيذ الرين الذي تطيب نشوته، ونساء الرين اللواتي يتبسمن، وهات لي كأسا، وخذ كأسا يا صاحبي، واشرب، واشرب، يا أخي، إلى آخر ذلك. وكان طبيعيا أن أذكر خانات ألمانية أخرى تسغسغ فيها الآكال بما يجعل مذاقها جميعا واحدا، ويزعج المرء فيها أن تقدم له الولائق السخنة، والعناب المغلي، والحلواء، على ترتيب غير متوقع بين الألوان الأخرى. وبعد أن كرعت - بخيالي - كرعة روية من الجعة من قدح مزبد، وألقيت نظرة على مشارب الجعة التي يختلف إليها الطلبة في هيدلبرج وغيرها، ركبت البحر إلى خانات أمريكا حيث يبلغ عدد الغرف المفردة في الواحد منها أربعمائة، وحيث يجتمع على العشاء كل يوم ثمان مائة أو تسع مائة من السيدات والسادة. فرأيتني أقف مرة أخرى في المقصف، وأترشف من فم الكأس، وأصغي ثانية لصديقي «الجنرال»، الذي لم يمض على معرفتي به سوى خمس دقائق استطاع في خلالها أن يوثق أواصر الود والإخاء إلى آخر العمر بيني وبين «صاغين» استطاعا هما أيضا أن يجعلا مني صديقا حميما مدى الحياة لثلاثة «لواءات» صرت بفضلهم أخا لاثنين وعشرين من المدنيين غير المحاربين، كل ذلك في خمس دقائق ليس إلا، أقول إني أصغيت مرة أخرى إلى صديقي الجنرال وهو يشرح لي مزايا الخان وما فيه من أسباب الراحة والترف وكيف أن فيه حجرات عدة للجلوس والاستقبال، للرجال وللسيدات، في النهار والليل، وأخرى للموسيقى والمطالعة، وأربع مائة غرفة نوم، كل هذا وضعت رسومه وتم بناؤه وتجهيزه في اثني عشر شهرا؛ تبدأ من اليوم الذي أزيلت فيه أنقاض البناء العتيق الذي كان قائما، وكيف أن جملة التكاليف بلغت نصف مليون ريال. وألفيتني وأنا أكر بخيالي إلى هذا، أذهب إلى أنه كلما كان المنزل أضخم وأفخم وأبهظ تكاليف، كان ذلك أبعث على الزهد فيه وأقل استحثاثا للرغبة في المقام به. على أني مع ذلك شربت على البعد نخب صديقي الجنرال، وإخواني الصاغات واللواءات والمدنيين جميعا، فإنهم على الرغم من كل قذى رأته عيناي في عيونهم، أبناء شعب عظيم رقيق كريم القلب.
وكنت وأنا أتذكر هذا أغذ السير في رجعتي القهقرى إلى ما مضى وفات، لأنفي الشعور بالوحدة وأخفف ثقل الوحشة، ولكني أضمرني الكلال فانقطعت من الإعياء وكففت عن متابعة هذه الخواطر. وصار السؤال الملح: ماذا أصنع؟ وماذا عسى أن يحل بي؟ أأفعل كما فعل البارون «ترنك» وأبحث عن جرذ أو عنكبوت حتى إذا وجدت واحدا منهما تسليت في سجني هذا بتدريبه ورياضته؟ ولكن هذا لا يخلو من خطر إذا اعتبرنا المستقبل، فقد آلف ذلك وأشغف به حتى إذا رفع الثلج عن الطريق وخرجت فيه مرة أخرى، فمن يدري؟ لعلي حينئذ أبكي وأتوسل - كسجين الباستيل الذي أفرج عنه في شيخوخته - أن يعودوا بي إلى هذه النوافذ الخمس والستائر العشر والأفرشة السميكة المتينة.
وألح علي خاطر أغراني به اليأس. ولو كنت في أحوال غير هذه لتمردت عليه وأبيته، ولكني، وأنا في هذا المأزق، تعلقت به فهل أستطيع أن أغالب حيائي الفطري الذي صدني عن مجلس صاحب الفندق وحرمني ما عسى أن أجد من الأنس عنده، وأدعو إلي البستاني وأرجو منه أن يتناول كرسيا - وشيئا من الشراب أيضا - وأن يحادثني؟ نعم أستطيع ... وسأفعل ... وقد فعلت! (2) الفرع الثاني: «البستاني»
أأسأل أين كان في زمانه؟ أعاد الرجل السؤال لما ألقيته عليه، وقال: إنه كان في كل مكان. وماذا كان عمله؟ لقد كان يعمل في كل شيء يخطر على البال ذكره.
أتراه رأى كثيرا في حياته؟ بلى، ولا شك في ذلك، وإن في وسعه أن يؤكد لي هذا، فليتني أعرف جزءا من عشرين مما صادفه في طريقه! ألا وإنه لأسهل عليه فيما يعتقد أن يذكر لي ما لم ير ...
صفحه نامشخص